|
الفسدنة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (4 - 12)
سعد العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 14:14
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
على مدى عقود، تقاذف العراقيون أمواج الضغوط: حروب، وانقلابات، واستبداد أحكم قبضته على الأرواح. في خضم ذلك، تبدلت القيم والأعراف، واهتزت التقاليد، وتغيّرت الطباع تحت الضربات المتواصلة والأوجاع، حتى تزيّف ـ بل وتعفّن خزين الوعي، فأنتج ظواهر اجتماعية ألقت بظلالها الثقيلة على النفوس. في كل واحدة منها إجابة خفية عن أسئلة حائرة: ماذا يجري في العراق؟ بينها: الفسدنة. المعنى والاشتقاق كان الفساد، وما يزال، من أكثر الظواهر الاجتماعية والسياسية التي نخرت جسد الدولة العراقية منذ عقود. لكن مع التحولات العنيفة التي شهدتها البلاد بعد عام 2003، لم يعد مجرد انحراف سلوكي فردي يعيق الأداء أو خطأ إداري يُؤخّر الإنجاز، بل تحوّل إلى حالة عامة من التجاوز، وثقافة شبه مستقرة للخطأ، وسلوك يومي للهدم يتغلغل في المؤسسات، والشوارع، والثكنات العسكرية. وبصدده تشير الملاحظة إلى أنه قد تجاوز حدود المقبول، ليغدو ظاهرة مستقلة يمكن تسميتها بـ"الفَسْدَنَة"؛ وهو مصطلح مشتق لغويًا من الجذر الثلاثي (ف-س-د)، الذي يدل على العطب والخراب والخروج عن الصلاح، مع إضافة صيغة "فَعْلَنَة" (على غرار "الدَحْلَبَة")، للتعبير عن تحوّل الفعل إلى ظاهرة أو منظومة مستقلة مهيمنة، تمارس حضورها كنمط مؤسسي للحياة، يتجاوز حدود الممارسة الفردية أو الحالات الاستثنائية، ليُشكّل السلوك العام، ويعيد ترتيب العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق مبدأ المنفعة الخاصة، لا وفق القانون أو الأخلاق. وتشير أي الملاحظة أيضًا الى أنه قد غدا نمط عيش وثقافة يومية تُمارس بوعي أو من دون وعي، حتى أصبحت هي القاعدة، وما عداها استثناء. كيف يتشكل السلوك الفاسد؟ لا أحد يُولد فاسدًا بطبيعته؛ فالفساد، كغيره من الانحرافات الكبرى، يُكتسب من البيئة المحيطة. يبدأ همسةً خفيّة في أعماق النفس، حين تنكسر القيم لأول مرة تحت وطأة الحاجة أو الطمع أو الخوف، دون أن تجد ما يردعها، لا ذاتيًا ولا اجتماعيًا. في بدايات هذا الانكسار، تكون المسافة بين الصواب والخطأ واضحة، ويرتجف القلب عند اجتيازها. لكن مع التكرار، تخفت الرجفة، وتعتاد النفس التجاوز، فتبدأ في تبرير ما لا يُبرر. في المجتمعات السليمة، تنشأ هذه الانحرافات الفردية المعزولة وتذبل أو تنمو تبعًا لقوة المؤسسات القانونية والأخلاقية والاجتماعية في كبحها. أما في العراق، فالتربة نفسها لم تكن صالحة؛ كانت مثقلة بغبار الشك والعطب، وتفتقر إلى القدرة على الردع. وقد ترسخت في الوعي الجمعي مفاهيم مشوهة عن الدولة، والحق، والانتماء، جعلت الدولة تبدو كأنها كيان غريب عن الناس، والناس غرباء عنها. هكذا تحوّل القانون في كثير من الأحيان إلى أداة طغيان بدل أن يكون ميثاق عدل، وغدت الحقوق تُنتزع بالمحسوبية، وتُشترى الولاءات وتُباع، وصارت القيم تُقاس بما تدرّه من منفعة لا بما تحمله من معنى. وفي ظل هذا الخزين المعطوب من التصورات، لم تكن بذور الفساد في النفس الفردية بحاجة إلى ظرف استثنائي لتنمو؛ بل كانت البيئة تغذيها وتردد عليها ترنيمة واحدة: "كن ذكياً لا شريفًا. خذ نصيبك قبل أن يأكلك الآخرون. القيم زينة للكلام لا قواعد للسلوك." نشأت أجيال كاملة في حضن وعي مشوَّه، ترى في الفساد دهاء، وفي السرقة شطارة، وفي خيانة الوطن براعة. لم يعد الفساد خرقًا للقيم، بل أصبح سلوكًا مبررًا ومقبولًا. وبهذه البرمجة، تواطأ الضمير، الذي يفترض أن يكون آخر معاقل المقاومة، مع الفعل بدلاً من إدانته. وهكذا، ومن خلال هذا التفاعل المظلم بين البذرة النفسية وخزين الوعي الجمعي، وُلدت "الفسدنة" في العراق؛ لا كحالة سلوكية عابرة، بل كبيئة حيوية كاملة، تتنفس وتتكاثر في تفاصيل الحياة اليومية، لتغدو جزءًا من الهوية الاجتماعية المعاصرة. كيف يتعمم الفساد سلوكًا جماعيًا؟ حين يغيب الردع أو يضعف، يبدأ الفساد بالانتشار كعدوى، لا يبقى محصورًا في أفراد قلائل، بل يتسرب إلى المجتمع بأسره، تمامًا كما تفعل الأمراض المُعدية. وهذا ما حدث في العراق، حيث ساهمت بيئة مشبعة بتصورات مشوّهة عن العدالة والحق، وضعف الدولة، وتراكم الإحباط في النفوس، في تحوّل الفساد من فعل فردي معزول إلى سلوك جماعي واسع. في فترات سابقة، كان الفساد يُمارَس في الخفاء، ولا يظهر للعلن إلا استثناءً. لكن بفعل الحروب، والحصار، وسوء الإدارة، خرج إلى السطح، وتغلغل في كل مكان: الشوارع، المكاتب، البيوت، وحتى الثكنات العسكرية. وبدأت العائلة، التي طالما كانت حاضنة للقيم، تبرّر تزويج ابنتها لرجل فاسد لمجرد أنه غني. وصارت المحسوبية والعلاقات الشخصية والعشائرية مقياسًا للمنصب، وغدا الحصول على وظيفة يتطلب دفعة مالية مُسبقة، وهكذا أصبحت هذه الممارسات "طبيعية" في عيون كثيرين، وأصبح الطريق إلى الأحلام معبّدًا بفعل الفساد. فالشاب الذي كان يحلم بأن يصبح ضابطًا اكتشف أن اجتياز الفحوص والاختبارات والمعدل وحدها لا تكفي، وعندما طُلب منه مبلغٌ كبير ليحصل على القبول، استعد والده للدفع، شأنه شأن كثيرين عدّوا المبلغ استثمارًا سيُعوَّض أضعافًا بعد التخرج. وكذلك فعل المرشح لمنصب وزير، دفع عدة ملايين ليفوز بالمنصب وبعلم رئيس مجلس الوزراء الذي لا يتوقف عند هذه الهنة ما دام المرشح لم يكن من كتلته الانتخابية، ولم يعرقل تشكيل وزارته. وهكذا، انتقلت العدوى إلى جميع القطاعات. في التعليم، صار الغش سلوكًا عامًا، والطلاب يبررونه بأنه "سائد"، والأساتذة يبيعون الأسئلة الامتحانية دون خجل. وفي القطاع الطبي، تُباع أدوية منتهية الصلاحية بتواريخ مزيّفة، ويوجّه الطبيب المرضى نحو صيدلية محددة شريكًا فيها. والجميع في الدولة والنقابة وعموم المراجعين يعرفون، ولا أحد يعترض، وكأن القبول بالواقع أصبح فضيلة. أما في لقمة العيش، ففُرضت معايير سياسية وطائفية على بعض المساعدات. فالسلة الغذائية المخصصة للفقراء وُزعت في أكثر من مكان وفق الولاءات، وبيع بعضها في السوق السوداء كذلك في أكثر من مكان. وعندما افتضح الأمر، لم يُستنكر، بل بُرر بأنه "الوسيلة الوحيدة للحصول على الغذاء بسعر مناسب". هكذا تغلغل الفساد حتى صار جزءًا من الحياة اليومية. لم يعد يُنظر إليه كخطيئة أو انحراف، بل كأمر "طبيعي" للتكيّف مع واقع صعب. والأجيال التي نشأت في زمن الحصار وما بعد الاحتلال لم ترَ فيه عارًا، بل وسيلة للتقدّم. ومع الوقت، تراجعت المفاهيم الأخلاقية، وحلّت محلها "التفاهمات" المبنية على الرشوة والمحسوبية. وصار من السائد أن يُنظر إلى الفاسد باعتباره ذكيًا، يُجيد الالتفاف على النظام، لا مجرمًا يجب محاسبته. في البداية، حاول بعض الأفراد مقاومة التيار الجارف للفساد، لكن شدته دفعتهم إلى الاستسلام والتأقلم. وبدأت القيم تتراجَع تحت ضغط الحاجة والمصلحة، وصارت الغالبية تبرّر الفساد حين يتقاطع مع منفعتها الخاصة. وبهذا المسار، لم يعد الخطأ واضحًا، ولا الفاسد يشعر بذنبه، بل بات يرى نفسه ناجحًا في لعبة "الواقع". وهكذا تجاوز الفساد مجرد سلوك طارئ، وأصبح سلوكًا جماعيًا مؤطرًا في الوعي الجمعي. صار هو القاعدة، والأخلاق هي الاستثناء. وتجاوزت "الفسدنة" مجرد ظاهرة عابرة، وتحوّلت إلى ثقافة يومية، ونمط عيش مستدام، يُشكّل جزءًا لا يتجزأ من الهوية المجتمعية. تجليات الفساد في المجتمع العراقي في بلد أثقلته سنوات الحروب وعدم الاستقرار ، وتراكمت في وعي أبنائه معارف مغلوطة ومشاعر مشوشة، لم تعد القيم الأخلاقية هي الحَكَم على الأفعال، ولا الرادع الفعلي للسلوك. صارت المصالح والمنافع تعيد تشكيل مفاهيم الخير والشر، وفق موازين مشوهة، وتحوّل الفساد إلى جزء لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية. يفبرك سياسي مقطعًا فاضحًا لزميله وينشره أمام الملأ، محاولًا اغتياله معنويًا وسياسيًا، دون أن يرى في فعله خيانة أو سقوطًا أخلاقيًا. أما الآخرون من زملائه، فيتعاملون مع الانتهاك وكأنه أداة "مشروعة" في صراع النفوذ. يرفع مسؤول كلفة صفقة أو مشروع إلى أضعاف السعر الحقيقي، ليأخذ الفرق له أو لحزبه، ويمنح فعله غطاء دينيًا زائفًا، مؤديًا ركعتين شكرًا بعد الانتهاء. يطرد الوزير الكفاءات من موقع وزارته بذريعة "الإصلاح"، ويملأ المناصب بحزبيين أو أقارب أو دافعي رشاوى، ويصف ما فعله انتصار سياسي مستحق. يتصرف سياسي مع مؤسسته كأنها غنيمة، يُقصي أصحاب الخبرة ويستبدلهم بموالين غير مؤهلين، فينهار الأداء العام دون أن يعترف بفساده. يسعى مشرّع لتوسيع قوائم تعويض المتضررين من رفحاء، لتشمل من لا علاقة لهم بالمأساة، ما يُثقل كاهل الميزانية العامة بمليارات بلا مبرر. تُمنح أراضٍ وشقق سكنية للمقربين والموالين، وتُغيّر صفة الأراضي الزراعية إلى استثمارية، وتُقتطع المساحات الخضراء باسم التنمية، حتى تختنق المدينة في غبار الإسمنت. يتجاوز مواطنون على أملاك الدولة، يحتلون معسكرات مهجورة، أرصفة، وسكك الحديد، وهم يظنون أن ذلك من حقوقهم الطبيعية. تُزوّر الشهادات، وتُشترى الألقاب العلمية، وتُحرر معاملات لشهداء وسجناء سياسيين لا وجود لهم... كلها ممارسات تُؤدى وكأنها امتيازات مشروعة، لا جرائم تُدين مرتكبها. وتستولي بعض الأحزاب على ممتلكات تعود لحزب البعث المنحل، تحت دعاوى زائفة، كأنها غنائم في معركة مفتوحة. الدفع الاجتماعي باتجاه الفساد تحت ضغط الحياة اليومية، لم يعد الفساد يُمارس عن قناعة فردية أو جشع شخصي فقط، بل أصبح نتيجة لضغط اجتماعي خفي حينًا وعلني حينًا آخر. أب يعاتب ابنه الملازم في الشرطة: كيف لم يستطع حتى الآن شراء بيت فخم وسيارة فارهة مثل زميله الذي "عرف من أين تؤكل الكتف"، ويحثه صراحة على الانخراط في دواليب الفساد. زوجة تلوم زوجها المدير العام لأنه لم يدخل عالم العقود والمناقصات، كما فعل زملاؤه الذين تحولوا إلى أثرياء، وتختم عبارتها بقولها الشعبي: "هي بقت عليك!" وسط هذا الضغط الاجتماعي واتساع رقعة الفسدنة، بات من الصعب أن يدّعي أحد براءته إن لم يُختبر في مواقف فعلية: فمن لم يُرغّب أو يُكره على دفع رشوة لتسهيل معاملة أو سفر، قد يظن نفسه نزيهًا فقط لأنه لم يُجرب. ومن لم تُعرض عليه فرصة لجني أرباح غير مشروعة من وظيفته — سواء في البيع أو الشراء أو الجمارك أو الضرائب — قد يتوهم الطهارة لمجرد غياب الإغراء. في هذا الوسط، بات الفساد يبرر نفسه من خلال آليات دفاعية أخلاقية فاسدة: "أدفع عشرة آلاف دينار لتسريع معاملتي، بدلًا من الوقوف ساعات تحت الشمس." "أدفع خمسة آلاف لشرطي المرور، أرحم من غرامة خمسين ألف دينار." تكرار هذه السلوكيات وانتشارها جعل النفس تتقبل الفساد دون مقاومة داخلية، حيث لم تعد ترى فيه خطيئة، وإنما حل عقلاني "ومقبول" لمآزق الحياة اليومية. وهكذا انتشر الفساد ظاهرة اجتماعية مركبة مدعومة بتراث ثقافي، ومبررة بدفع أسري واجتماعي، ومسندة بآليات نفسية تعفي الفرد من الشعور بالذنب... وكل هذا يكشف عن عمق الأزمة التي يعاني منها المجتمع العراقي اليوم. غرق الدولة في مستنقع الفساد منذ أكثر من عقدين، والدولة العراقية ترفع شعار مكافحة الفساد، وأنشأت لهذا الغرض دوائر ومؤسسات، ومع كل دورة انتخابية تتعالى الأصوات مطالبة بإعادة قطار النزاهة إلى سكته الصحيحة. لكن ما جرى على الأرض كان النقيض تمامًا: إذ تراكمت طبقات الفساد حتى أصبحت بنية عميقة داخل جسد الدولة ذاته، تنذر بالغرق الكامل والانهيار. في التجربة العراقية المعاصرة، تحوّل الفساد إلى مؤسسة خفية موازية لمؤسسات الدولة الرسمية. جميع رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا منذ 2003 حتى اليوم قدموا وعودًا بمحاربة الفساد، ثم خرجوا تباعًا بملفات وشبهات طالت أقرب الناس إليهم: إخوة، مستشارين، وسكرتارية. ومع كل موجة محاسبة، يجد الفاسدون مخرجًا: عبر قوانين عفو تبرئ كبار اللصوص، أو قبول ترشيح المحكومين لعضوية البرلمان، أو تأسيسهم أحزابًا جديدة، أو باستمرارهم في السيطرة على مفاصل الإدارة. هذا التراكم أدى إلى انهيار منظومة الكفاءة والقيم، حيث لم يعد الترشيح للمناصب العليا قائمًا على الخبرة أو النزاهة، وإنما على الولاء الحزبي والطائفي، وسط تغوّل الأحزاب الدينية التي التهمت الوزارات وسخرتها لخدمة مصالحها. لكن الأخطر من هذا الفساد هو ما ولّده من انهيار في الثقة العامة، ومن فشل — متعمد أو غير مبالٍ — في إدارة مؤسسات الدولة، عندما فتح الأبواب أمام تدخل الميليشيات المسلحة، حتى صار القرار السياسي نفسه يُدار خارج الأطر الدستورية، كما حدث في تهديدات دعوة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى قمة بغداد. نيسان 2025. والأكثر خطورة هو المآل النفسي للفساد أو حالة التطبع مع الفساد: أب يدفع ابنه الشاب لارتكاب فعل فاسد، وزوجة تحث زوجها الوزير على نهب المال العام، ورئيس وزراء يتغاضى عن فساد مدير مكتبه، وشيخ عشيرة يحمي مطلوبًا، ومواطن يدفع رشوة، وموظف يقبل الرشوة، وميليشيات تفرض رؤاها على البرلمان... نماذج تعكس كيف انتقل الفساد من سلوك شاذ إلى قيمة اجتماعية مشوشة، واستمرار هذا الانتقال التطبيعي يقود إلى ثلاثة تهديدات كبرى: انهيار قدرة الدولة على إدارة شؤونها: إذ تفقد المؤسسات فاعليتها، وتصبح عاجزة عن تنفيذ الخطط. تعزيز الإحساس باللادولة: حين تحل الولاءات المسلحة محل القانون، ويفقد المواطن ثقته بمؤسسات الدولة، مفضلاً التبعية لفصيل أو جماعة. تقويض السيادة الوطنية: عبر استخدام الأموال المنهوبة لتقوية نفوذ الميليشيات والأحزاب المحلية والإقليمية على حساب استقلال القرار الوطني. في ضوء هذا المشهد، لم يعد غرق الدولة خطرًا مؤجلاً، بل واقعًا يتكرس يومًا بعد يوم، تهوي فيه المؤسسات نحو الفشل التام، ما لم تحدث صدمة إصلاحية جذرية توقف هذا الانحدار المريع. التحلل القيمي وفقدان مناعة الأخلاق لم يعد الفساد في العراق كما ورد في أعلاه حالة شاذة تُلفظ من الجسد الاجتماعي كما يُلفظ الداء، بل صار جزءًا من تركيبته اليومية، عادةً تسللت بهدوء حتى استقرت، لا تُحرّك اشمئزازًا ولا تثير دهشة؛ ظاهرة تتلبّس السلوك الجمعي، تهمس بلغتها في المفردات اليومية، وتندسّ في مؤسسات كان يُفترض أن تحرس القيم لا أن تنحني لها. تحولٌ حصل بالتدريج نتيجة تآكل بطيء، صامت، لكنه عميق في بنية الردع الأخلاقي والقانوني، تآكل جعل الفساد يكتسب صفة "العُرف"، فلا يُستهجن إلا إذا خلا من مكسبٍ شخصي. ما كان بالأمس مستنكرًا، يُسوّق اليوم بعبارات مموهة، وتبريرات تغلّف الانحراف بالمصلحة، وتغسل الخطيئة بماء العُرف. صارت على وفقها الرشوة "حلاً سريعًا"، والغش "خدمة"، والمحسوبية "واسطة مشروعة"، والسرقة "حصة من خيرات الدولة". انحرافات أضحت نمطًا سائداً، تغلغلت حتى سحقت قدرة المجتمع على أن يرفضها، أو يشعر بالنفور منها، وكأن الضمير الجمعي، هذا الجهاز المناعي الثقافي، قد أصيب بإعياء مزمن. كرّات الرفض الأخلاقي داخله تقلّصت، وأصبح عاجزًا عن التمييز بين الخطأ والصواب، لا يدين من يكذب أو يختلس أو يخون، وبدلاً من أن يدينه، يتوجه بالإدانة لمن يحاول العمل مخلصًا ويفشل، ضاع وسطه العيب أو تحوّل من معنى أخلاقي إلى وصمة مرتبطة بالعجز عن التحايل. في ظل هذا الانحدار، تخلّت بعض الحواضن التربوية عن دورها، أو تواطأت بصمت، فتحوّلت العائلة، والمدرسة، والمؤسسة الدينية – أركان الحصانة القيمية – إلى منصات تروّج، بوعي أو بلا وعي، لشعار "المصلحة قبل المبدأ": أب يتوسط، سياسي يكذب، ضابط يخون، رجل دين يلوذ بالصمت، أو يغرق في الطقوس. وهكذا نشأ جيل يتشرب القبح، لأنه لم يعرف غيره. ولأن اللغة مرآة الضمير، انعكست هذه الحالة في الكلام اليومي، في الأمثال الجديدة، في النكات والردود السريعة: "هوه الكل تسرق"، "عيش وخلي غيرك يعيش"، "خليه يوصل للمنصب وبعدين يصير خوش إنسان"، "فيد واستفيد". عبارات شعبية تنضح بالانكسار، وتُعلن عن حالة قبول جماعي بالقبح، وتمنحه شرعية أخلاقية زائفة دفعت بالعراق في مواجهة خطر حقيقي: لا يتعلق بغياب قدرة الدولة، ولا هشاشة القانون، وإنما بضياع البوصلة الأخلاقية لمجتمع كامل. خاتمة حين يفقد الإنسان قدرته على النفور من القبح، لا يعود بحاجة إلى من يبرر له الخطأ، لأن الخطأ سيصبح جزءًا من منطقه الداخلي. هذا ما جرى في العراق؛ تحولٌ نفسي نشأ تحت ضغط التكرار، والتعزيز، والتبرير، لم يقتصر على تبديد المعايير، بل أعاد بناءها على أسس ملتوية، فأصبح الانحراف عن السواء سلوكًا "مفهومًا"، والانخراط في دهاليز الفساد مهارة اجتماعية يُعتد بها. في هذا المناخ المتحول، انهارت مع القوانين البُنى النفسية التي تفصل بين الخير والشر، بين الحياء والتبجح، بين المسؤولية والفلتان. وتشكلت منظومة بديلة من القيم، لم ترفض الفساد بقدر ما أعادت تدويره في مفردات الحياة اليومية. إنه انقلاب صامت، لم يُعلن عن نفسه بصخب، بل تسلل إلى اللاوعي، وتفاعل مع خزينه العميق، فأنتج سلوكًا لإنسان هذا الوادي غريبًا عن نزعته الأولى نحو النزاهة. من هنا، لا يكون الإصلاح مجرد مسألة قانونية أو سياسية، بل هو رحلة معقدة في استعادة الحس الأخلاقي، وتحرير الوعي من خدر الاعتياد. فالمجتمع لا يسترد عافيته بتشريعات جديدة أو بملاحقة فاسدين فحسب، بل حين تستيقظ داخله رغبة صادقة في الرفض، تنبع من يقظة داخلية تدرك أن اتساق العراقي مع ذاته هو الشرط الأول لأي إصلاح ممكن. ***
#سعد_العبيدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)
-
الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)
-
ظواهر العفن الاجتماعي: رحلة نفسية في خزين الوعي السلبي
-
الاعتراف بالخطأ فضيلة
-
سيكولوجيا النجاة من الغرق
-
سيكولوجية إزدراء الوظيفة في البلاد
-
في معنى الخيانة
-
14 تموز في الذاكرة الجمعية
-
الدولة المدنية
-
الدولة القوية
-
توازن المواقف القلق
-
الشيخ والدولة
-
تعري الطفولة الآثم
-
8 شباط تعزيز للهدم المنظم
-
المساءلة والعدالة
-
إلتقاء التضاد في خراب البلاد
-
خلع العباءة لا يكفي
-
لوثة في خلايا عقل
-
نصف الحكاية
-
ذكرى نهاية حرب
المزيد.....
-
بتقنية الفاصل الزمني.. شاهد ثوران بركان كيلاويا في نمط نادر
...
-
صاروخ الحوثيين على مطار بن غوريون ...نتنياهو يتوعد إيران
-
بعد التهديد الإسرائيلي ..أي موقف للحوثيين من ضربة محتملة لإي
...
-
سليم بريك : -الهجوم على مطار بن غوريون ضربة لقدرة الردع الإس
...
-
حظر المساعدات أو سرقتها في غزة..هل تشكل أرضية لمحاسبة المسؤو
...
-
الملك سلمان يتلقى دعوة من العراق لحضور القمة العربية في بغدا
...
-
إسرائيل تستدعي عشرات الآلاف من عناصر الاحتياط، وتدرس توسيع ع
...
-
البيان الختامي المبادرة الدولية للسلام – طنجة 2025
-
بايرن ميونخ يتوج بلقب الدوري الألماني بعد تعثر ليفركوزن
-
مراسل RT: غارات تستهدف منطقة السواد جنوب العاصمة اليمنية صنع
...
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|