أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - معين عبدالغني الجشي… حين يُصابُ الأَرشيفُ بالصَّمتِ














المزيد.....

معين عبدالغني الجشي… حين يُصابُ الأَرشيفُ بالصَّمتِ


محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)


الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 13:13
المحور: القضية الفلسطينية
    


كان معين عبدالغني الجشي، أكثر من صديق قديم. كان ذاكرةً تمشي على قدمين، تحمل فلسطين في ثناياها كما يحمل العاشق صورة الحبيبة في جيب قلبه. كنتُ كلما جلستُ إليه، شعرتُ أنني أفتح كتاباً صعب الإغلاق، كتاباً لم تكتبه يدٌ، بل كُتب بالنار، والمجازر، وبالخذلان .



في صوته كانت تصحو شوارع شاتيلا القديمة، تلك التي لطالما مشيناها دون أن نعرف أن دماءً كثيرة ستغمرها. كان يحكي عن تفاصيل صغيرة كنا نظنها تافهة، لكنها في روايته تصير عظيمة: زاوية في المخيم كانت ملتقى العشاق، وحجرٌ قرب الحائط كان يجلس عليه الشهيد عدنان الجشي، أخوه، حين يتأمل الغروب. وآخر مرة رآه فيها قبل أن يمضي إلى ميونيخ .



كان معين يعرف كل شيء.

يحفظ الأسماء، والتواريخ، والهمسات، والكلمات الأخيرة للشهداء. يعرف من اختبأ تحت أي درج حين بدأت المجزرة، من طرق الباب على جاره في ليلٍ لم يفتح فيه أحد، ومن قال: "لن أغادر المخيم، حتى لو احترق."



لكنه في لحظة من لحظات النزيف الطويل، اضطرّ أن يغادر. في العام 1988، وصل إلى جنوب السويد قادماً من غبار حرب المخيمات، من دخان بيروت وجدران شاتيلا التي لم تعد تصلح حتى للذكرى. وصل إلى بلدٍ لا يشبهه، لكنه حمل فلسطين معه، كتفصيلٍ لا يفارقه حتى في الثلج. وفي المنافي الباردة، ظلّ يتحدّث عن شاتيلا كما لو كانت ما تزال قائمة، وكأنّها لم تُقصف، ولم تُغدر، ولم تُحاصر. كان يمشي على أرصفة المدن السويدية وهو يستعيد أسماء الشهداء، ويعدّ وجوه الأحياء الذين غيّبهم الشتات.



وحين قابلته أخيراً، لم أجد ذلك الفيض من الذكريات، بل وجدتُ الصمت وقد استقرّ في عينيه، كأنّه يعتذر عن ذاكرةٍ ضاعت في الطريق. كان يضحك لكل سؤال أطرحه عليه، ويكتفي بقول: "الله ولي النعمة والتدبير… الحمد لله." قالها وهو ينظر نحوي كمن يعرف لكنه لا يقول، كمن تعب من الحكاية، وأعطى المفاتيح لصمته. ومع ذلك، حين سألته: "بتعرفني؟" نطقها كما لو أن الزمن لم يمضِ: "الأستاذ."



في تلك الكلمة، عادت المخيمات، عاد الدفء، وعاد الخريف الفلسطيني بكامل حزنه. تذكرتُ مجزرة صبرا وشاتيلا، حين سقطت السماء على الأرض ولم يتدخل أحد.

تذكرتُ الحرب الأهلية، وجدران المخيم التي امتلأت بالثقوب لا بالنوافذ، والليالي الطويلة التي عبرناها على ضوء الشموع نعدّ أسماء من رحلوا.



معين لم يكن مجرد إنسان،بل كان مكاناً، ذاكرةً، وخزانة أسرار.

وكان مأوىً للقلوب التي أحبتهُ، ثُمّ مضت وتركتهُ يحنُّ لصداها.

هو ابن عم جمال الجشي، وأخ عدنان الذي صار أيقونةً في ذاكرة العمليات. واليوم، كلّ ذلك صار حبيس ضحكة، وعبارة قصيرة يرددها كما لو أنها آخر ما بقي له ليقوله.



أحياناً، يُصاب الأرشيف بالصمت. تتوقف الكتب عن الكلام. تفقد الذاكرة مفاتيحها، لكنّ وجع المخيم لا يصمت، ولا ينتهي.



فهل هناك ما هو أكثر حزناً من أن ترى التاريخ حيّاً، ثم تراه يبهت شيئاً فشيئاً، دون أن تقدر على منعه من الغياب؟



...وها أنا أغادره اليوم، وأعلم في داخلي أنني كنت أودّع شيئاً أعمق من صديق… أودّع الذاكرة التي كانت، والوعي الذي حمل وجعنا كأنه حملٌ شخصيّ. أودّع معين عبدالغني الجشي، لا لأن الموت قد أخذه، بل لأن الذاكرة خانته، وتخلّى عنه التاريخ الذي طالما حمله في قلبه ولسانه.



لم يمت معين، لكنه صار غريباً عن حكاياته، عن أسمائه التي كانت تضجّ في صدره.

لم يمت، لكنه فقد خارطة الطريق ولم يبقَ من كلّ ذلك إلا تلك الضحكة الغامضة، وتلك العبارات القليلة التي يرددها كأنها الحبل الأخير بينه وبين ما تبقى من الحياة.



يا معين، لو تعلم كم من حكاية بكت في صدري حين رأيتك تنظر إليّ ولا تعرفني، ثم تنطق "الأستاذ" كأنّ الذاكرة تشهق للحظة قبل أن تغيب. لو تعلم كم من فلسطين غابت في غيابك الصامت.



وأردتُ أن أخبرك، يا معين، عمّا جرى. عن غزة التي نزفت وما زالت تنزف، عن مدينة أكلها الحصار وأحرقها الصمت، عن مآذن سقطت، وأطفال تُنتشل من تحت الركام دون أن تهتز عروش القادة. أردتُ أن أقول لك إنّ رفاق السلاح، بعضهم، لم يعودوا رفاقاً، بل صاروا حرّاساً لمفاتيح القمع. صاروا أدوات بيد من لا يرى فينا إلا خطراً على سلطته. وأنّ الوطن الذي حلمت به… ما عاد كما كان، ولا كما تمنينا.



اللهم يا حافظ الذاكرات، يا من لا يغيب عنك شيء… كن مع معين في غيابه. كن له ذاكرةً حين خانته الذاكرة، وسنداً حين صار وحده في متاهة النسيان. اللهم لا تتركه وحده في هذا الظلّ الثقيل، واجعل له في كلّ لحظةٍ نوراً وسكينة، وفي كلّ غفوةٍ رحمة.



اللهم إن لم تعد له الحكاية، فأعد له الطمأنينة. وإن نسِي الوجوه، فلا تجعله ينسى وجهك الكريم. وأطل في عمره بلطفك، وارزقه من العافية ما يخفف وطأة الغياب عنه، وعنّا. آمين.



[محمود كلَّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنينِ السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماءِ والهُويَّةِ الفلسطينيَّةِ. يرى في الكلمةِ امتداداً للصَّوتِ الحُرِّ، وفي المقالِ ساحةً من ساحاتِ النِّضالِ.



#محمود_كلّم (هاشتاغ)       Mahmoud_Kallam#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خليل الوزير (أبو جهاد)… رَجُلٌ مِن زمنٍ لم يَبلُغ رام الله.
- ياسر عرفات(أبو عمار): حين خانتهُ البنادقُ التي ربّاها
- عبد القادر الحسيني: بطلُ القسطل ورمزُ الفداءِ في تاريخِ فلسط ...
- الذين خذلونا… هُناك، حيث يُدفَنُ الوطنُ في حضرةِ الفسادِ
- خان يونس: زُهورُ الطفولةِ التي احترقت نائمةً
- ذاكرةُ الدم: حينَ يكونُ الصمتُ شريكاً في القتل
- الأَسدُ لا يُفاوِضُ على قُوتهِ
- لا تَنسَ يا أَحمد... فذاكرتُكَ تفضحُهُم
- وداعاً أَبا أَحمد: حين تغادرُنا الطُّيُورُ الأَصيلةُ بلا ودا ...
- هذه ليلتُها... وغزَّة تَصحو على خُذلانٍ بلا فجرٍ
- حينَ تفرَّقَ الأَصحابُ وضاعَتِ الخُطى: حِكايةٌ من مُخيَّمٍ ف ...
- عيسى أَحوش ودار بيسان: صوتُ فلسطين الذي لا يمُوتُ
- من فِيتنام إلى غزّة: أَمريكا في مَسَارِ الهزائمِ والخيباتِ
- الاستسلامُ ليس خياراً: دُروسٌ من بيروت إلى غزَّة
- الدكتور صالح الشيباني... من تُرابِ فلسطين تَكَوَّنَت رُوحُهُ
- أَحمد الشُّقيري... رجُلٌ صَنَعَ الثَّورة فخذلتهُ!
- نوح الفلسطيني: بين طوفانِ الخذلانِ وسفينةِ الصُّمودِ
- فرحان السعدي: الشَّيخ الذي صامَ عن الحياةِ وارتوى بالمجدِ
- اليمن: أَصلُ العروبة وَشُمُوخُ الجبالِ
- نافع محمد: من القامشلي إِلى فلسطين.. حكايةُ عشقٍ لا تنتهِي!


المزيد.....




- 60 قتيلًا في فيضانات مدمّرة شمال الصين.. ودار للمسنين تتحول ...
- استقالة رئيس وزراء ليتوانيا في إطار تحقيق بشأن مخالفات مالية ...
- ملف حصر السلاح يضع حزب الله والدولة اللبنانية على مفترق طرق ...
- السجن مدى الحياة لسويدي لدوره بقتل طيار أردني
- روبيو: الاعتراف بدولة فلسطينية يقوض المفاوضات ويزيد تعنت حما ...
- كاتب تركي: ما أهمية ميثاق التعاون الدفاعي بين تركيا وسوريا؟ ...
- العلاقات الروسية السورية.. اتفاقيات للمراجعة وملفات للمستقبل ...
- استهدفتها بأسلحة جديدة في مواقع مختلفة.. ما رسائل موسكو لكيي ...
- 15 قتيلا في هجوم روسي على كييف وزيلينسكي يدعو إلى -تغيير الن ...
- شاهد.. لحظة انقسام لعبة -البندول- في مدينة ملاهي بالسعودية إ ...


المزيد.....

- لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي / سعيد مضيه
- ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ ... / غازي الصوراني
- 1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت ... / كمال احمد هماش
- في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / محمود خلف
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / فتحي الكليب
- سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية ... / سمير أبو مدللة
- تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل / غازي الصوراني
- حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية / فتحي كليب و محمود خلف
- اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - معين عبدالغني الجشي… حين يُصابُ الأَرشيفُ بالصَّمتِ