صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8198 - 2024 / 12 / 21 - 15:33
المحور:
الادب والفن
مقامة الحلو والمر :
حياتنا حلو و مر , ولولا المر لما عرفنا طعم الحلو , والسائد ان يكون الحلو حلواً , والمر مراً , لكنني تذوقت في رمضان عام 1991 مشروبا طيب المذاق متفرد النكهة اثناء سهرة في منزل السفير العراقي في الخرطوم ألأستاذ عبد الصمد الغريري , والحلو مر ليس تعبيرا مجازيا أو حديثا عن حلو الحياة ومرها , بل هو مشروب سوداني رمضاني بامتياز , لا يضاهيه مشروب آخر على مائدة الطعام الرمضانية , ويعرف هذا المشروب العريق أيضا (بالآبري) , فالشربة منه لا تظمئ الصائم طوال يومه , ويتكون من الذرة المزرعة وكميات من التوابل وبعض المواد الطبيعية , وينظر إليه السودانيون بوصفه جزءاً من موروثهم الثقافي .
ربما نتساءل عن الشيء الذي يكون حلواً بمرارته , ونتعجب من أنفسنا عندما نستمتع بمرارة الشيء حتى إننا نراه حلواً حتى لو خالف هذا الواقع والحقيقة , لم أجد أقوى من مثال القهوة لهذا المضمون , فرغم شدة مرارتها , إلا أننا نتلذذ بكل رشفة بها , ونستمتع بكل لحظة تجمعنا بهذا الفنجان , حتى إن العديد من الذكريات والأحاديث والمواقف ترتبط برشفة فنجان قهوة , ورائحتها التي تنعش كل شعور بنا , فتنوعت القوافي والابتكارات والإبداع لصنعها وشربها أيضاً.
ولحسّان بن ثابت الخزرجي الأنصاري الملقب بشاعر الرسول قصيدة قالها يوم السرارة قبل الإسلام , وفيه وقعت حرب ضروس بين قبيلتي المدينة : الأوس والخزرج , وكان النصر فيها للخزرج , وكانت رداً على شاعر الأوس قيس بن الحطيم بيت يقول فيه : (( وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ * وَإِنِّي لَتَرَّاكٌ لِمَا لَمْ أُعَوَّدِ )) , وهو بيت فخر يعني إني في معظم حالاتي حُلوٌ , والحُلوُ: ضِدُّ المُرِّواستخدمت الكلمة للتعبير عن الجميل المستطاب , والمرارة ضد الحلاوة , والمُرُّ نقيض الحلو , وعبارة (وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ ) تعني كما يبدو مني لطف المعشر إلا أني إذا اضطررت بدا مني صلف وجفاء , فكما أنفع فإني أضر إذا استفزني أحد وأخرجني عن طبيعتي.
كما أن خصم حسّان بن ثابت في تلك المعركة قَيْسُ بنُ الْخَطِيمِ الأَوْسِيُّ له بيت في المعنى ذاته , يقول فيه : ((أمُرُّ عَلَى الْبَاغِي وَيَغْلُظُ جَانِبِي * وَذُو الْوُدِّ أَحْلَوْلِي لَهُ وَأَلِينُ )) , أي يريد أنه يصبح مُرَّاً على الباغي ويعامله بجفاء وشراسة , لكنه مع من يبادله الود والصفاء يحلو له , أي يتحول من المرارة إلى الحلاوة ليكون سائغاً لأهل الود , حيث يصرح قيس بمن يكون معه مُرَّ التصرف ومن يكون معه حلواً , فيما ألمح لهم حسان في قوله: ((وإني لتراك لما لم أُعَوَّدِ)) .
يقول كُثَيِّر بن عَبْدِ الرَّحْمنِ : ((هُوَ الْعَسَلُ الصَّافِي مِرَارًا وتَارَةً * هُوَ السَّمُّ مَذْرُوراً عَلَيْهِ الذَّرَارِحُ )) , والذرارح : جمع ذرذح , دابة تكبر الذبابة قليلاً , تشوبها ألوان حمرة وصفرة وسواد , تطير بجناحين , وسمها قاتل , وهناك بيت للمتنبي يقول فيه : (( كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّعْبِ فِي الأَنْـ* ــفُسِ سَهْلٌ فِيهَا إِذَا هُو كَانَا )) , وحسب تفسير ابن جني يَقُولُ : (( إنَّمَا يَصْعُبُ الأَمْرُ عَلَى النَّفْسِ قَبْلَ وُقُوعِهِ , فَإذَا وقَعَ سَهُلَ , وهَذَا نحو قَولِ الأَعْشَى : (( لا يصْعُبُ الأَمْرُ إلَّا رَيثَ يَرْكَبُهُ * وكُلُّ أَمْر سِوى الفَحْشَاءِ يَأْتَمِرُ)) , كما ان الرَّاعِي النُّمَيْرِي يقول : (( أمُرُّ وَأَحْلَوْلي وَتَعْلَمُ أُسْرَتِي * عَنَائِي إِذَا جمرٌ لِجَمْرٍ توَقَّدَا)) , أي إذا ادلهمت الخطوب , وأختم مع بيت لبيد بن ربيعة العامري : (( مُمْقِرٌ مُرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ * وعَلَى الأَدْنَينِ حُلْوٌ كَالعَسَلْ )) , والممقر: شديد المرارة.
والحلو والمر مصطلحان متداولان في الأسواق النفطية للتفريق بين النفط الحلو والمر, فالحلو هو ما يُسمى بعض الأحيان بالخفيف بسبب نسبته المتدنية من مادة الكبريت ما دون 1 في المئة وارتفاع الكثافة النوعية مابين 43 و45 درجة , في حين أنّ النفط المر , الأعلى في مادة الكبريت وأحياناً يتجاوز 4 في المئة والكثافة النوعية عند31 درجة , والنفط الحلو أعلى سعراً لما يحتويه من نسبة ضئيلة من الكبريت ومحتواه من مواد كربوهيدراتية , وعلى نسب عالية من المشتقات النفطية الخفيفة مثل البنزين والنافثا والديزل , والتي تحقق عوائد مالية عالية للمصافي , بعكس النفط المر الذي يحتاج إلى المصافي المتقدمة عالية الكلفة لانتاج المشتقات النفطية عالية الجودة , وبعد استخلاص مادة الكبريت من النفط الخام عن طريق التكرير عند درجات عالية وتكسير وتفتيت الجزيئات للوصول إلى نسبة قليلة جداً تكون مقبولة للمستهلكين في الأسواق العالمية .
تقول كريستين باتشو الخبيرة في النوستالجيا (التوق الى الماضي) في مقال لها إن الحنين إلى الماضي حلو ومرّ بطبيعته , لأنه يذكرك بالتغيير من جهة , ومدى ثراء حياتك من جهة أخرى , وتضيف أنه أثناء الأوقات الصعبة يمكن لتذكر ماضينا والرجوع إليه أن يقوينا من خلال تذكيرنا بكيفية تجاوزنا للتحديات , أو الخسارة , أو الإصابة , أو الفشل , أو سوء الحظ في الماضي , وتابعت عندما نشعر بالحزن أو الإحباط , قد يكون من دواعي السرور أن نتذكر أننا ما زلنا الشخص الذي كان سعيدا وقويّا ومنتجا, وتوضح أهم شيء يجب تذكره أنه من المستحيل العودة بالزمن إلى الوراء وتغيير ماضيك , لكن من الممكن تغيير الطريقة التي تفكر بها بشأنه.
وقديما قالت العرب : (( لا تَكُنْ حُلْواً فتُؤكَل ولا مُرّاً فتُبْصَق , أي : لا تكُنْ حُلْواً فَتُسْتَرَط ولا مُرّاً فتُعْقَى , ومعنى تُعقى: تُلْفَظُ مِن المرارةِ , يُقالُ : قد أَعْقَى الشَّيءُ : إذا اشتدَّتْ مرارتُهُ , وقيل: معنى تُعقى: تُلفَظُ بالعُقْوَةِ , والعُقْوَةُ: ساحةُ الدارِ)) .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟