|
صعوبات الترجمة الأدبية - ديوان البر والبحر لإبراهيم الكوني أنموذجٍا
ياسر يونس
شاعر ومترجم وكاتب
(Yasser Younes)
الحوار المتمدن-العدد: 8093 - 2024 / 9 / 7 - 14:27
المحور:
الادب والفن
إن ترجمة نصوص الأستاذ الكوني إلى العديد من اللغات، حيث تُرجمت إلى أكثر من أربعين لغة حية، هي ترجمة تكتنفها الصعاب ولكن تُسهل إنجازها الحمولة الثقافية الكونية للكوني لأنه يمتلك ثقافة واسعة تجمع بين التراث الشرقي والإرث الإغريقي والحداثة الأوروبية، فنصوصه رغم أصالتها هي نصوص عابرة للثقافات، وخصوصًا البعد الإنساني الذي لا يغيب عن مجمل إعماله. أما الصعوبة في ترجمتها فمردها إلى لغته المكثفة العميقة الدلالات في كل سطر، فذلك الأمر يلقي عبئًا إضافيًّا على المترجم الذي ستسهل عليه المهمة إذا كان أديبًا في الأصل. واخترت أن أتناول كتابه "ديوان البر والبحر". لماذا ديوان البر والبحر؟ لأنه حالة خاصة لا يستطيعها إلا كاتب يمتلك أدواته ويتحكم فيها ولا تتحكم فيه. فالكتاب تأملات فلسفية بلغة شعرية فمن بحث فيه عن الفلسفة وجد الشعر ومن بحث فيه عن الشعر وجد الفلسفة وهذا تحدٍ للمترجم في حد ذاته. إن اللغة التي استعملها الأستاذ الكوني في ديوان البر والبحر لغة مكثفة موجزة بليغة وصافية. وكما قال القدماء "إن البلاغة في الإيجاز". الأستاذ الكوني استعمل المطابقات والمترادفات والمتنافرات في مزيج ثري وغني يهدي القارئ الأفكار الدقيقة على مطية من الألفاظ المشعة والتراكيب الرائقة، ودور المترجم هنا هو الاقتراب قدر الطاقة من هذا الإبداع لينتج نصًّا مترجمًا يكون إبداعًا في حد ذاته كي لا يبخس المؤلف الأصلي قيمته وقدره وروعة نصوصه. في البداية كان إهداء الكتاب وهو نص لا يتجزأ عنه قال : " إلى سويسرا وطنٌ أرضيٌ ولكنه يتسلق شَغاف الألب (يعني جبال الألب) توقًا للوصول إلى الفردوس السماوي المفقود". التورية هنا يشكل نقلها تحديًا كبيرًا للمترجم ومنذ بداية الكتاب، خاصةً وأن هذه التورية شديدة التعقيد لأنها تجمع بين لفظة غير عربية ولفظة عربية فضلًا عن نطقها العامي (ألب لا قلب). لقد لخص الأستاذ الكوني في هذا الإهداء غايته من الكتاب فهو يتوق إلى الفردوس السماوي المفقود فنًّا وشعراً وفلسفة، ثم قال " لوعلم أهل البر أن البحر ليس سوى بر من ماء لما اغترب أهل البر عن البحر ولو علم أهل البحر أن البر ليس سوى بحر من رمل لما اغترب أهل البحر عن البر. إنه يعلنها واضحة ولكنها مورَّاة فهو يَنشد وَحدة الوجود لأنها ذلك الفردوس المفقود . فعلى المترجم أن ينقل هذه الروح التأويلية كي لا يجرد النص من مضامينه غير المباشرة وينبغي أن تكون الترجمة على القدر نفسه من الوضوح ومن المواراة. وفي هذا تحدٍ ليس باليسير. إن البعد الصوفي حاضر بقوة في عبارته تلك عن البر والبحر. إذن على المترجم أن يستعمل مفردات الصوفية في اللغة التي ينقل إليها نصًّا كهذا. يبد أ الكاتب الديوان بذكر الشهوة والحب وهما نقيضان مترادفان في مطابقة رأسية بين المادي والروحي. ويختم الديوان أيضًّا بالمطابقة يقول " كلنا قتلة بر جُلنا قتلة بحر". فعلى المترجم الواعي أن يراعي تلك المطابقات الثنائية والرأسية أيضًا أثناء النقل. وهو يماهى في الكتاب بين الحرية والمعرفة فالمعرفة في نظره هي التي تحرر الإنسان. أما استعماله للجناس فيبلغ ذروة التأثير حين يمزجه بالتضاد يقول مثلًا : " أمنحة هو الجمال أم محنة ؟" وفي هذا تحدٍ جليٌّ للمترجم. وكذك استعماله للأضداد: مثل الإنسان الأغيار، الاسترداد الفقد . وتبرز النزعة العلائية نسبة لأبي العلاء المعري في قوله " كثيرًا ما تخفى الملحد في جُبة قديس وكثيرًا ما تخفى القديس في جُبة ملحد" وهو هنا استعمل المطابقات الرأسية أيضًا. واستعماله للفعل جد مميز يقول مثلًا: "نمتلك فنُمتلك. ننتهك فنُنتهك. نستوعب فنُستوعب". فلابد للمترجم من أن ينقل هذه السرعة التي تنطوي عليها العبارة وأن يراعي جودة سبكها. أما الوجود فهو الفناء. يقول: " لا يبقى البحر بحرًا عندما نلج البحر". ومفردات الصحراء حاضرة بقوة يقول مثلًا: " البر بحر من رمل" "البحر صحراء" " الصحراء بحر". فنقل هذا السياق الصحراوي لا يسهل في لغة كالفرنسية مثلًا يحضر فيها الثلج والبرودة لا الصحراء وحرارتها. أما الصور في حد ذاتها فمبتكرة يقول مثلًا: " الماء عنقاء تهلَك بالنار وتُبعث حية بالصقيع". أسطورة العنقاء العربية هنا لا بد من أن ينقلها المترجم كي لا تتضرر الصورة الجميلة. فقد يبدو النص سهلًا والصورة يسيرة على مخيلة القارئ العربي ولكن الأمر ليس بهذه البساطة على القارئ ذي الثقافة الغربية مثلًا فهو يعرف طائر القطرس والبجع الأبيض لكنه يجهل طائر العنقاء الأسطوري . كذلك نجد لفظة الأغيار متكررة في عدة مواضع وكذلك الإشارة إلى سفر التكوين ويدل ذلك على استلهام مفردات من العهد القديم. إذن لابد للمترجم من استعمال مرادفات توراتية حسب ترجمة النص التوراتي في اللغة التي ينقل إليها حين يقع على مفردات كهذي في النص. وفيما يتعلق بالعلاقة بين المرأة والرجل يورد الكاتب إشارات حركية مثل : "من أفقد العذراء عذريتها أفقدته العذراء عذريته". ومثل: "امرأة لا تذهب بنا إلى حلبة الدنيا ليست امرأة". وكأنه يريد أن يقول إن تلك العلاقة بين المرأة والرجل علاقة قلقة دائمًا مهما بدا عليها من سكون أو ثبات. هذه الحركة ليست باليسيرة النقل من لغة لأخرى وعلى المترجم مراعاتها كي لا يفقد النص حركيته. ورغم الجدية الغالبة على الكتاب فإن روح الدعابة لم تغب عنه، يقول : "يولول المال رعبًا ما إن يقع بين يدي امرأة". وتلك الدعابة عادةً لا تكون سهلة الترجمة. فعلى سبيل المثال تُعد ترجمة النكات من أصعب الأمور في الترجمة لكي تترك الأثر الساخر الذي تتركه النكتة الأصلية بما تحمله من ثقافة تحمل شفتي السامع على الابتسام. والتوق إلى الحرية يتخلل سطور الكتاب كافة لذا أختم حديثي بعبارة هي الأروع في هذا الكتاب: "أرذل أجناس العبودية عبودية عن اختيار". كانت هذه قراءة سريعة لهذا النص المميز ولبعض الصعوبات التي يواجهها المترجم في نقله.
#ياسر_يونس (هاشتاغ)
Yasser_Younes#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نبذة عن تاريخ اللغة الفرنسية
-
قصيدة كلمات امرأة صريحة من ديوان -قصَائدُ لَهُنَّ-
-
رينيه فيفيان (ثلاثية الشعر والمثلية الجنسية والإدمان) من أحد
...
-
الشاعرة الفرنسية لويز لابيه (من أحدث كتبي: زهور من بساتينالش
...
-
مصر بين مؤامرتين
-
ترجمة شعرية لقصيدة شارل بودلير -أغنية الخريف-
-
بين -بودلير- وأبي نواس
-
قصيدة إلى روح الصديق العزيز والمفكر الشجاع الدكتور سيد القمن
...
-
قصيدة -الحكيم والحقيقة- من ديواني -الكل يصفق للسلطان-، مركز
...
-
قصيدة الشاعر الصالح من ديواني -لا تُعارض-، مركز الحضارة العر
...
-
قصيدة وهم الخازوق من أحدث دواويني الصادر عن مركز الحضارة الع
...
-
قصيدة دَيْدن الجراد من أحدث دواويني الشعرية الصادر منذ أيام
...
-
-الشيخ قفة - قصيدة عامية ساخرة من وحي الشيخ قفة
-
رؤوس أقلام عن ثقافة الانغلاق ورفض الحداثة
-
كانوا يرونهم دواعش
-
انتحارية هنا استشهادية هناك
-
متلازمة دولة الخلافة
-
عبد الله بن سبأ والطابور الخامس
-
الوليد بن يزيد ولفحة -ربيع عربي- في العصر الأموي
-
إسلام البحيري في عش الدبابير
المزيد.....
-
الكوريون في أوزبكستان.. موسيقى البوب ??الكورية والصراع الثقا
...
-
نص (رسالة بدون عنوان)حسن فوزى.مصر.
-
نزل الآنـ تردد قناة عمو يزيد الجديد على الأقمار الصناعية ناي
...
-
من الأبطال الخارقين إلى الرعب هذه أكثر 10 أفلام هندية تحقيقا
...
-
الفنان محمد المورالي رائد الفكاهة والمونولوغ في تونس
-
مشهد أشبه بالأفلام.. لحظة مروعة لنجاة عائلة بأعجوبة من انفجا
...
-
-عقد إلحاق- و-كنبة أورانج-.. دراما سورية بتوقيع المخرج الواع
...
-
مخرج فيلم -أنا، روبوت- يتهم إيلون ماسك بسرقة تصاميم روبوتاته
...
-
برنامج RT Arabic -جسور- في مصر..
-
في إطار مشروع -النجوم الصاعدة-.. شباب مبدعون روس يقدمون حفلا
...
المزيد.....
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|