|
التاريخ والمؤرخ والوثيقة التاريخية : تفاعل لا تفاضل
ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8060 - 2024 / 8 / 5 - 10:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
(( ليست الوثيقة الأداة السعيدة لتاريخ يكون في ذاته وبكامل الحق ذاكرة – ميشيل فوكو ))
ثامر عباس
في اللحظات السياسية الحرجة والمنعطفات التاريخية الحادة ، ينهمك الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع ومن يقع ضمن خانتهم في المجالات الاجتماعية والإنسانية ، في العديد من النقاشات والسجالات والجدالات التي تتمحور حول القضايا والمسائل المتعلقة بأولويات الأدوار وأفضليات الوظائف للعوامل الذاتية والموضوعية المسؤولة عن سيرورات الحراك الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري . ومن بين كل القضايا الكبرى والمسائل الملحة التي يكون لدورها وأهميتها القول الفصل في كشف الملابسات المضمرة وتعرية الإشكاليات المحتجبة ، تتصدر مباحث (التاريخ) وما يرتبط به ويتمخض عنه الأولوية القصوى ضمن طائفة واسعة ومتنوعة من الأساسيات والضروريات . ذلك لأن فهم واستيعاب أي حدث سياسي أو أية واقعة اجتماعية ، لابد من الرجوع مسبقا"الى البدايات والخلفيات والمرجعيات التي أدت الى وقوع الأول وحصول الثانية . وبالرغم من حقيقة كون ان التاريخ – قديما"وحديثا"- يتصدر الكثير من العلوم والمعارف في تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية ، لجهة إلزام الباحثين بضرورة الرجوع الى الماضي واستقراء ما استجد في مضاميره من علاقات اجتماعية ، وتفاعلات حضارية ، وصراعات سياسية ، وانزياحات قيمية . لكي يصار لاحقا"الى موضعة الأحداث والوقائع ذات الطابع الإشكالي ضمن السياقات التي ساهمت في تأطير طبيعتها وبلورة خصائصها من جهة ، ومن ثم قذفها في أتون من التقاطعات والصراعات أو التفاعلات والتخادمات من جهة ثانية ، بحيث تكون حصائل التحليل والتعليل والتأويل أقرب الى الواقع المعاش منها الى الافتراض المتخيل . نقول بالرغم من ذلك ، إلاّ أن التباين في الرؤى والاختلاف في التصورات حيال دور التاريخ ومكانته في تفسير الحوادث واستخلاص النتائج ، قلما حظي باتفاق آراء المؤرخين وإجماع مواقف الباحثين . وعلى خلفية هذا التشظي في الرؤى والتذرر في التصورات لماهية التاريخ ، يمكننا القول ان جلّ مباحث هذا العلم الواسع في اهتماماته والمتشعب في مقارباته ، جرى استقطبتها - على نحو لا يخلو من تعسف واختزال – بين اتجاهين شائعين من العوامل التي تتراوح ما بين الذاتية والموضوعية . ففيما يتعلق بالعامل الأول ، فقد اعتبرت شخصية (المؤرخ) المنوط به اكتناه ماهية (التاريخ) واستنباط فلسفة حراكه وتطوره ، بالاعتماد على مستوى تحصيله الأكاديمي ، ونمط تكوينه السيكولوجي ، وطبيعة انتماؤه الإيديولوجي ، بمثابة قطب الرحى الذي تنبثق عنه وتدور حوله سرديات التاريخ الكبرى ، فضلا"عن كرونولوجيا تسلسل محطاته وتعدد انعطافاته . بحيث يصعب على الباحث فهم ديناميات التاريخ واستيعاب سيروراته ، كما يستحيل عليه تتبع تحولاته وانزياحاته ، دون الاحتكام الى ما يرويه (المؤرخ) من أحداث وما يستنبطه من وقائع وما يستلهمه من دوافع . أما ما يتصل بالعامل الثاني ، فقد تركز الاهتمام على دور (الوثيقة) التاريخية وما تنطوي عليه من معلومات وبيانات ومؤشرات وإحصائيات ، ليس فقط في الكشف عما يعنيه علم التاريخ بالنسبة لدارس أحداثه ومتقصي أثاره فحسب ، وإنما في استبعاد كل ما ليس له صلة بالأدلة (الوثائقية) الملموسة التي من شأنها تأكيد صحة الحدث واثبات صدقية الواقعة . للحدّ الذي دفع برائدي المدرسة المنهجية الفرنسية (لانغلوا وسينوبوس) الى التصريح بان (( التاريخ يصنع من وثائق ، فحيث لا وثائق لا تاريخ )) ! . وكما هو ملاحظ ، فقد نحى البعض من المؤرخين منحا"لا ينسجم وماهية الفعل (التاريخي) ، من حيث كونه يقوم على مجموعة واسعة ومتنوعة ومتعاضدة من العوامل الذاتية والموضوعية ، التي تجعل من ذلك الفعل ليس فقط واقعا" معاشا"يمور بصراع الارادات البشرية وتقاطع مصالحها وتصالب تطلعاتها فحسب ، وإنما يشي بمسارات واتجاهات التطور أو / و التقهقر التي يتوقع للمجتمع المعني الانخراط في أتونها والاندراج في سيرورتها . ولذلك ينبغي على كل من تستهويه الكتابة التاريخية الإقرار بان الحدث التاريخي من العمق والشمول والاتساع والتشابك ، بحيث لا يمكن لشخصية (المؤرخ) وحدها صناعته مهما تحصلت عليه من خصائص ومزايا . كذلك الأمر بالنسبة ل(لوثيقة) ، فهي بالرغم من قيمتها المصدرية وأهميتها التوثيقية ، لا يمكنها لوحدها أن تسدّ مسدّ العوامل والعناصر الأخرى التي يبقى التاريخ من دونها مجرد تكهنات وافتراضات لا يسندها واقع ولا يدعمها دليل . ذلك لأن الأول (المؤرخ) سيبقى عرضة لتحكم الأهواء والانفعالات والدوافع ، مثلما ان الثانية (الوثيقة) ستبقى صنيعة للسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، التي أوجبت صياغتها الحكومات على هذا النحو دون ذاك ، وألزمت تحريرها الزعامات على هذا دون ذاك . وكما أشار المؤرخ المصري الراحل (قاسم عبده قاسم) (( ان كل ما نظن انه مكتوب هو نص منقول عن نص شفاهي في حقيقة الأمر )) ، مثلما علق المؤرخ الغربي (ناتالي دافيز) انه (( لا يمكن على الدوام أخذ الوثائق بقيمتها الظاهرية )) . وبمجمل القول يمكننا الجزم ؛ ان التاريخ هو بالأساس عبارة عن مجموعة من (البشر) يتفاعلون في (مكان) ما ، ويتحركون في (زمان) ما ، ويعيشون في (بلدان) ما . الأمر الذي يجعل من ماهيته وكينونته تنطوي على خاصية (التفاعل) الجدلي و(التكامل) البنيوي بين عناصره ومكوناته ، وليس وفقا"لخاصية (التفاضل) المعياري و(التراتب) الموقعي لتلك العناصر والمكونات .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخلاق الثقافة وثقافة الأخلاق
-
الخطاب الثقافي والأجيال البينية : قراءة في اجتهادات أستاذ ال
...
-
حدود البنية (اللوجستية) في صيرورة الهوية الوطنية
-
مرض عضال الثقافة العراقية : ظاهرة التكاره بين المثقفين !
-
المؤرخ وتبعات انبهاره بالتاريخ
-
(المثقف) حين يمتهن التجارة !
-
بمناسبة الذكرى (150) لميلاد الصحافة العراقية - نقابة الصحفيي
...
-
العشائر والشعائر : الفزعة القبلية والنزعة الاستعلائية !
-
الانثروبولوجيا الماركسية وتمرحل أنماط الانتاج
-
دعائم الليبرالية وتمائم البطريركية (مقاربة للحالة العراقية)
-
عوائق الليبرالية في المجتمعات البطريركية
-
الذاكرة التاريخية .. مفهوم واحد ودلالات متعددة
-
مفهوم الجدارة السياسية بين براغماتية الحاكم ودوغمائية المحكو
...
-
الاستدعاء النقدي للتاريخ : قراءة في الأصول المنسية
-
الاقطاع السياسي : نمط فوضوي لتفكيك الدولة واغتصاب سلطتها
-
الطبقة الوسطى العراقية وأوهام وعيها الطبقي
-
الثقافة في حضرة التاريخ : حفريات في ذاكرة الثقافة العراقية
-
ثيمة الماضي في المتخيل الجمعي
-
النظام التعليمي كبنية تحتية للوعي الاجتماعي
-
أطروحات علي الوردي وطبيعة الشخصية العراقية : منظور مختلف
المزيد.....
-
اختلاف بين مصر والسعودية بحكم الاحتفال بالمولد النبوي.. إليك
...
-
تركي الفيصل يرد على مدى تأثير قطر وتركيا على استراتيجية حماس
...
-
شاهد.. رد قوي لصديقة الناشطة الأمريكية المقتولة بالضفة على م
...
-
إصابة 9 إسرائيليين خلال هروبهم إلى الملاجئ خوفا من صاروخ أطل
...
-
فيضانات مدمرة تضرب ميانمار والحكومة العسكرية تستغيث بالخارج
...
-
الدفاعات الروسية تسقط 29 مسيرة أوكرانية غربي البلاد
-
قد يسمح بـ-إمساك أيدي أحبائنا افتراضيا-.. ابتكار ثوري لجهاز
...
-
ردا على مناورات Ocean-2024 الروسية... الجيش الأمريكي يرسل تع
...
-
طائرة مسيرة تسجل جرائم القوات الأوكرانية بحق المدنيين في مقا
...
-
مرشح أمريكي يسحب إعلانا بعد انتقادات من أرملة خاشقجي
المزيد.....
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
-
آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس
...
/ سجاد حسن عواد
-
معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة
/ حسني البشبيشي
-
علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|