3062003
رغم إن الكثيرين كانوا يجدون إن جي غاردنر غير جدير بالمهمة الصعبة التي أوكلت له، إلا إنه، والحق يقال، قد منح السياسيين العراقيين فرصا كبيرة جدا للحوار والتداول من أجل الوصول إلى صيغة اتفاق قد ترضي الجميع، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم أن العراقيين قد أضاعوا تلك الفرصة بمزايدات ومحاولات لمحاصصة المقاعد في الحكومة الانتقالية، والسبب بذلك يرجع إلى السرية والتعتيم الذي لف كل تلك الحوارات على خلاف ما كنا نتوقع. لذا نستطيع أن نقول إن غاردنر كان ناجحا إلى حد ما في هذا المجال، وكذا لا يمكن أن نقيم أعماله الأخرى وذلك لقصر الفترة وكثرة الفوضى التي كانت آن ذاك خلال فترة توليه الأمور، هذا بالإضافة إلى أنه ليس الموضوع الذي نريد مناقشته الآن. الذي يمكننا أن نقوله إنه يبدوا واضحا الآن من أن غاردنر أفضل بكثير من بريمر الذي وصفه البعض بأنه قد فشل فشلا ذريعا بكل شيء. رغم إني لا أتفق مع هذا التعميم من أنه قد فشل في كل شيء، بل على العكس من ذلك، فإن العراق قد أصبح أكثر أمنا من السابق رغم نشاط فلول النظام المقبور في محاولاتهم المستميتة من أجل زعزعة الأمن، والمحاولات الفاشلة لزج فئات أوسع من الشعب العراقي في مقاومة الاحتلال، وأخيرا محاولات إيقاف عجلة الإصلاحات البسيطة التي عملت عليها الإدارة الأمريكية للعراق، فجهود بريمر بهذا المجال يمكن اعتبارها جيدة بالرغم من قصر الفترة الزمنية. لكن الذي لا يمكن لنا أن نستمرئه هو الجانب السياسي من جهود الإدارة الأمريكية بإقامة إدارة انتقالية في العراق والتي ستساهم بإنجاز مستلزمات إقامة نظام ديمقراطي. فالقوى السياسية يبدو إنها قد تهمش دورها من قبل هذه الإدارة بالإضافة إلى محاولات فرض إدارة لا نعرف كنهها ودستورا ربما لا يضعه أو حتى لا يساهم بوضعه العراقيين. فأثناء كتابتي لهذا الموضوع جاء إعلان الحوزة العلمية في النجف من خلال بيان آيه الله السيستاني ليؤكد ما توقعناه. بالطبع إن كل ما يجري على الساحة السياسية مغلق ولم يرشح عنه إلا القليل من خلال العلاقات الشخصية والمكالمات التلفونية التي لا تحدث إلا لماما، وأحيانا ينقطع الخط قبل الوصول للمعلومة المطلوبة.
قد يمكننا تلخيص ما يريده العراقي بكلمة واحدة فقط، إننا نريد أن نبني عراق ديمقراطي ولا نريد شيئا آخر. ولكن من يعتقد إنه يستطيع أن يبني هذا الصرح العجيب خلف كواليس السياسة ودهاليزها المظلمة فهو مخطئ. إن ما يدعونا لنقول ذلك هو إن ما يجري على الساحة السياسية من تحركات، يجري بتكتم وسرية تامة ولا يحظى بشيء من الوضوح والصراحة، أو ما نسميه بالشفافية. فأية ديمقراطية هذه؟! فالديمقراطية، وكما نعرفه عنها، لها لسان طويل وصوت جهوري واضح يسمعه حتى النيام، لكن الصمت المطبق لبناء الديمقراطية هو ما يريبنا وربما يريب حتى الجهلة منا.
لا قدر الله، ربما سيفاجأ الجميع بعد أيام بحكومة أو إدارة انتقالية، ونحن لا نعرف لم تم اختيار هذه المجموعة دون غيرها لكي تعتبر ممثلا لنا ولو ليوم واحد فقط، ألا يمكن أن تكون هذه الحكومة أو الإدارة صماء خرساء؟ أو أن تكون إدارة عرجاء مثلا؟ وقد تكون مسودة ببعثيين يدعون التوبة؟ وربما رجال طائفيين إلى النخاع أو إنتهازيين؟ كل هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ما هو مشروع هذه الحكومة أو الإدارة؟ فهل لديها برنامج واضح يعالج كل أو بعض مستلزمات الفترة الانتقالية؟ ما هي السلطات التي تتمتع بها هذه الحكومة؟ وهل هي كافية لتحقيق السيادة الوطنية؟ هل سيكون الوضع الأمني للبلد من مسؤولياتها؟ أم سيبقى بيد الأمريكان؟ هل ستكون ذراعها طويلة في شؤون النفط الذي يكتسي بحساسية وأهمية خاصة؟ ما هو دور الحكومة أو الإدارة هذه بصياغة الدستور الجديد للبلاد؟ وما هو دورها بوضع اللبنات الأولى للمجتمع المدني الديمقراطي؟
أسئلة كثيرة جدا وكلها ذات أهمية كبرى ونحن لا نجد من يجيبنا عليها، بل ولا نعرف ما يدور بتلك الدهاليز المظلمة، ألا يحق لنا أن نتساءل عن أية ديمقراطية نتكلم؟ ألا يمكن أن يكون هناك طبخة سامة سنؤخذ بها غدرا كما أخذنا من قبل، فتؤد أحلامنا الوردية ومستقبلنا جميعا؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، لماذا إذا هذا التعتيم على كل شيء من قبل القوى السياسية والإدارة الأمريكية؟ من منا يعرف ماذا يجري؟ فحقائب تسافر وأخرى تعود، ووجوه تختفي من الساحة السياسية وأخرى تظهر، وما هو أدهى من ذلك وجوه تطلع لنا من تحت الرماد وذات ماض معروف للجميع بعلاقتها ودورها بالنظام البعثي المقبور، كل هذا يجري ونحن نراقب من بعيد ولا ندري ماذا يخبئون لنا وكأننا عدنا لزمن البعث من جديد.
إن العراقي ليس كما قيل من أنه يقبل بكل شيء، مخطئ جدا من يتصور ذلك. حالما يتحقق بعض الأمن وتتوفر احتياجات المواطن، فإن أول ما سيسألون عنه هو الوضع السياسي وهل يجدون من يمثلهم حقا ويمكن أن يحقق رغباتهم؟ إن ما ستؤول له الأمور بعد ذلك، فعلمها عند الله لو كان العراقي لا يجد ضالته بهذه الحكومة أو الإدارة.
أن الصورة التي أفرزها النظام الدكتاتوري المقبور، وكنتيجة للقمع الدموي والمجازر الجماعية قد أفرزت صورة مشوهة للشعب العراقي سوف لن تبقى إلى الأبد، لقد لاحظ الجميع يوم سقوط الدكتاتورية ماذا حصل، كأن الكل خرج من قبره وبعث من جديد إلى الحياة، إلا يدلل هذا على أن الشعب مازال حيا؟ والأحداث التي تلاحقت بعد ذلك، ألم تفرز حقيقة أن الجميع مستعدون للصبر من أجل أن يصل العراقيون إلى ما يريدونه والذي يعرفوه بكل دقة؟ فعلى سبيل المثال وليس الحصر، إن محاولات فلول النظام المقبور لزج أبناء الجنوب بنزاع مع الأمريكان والبريطانيين باءت بالفشل رغم كل المآسي التي يعيشها العراقي وكرهه لأي احتلال. فقد خرج أبناء المجر الكبير بمظاهرة كبيرة تجلي موقفهم من سلطات الاحتلال وتؤكد من أن مقاومة الاحتلال بالقوة ليست من مصلحة العراقي في هذا الوقت. إن هذا الموقف يعكس حقيقة أن الشعب حين يهدأ أو يصخب فإنه يعرف تماما ماذا يفعل وماذا يريد من هذه السلطات أن تفعل له. حين نراهم صامتون الآن فهذا لا يعني إنهم خانعون، فإن هناك ثورة تكمن تحت الثياب لكل فرد من هذا الشعب الذي بات الطفل فيه يتحدث عن السياسة ويعي ملابساتها دون عناء منه.
كل ما أخشاه هو أن صمت القبور الذي يفرض علينا هذه الأيام من قبل الإدارة الأمريكية والسياسيين العراقيين لا يخبئ لنا ما لا نرضى به أو لا نريده، فلو وقع المحظور، فإن ذلك يعني إن الانفجار سيكون هائلا جدا وستؤول الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، فكما يقول العراقي ( المبلل ما يخاف من المطر). إن أبن المجر، الفلاح البسيط، وغيره قالوا كلمة بليغة جدا، إننا لسنا سذجا، بل نعرف تماما ماذا نريد، وإن سنين القهر والموت الزؤام قد صقلتنا وصرنا نقرأ ما بين السطور، بل ونرى ما هو خلف الجدران.
التمادي بهذا الخطأ في محاولات عزل الشعب عن القرار الذي سيصنع المستقبل لهم، هو بالضبط ما يبحث عنه فلول النظام السابق، ليس إيمان منهم بالديمقراطية، بل سيجعل من العراقي غير راض عما يجري ولا يجد ما كان يتمناه، وهذه هي البيئة التي يعمل على خلقها فلول النظام منذ اليوم الأول، وهذا ما يعمل عليه أيضا الإعلام العربي المعادي الذي يحاول مستميتا أن يثبت للعراقي من أن الاحتلال لا يمكن أن يكون ملاك الرحمة لإنفاذ الشعب، عندها سيكون من السهل الاستنتاج من أن مقاومة الاحتلال أمر حتمي، ذلك الذي سيستثمره أعداء الشعب ليضربوا ضربتهم القاتلة للشعب العراقي من جديد، وسيكون بذات الوقت فشلا ذريعا حقيقيا للإدارة الأمريكية والبريطانية بإدارة الأزمة العراقية. للقارئ الكريم أن يقدر هول الانفجار لو وصلت الأمور لها الحد الذي نسأل الله أن لا يحدث.
لكي لا يقع بالخطأ من هم يتحملون المسؤولية، عليهم أن يعرفوا الآتي:
أولا - الشفافية والوضوح لكل ما يجري لأنه يهم حياة الشعب ومستقبلهم. فالسياسي الذي يتحاور، عليه أن يفصح عن ماذا كان يحاور وما هو موقفه، ومن يحاول أن يملي إرادة شاذة على الشعب عليه أن يغيِر من هذا المسلك ويفصح عما ينوي فعله.
ثانيا - يجب أن يعرفوا إن العراقي لم يعد يقبل بأي غبن من ناحية تمثيله بالسلطة القادمة، ومن ثم صناديق الانتخاب ذات الفتحة الواحدة لكي تمنح الحقوق التي تتناسب وحجم الفئات التي تشكل العراق.
ثالثا – إن الدستور شأن كبير وهو الذي سيحدد ملامح المستقبل بالكامل، فهو شأن عراقي جمعي وليس فئوي أو محصورا على النخب أو حملة المشاريع السياسية التي لا تمثل كل الشعب.
خامسا – إن قوانين الانتخاب والصحافة الحرة والأحزاب وباقي القوانين التي تنظم حياة الناس، هي جميعها شأن عراقي جمعي أيضا، ولا يمننا التخلي عنها. إن إقامة المجتمع المدني وصيانة حقوق العراقيين هو ما يجب أن يعمل عليه الجميع هذه الأيام ولا بديل له.
سادسا - إن ثروات العراق الطبيعية ملك للشعب العراقي ولا يقبل أي منا التفريط بها مهما كانت الذرائع.