16 May 2003
أنا لا أدعي أبدا أني لغوي، أنا مهندس ولا شأن لي بالإعلام ولكن دائما أجد نفسي ملزما بأن أعبر عن آرائي، وهذا حقا قد اكتسبته قبل أيام فقط.
في الإعلان عن برنامجه المغرض ""الاتجاه المعاكس""، يبدأ بوق النظام البعثي الصدامي المقبور بعبارة ""سقوط العراق" فتعاد يوميا عشرات المرات. بأسلوبه المستفز يسأل فيصل القاسم بعد ""سقوط العراق… إلى آخره ""، يقولها بثقة مطلقة وكأنها الحقيقة التي لا جدال فيها ولا يمكن الاعتراض عليها.
كان القاسم يستضيف في برنامجه أثنين أحدهم ليبي ممن يكتوون بنار الدكتاتورية كما العراقي أيام كان صدام في السلطة، فهذا المثقف الليبي كان حقا يتحدث كأي عراقي لغة وفهما، وفي الطرف الثاني للطاولة يحاوره أحد اللبنانيين، يبدوا إنه واحد من أيتام النظام. لكن الجديد الذي جاءنا به العميل الصدامي فيصل القاسم هو موضوع التصويت على سؤال معين وهو ""هل ستدافع الشعوب العربية عن أنظمتها لو تعرضت إلى غزو كما حدث في العراق؟"" .
بالطبع يريد للمشاهد أن يصل إلى استنتاج من أن العراقيين حين لم يدافعوا عن النظام القبور، فإنهم كانوا استثناء والأمر الطبيعي هو أن يدافع المرء عن نظام بلاده حتى ولو كان النظام العربي كنظام صدام الذي ملء أرض العراق مقابر جماعية. هذه هي الثقافة التي يروجون لها الآن بعد اكتشاف عشرات المقابر الجماعية التي لم يعد بوسع الفضائيات العربية تغطيتها لكثرتها ولاتساعها وافتضاح جرائم ذلك الذي مازالوا يدافعون عنه. فنجد أحد أيتام النظام المدعو معن بشور من ""المؤتمر القومي العربي"" وهو أحد النسخ الكثيرة لحزب البعث العربي الاشتراكي، نجد هذا ""البشور اللعنة"" يجد أن الذين قتلهم النظام العراقي يستحقون الموت وأن صدام هو الوطني المخلص للأمة العربية، وبنفس اللغة يتكلم الكثيرون على الفضائيات العربية والصحف العربية كصحيفة عبد الكفر عطوان.
الأمر المهم في برنامج فيصل القاسم هو موضوع التصويت الذي يريد أن يقول من خلاله أن الوضع بالنسبة للعراقي مختلفا وإن الشعب العراقي قد خان صدام. كما لو إن هناك عقدا بين الشعب العراقي وصدام ليكون جزارا له، وحين تخلى الشعب عن الجزار فإن ذلك يعني خيانة، إذ كان يجب على الشعب العراقي أن يصمد لأن العقد بينهما لم ينتهي بعد. وهكذا كان لابد للتصويت أن يكون لصالح القنديل اللبناني الذي لا زيت فيه.
أنا ومجموعة غير قليلة من الأصدقاء كنا نشاهد البرنامج، وقد بدأنا نحاول الاتصال به للتصويت على الموضوع من بداية البرنامج وحتى النهاية، لكن الجميع كانوا يستلمون إجابة واحدة مسجلة مفادها إن هذا الخط مغلق . وهكذا انتهت النتيجة بنسبة 52% لصالح الدفاع عن الأنظمة حتى وإن كانت كما النظام العراقي المقبور.
لا ندري كيف اتصل الآخرون بحيث زاد عددهم على الألف؟ ورغم إننا في بلد فيه خطوط الهاتف رائعة وعلى أعلى المستويات لكننا لم نتلقى غير تلك الإجابة المسجلة "الخط مغلق" .
إن دعوة المشاهد للتصويت عبر هاتف مغلق، يعتبر بحد ذاته استهتار حقيقي بالمشاهد العربي واستهانة بذكائه، إما موضوع التزوير فله شأن آخر.
ثقافة التزوير للجزيرة لن تستطيع أن تسقط العراق كما يتمنى فيصل القاسم ويتمنى غيره من أيتام النظام المقبور. لقد أعطوا لكلمة السقوط معنى غير معناها إذ أن الشعوب لا يمكن أن تسقط، فمن يعرف فقه اللغة يجب أن يعرف ذلك، وبنفس المعنى نجد أحمد منصور يعتبر إن الشعب العراقي عميل، وهذا أيضا لا يصح أن نقوله إلا من خلال لغة الجزيرة الغير عربية. إنهم يروجون لقاموس لغة جديدة، ومن مفرداتها، أن الشعب العراقي هو من خان صدام كما أسلفنا، وهذه الأخيرة هي أعلى درجات الكفر بالغة وفقهها. ذلك أن الخيانة خروجا على عقد أخلاقي أو عرفي، ولكن التخلي عن الحاكم الجلاد والغير شرعي أصلا كيف يمكن أن نسميه خيانة؟ أليست شرعية الحاكم من رضا الناس عنه؟ فما بالك والحاكم كان مسلة لكل رذائل التأريخ؟ أليس هذا هو الكفر بعينه وليس باللغة فقط من قبل جهابذة الجزيرة؟
ثقافة الجزيرة وروادها الجهابذة والذين يتكلمون بثقة المطلق مثل أحمد منصور من أن الشعب العراقي عميل والذي يعتبر النقاش حول مفهوم المفردة، أي مفردة ""عميل"" أمر صغير جدا ولا يريد أن ينزل إلى ذلك المستوى الواطئ ليناقشه وهو من كفر بكل مقاييس اللغة والأدب والأخلاق والأعراف حين وصف الشعب العراقي وكل من يتعامل مع الاحتلال بأي شكل من الأشكال بكلمة عميل.
هذا الأمي والطائفي أحمد منصور لم يستطع أن يخفي قلقه من أن يأخذ الشيعة حصة أوسع من السلطة في العراق وهو يحاور المنسق العام لحزب الدعوة الإسلامية في العراق الدكتور التكريتي، رغم أن الدكتور قد أوضح له من أن العراقي لا ينضر لمثل هذه الأمور وإن هدفه هو التخلص من النظام الدكتاتوري الجائر وإقامة نظام ديمقراطي بديل. لكن أحمد منصور لم يقتنع بكلام العراقي فراح يشدد على البعد الطائفي للمسألة، ولكن هذه المرة كان رد الدكتور حاسما حين ذكره بما كانت تروجه الجزيرة من مخاوف قبل الحرب ومن أن مجازر طائفية ستحصل في العراق بعد سقوط النظام، وهذا ما لم يحدث وسوف لن يحدث. بالطبع هذا الخطاب لم يتفق والثقافة الفجة للجزيرة فتحول المحاور الطائفي لموضوع آخر قبل أن ينتهي المتحدث من حديثه، وذلك لأنه سوف لن يعزز المعنى المحرف والجديد لمفردة عميل.
حقا إنه عمل شاق وطويل أن تعمل قاموسا من المعاني والمفاهيم غير الذي يعرفه الناس الذين تخاطبهم.
يريدون لمفردة عميل غير معناها، الحقيقي الذي نعرفه، وبحسب المعنى الجديد للمفردة مثلا إن أحمد منصور أو فيصل القاسم وغيرهم كثر، لم يكنوا عملاء لنظام صدام بل العميل هو كل عراقي يعيش الآن في العراق لأنهم يتعاملون بشكل إيجابي مع الأحداث ويرتبون حياتهم اليومية ولو ببطيء شديد، وإن كل العراقيين الذين يعملون ليل نهار ليقيموا النظام الديمقراطي الجديد من سياسيين ومستقلين ورجال دين وتكنوقراط هم من العملاء، ولكن بذات الوقت لن يكونوا عملاء لو كانوا من السنة العرب، أليس هذا ما كان يقوله للدكتور التكريتي وهو يدعوه للذهاب للعراق والعمل مع باقي العراقيين من أجل تغيير النسب الطائفية لتركيبة الحكومة؟! فعمل التكريتي ليس عمالة ولكن عمل غيره عمالة ويقولها بثقة تامة، لم لا وهو أبن منذور الجديد.
حين كان صدام في السلطة ويفعل ما يفعل، كانت الجزيرة تشكك بكل ما نقول وبأننا كنا ندعي فقط أو نلفق التهم لصدامهم، ولكن حين أفتضح كل شيء راحوا يقللون من شأن الأفعال الإجرامية للنظام، وحين أفتضح المزيد من الجرائم ومدى بشاعتها، راحوا يغيرون المعاني للمفردات وكأنهم فقط من يمتلك ناصية اللغة وما نحن إلا رعاع وعلينا الإصغاء لهذا القاموس الجديد للجزيرة كرمز للإعلام العربي.
جهبذ الجزيرة أبن منذور صاحب لسان العرب أو من يعرف الآن بأحمد منصور يرفض أن يناقش العراقي الذي يتصل من بغداد ويشتمه بوصفه عميلا، ويجد بذات الوقت إن غير العراقي ممن يتعاملون مع سلطات الاحتلال في أماكن عربية أخرى غير ذلك، وحتى العراقيين الذين هم من الأخوة السنة العرب ليسوا عملاء حين يتعاملون مع هذه السلطات، فقط العراقيين من غير هذا الطيف العراقي هم العملاء حين يتعاملون مع الأمريكان من أجل إعادة بناء بلدهم التي خربها صنم الجزيرة صدام.
أي لؤم هذا؟!
من مفردات اللغة الجديدة كلمة سقوط. يريدون لها أن تعني إن الشعب والأرض والتأريخ مجتمعين هم الذين سقطوا وليس الذي سقط هو رب نعمتهم النظام الدكتاتوري الدموي، وليس فيصل القاسم من الساقطين لأنه كان ومازال يدافع ببسالة نادرة عن أبشع نظام عرفته البشرية، بل العراقي الذي لم يدافع عن جلاد يه هو الساقط.
أيَ سقوط هذا؟!
إذا هذا هو الخطاب لهذه المرحلة بعد سقوط نظامهم وافتضاح جرائمه، لذا يجب أن تأخذ المفردات معان غير معانيها لكي يكون لديهم مادة للحديث.
الكثير من المفردات والمعاني في اللغة العربية قد ادخلوها إلى المستشفى الخاص بفضائية الجزيرة لتجرى عليها عمليات تجميل فتأخذ شكلها الجديد الذي يتناسب ولغة الخطاب المتغيرة بسرعة شديدة لكي تواكب تطور الأحداث، ليس هذا وحسب بل كل الوسائل الغير شريفة تكون شريفة لو إن المعني بالأمر هو الشعب العراقي الذين يتباكون عليه وفي ذات الوقت يصبون عليه الزيت ليحترق أكثر وينعتونه بالخيانة والعمالة والسقوط والانحراف وإلى آخره من مفردات ثقافة الانحطاط الخاصة بالجزيرة.