|
عبادة المقاومة - حدود حق الدفاع عن النفس
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8015 - 2024 / 6 / 21 - 16:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين يُمنع الرأي المنشق، المخالف والمعارض، من أخذ حقه في المخاض الآمن وإبصار نور الحياة، يتنفس ويكبر وينافس مع نظرائه السائدين المغترين بضخامة العدد وشراسة السلطة القائمة والمستفيدة، تستطيع الفكرة مهما كانت سطحية وتافهة ومؤذية أن تُحكم قبضتها على عقول الملايين، تظل مُطمئنة ومُخدِّرة ومُستحكمة سنين طويلة حتى تؤدي بهم فجأةً إلى الكارثة. عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، تستيقظ العقول المُحنَّطة، لكن استفاقتها تكون في الجحيم. وهناك، لا أحد يملك الوقت ولا الرفاهية لمراجعة أفكار أو حتى مسائلة النفس. لذلك، بمجرد أن تزول الغُمَّة لسبب ما خارجي المنشأ غالباً، سرعان ما يعود هؤلاء المُغيبون أدراجهم إلى سابق معتقداتهم البالية، من دون صقلها بدروس التجربة الأخيرة ولا حتى الرغبة في الإنصات لحلول ووجهات نظر بديلة.
إن قمع الرأي المعارض يؤدي إلى ترك الساحة الفكرية خواء ومستباحة لكي يتجاوز الرأي السائد بسهولة ودون مقاومة تُذكر حدود العقل والمنطق. وعلمتنا الخبرة المعيشية أن ‘الشيء إذا زاد عن حده، انقلب إلى ضده‘. في الاعتقاد السائد أن الدفاع عن النفس حق مشروع لا تشكيك فيه. هو مبدأ ثابت وأصيل يدخل في صُلب الحياة البشرية ذاتها. ولكون المقاومة، السلمية والمسلحة على حد سواء، هي شكل من أشكال الدفاع عن النفس وحفظ الحياة، تُقر البشرية كلها بشرعية المقاومة. لكن، هل يعني ذلك أن هذا الحق مُطلق من أي وكل قيود؟ إذا كان مُطلق، هل يوجد حقاً في حياة البشر فوق الأرض- باستثناء بعض الأيديولوجيات السامة داخل أمخاخ معطوبة- ما يمكن أن نصفه مُطلق، بمعنى أبدي التطبيق في كل مكان وزمان، في كل الأوضاع والظروف والحيثيات، وبنفس النتيجة في جميع الحالات؟ وإذا كان هذا الحق غير مُطلق، نسبي ومُقيد بحدود، ماذا تكون هذه الحدود؟
تخيل أن شخص تافه لكن مُسلح قطع طريقك وأمرك بالنزول من سيارتك وتركها وكل ما فيها وفي جيوبك غنيمةً له وأن تغور أنت في ستين داهية، سليماً ومعافاً دون أذى طالما نفذت أوامره ولم تقاوم. في مثل هذا الموقف الافتراضي، تقتضي الاستجابة السليمة منك أن تتمالك غضبك وأعصابك أولاً وقبل كل شيء. إذا نجحت في كتم غيظك، سينفتح لك الباب تلقائياً إلى الخطوة التالية، أخذ التفكير والعقل زمام السيطرة على الموقف والبدء سريعاً في توليد الحلول وترتيب الأولويات. ما هي فرص نجاح المقاومة في ظل ظروف الوضع الحالي؟ ما هي احتمالات أن أنجح في إيقاعه أرضاً وتجريده من سلاحه؟ هل السيارة ومقتنياتي ومتعلقاتي الحالية أغلى، أم حياتي؟ أيهما يمكن تعويضه؟ هل هناك مارة قريبين يمكنني الاستغاثة بهم؟ عملية فكرية لحساب الفرص والمخاطر لن تبدأ إلا بعد طرد الانفعال من ذهنك. ونتيجتها غير معروفة أو محسومة سلفاً. دائماً هناك هامش كبير للخطأ ودفع الثمن. وفي جميع الأحوال لن يقوم بهذه الحِسْبَة، ولن يدفع الثمن إذا أخطأ، سواك أنت وحدك. ثم أضف إلى ما سبق زوجتك وبناتك الصغار برفقتك في السيارة وستجد المقامرة، وحجم المسؤولية، أكبر بكثير.
إن شرعية المقاومة تقوم على مبدأ حفظ الحياة. إذا كانت الاحتمالات لأن تنجح المقاومة في حفظ أرواح أكثر مما تُزهق، عندئذ تكون المقاومة في صف المحاولة لحفظ الحياة، ومن هنا تستمد شرعيتها. لكن عندما تكون الاحتمالات أكبر لأن تُزهق المقاومة أرواحاً أكثر مما تُنَجِّي، هذا يفتح الباب للطعن والتشكيك في شرعيتها، لأنها عندئذ تقف ضد الحياة ذاتها، تهدم الحياة أكثر مما تعمرها. قبل المقاومة وفي أثنائها، تبقى دائماً الموازنة بين الاحتمالات قائمة. وهو ما يستلزم يقظة دائمة من العقل، وحساب لا ينقطع لأوزان الاحتمالات ونسب المكسب والخسارة في الأرواح. وفي جميع الأحوال يكون الخطأ في الحسابات وارد، لكن إمكانية المراجعة والتصحيح ممكنة أيضاً.
الفلسطينيون من سكان غزة يفرون الآن بحياتهم وحياة أطفالهم ونسائهم وعجائزهم ومرضاهم من أمام الدبابات والمقذوفات الإسرائيلية، سيراً على الأقدام أو عربات تجرها الخيول والحمير أو المركبات. قبلهم بوقت وجيز، فعل السوريون واليمنيون الشيء نفسه، ولا يزال يفعله بعضهم؛ وفي الماضي القريب فعله العراقيون من أمام المقذوفات الأمريكية والبريطانية؛ كذلك لا تزال تفعل أعداد غفيرة من السودانيين المدنيين العالقين في نيران حرب أهلية بين الجيش وقوات الدعم السريع السودانيتين. جميع هؤلاء فروا أو يفرون بجلدهم دون مقاومة فعلية لمن هدد أو يهدد حياتهم، سواء كان يهودياً أو مسلماً، وطنياً منهم أو أعجمياً دخيلاً عليهم. هذا الفعل طبيعي ومشروع. أن تنجو بحياتك ومن معك من الموت المحقق هو حفظ للحياة في أجلى وأشرف صوره وأعظمها شرعية؛ بينما أن تؤدي بنفسك ومن معك إلى تَهلكة مُحققة، حتى لو كنت مُسلحاً بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، هو ضد الحياة، إهدار وإهلاك لها دون تعويض مكافئ في الإعمار.
الحياة هي الحد والمقياس الأساسي لشرعية المقاومة. كم من الحياة يمكنك أن تشتري بمقاومتك للعدوان على حياتك؟ لا مقاومة شرعية على حساب الحياة، بصافي خسارة في الحياة. لابد أن تكون غاية المقاومة، ومناط شرعيتها، تعظيم فرص النجاة وحفظ الحياة أكثر من إهدارها. عندما يحدث العكس، إهدار للحياة أكثر من إنقاذها، تفقد المقاومة شرعيتها وتتحول إلى شيء آخر، نوع من الانتحار الذاتي يأساً وانتقاماً من الحياة ذاتها. يستطيع هذا الفعل اليائس والمنفلت من حدود العقل والمنطق أن يقتل ويهدم، لكنه يعجز عن أن يُنقذ الأرواح أو يُعمِّر الأرض.
في كنف بعض الأيديولوجيات السامة التي لا تزال تُعَشش داخل أمخاخ معطوبة، تَغنى العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ذات يوم صادحاً بدعوة عامة للانتحار الجماعي: "فدائي فدائي فدائي...أهدي العروبة دمائي... أموت أعيش... ما يهمنيش". حسب الكلمات، لا فرق بين الحياة والموت. بينما في الحقيقة، وفي الواقع المعيشي والحضاري البشري، الفرق شاسع وعظيم. لا يمكن المقامرة بالحياة إلا بمقابل تعويضي أكبر من الحياة ذاتها، بمعنى أن تَكسب حياة أكثر مما تَسفك. عدا ذلك، تصبح مجرد لعبة ثأرية انتحارية عبثية ومضادة للحياة. بمرور الزمن، تطورت هذه الدعوة العبثية اليائسة من تقديس الفدائيين وصولاً إلى الاستشهاديين، ليتبوأ شهيد اليوم الشرف والرفعة والمكانة نفسها التي حظي بها فدائي الأمس. حتى انتهت هذه الأيديولوجيات السامة- المستعلية على قُدسية وحُرمة الحياة الانسانية وغير المتقيدة بحدود وحسابات العقل والمنطق- إلى حِجْر الجماعات الإسلامية التكفيرية والمتطرفة، ليلفوا بأفكارها الفتاكة أجسادهم ويفجروا معالم العمران والحياة ذاتها. ومعهم وبهم، تحولت قداسة المقاومة من أجل التحرر والحياة الأفضل إلى عبادة للموت من أجل التخلص من الحياة ذاتها.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تفكيك السلطوية العربية-2
-
تفكيك السلطوية العربية
-
اللهُ في النفسِ الفردية والجَمْعِية
-
جمهورية الجيش وحركة كفاية في يناير 25
-
شرعية الحكم والأمر الواقع
-
من خواص العقل العربي المعاصر- حماس عينة
-
اللهُ في السياسة
-
هيا بنا نَكْذب
-
حقيقة الأجهزة السيادية في الدولة الوطنية
-
لماذا نَظْلمُ النساء؟
-
لَعَلَّنَا نفهم الخير والشر
-
لا الشمسُ تَجري...ولا الليلُ يُسابق النهار
-
الخير والشر، بين المطلق والنسبي
-
نظرية العقد الاجتماعي 2
-
نظرية العقد الاجتماعي
-
إشكالية الشريعة والاجتهاد
-
ماذا كَسَبَت العراق بعد صدام
-
ديمقراطية دقلو
-
نظام عربي من دون سوريا والعراق؟
-
يا أنا يا بطاقة التموين
المزيد.....
-
جنرال متقاعد لـCNN: -بوتين ليس بمكان جيد الآن-.. وجيشه في حا
...
-
مصرية توثق طريقة بيع غريبة على متن سفينة بالنيل
-
من يرسم الخطوط بين تونس وليبيا؟
-
-الحرب الهجينة-.. روسيا تتبنى إستراتيجية عالمية جديدة مناهضة
...
-
-الحرب الهجينة-.. جبهة حرب روسية خفية ضد الغرب؟
-
غوتيريش يدعو لوقف فوري للقتال في سوريا
-
-سانا-: الجيش السوري يتصدى لهجوم قوات -قسـد- على قرى في دير
...
-
مراسل RT: قتلى وجرحى بغارات إسرائيلية على قطاع غزة
-
الجيش الإسرائيلي ينذر 73 بلدة لبنانية عند الخط الأزرق
-
مسؤولون في الناتو: الحلف لن يدعم طلب أوكرانيا للعضوية خلال ا
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|