أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - اللهُ في السياسة















المزيد.....

اللهُ في السياسة


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 7976 - 2024 / 5 / 13 - 00:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قد نتفق على أننا جميعاً، أو غالبيتنا الساحقة على الأقل، تؤمن بوجود الله في دنيانا الكونية والبشرية بصورة أو بأخرى. لكننا، مع ذلك، نتفق جميعاً من دون استثناء على أن هذا الوجود الإلهي في الكون وحياة البشر ليس ذو طبيعة مادية ومتاحة للحواس. نحن جميعاً، في العصر الحالي على الأقل، نتفق على كون الله ميتافيزيائي الكينونة، وليس فيزيائياً يمكننا التعرف عليه والاهتداء إليه بواسطة خبراتنا الحسية مثلما نفعل مع سائر البشر والكائنات والموجودات المتاحة لنا عبر الطبيعة الكونية. هكذا، نحن بالإجماع نتفق على عدم حضور الله لحماً ودماً- أو في أي صورة جُسمانية أخرى متاحة للحواس- وسطنا في دنيانا البشرية فوق الأرض. بالتالي، يجوز باطمئنان الجزم بانتفاء الوجود الفيزيائي لله وسط البشر، حتى من دون أي أذية لمشاعر المؤمنين بنظرية الخلق الإلهي وتحكمه المطلق في مصائر البشر عبر هذه الحياة وما ورائها.

غير أن عدم الحضور الفيزيائي لا يساوي عدم الوجود بصورة أخرى. لأن الوجود قد يأخذ شكلاً آخر، مغاير بالكلية لشكل وجودنا نحن البشر. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الله موجود، وسطنا ويرانا، لكن في صورة غير صورتنا لا طاقة لحواسنا أن تميزها. لكن، إذا كان كذلك، كيف عرفنا- أو بعضنا- بهذا الوجود غير المتاح لقدراتنا الحسية؟! هذا هو السؤال. وهنا يصل الإجماع السابق إلى نهاية الطريق.

في مرحلة تطورية متأخرة، تعلم الإنسان كيف يُكَوِّن من بٍضْع عشرات من الرموز الأبجدية عدداً ضخماً يُقدّر بعشرات الآلاف من الكلمات، على قدر طاقة ذاكرته المحدودة على الحفظ والاسترجاع. ومن هذه الذخيرة المحدودة رغم ضخامتها من المفردات اللغوية، استطاع أن يُنشئ جملاً وعبارات بلا نهاية كأوعية معنوية، قادرة على أن تستوعب من المعاني والتفاسير أضعاف ما تستوعبه كل بحار الأرض ومحيطاتها من جزيئات الماء. أكثر من ذلك، بواسطة هذه الوسيلة البشرية العبقرية نجح الإنسان لأول مرة في تاريخه في الإفلات من قيود الفيزياء الطبيعية، لكي يحلق عالياً وعميقاً في سماوات الميتافيزياء الطلق المنزهة من كافة القيود والأغلال المعلومة له من خلال حواسه. عندئذٍ، أصبح بمقدوره التحليق والهيام في عالم ميتافيزيائي لا محسوس تسكنه الأرواح والجان والملائكة والشياطين والأرباب والربات وحور العين وكل ما يمكن أن يتصوره الخيال الطلق اللامحدود بقوانين الفيزياء. وأخيراً اهتدى العقل البشري إلى الله الواحد الأحد. وبعد أن أصبح الإنسان ذو القدرة الفيزيائية المحدودة قادراً بهذا الشكل على الولوج إلى عالم الميتافيزياء اللامحدود، فلا دهشة بعد من أن يمتلك سكان العالم الميتافيزيائي ذوو القدرات الخارقة للفيزياء بدورهم القدرة كذلك على إجابة توسلات وتساؤلات وصلوات البشر. بذلك نشأت في الأديان، للمرة الأولى وليس الأخيرة، ظاهرة الكُتب المقدسة المنسوبة إلى الأرباب، تحفظ حرفياً كلامهم وتعاليمهم وشرائعهم إلى البشريين. بعد آلاف السنين من الصمت المُطبق، نطقت الآلهة أخيراً، وبألسنة أقوامها على وجه التحديد والحصر. دعونا نُسَلِّم بهذا التصور وننظر في مضامينه السياسية.

حتى لو كان كتاب الله يحوي حرفياً كلام الله- رغم أن الله لا يتكلم، يبقى أن ذلك لا يضيف قيمة مباشرة تُذكر، على الأقل فيما يتعلق بالسياسة. بمعنى، أن كلام الله بمفرده وفي حد ذاته غير قادر على إنشاء وضعاً سياسياً جديداً مهما يكن؛ وفي أحسن الأحوال، إذا ما أٌحسن استغلاله سياسياً، يمكن أن يأتي بأثر سياسي غير مباشر، سلباً أو إيجاباً. في قول آخر، كلام الله لا يصنع أنبياء، الذين هم في الحقيقة من صنيعة السياسة في المقام الأول. في مكة، ورغم كل ما كان يتلوه عليهم من كلام الله، لم يعترف الكثيرون بنبوة محمد؛ بل سخروا منه وعذبوه وطردوه شر طردة من قريتهم. لكنه حين عاد إليهم في زي القائد العسكري المنتصر، سلموا فوراً بصدق نبوته وادعائه أن الله قد أوحى إليه كلاماً مقدساً. الأمر نفسه مع المسيحية، التي لم تُصبح ديناً رسمياً وكتاباً مقدساً لأغلبية رعايا الإمبراطورية الرومانية، لكي تتغلب وتسود على كل الأديان المنافسة الأخرى رغم كثرتها، إلا بعدما أقرتها واعترفت بها الدولة كدينها الرسمي. هكذا، إذا كان يجوز الافتراض أن الإسلام ربما ما كان قائماً بيننا اليوم إذا لم ينتصر المسلمون في معركة فتح مكة، كذلك يجوز الافتراض أن المسيحية ما كانت لتنجو وتبقى أيضاً إلى يومنا هذا لولا تبنيها من قبل الامبراطور الروماني قسطنطين.

إذن، على الصعيد السياسي الحاسم والبالغ الأهمية في تنظيم حياة البشر، لا الله موجود فيزيائياً وسطنا لكي يُنفذ حُكمه فينا بنفسه، ولا كلماته الميتافيزيائية تُغني بشيء يُذكر في تغيير موازين القوى السياسية بين البشر على الأرض. لماذا، إذن، استدعاء الله من عالم الميتافيزياء إلى دنيا السياسة الفيزيائية، مثلما حدث ولا يزال على مر التاريخ؟

لأن استدعاء الله في صفك خلال نزاع أو تنافس أو صراع على مصالح دنيوية يقلب الطاولة على المنازعين والمنافسين والخصوم. يحوله إلى صراع بين آلهة وبشر، خير وشر، حق وباطل- صراع الميتافيزياء السماوية ضد الفيزياء الأرضية. حين يصبح الله طرفاً في نزاعات البشر يحولها من معارك الأرضيين المحدودة المتاحة للمساومة والتسوية على حلول وسط لإعادة توزيع المصالح ورسم مناطق جديدة للنفوذ، إلى جهاد وحرب مقدسة ضد قوى الشر والظلام والإثم والباطل، لا يرضيها ويشفي غليلها ويطفئ لهيبها أقل من تطهير عالمها من دنس وفتنة هذه القوى الشريرة باستئصالها وإبادتها من الجذور. هكذا قد فعل محمد مع خصومه في مكة، بتطهير قريته من الأوثان والقضاء على أي منافس محتمل للدين الذي يمثله هناك. وقد فعلته أيضاً الدولة الرومانية من خلال صراعاتها الدموية ضد كافة الأديان الأخرى المنافسة للمسيحية التي تمثلها.

لكن السحر يمكن أن ينقلب بسهولة وسرعة غير متوقعة على الساحر نفسه. إذ بعد بضع سنوات فقط من وفاة محمد، تأججت النيران المقدسة ذاتها التي أشهرها ضد خصومه الوثنيين لكن هذه المرة في وجه صحابته المقربين أنفسهم الذين بشرهم بالجنة. حين اختلفوا على خلافته السياسية، استدعى كل طرف منهم الله إلى صفه، ورفعوا كلام الله على أسنة سيوفهم ورماحهم على أمل أن يُرجح ذلك من كفتهم على ميزان الحق السياسي. لكن، في الواقع، لم ينقذهم لا الله ولا كتابه. بل مضوا- في جهاد مقدس- يُصَفّون بعضهم البعض الواحد تلو الآخر إلى حد الهلاك الجماعي لولا قُدِّر للدولة الوليدة أن يُنقذها من الضياع بعض الساسة من ذوي الحنكة والمراس في أخذ المسافة الواجبة والصحية بين الله وبين السياسة. كذلك، مع اختلاف التفاصيل ومنحنى التطور، سلكت المسيحية ذات الطريق حتى لاقت المصير المحتوم- حروب دينية هوجاء دامت زهاء المئة عام فيما بين المسيحيين أنفسهم كادوا يَهلكون في أتونها جميعاً. على خلفية تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية شاملة وعميقة، تصدعت وحدتهم الدينية كما جسدتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لنحو ألف سنة. وبدل الله الواحد الذي ظلت تحتكره وتضطهد وتحرق به الكنيسة كل من يعاندها، ظهرت إلى الوجود كنائس شتى تجاهر باستقلاليتها عن الكنيسة الأم والبابا في روما وتعيد إحياء وابتداع عقائد وتقاليد اعتُبرت في السابق زندقة وكفر وهرطقة لقي بسببهما الكثيرون حتفهم في المحرقة. ثم بعد أن أضناهم طول القتال ونال من عزيمتهم بشاعة سفك الدماء دون بصيص أمل في الأفق، خَلُص الجميع إلى عبثية مثل هذه الحروب المقدسة. كان الدرسُ جلياً بقدر ما كان مؤلماً: إذا لم نُخرج الله من صراعاتنا الدنيوية فيما بيننا، سيأتي لا محالة اليوم الذي سنقضي فيه على أنفسنا بالكامل.

إقحام الله في السياسة يجعل من الأخيرة أحادية النظرة والتوجه والفعل على أرض الواقع. هذه السياسة الأحادية النظرة والتوجه والفعل لا تقدم مساهمة إيجابية تُذكر- بالمغزى السياسي- إلا إذا كانت موجهة إلى خارج جماعتها الدينية/السياسية، لا إلى الداخل. الله يُضيف إلى المؤمنين طاقة كراهية إلى حد استباحة مال وعرض وروح الآخر المخالف لدينهم، التي تستغلها السياسة وتحولها إلى طاقة غزو وتوسع لا تنضب. وهذا يفيد السياسة طالما ظلت هذه الطاقات موجهة خارج جماعتها. فالطرفان- السياسي والديني- يلتقيان على ضرورة قمع الخارجيين (الكافرين؟)، القضاء على آلهتهم الباطلة، والاستيلاء على أراضيهم ومقدراتهم، وضمهم غصباً وقسراً إلى منطقة نفوذنا المتوسعة باطراد. لكن الأمر يتحول إلى كارثة فور توقف هذا الغزو التوسعي المطرد. عندئذٍ لا تجد هذه الطاقة الكارهة القمعية الاستيلائية الجبارة من مصارف لها سوى إلى الداخل، مما يؤدي حتماً إلى الانفجار الداخلي وتفاقم مُسببات الفرقة والتناحر والتشظي على نحو يهدد حتى استمرارية الوحدة الدينية/السياسية ذاتها، ويستنزف طاقات مكوناتها بعيداً عن مقومات التقدم والعمران.

لقد أقنعت حروب الأوروبيين الدينية ضد بعضهم البعض بضرورة إخراج الله من دنيا السياسة الفيزيائية والعودة به إلى من حيث أتى في الميتافيزياء. عرفوا أن استمرار بقائهم معاً في هذه الحياة مستحيل من دون تأسيس وصون التسامح المتبادل والقبول بالآخر المختلف دينياً ومذهبياً وطائفياً وعرقياً ولغوياً، وتعلم التعايش معاً رغم اختلافاتهم وحل منازعاتهم بالتفاوض والطرق السلمية، أو في أسوأ الأحوال من خلال حروب نسبية ومحدودة. وكبديل عن سعير الحروب الدينية والطائفية المُهلكة، طَوَّر الأوروبيون نظرية جديدة لتحل محل الأحادية البالية- "الليبرالية السياسية"، التي تُقر وتحمي التعددية الدينية والسياسية.



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هيا بنا نَكْذب
- حقيقة الأجهزة السيادية في الدولة الوطنية
- لماذا نَظْلمُ النساء؟
- لَعَلَّنَا نفهم الخير والشر
- لا الشمسُ تَجري...ولا الليلُ يُسابق النهار
- الخير والشر، بين المطلق والنسبي
- نظرية العقد الاجتماعي 2
- نظرية العقد الاجتماعي
- إشكالية الشريعة والاجتهاد
- ماذا كَسَبَت العراق بعد صدام
- ديمقراطية دقلو
- نظام عربي من دون سوريا والعراق؟
- يا أنا يا بطاقة التموين
- الإرادة الفردية والسلطة في الثقافة العربية
- مفهوم القوة في العصر الحديث
- تشريح لمفهوم المقاومة في ثقافة العرب
- الذكاء الاصطناعي في الحرب وأثره على الجيوش
- صعود الديمقراطية الأُصولية-2
- مُسائَّلة في غايات طوفان الأقصى
- صعود الديمقراطية الأُصولية


المزيد.....




- “فرحوا أولادكم بأغاني البيبي” ضبط الآن تردد قناة طيور الجنة ...
- المقاومة الإسلامية تقصف مقر قيادة الفرقة 91 المُستحدث في قاع ...
- بن غفير يقتحم الأقصى لأول مرة منذ الحرب على غزة! دعا للسيطرة ...
- سلي طفلك.. حمل الآن تردد قناة طيور الجنة للأطفال الجديد 2024 ...
- بالطيران المسير.. المقاومة الإسلامية في العراق تستهدف إيلات ...
- تسببا بموته .. اعتقال يهودي وزوجته حاولا تهريب جدي لذبحه في ...
- معرض للتعريف بالمسجد الأقصى والقدس يجوب أنحاء الجزائر
- قلق مقدسي من الاحتفال بعيد الشعلة اليهودي في حي الشيخ جراح
- سلفيت: الاحتلال ينصب حاجزا عسكريا عند مدخل ديراستيا
- “دلوقتي فرحهم وابسطهم ببلاش”.. تردد قنوات الأطفال الجديدة 20 ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - اللهُ في السياسة