أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - الشعر في كتاب الفارياق















المزيد.....


الشعر في كتاب الفارياق


سليمان جبران

الحوار المتمدن-العدد: 7990 - 2024 / 5 / 27 - 00:32
المحور: الادب والفن
    



يذكر جرجي زيدان بين مؤلّفات الشدياق التي لم تُطبع " ديوان شعر من نظمه يشتمل على اثنين وعشرين ألف بيت". لكنّنا سنعرض هنا للشعر المنشور في الفاريق فحسب، وهي مادّة لا بأس بها من حيث الكم، بحيث يمكن أن تقوم مثالا على شعر الشدياق كلّه.
في كتاب الساق على الساق حوالى ثلاثين قصيدة، تشتمل على ما يقارب الألف بيت من الشعر. ويضاف إليها بعض الأبيات المتفرّقة هنا وهناك، والمقطوعات الشعريّة التي يختم بها مقاماته. وتكاد هذه المادّة تضمّ معظم الموضوعات التقليديّة التي كتبها الشدياق. ففيها أربع قصائد طويلة نسبيّا في المدح. فقد مدح السلطان عبد المجيد ( ص. 651 – 655 ) وعبد القادر بن محيي ( 661 – 663) ومدح صبحي بك ( 664 – 665 ). وهناك قصيدة أخيرة في مدح الخوري غبرائيل جبارة ( 666- 668 ) وهو أوّل شعر مدح فيه قسيسا. كما تضمّ المجموعة قصيدتين في الرثاء، أولاهما في رثاء حمار ( 354 – 355 )، والثانية في رثاء ولده ( 606 – 609). وهناك أربع قصائد في الغزل أو التشوّق إلى الحبيب، يسمّيها "الفراقيّات" (679 – 685 ). وتضمّ اشعاره أخيرا قصيدة يمكن اعتبارها وصفيّة، مدح بها باريس مرّة، وذمّها أخرى، مثبتا مقابل كلّ بيت في المدح بيتا في الذمّ يقلب فيه معنى البيت السابق، ملتزما فيه نفس الوزن والروي، أشبه بالنقائض ( 655 – 660). وهناك أخيرا قصيدة طويلة سمّاها فاتحة الكتاب ( ص 69 – 73 ) يعرّف فيها القارئ بكتااب الفارياق.
إلى جانب هذه القصائد، هناك مقطوعات في الهجاء والسخرية والمجون والتأمّلات، وتِسع قصائد قصيرة سمّاها "الأغاني" ( 407 – 414 ).
أوّل ما يلفت نظر القارئ في هذه المجموعة أنّ الشدياق الشاعر يختلف كثيرا عن الشدياق الناثر الذي عرفناه. فقد جدّد الشدياق في النثركثيرا، وابتكر له أسلوبا خاصّا ابتعد فيه عن الأسلوب التقليدي إلى حدّ بعيد. أمّا في الشعر فلا يكاد يختلف الشدياق عن غيره من معاصريه، إذا لم يقصّر عنهم في التركيب الشعري والموسيقي.
لعلّ أهمّ سبب في ذلك أنّ الشديق رجل فكر ومنطق، لا رجل عاطفة وخيال. والعقل يكون أجمل وأوضح في النثر، أمّا الشعر فكثيرا ما يُفسده العقل والفكر حتى يبدو باردا لا روح فيه، يمتاز عن النثر بالوزن والقافية فقط. وقد أشار الشدياق نفسه إلى ذلك في فارياقه قائلا: وقد قالت الفلاسفة إنّ أوّل الهوس الشعر وأحسن الشعر ما كان عن هوس وغرام. فإنّ شعر العلماء والمتوقّرين لا يكون إلا مُكَرْزَمًا".
ثمّ إنّ شعر الشدياق لم يكنْ وليد الطبع، فقد استخدم الشدياق النثر للتعبير عن أفكاره، وأجاد فيه، فكان أداته الأساسيّة في نقل أفكاره وعواطفه. أمّا الشعر، كما يبدو من فارياقه، فقد اتخذه أداة للتكسّب أو اللهو، ولذلك كان شعره في الأغلب، شعر صنعة وتكلّف لا شعر طبع وسليقة. وحتّى هذه لم تَفُتِ الشدياق، فقد عرف كيف ينقد الشعر، ولكنّه لم يعرف كيف يكتبه ويجيد فيه. يقول الشدياق في فارياقه: والفرق في ذلك أنّ الشاعر بالصنعة هو مَن يتكسّب بشعره، فيمدح هذا، ويكذب على هذا، حتى ينال منهما شيئا. فأمّا الشاعر بالطبع فإنّما هو الذي يقول الشعر لباعث من البواعث دون تكلّف وانتظار للجائزة".
معظم النقّاد لاحظوا أنّ شعر الشدياق هو في الأساس شعر صنعة تقليديّ، لم يخرج فيه عن خطّة الأقدمين، لا تجديد فيه ولا موسيقى ولا خيال، وإنّما هو عيال على أشعار القدامى واجترار لمعانيهم. قال مثلا حنا الفاخوري: أمّا شعر الشدياق فهو تقليديّ لم يخرج فيه عن معاني الأقدمين وأساليبهم، مع أنّه أكثر مِن نقد تلك الأساليب وأنحى باللائمة على مَن يأخذ بها. فمدحه تضخيم للممدوح، وشعره عموما سهل يقلّ فيه التعقيد، إلا أنّ حظّه من الموسيقى ضعيف".
وهذا مارون عبّود ، وهو أشدّ أنصار الشدياق حماسا، لم يمنعه إعجابه بالشدياق من نقد شعره بأسلوب ساخر، فيه مِن روح أستاذه الكثير: .. ولكنّه كان قليل التجديد شاعرا، كثيره ناثرا، بكى الطلول كما بكوا، وقال الغزل الكاذب مثلهم، مع علمه أنّه لفي ضلال مبين. وما أكثر ما انتقد خطّتهم تلك، فالظاهر أنّ بين فمه وأذنيه أربعة أميال لا أربع أصابع".
إذا اختلفتْ مقاييس الناقد اختلف حكمه وتقييمه طبعا. فهذا بولس مسعد يظنّ أنّ نظم الشعر في سنّ مبكّرة، والإلمام بمفردات اللغة ومترادفاتها، يكفلان إجادة نظم الشعر. ولذلك فقد أُعجب بشعر الشدياق لِما فيه من أسلوب تقليديّ وقوالب قديمة ومبالغات كثيرة وألفاظ جزلة، فقال: كان شاعرا بفطرته، وإلّا لما نظم الشعر وهو دون العاشرة، وقد أجاده كما أجاد النثرلأنّه كان قاموس اللغة، وعى ألفاظها ومفرداتها، فإذا كتب انقادتْ اللغة الفصحى بمبناها ومعناها، فيفرغ المعنى في القالب الذي يختاره له بلا تكلّف ولا مشقّة، فتجيء كتابته منْسجمة طليّة، تستهوي النفوس وتأسر القلوب".
لقد ذكرنا رأينا ورأي النقّاد في شعر الشدياق بوجه عامّ، ولا شكّ أنّنا نظلمه إذا اعتبرنا شعره كلّه، حتى المنشور منه في الفارياق، مِن نوع واحد يتميّز كلّه بخصائص واحدة محدّدة. فنحن إذا نظرنا في شعره المنشور في الفارياق أمكننا تقسيم هذا الشعر إلى نوعين بشكل عامّ: النوع الأوّل هو ما يمكن تسميته "الشعر الرسمي" وهو تقليديّ يضمّ ما كتبه الشدياق في المواضع التقليديّة أيضا، كالمدح والرثاء والوصف. إنّه الشعر الذي يعمد إليه الشدياق جادّا، فيكتبه بصفته شاعرا إن صحّ التعبير. على هذا النوع تنطبق غالبا الأحكام القائلة بضعف الخيال والموسيقى. هذا الشدياق يمدح الخوري غبرائيل جبارة مثلا : "وكتب إلى الفاضل اللبيب الخوري غبرائيل جبارة، أرسلها إليه من باريس إلى مرسيليا، وهو أَوّل شعر مدح به قسيسًا":
قفْ بالطُّلولِ إنِ اسْتَطَعْتَ قَليلا واسْاَلْ عنِ الرَّكْبِ المُغذِّ رَحيلا
ساروا وأبِقَوْا وَحْشّةً لكَ دونَها غُصَصُ المنونِ وحَسْرةً ونُحولا
طللٌ عَهِدْتُ بهِ الخَلاعةَ والصّبى وشَرِبْتُ فيهِ سلْسَلًا مَشْمولا
وجَرَرْتُ أَذْيالي وتهْتُ على المُنى واقْتَدْتُ منْها ما اسْتعزَّ ذَليلا
فماذا نرى من شخصيّة الشدياق وروحه في هذه الأبيات؟ إنّها موسيقى الأقدمين ومعانيهم وألفاظهم . وحتى حين لا يبدأ بالوقوف على الأطلال، شأن القدماء، بل يتناول موضوعه مباشرة، فإنّه لا يأتي بجديد أيضا، ولا نلمح من الشدياق شيئا في القصيدة كما عهدناه يطلّ علينا في كلّ جملة من نثره. فقد قال يمدح السلطان عبد المجيد:
اَلْحَقُّ يَعْلو والصَّلاحُ يُعَمَّرُ والزّورُ يُمْحَقُ والفَسادُ يُدَمَّرُ
وَالْبّغْيُ مَصرَعُهُ ذَميمٌ لم يَزَلْ آتيهِ عُرْضَةُ كلِّ سوءٍ يُثبرُ
والْوَغْدُ تُبْطِرُهُ منَ النّعَمِ التي يَغْنى بِها الْحُرُّ الْكَريمُ ويّشْكُر
طَغَتِ الطُّغاةُ الرّوسُ لَمّا غَرَّهُمْ في الأرضِ كُثرُ سَوادِهِمْ وتَجَبّروا
كادوا ويَرْجِعُ كيْدُهُمْ في نَحْرِهِمْ فَطُلاهُمُ دون َ الْقَواضِبِ ينْحَرُ
إلى أن يقول في مدح السلطان:
إيهِ أَميرَ الْمُؤْمِنينَ ومَنْ دَعا إيهِ أميرَ الْمُؤْمِنينَ فَقَدْ سَرو
سُدْ بِالْمَعالي فائقا كُلَّ الْوَرى مَجْدا وشائِنُكَ الْبّغيضُ الأبْتَرُ
وَسِعَتْ عَوارِفُكَ العَميمَةُ سُؤْلَنا (م) الْاَقْصى وما بِالْبالِ مِنّا يخْطُرُ
حتّى لقدْ كَلَّتْ خَواطِرُنا بِما (م) اقْتَرَحَتْ وأَنْتَ منفّلٌ لا تّضْجَرُ
نَطَقَ الْعَيِيُّ بِفَرْضِ مَدْحِكَ مُفْصِحًا حَتى الْجَماد ُ يكادُ عَنْهُ يُعَبِّرُ
ولقدْ أَضاءَ الْكَوْنَ مجْدُكَ كُلَّهُ حتّى اسْتَوى في ذا العَمِي والمُبْصِرُ
نَظَرَ الطُّغاةُ إليْكَ نَظْرَةَ حاسِدٍ فَتَجَرَّعوا مَضضًا بِها وَتَجَسَّروا
لا شكّ أَنّ قارئ هذه الأبيات يسأل نفسه بعد كلّ بيت : أهذا هو الشدياق بشخصيّته المتميّزة وروحه الخاصّ؟ ثمّ ماذا عرفنا عن السلطان منْ خلال هذه الأوصاف العامّة والمبالغات المبتذلة؟ ما أصدق تعليق المستشرق الفرنسي دلاجرانج حين قدّم له الشدياق قصيدة مماثلة في مدح الملك مترجمة إلى الفلرنسيّة: ليس من هذه الصفات التي نسبتَها إلى الملك ما هو مختصّ به وحده، فإنّه يصلح أن يخاطَب به أيّ ملك كان، وهي مع ذلك عويصة لا يمكن ترجمتها [...] ولو قدّمتَها كما هي، أي بدون ترجمة، لما استحسن الملك منها غير الخطّ والشكلِ فقط."
ولعلّ ممّا يدلّ خير دلالة أنّ شعر الشدياق التقليدي لا يختلف كثيرا عن النثر العادي إلّا بالوزن والقافية هو أنّه يعمد في شعره أحيانا إلى ما اعتاد عليه في النثر من إيراد المترادفات، فها هو في قصيدته "الطيخيّة" الأولى، كما سمّاها، يورد أربعة أبيات كلّ ما فيها مترادفات متلاحقة:
ويكونُ مصروعُ الغرامِ مزبّبًا متكسِّسًا مُسْتَقبْلِا مُسْتّدْ بِرا
ومُحنبشا ومجمِّشا ومدهفشا ومكنَّصًا ومزنْجرا ومنعجرا
ومرنّما ومغنيا ومصفّرا ومشبّبا ومطبّلا ومزمّجرا
وفيينة متثائبا متمطّيا وفيينة متقاعِسا مقعنصرا
وعاد على نفس اللعبة في القصيدة ذاتها ( الأبيات 37 – 39).
ربّما كان الشديق في هذه الأبيات يذكّرنا بصاحبها على الأقلّ، بإيراده هذه المترادفات المتلاحقة بما فيها مِن ألفاظ ، يرى فيها القارئ مجون الشدياق ، وإن كان يحرص على تفسيرها في الحاشية بمعناها القاموسيّ (انظر حاشية 404 )، ولكن أيصحّ اعتبار هذه الأبيات شعرا، وهي لا تتعدّى قائمة أخرى من المفردات انتظمها الوزن هذه المرّة؟
وقد كنّا نتوقّع من الشدياق أن يأتينا في رثاء ولده، على الأقلّ، بقصيدة يرتفع فيها إلى مستوى الشعرالجيّد، فيخرج بها عن القوالب التقليديّة المكرورة، لتعكس لنا ألم الوالد بوفاة ولده، وقد مات صغيرا، ولكنّه عمد فيها إلى معارضة قصيدة أبي الحسن التهامي في رثاء ولده، وقد مات صغيرا أيضا، ومطلعها:
حكمُ ا لمنيّةِ في البريّةِ جارِ ما هذهِ الدّنيا بذاتِ قَرارِ
بل إنّه ضمّن هذا المطلع في عجزي البيتين العاشر والحادي عشرمن قصيدته أيضا. وظلّ في معظم أبيات هذه القصيدة أسير التقاليد الشعريّة والقوالب الموروثة . قال في مطلع هذه القصيدة الطويلة:
ألدَّمْعُ بَعْدَكَ ما ذكرتُكَ جارِ وَالذِّكْرُ ما واراكّ تُرْبٌ وارِ
إلا أنّ هذه القصيدة، وإنْ كانتْ تقليديّة في جلّ مقوّماتها، تظلّ خير ما في فارياقه من أشعار، فلا بدّ لعاطفة الأب المفجوع بولده أن تشيع في بعض أبياتها فتطغى على الصنعة والألفاظ الخشنة، ونقرأ شعرا:
قد كنتُ أطمعُ أن يعيشَ مهنّأ بعدي ويبلغَ أطولَ الأعمارِ
ووددتُ لو أنْ ذثقْتُ حَتْفي قَبْلَهُ لكنْ خيارُ اللهِ غيْرُ خياري
وَسَّدْتُهُ بِيَدَيَّ رغمًا لَيْتَه هُوَ كانَ وسَّدَني عَلى إيثاري
عَيْني إليْهِ رَنَتْ وما لي حيلَةٌ يا ليتَ من نظرٍ مُنَى إنْظارِ
قصرتْ يدي عنْ كفِّ ما أودى بهِ إنَّ القُصورَ مَظنَّةُ الإقْصار
لّهفي عليْهِ وطَرْفُهُ لي يّشْتَكي إذْ كانَ لمْ يَقْدِرْ على الإخبارِ
لَهفي عَلَيْهِ على السَّريرِ مُوَسَّدًا ولَوِاسْتَطَعْتُ لَكانَ فَوْقَ يساري
لكنَّ أَدْنى اللَّمْسِ كانَ يزيدُهُ أَلَمًا فكان يؤوهُ مِنْ إشْعاري
أمّا النوع الثاني من أشعار الشدياق في فارياقه فهو عبارة عنْ أبيات مفردة ، أو مقطوعات قصيرة أحيانا، يتناول فيها فكرة معيّنة، ينظمها في بيت أو بيتين كتلك التي سمّاها "الغرفيّات" ، أو يكتب ساخرا هازلا، كما يفعل في نثره. يمتاز هذا النوع بقصَر النفَس عادة وخروج هذه الأشعار عن المواضيع التقليديّة، ولهذا فهي تختلف غالبا في تركيبها أيضا عن أشعاره التقليديّة. إنّ السخرية المُرّة في هذه الأشعار حينا، والفكاهة العذبة حينا آخر، تُعوّض القارئ عن مقوّمات الشعر الجيّد فتبدو سهلة سائغة تشيع فيها روح الشدياق الساخرة ومرحه العابث، بعيدة عنْ تقاليد الشعر القديم وقوالبه المكرورة. ها هو الشدياق يكتب إلى رئيس الدير، وقد أضرّ به الجوع وعشرة الرهبان، فقال:
ليتِ شعري ماذا يفيدُ البيانُ معْ خَواءِ البطونِ والتِبيانُ
وفنونُ البديعِ مِنْ غيْر ِأكْلٍ تسْتَشيطُ اللُّهى بِها واللِسانُ
هاكَ أَلْفَ اسْتِعارةٍ بِرَغيفٍ وبِخَسٍّ تخسُّ تَفتازانُ
أَيُّها الْمُعْرِبونَ هُبُّوا فما مِن ضَرْبِ زَيْدٍ عَمْرًا يُرَصُّ الْخَوانُ
أينَ أَيْنَ الْكَبابُ وَالرُّزُّ والْبُرْغُلُ تَصْغو مِن فَيْضِهِنَّ الْجِفانُ
ذهبَتْ دولةُ الَّطَّبيخِ وجاءَتْ نوْبَةُ الحوعِ، أمَّها لُبنانُ
يا لها مِنْ معَرَّةٍ ، نبعثُ الدينارَ ما إن يعْبا بِهِ إنسانُ
لّيْسَ بَيْعٌ ولا شِراءٌ بِأَرْضٍ قدْ قضى عَيْشُها وعاشَ الزوانُ
طالّ مُكْثي في الدَّيْرِ حتّى كأنّي راهِبٌ لا تَرْضى بِهِ الرُّهْبانُ
إذْ رَأَوْني وحوْلِيَ الْكُتْبُ والأقْلامُ مِمّا عَنْهُ نَهى الْمُطْرانُ
أنا في وَحشَةٍ منَ الإنْسِ وحْدي لا تَراني فلانَةٌ أَو فُلانُ
عيشَةٌ لَوْ أُريتُها في مَنامٍ ما شَجَتْني مِن بعْدِها الألْحانُ
هذا هو الشدياق في شعره "غير الرسمي" يُطلّ علينا مِن كلّ بيت بشحمه ولحمه، نفس الشدياق المرِح الساخر الذي عرفناه في نثره، والألفاظ بسيطة عذبة لا تعقيد فيها، وحتى الموسيقى تنساب دون تعثّر أو تعقيد . باختصار إنه الشدياق وكفى.
يعرض الشدياق أيضا لعادات الإنجليز، وتأدّبهم المفرط في حديثهم وأكلهم، فيأتي بشعر دقيق الوصف ، حادّ السخرية، ينساب في يسر وموسيقى عذبة ، وألفاظ سهلة:
ورُبّ عجوزٍ تُحاكي السَّعالي تُشيرُ وتَنْهى وتأمرُ أَمْرا
يُقابلُها شيْخُها بامْتِثالٍ ويَسْعى لِخِدْمتِها مُسْتمرّا
وتَقْعُدُ تحْكي كَلامًا سَخيفًا ومُسْتَمعوها يَقولونَ سِحْرا
تقولُ بداريَ كلْبٌ وهِرٌّ وللْهِرّ ِ ذُعْرٌ إذا الكلبُ هَرّا
ويَرْقُبُني الْهِرُّ إنْ كُنْتُ آكُلُ يُمْنى لِيُمنى ويُسْرى لِيُسْرى
وبِنْتِيَ ليزا تُواسيهِ مِمّا لَدَيْها فَمِنْها يُلازِمُ جُحْرا
إلى أنْ يقولَ في وصْفِ مآدِبِهِمْ وإكْرامِهِمْ للضَّيْف:
وتأْخُذُ مِنْ صَحْنِها بِالْمشَكَّةِ قَدْرًا منَ اللَّحْمِ يُشْبِهُ ظُفْرا
فَتَعْلِكُهُ بُرْهَةّ مِنْ زَمانِ لِيَمْرَأَ مِنْ بَعْدِ أن يَتَهَرّا
وزَوْجُ الْمُضيفِ تَقولُ لَهُ خُذْ عَزيزيَ ممّا أمامَكَ وِزْرا
فيّشْكُرُها ويَقولُ لَقَدْ كَثُرَ الْفَضْلُ مِنْكِ عَلَيَّ ودَرّا
وتَجْلِسُ تَقْسِمُ أَكْلَ الضُّيوفِ فتُعْطيكَ منْ ذاكَ نَزْرًا فنزْرا
وفي كلِّ نزْرٍ تَنالُ تُطَاْطِىْ رَاْسَكَ رغْمًا وتشكُرُ شكْرا
وإنْ يَكُ لَوْنانِ قالَتْ لَكَ اخْتَرْ نَصيبَكَ مِمّا هُنا وتَحرّا
كاَنْ لمْ يَجُزْ بَيْنَ ذَيْنِكَ جَمْعٌ كَأنَّكَ ناكِحُ أُخْتَيْنِ تَتْرى
هذا هو الشدياق حين يعمد إلى موضوعاته واختصاصاته، ويخلع عنه لباس الشاعر الرسميّ ، فيأتي بهذا الشعر الساخر وهذا النقد التهكّميّ الدقيق، فكأنّي به يجدّد عهد ابن الرومي في سخرياته اللاذعة!
وفي الفارياق، إلى جانب هذه "القصائد"، كما ذكرنا، أبيات منثورة هنا وهناك ، ينظم فيها الشدياق فكرة طريفة راودته، أو نكتة حلوة فضّل أن يذكرها موزونة، وهذه الأبيات تمتاز عادة بروح الشدياق التي رأيناها في القصيدتين السابقتين . كانت الكلاب مثلا في كمبردج تشمّ فروته وتلازمه، فقال:
ولي فرْوةٌ تأتي الكلابُ تشمّها ولم تندفع عنها إذا ما دفعتها
تهرُّ على تمزيق جِلْدي وجلدِها كأنّيَ مِنْ آبائِها قَد صنعتُها
وقال من جملة أبيات نظمها الفارياق في مدح "السريّ" وكلّها سخرية بشعراء المدح وشعرهم ، وكان ينظمها كلّما وردتْ عليه رقعة في مدح السريّ يراد ترجمتها:
قدْ أسهلَ اليوْمَ السريُّ فكلّنا فَرَحٌ فَفي إسْهالِهِ التسهيلُ
فاسْتبْضعوا خزًّا إليْهِ مُطَرَّزًا وتَسابقوا إنَّ البَطيءَ قَتيلُ
كما نظم في البرقع بيتين أبدى بهما إعجابه، وأنّ أحدا لم يسبقه إليهما:
لا يحسبِ الغرُّ البراقعَ لِلنِّسا مَنعًا لهنّ عَن التَّمادي في الْهَوى
إنَّ السَّفينةَ إنّما تمْشي إذا وُضِعَ الشِّراعُ لها على حُكْمِ الْهّوا
وهي أبيات كثيرة متنوِّعة في فارياقه، تعكس في أغلبها روح الشدياق الساخرة كما قلنا، ويوردها في الأغلب اثنين اثنين بأسلوب سهل، فيه كثير من السخرية والدعابة وروح النكتة، وقد جمع في آخر كتابه مختارات كثيرة منها سمّاها "الغُرفيّات" كما أسلفنا، أي الأبيات التي كان ينظمها في الغرفة التي كان يسكنها. يقول فيها مثلا:
أقولُ لِزائِريَّ قَفوا قَليلًا إلى أَنْ ألبسَ الثَّوْبَ الْقَشيبا
فإنّي في الْخَليعِ أُرى خَليعًا وفي لبْسِ الْقَشيبِ أُرى قَشيبا
ومنها أيضا:
عجِبْتُ لكُمْ يا قَوْمُ معْ ضَعْفِ دينِكُمْ وشدَّةِ برْدٍ كيفَ لمْ تعْبُدوا النّارا
كَاَنّي بِكُمْ تلهَوْنَ عَنْها بِحَرِّ مَنْ تُذيقُكُمُ في حبِّها النّارَ والْعارا
أمّا الأغاني التسع التي ضمّها كتاب الفارياق، فهي أشعار تقليديّة إلى أبعد الحدود، منْ حيث ألفاظها ومعانيها، حتى تكاد تجمع كلّ ما في قاموس الغزل التقليديّ مِن ألفاظ ومعانٍ، ولكنّه حاول أنْ يكتبها بأوزان خفيفة منوّعة وقواف متغيّرة، ممّا يُذكِّر بِفنون الشعر الأندلسي، ولعلّه لهذا السبب سمّاها الأغاني، أيْ أَنّها تصلح لِأَن تُلَحَّن وتُغنّى. هذه الأغاني تُعتبر مِن النوع الأوّل مِن حيث أَلفاظها ومعانيها، وإنْ كانتْ تختلف عن شعره "الرسمي" بأوزانها وقوافيها، وهذا هو سبب إيرادنا لها تحت هذا النوع. يقول مثلا في الأغنية الثامنة:
طَيْري لا غَيْر لا أسلو عَنْهُ ساعة يا أهْلَ الْخَيْر هَلّا رُعتمْ مَنْ راعَهْ
دَمْعي سَكْبُ ونار شوقي لا تخبو ولي قلب للْهوى يُبدي الطاعَهْ
أنا الهائم عنْ حبّ السوى صائم ليْلي قائم لا أغففى فيهِ ساعَهْ
أشكو الوجدا ولمْ تزدْ إلّا صدّا فارْحَمْ عبْدا قدْ نوَّعْتَ أَوْجاعَهْ
ولعلّه يجدر بنا، قبل أَنْ ننتهي منْ حديثنا عن شعره في الفارياق، أنْ نِشير إلى أِمرين يلفتان نظر الدارس في جملة شعره "غير الرسمي" كما أسميناه:
1) الأمر الأوّل أنّ الشدياق، وهو الناقد الواعي، قدْ أحسَّ على ما يبدو، باستعباد الشعر العربي للشاعر بالتزامه في القصيدة بحرا واحدا ورويّا واحدا ، فكأني بهِ أوَّل مَن فكَّر بالشعر المرسَل، دون قافية، وبالمزج بين البحور ، فهو يقول في فارياقه عن الفارياق إنّه "تهوّس يوما لأن ينظم ديوانا يشتمل على أبيات مُفردة، تهافتا على إحداث شيء غريب ، فنظم أربعة أبيات، ثمّ أمسك وهي:
ساعة البُعْدِ عنْكِ شهرٌ وعامُ (م) الوصْلِ يمضي كأنّما هوَ ساعهْ
أتنجَّمُ الليْلَ الطَّويلَ صبابةً وتنجّمي لنجومِ ذي تفليكِ
ويخفقُ منّي القلْبُ إن هَبّتِ الصَّبا ويُذْكِرُني البدرُ الْمُنيرُ مُحَيّاكِ
ألا ليْتَ شِعْري كمْ يُقاسي منَ الْنوى وأنحائهِ قلبٌ يذوب تجلُّدا
ونحن لا ندري بالضبط ماذا قصد بقوله "أبيات مفردة". هل قصد بذلك أبياتا لا يجمعها الوزن والقافية، ولكنّها تؤلّف قصيدة واحدة، أم مجرّد أبياتا مستقلّة لا رابط بين الواحد منها والآخر مطلقا؟ ومهما يكنْ فإنّها تبدو لنا فكرة جريئة في ذلك الزمان، ولعلّ في ذلك ما جعله يدعو هذه التجربة " إحداث غريب " ويُمسك عنها أيضا. ولكنّها لَفْتة شدياقيّة أصيلة مع ذلك ، ولو استمرّ فيها لنفهم غايته على حقيقتها على الأقلّ لكانت تجربة تستحقّ الدراسة!
2) أمّا الأَمر الثاني فهو ما أورد من الشعر في فصل سمّاه "في عجائب شتّى". فهو في هذا الفصل، بعد أن يورد عشرات الصفات في وصف المرأة، يمرّ بها على الملك ووزيره وقاضي القضاة والطبيب والمنجّم والفيلسوف والمهندس والنحوي والعروضي والشاعر، فيصفها كلّ واحد من هؤلاء بلغته الخاصّة به وبمصطلحاته الفنيّة التي يستخدجمها في مهنته. ولكنّ الأبيات تظلّ من روح الشدياق، والمجون مجونه. يقول الشديق: لو دخلتْ على حضرة الملِك لقام لها احتفالا، وناولها الميحار والمخْصرة[ ؟ ] إجلالا، وأنشدها:
فديتُكِ مِنْ مِنْ مُمَلَّكةٍ عَلَيْنا يحقُّ لتحتها تخْتُ الخِلافهْ
خُذي تاجي بِأدْنى لثمةٍ مِنْ مَلاغِمِ فيكِ أوْ أَدْنى ارْتِشافهْ
وينشد المهندس قائلا:
يفدي المُكَعَّبَ مِنكِ كلُّ مُكَعَّب ومُحَدَّبٍ ومُقَعَّرٍ في العالَمِ
يا لَيْتَ ما الشكلُ الهلاليُّ الذي فيكِ استقَرَّ على عمودي القائمِ
ويُنشدها النحويُّ قائلا:
روَيْدَكِ إنّني ما جِئْتُ نكرًا لَدَيْكِ وليْسَ لي ذَنْبٌ فَيُذْكَرْ
برِئْتُ منَ النُّحاةِ وحقِّ ربّي لِقولِهمِ بتَغليبِ الْمُذَكَّرْ
نكتفي بهذا القدر منها، وإن كانت كلُّها بنفس الظرف ونفس المجون. لقد لفتت هذه التجربة نظرنا بظرافتها وبالشبه الشديد بينها وبين ما أورده الجاحظ في "رسالة في صناعات القوّاد" حيث يورد أبو عثمان مقطوعات من الشعر الغزلي على لسان كلّ من سائس الخيل والطبيب والخيّاط والخبّاز والزرّاع والخبّاز والمؤدّب والمعلّم وصاحب الحمّام والكنّاس والخمّار والطبّاخ والفرّاش. يورد على ألسنتهم جميعا وصفا نثريّا لمعركة، فيأتي كما فعل الشدياق بألفاظهم ومصطلحاتهم في وصف الحَماسة والغزل، حتى تتشكّل لديه مقالة فريدة من نوعها في الفكاهة والهزل. لكنّها لا تتضمّن المجون، كما هي عند الشدياق. فلعلّ في ذلك ما يؤكّد تأثّر الشدياق بالحاحظ بوجه عامّ ، وتقليده في هذا المجال بالذات.
آخر ما يمكن قوله في شعر الشدياق في فارياقه، أنّه كان تقليديّا في ألفاظه ومعانيه حين كتب الشعر الرسمي ، ولكنّه كان يحاول التجديد والكتابة بأسلوبه الخاصّ وبروحه المتميّزة التي عهدناها في النثر، وذلك حين يخلع لباسه الرسمي، وينسى تقاليد الشعر العربي وقوالبه المتوارثة، ولو أنّه نحا هذا المنحى في كلّ ما كتبه من الشعر لكان له فيه أيضا شخصيّة خاصّة متميّزة كالتي نجدها في نثره!

[كتاب الفارياق، مبناه وأسلوبه وسخريته 1991، ص. 56 – 65]



#سليمان_جبران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقامات في كتاب الفارياق
- لم أتغيّر .. وقفت على الرصيف!
- في -التواصل- ومشتقّاته
- من الجملة إلى الموضوعة في التعبير
- ناسك قتلوك يا جول!
- سالم لأنّه ظلّ . . سالما!
- لائحة الدفاع
- صغار لكن..
- الشاعر جورج نجيب خليل
- مقدّمة كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته
- يهود لا يعرفون العبريّة!!
- القناعة كنز لا يفنى؟!
- كيف تصير في هذه الأيام، أديبا مرموقا، وبأقل جهد ؟!
- -الجمرة- المتّقدة على الذوام في شعر الجواهري
- حِكَم من الحياة والتراث!
- من الحِكم الخالدة للشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعَرّي ( 973 ...
- الذئبُ ذئب!
- رجل -حمل السلّم بالعرض- فسبق عصره!
- صلاح جاهين، شاعر الثورة الناصرية (1986-1930)
- التوأم المدهش : نجم وإمام


المزيد.....




- طلاب من المغرب يزورون مقر RT العربية في موسكو (صور)
- لولو في العيد.. تردد قناة وناسة الجديد 2024 وتابع أفضل الأفل ...
- فيلم -قلباً وقالباً 2- يحطّم الأرقام القياسية في شباك التذاك ...
- أول تعليق من مصر على مشاركة ممثل مصري في مسلسل إسرائيلي
- مستقبل السعودية..فنانة تتخيل بصور الذكاء الاصطناعي شكل الممل ...
- عمرو دياب في ضيافة ميقاتي.. ما كواليس اللقاء؟
- في عيد الأضحى.. شريف منير -يذبح بطيخة- ليذكر بألوان علم فلسط ...
- ممثل مصري يشارك في مسلسل مع إسرائيليين.. وتعليق من نقيب المم ...
- فنانة مصرية تبكي على الهواء في أول لقاء يجمعها بشقيقتها
- فيلم -Inside Out 2- يتصدر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية مح ...


المزيد.....

- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد
- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - الشعر في كتاب الفارياق