أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سرحان الركابي - مجنون















المزيد.....

مجنون


سرحان الركابي

الحوار المتمدن-العدد: 7978 - 2024 / 5 / 15 - 20:14
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
.
عليك أن تختار , أما أن تذهب طائعا , أو مكبلا بالحبال , قالت المراة بصوت غاضب ونبرة تهديد ووعيد , فيما طلبت من الرجال أن ينتظروا ريثما تسمع الجواب .
. لم تثره عبارات التهديد والوعيد والرجال المتأهبين , كأنه كان يشعر بالأمان بوجود الفتاة الريفية على مقربة منه , ظل جالسا على ربوة ترابية خفيضة , هادئا وساكنا وكأن الامر لا يعنيه فيما راحت نظراته الساهمة تمسح اتساعات الفيافي والحقول الممتدة , فغاص كيانه في عوالم رحبة وآفاق مفتوحة على مرمى البصر , تعلق نظره بشريط نبات القصب الكثيف النابت عند جرف ساقية صغيرة , وفجأة خطرت له فكرة طائشة , فهب واقفا ومنتشيا , ألا يصنع الناي من أعواد القصب ؟ لماذا لا أصنع واحدا ؟ أريد ان أعزف لحنا بهيجا , قال الشاب بنبرة واثقة
. ارتفعت أصوات الرجال تقهقه عاليا , فيما اصطكت أسنان المراة بحنق وغضب , بينما اقتربت منه الفتاة بخطوات وئيدة , حاولت أن تثير انتباهه , ولما لم يعرها انتباها همست في أذنه قائلة ,لا تقل مثل هذا الكلام الآن , لئلا يقال أنك مجنون فعلا ,
. حدقت المراة شزرا في الفتاة الوديعة , التي بدت حائرة كيف تتصرف في مثل هذا الموقف , وهل هو سوى مجنون ؟ قالت المراة , وكأنها تريد أن تلجم الفتاة وتسكتها , يبدو أنك قاسية معه , قالت الفتاة بلهجة هادئة وصوت ودود ,
- الأم لا تقسو على ولدها
- ولما كل هذا الضجيج ؟
- لا يجدي معه سوى هذا السبيل
- حاولي أن تمنحيه قدرا من الحرية والثقة
- الحرية لا تعطى للمجانين يا آنسة ,
. أرادت الفتاة أن تقول شيئا , لكن المراة المنتفضة قاطعتها بحزم
- لا تنسي ان هذا الأمر لا يعنيك
- أنا آسفة يا خالتي لكن أردت أن .....
- قلت ان الأمر لا يعنيك وكفى ,
. قاطعتها المرأة مرة أخرى بنفاذ صبر , ونظرت الى الشاب الجالس بهدوء وسكينة عند منحدر الربوة الترابية , وكأنه يعيش في عالم آخر , سامنحك مهلة أخرى , كي تعرف ان الحبال في انتظارك , وأشارت الى الرجال الواقفين , كي يستعدوا لتنفيذ المهمة , تحرك الشاب من مكانه عندما أدرك ان الأمر بات أكثر جدية , نظر الى وجه أمه القاسي والحاد التقاطيع , وقد بدت أكثر شيخوخة , فبانت علامات التغضن والأخاديد , التي حفرها الزمن على وجهها , وبدت التجاعيد مثل خارطة وعرة على صفحة الوجه القاسي , تذكر صوت الناي ليلة دخوله القرية ,عندما سمع عن بعد أصوات الرجال والنساء , وهم يرقصون ويغنون , بينما يصدح الناي بصوت حزين , كأنه قادم من أعماق زمن أسطوري , كانت الدبكات والأصوات الممتزجة مع نغمات الناي تشده الى الارض , ظل يقترب رويدا رويدا حتى دخل بين الجموع الراقصة والمحتفية بليلة فرح سرية , لم ينتبه له أحد سوى تلك الفتاة التي لاحظت مظهره الغريب , وهيئته التي توحي بأنه من أبناء المدن البعيده
- تبدو حائرا أيها الغريب ؟
- أنا لا أفهم ماذا يفعلون ؟
- انهم يمرحون
- لكن ....
- لكن ماذا ؟
- لكن فرحهم يبعث على الحزن كما يبدو لي
- أي حزن تقصد ؟
- ألا تسمعين ؟
- بلى اسمع
- أني أسمع أصوات عويل ونحيب
- أنت واهم أيها الغريب , يبدو أنك لا تفهم لغة الأفراح عند أبناء الريف
- وهل هم هكذا دائما
- ماذا تقصد ؟
- يبدو لي أنهم يتظاهرون بالفرح , بينما هم يبكون في أعماقهم
- أنت تبالغ في الأمور أيها الحضري الغريب الأطوار
. وامتد الحديث بينهما الى مطلع الفجر , حتى تفرق الناس ووجد الشاب نفسه وحيدا مع فتاة لا يعرفها , وقد ظل حائرا لا يعرف الى أين يذهب في هذا الليل الموحش , عندها ابتسمت الفتاة ابتسامة الواثق من نفسه ثم اقتادته الى البيت , وهناك وجد صبيا لم يتجاوز العاشرة من العمر وهو يغط في نوم عميق , سألها , من هذا الصبي ؟ , قالت نه أخي الأصغر , وأين الأب والأم ؟ , كانت تحمل الأفرشة والبطانيات , وتعمل كأمرة حاذقة وماهرة , لكنها فجاة توقفت عن العمل , وازرق وجهها وانتفخت أوداجها ,
- ما الخطب هل قلت شيئا سبب لك كل هذا الضيق ؟
- لا , لكنها الحقيقة المرة التي يتجرعها الجميع بصمت , فأبي هو الآخر قد التحق بالجيش حال سماعه بوقوع الحرب , ومنذ ذلك اليوم لم يعد ولم نسمع عنه شيئا , قيل لنا انه أسير حرب , لكننا لم نستلم أي رسالة منه , وقيل لنا انه في مقبرة الغرباء , لكن أحدا لم يبحث عنه , حيث مرضت أمي وماتت بعده بسنتين
- انا آسف جدا , لم أكن أعلم أن سؤالي يمكن أن يكون موجعا هكذا
- لا عليك , حاول أن تنام مبكرا , فقد تقرر العودة الى أمك , ومن المؤكد انها تبحث عنك الآن في كل مكان
- لكني لا أريد العودة الى ذلك المعتقل الكريه
- لا تقل هكذا عن أمك , كل ما عملته كان لأجلك , أحمد لله ان لديك أما ثرية , استطاعت أن تشتري حياتك بأموالها
- وهل ذهبوا الى الجيش , اقصد الرجال هنا ؟
- كلهم ذهبوا , وأغلبهم فروا من وحداتهم وظلوا مطاردين مثل فئران هائمة على وجوهها في صحاري عارية
- وانت , ما الذي أتى بك الى هنا في هذا الليل الموحش ؟
- تلك قصة طويلة وقد لا تصدقينها , فأنا الوحيد الذي يرغب بالذهاب الى الجيش , كل الناس هنا يفرون ويتملصون من الخدمة العسكرية , ما عدا شخص واحد هو أنا , تمنيت أن أذهب دون عودة كما ذهب الكثيرون, ولم يعودوا وظلت ذكراهم مجرد صور معلقة فوق شواهد قبورهم ,
- ولماذا لا تذهب ؟
- أمي
- ما بها ؟
- , انها تحبني وترعاني كما لو أنني مازلت طفلا يعيش في القماط , و تخشى أن تفقدني , لكنها استطاعت أن تدبر حيلة قانونية لكي تبعدني عن الجيش , دبرت لي تقريرا طبيا , يثبت اني مجنون كي تخلصني من الخدمة الالزامية , وأنت تعرفين كيف كان شبح تلك الخدمة يطارد الناس , الخدمة , انها أشبه بموت بطيْ يتسلل الى نفوسنا , ثم ينخر عظامنا ويبقي اجسادنا كهياكل خاوية أكلها الصدأ والسوس
. وخلال سنوات الحرب المنصرمة , كانت أمي تعدني انها ستعيد الأمور الى نصابها , وأني لست مجنونا , لكني ما عدت أصدق كلامها , فقد قالت لي في بداية الأمر , انها قادرة على جعلي مجنونا لفترة مؤقتة , ريثما تنتهي الحرب , وستعيدني الى كامل قواي العقلية , وها هي الحرب قد وضعت أوزارها منذ فترة , لكني مازلت مجنونا , لم أعد قادرا على التصرف كانسان عاقل , بل صرت مجنونا بالفعل , انا مجنون ,,,, انا مجنون فعلا ,,,
- لست مجنونا , وستكون الأمور على خير ما يرام , انها مسألة وقت فقط , قالت الفتاة
- كيف ؟
- لا تهتم بما يقال بل اهتم بما تشعر به أنت
- لكني أهتم بما يقال , فكيف أتصرف اذن ؟
واستفاق الشاب من غيبوبته , بعد أن أحس بالرجال وهم يوثقونه بالحبال , ويحشرونه في سيارة الأم , التي جلست الى جانبه وراحت تعانقه كي تبدد مخاوفه , ثم تطلب من الرجال ان يشدوا وثاقه لكي لا يهرب مرة أخرى ,
نظر الشاب الى الخلف وراى الفتاة من خلف زجاج السيارة مازالت تشيعه بنظراتها الودودة , وتشير له له بيديها , وعندما تحركت السيارة اقتربت منه وقالت , ستأتي هنا مرة أخرى لتسمع الناي , اليس كذلك ؟
انطلقت السيارة مبتعدة عن الفتاة , لكن الشاب أخرج رأسه من زجاج النافذة وصاح بصوت عال , نعم سأعود ,
تلاشت السيارة في الطرقات الوعرة واختفت الفتاة , بينما ظلت ابتسامتها عالقة في ذهن الشاب



#سرحان_الركابي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحول خطير
- اغتراب
- نبعك وحده يرويني
- الشعور بالأغتراب
- ظل
- لمحات من الدراما التركية
- قراءة في قصة صعود الى أسفل الدرج , للكاتبة والروائية المصرية ...
- اجترار الأماني
- مرني طيفك
- أحيانا
- لوحة
- قراءة في ومضة سيدي البعيد
- نافذة الغروب
- رغبات مرتبكة
- جدران الأحلام
- شهرياء المخلوع
- رحلة غير محسومة
- الفرق بين المغيوب والمجهول
- صورة الله بين التجريد والتجسيد
- هو وهي


المزيد.....




- كيف تُغيّرنا الكلمات؟ علم اللغة البيئي ورحلة البحث عن لغة تن ...
- ما مصير السجادة الحمراء بعد انتهاء مهرجان كان السينمائي؟
- وفاة الممثلة الإيطالية ليا ماساري عن 91 عاما
- البروفيسور عبد الغفور الهدوي: الاستشراق ينساب في صمت عبر الخ ...
- الموت يغيب الفنان المصري عماد محرم
- -محاذاة الغريم-... كتاب جديد في أدب الرحلات لعبد الرحمن الما ...
- -أصيلة 46- في دورة صيفية مخصصة للجداريات والورشات التكوينية ...
- -نَفَسُ الله-.. هشاشة الذات بين غواية النسيان واحتراق الذاكر ...
- جبل كورك في كردستان العراق.. من خطر الألغام إلى رفاهية المنت ...
- لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟ ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سرحان الركابي - مجنون