أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سهيل أحمد بهجت - كتابة السيرة بين المسلمين والمستشرقين مع ملحق عن إخفاء المسلمين قصّة ولادة محمد بعد أبيه بسنوات















المزيد.....



كتابة السيرة بين المسلمين والمستشرقين مع ملحق عن إخفاء المسلمين قصّة ولادة محمد بعد أبيه بسنوات


سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)


الحوار المتمدن-العدد: 7966 - 2024 / 5 / 3 - 08:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


خلال دراستي في الكلية، وكلّها تمّت في الولايات المتحدّة-كاليفورنيا، بين السنوات 2011-2016 وبعدها خلال دراستي الجامعية إلى حين تخرّجي المبكّر مع شهادة بكالوريوس في التاريخ سنة 2018 وبدرجة امتياز، اكتشفت وبشكلٍ بطيء وبتدرّج، منتقلا من صفٍّ دراسي إلى آخر، أنّ مفاهيمنا الشرقية الإسلامية عن التاريخ ودور التاريخ في الحضارة هي مفاهيم كلاسيكية قد عفى عليها الزمن. وأيضا، فإنّ كلّ ما عرفناه عن التاريخ في مناهجنا التعليمية في دولنا العربية والإسلامية، ومن خلال تدريس المشايخ، هو أنَّ التاريخ لا يعدو كونه حكايات وقصص، قد تكون صحيحة أو غير صحيحة في الوقت نفسه.
وهذه الرؤية الّتي هي إما أبيض أو أسود، أو بعبارة أخرى حقٌّ أو باطل، صحيح أو كاذب إنما تعكس موقف رجال الدّين من القرآن والأحاديث، بحيث أنّ هذه الرؤية الروائية للتاريخ هي من الضرر بمكان بحيث يرى المرء وبكل وضوح أنّها ليست مجرّد رؤية من عصرٍ مندثر، ولكنّها تنافي وتناقض أيّ منهج علمي يعتمد، ليس على الرواية الشفهية فحسب، ولكن على استخدام معايير Criteria معيّنة تضع النصوص في مقارنة ومقاربة علميّة، وأنّه على الباحث أن لا يتّبع حكم الرواة على حديثٍ معيّن أو رواية من الروايات كحكم قطعي وكحجة، لأنّ غالبية هذه الأحكام لها دوافع دينية ومذهبية ودوافع قَبَليّة حتّى وتتداخل حتى الرغبة الشخصية للراوي أو المؤرّخ. ومن ضمن المعايير الّتي يمكننا الاعتماد عليها، وهي بعض المعايير المستخدمة في دراسات الكتاب المقدّس Biblical Studies وكمثال أقدّم لكم ثلاثة معايير:
1- معيار الشهادة المستقلة: Criterion of Independent Attestation.
2- معيار التباين: Criterion of Dissimilarity أو معيار الإحراج Embarrassment.
3- معيار موثوقية السياق: Criterion of Contextual Credibility.
فلنأخذ أولا معيار الشهادة المستقلة، فمثلا، نجد في دراسات الكتاب المقدس أنّ الباحثين الأكاديميين، وغالبيتهم علمانيّون، يعتبرون أنّ رسائل القدّيس بولس وإنجيل مرقس يمكن اعتبارهما مصادر رئيسية هي الأقرب إلى الحدث التاريخي، الحدث التاريخي –المتعلق بيسوع التاريخي—الّذي تمّ حدوثه وانتهى إلى الأبد، وبالتالي هذان المصدران، رسائل القدّيس بولس وإنجيل مرقس، هما مصدران مستقلاّن إذ يبدو لغالبية الباحثين أنّ كاتب إنجيل مرقس الّذي كتب إنجيله حوالي 65 م لم يكن على اطلاع بكتابات ورسائل القدّيس بولس الّذي عاش قبل سنة 66 م وكذلك لم يكن للأخير، كما يُعتقد لحدّ الآن، اطلاع على ما كتبه مرقس، وبالتالي فإنّ شهادتهما مستقلتان عن بعض، بينما نجد أنّ إنجيلي متّى ولوقا عندما يتحدّثان عن نفس القصص الواردة في مرقس فإننا نعرف أن كليْهما نقلا من إنجيل مرقس.
المعيار الثاني معيار التباين: Criterion of Dissimilarity أو معيار الإحراج Embarrassment. هو أيضا معيار يستخدم في أبحاث الكتاب المقدّس، سواءٌ عند اليهود أو المسيحيين وذلك أنّه عندما نجد في التقليد المسيحي رواياتٍ تفيد بأنّ يسوع قد تمّ صلبه وتعذيبه، وهو ما يناقض حالة القداسة والتعظيم الّتي احتاجها المسيحيون في تعاملهم مع زعيمهم أو مخلّصهم الروحي، وهو ما يسبّب إحراجا للمجتمع المؤمن بيسوع، وأنّه لم يكن من مصلحة المسيحيين صنع هكذا قصّة مهينة لشخص يكاد أو بالفعل يُعتَبر إلها ومخلّصا لبعض المسيحيين الأوائل، فالأرجح أنّ الصلب حصل بالفعل. وكذلك، عندما نجد في السرديات الإسلامية أنّ محمّد كان منبوذا في طفولته وأنّه كان يغمى عليه لأتفه سبب، أو أنّه افتقر إلى إنجاب ولد، وأنّه تمت السخرية منه كمقطوع نسل، أو حتّى مقطوع نَسَب؟ فعلى الأرجح أنّ هذه المعلومات صحيحة. ومن هذا التباين بين تعظيم مجتمعٍ من المجتمعات لشخص معيّن وامتلاك هؤلاء روايات تحطّ من قيمة هذا الشخص يعطي إشارة لإمكانية صحة هذه الرواية أو الحدث.
والآن فلنتحدّث عن المعيار الثالث: معيار موثوقية السياق: Criterion of Contextual Credibility. الّذي يتطلب تناسب القصص أو الحوارات مع سياق وثقافة عصر معين، مثلا نجد في حوار يسوع مع نيقوديموس في الفصل الثالث من إنجيل يوحنا سوء تفاهم يحصل بينهما حول كلمة يونانية فهم كلّ منهما معناها بشكل مختلف وهي كلمة ανωθεν آنوثين والّتي تعني "مرّة أخرى" وتعني "من فوق" ويشير الباحث والكاتب المعروف بارت إيرمان إلى أن سكّان فلسطين اليهودية في القرن الميلادي الأول كانوا يتحدثون الآرامية وبالتالي فعلى الأغلب هذا الحوار تمّ استحداثه لاحقا. هامش (واحد) المعيار يقول أن الغالبيّة العظمى كانت تتكلم الآرامية وأنّ اليونانية كانت لغة أولئك الّذين عاشوا خارج فلسطين. وأيضا عندما تكرر الروايات الإسلامية عن أوامر محمد بتدوين الكتب والآيات القرآنية فهو يوقع هؤلاء في إشكالية ندرة مواد الكتابة في القرنين السادس والسابع، بل وحتّى الثامن للميلاد، إذن احتمالية اختلاق أخبار التدوين أو اختلاق غالبيتها هو محتملٌ جدا.
وسنأخذ بعض كتابات كاتبين إسلاميين عراقيين جديرين بهذه المناقشة، وهما د. عماد الدين خليل والرّاحل د. جواد علي صاحب التاريخ المفصّل للعرب قبل الإسلام. سنبدأ مع كتاب (دراسة في السيرة) للدكتور عماد الدين خليل كونه أحدث زمانيا وهو يستشهد بكتاب (تاريخ العرب في الإسلام) وسوف تتفاجأ من مدى تشابه طريقة التفكير لديهما وتناقض المنهجية التي يقعان فيها. يقول عماد الدين خليل في مقدّمة الكتاب:
"وهذا الكتاب يجيء ثمرة طبيعية لتدريس هذه المادة في كلية الآداب ما يزيد على الست سنوات، الأمر الذي أتاح لي احتكاكا عمليا مباشرا بالموضوع، ودفعني للبحث عن أشد الصور المنهجية ملائمة لتوصيل المادة للطالب الجامعي، وتمكينه من الإحاطة بوحداتها الأساسية إحاطة علمية مركزة ومتوازنة، ترفض الجنوح صوب الخيال القصصي الإسرائيلي، والتهويل الأسطوري، أو التطرف- في الوقت ذاته- صوب النظرة المادية التي تقتل في السيرة روحها وتطمس على شخصيتها." هامش 2
لاحظ أنّ الكاتب بالفعل يقدّم لنا خطابا علميّا وأكاديميا محاولا اقناع القرّاء أنّه سيلتزم بالمنهج البحثي العلمي، ولكن خلال بضعة أسطر فقط، قرّر نسف المنهجية نفسها وإضفاء قالب ديني تاريخي عليها، لا يستمد تاريخيّة الموضوع من رؤية محايدة، ولكن من خلال رؤية عقائدية، أي يصبغ التاريخ باللاهوت أو العقيدة لأنّه يستحيل الوصول لنظرة تتفادى "الجنوح صوب الخيال القصصي الإسرائيلي، والتهويل الأسطوري، أو التطرف" وهي تعابير عامّة فضفاضة تحتمل شتّى التأويلات، ومحاولته تفادي المركز الأساسي في البحث التاريخي والّتي وصفها بـ"النظرة المادية التي تقتل في السيرة روحها وتطمس على شخصيتها."
الموقف اللاهوتي العقائدي للدكتور خليل واضحٌ لا لبس فيه، وعجبي هو السؤال عن ماهية المنهجية الّتي سيستخدمها في إهمال ما هو "قصص إسرائيلي" أو "تهويل أسطوري" لأنّ ذلك سيعني إهمال الغالبية العظمى من القرآن، ونحن نعرف مركزية الشخصية اليهودية في القرآن والصحاح، ولا ندري كيف سيميّز بين "أسطورة مقبولة" وأخرى يطرحها ضمن التهويل الغير مقبول؟ هل من معيار تاريخي لهذا الموقف؟ قصة عبور بني إسرائيل للبحر وولادة يسوع العذرية خير أمثلة، الأرجح أنّ مركز هذا المنطق لا يعدو كونه مجرّد تكبير لمغالطة انتقاء الكرز Cherry Picking Fallacy والّتي يدرسها الأطفال في الدراسة المتوسطة. وأيضا، لماذا رفض "النظرة المادّية" للسيرة؟ الهدف طبعا هو استعادة المعجزات والخوارق "المناسبة" والّتي ليست يهودية أو نصرانية مسيحيّة.
يضيف عماد الدين خليل "إن سيرة رسولنا ﷺ [لاحظ حرصه على إضافة الصلوات] تجربة غنية بأحداثها، زاخرة بدلالاتها، متنوعة بمعطياتها، وما كان لباحث يسعى إلى إيفائها حقها من البحث والتحليل إلا أن يوسع نطاق رؤياه..." فالتاريخ عنده هو مجرد إغناء لهذا الفهم اللاهوتي العقائدي، ولكن ليس كلّ لاهوت أو عقيدة، بل عقيدة إسلاميّة محصورة بمذهبٍ بعينه، ولا يهم ما تعتقده الأديان والمذاهب الأخرى.
نلاحظ أنّه يعطينا قائمة بمصادر يمكن الاستدلال بها على أحداث السيرة مِثل "سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري ومغازي الواقدي وأنساب البلاذري وصحيح البخاري ..." ويحاول إظهار بحثه بمظهر البحث التاريخي الواقعي وتجاوز الخطاب الدّيني "الدفاعي" فيقول: "هذه الدراسة تسعى لتجاوز منطق الدفاع- قدر الإمكان- هامش 3 لكي تجعل الحقائق المجردة نفسها تشكل في ذهن الدارس النسق الحقيقي للسيرة، وتدفع كل ما علق بها في الماضي والحاضر من تهاويل وإضافات ومفتريات ما كان لها أن تصمد أمام (الواقعة) التاريخية نفسها، وليس غير الواقعة التاريخية حكما وقاضيا." هامش 4
المهم هنا ملاحظة أن الدكتور عماد الدين، وكذلك يفعل جواد علي كغالبية الكتّاب والمؤرخين العرب والمسلمين، يهاجمون تأثير الحسّ المسيحي "النصراني-حسب تعبيرهم" على غالبية المستشرقين، ولكن في نفس الوقت أنّهم يجدون أنّه لا بأس لو أنّهم كمسلمين يستخدمون خطابا دفاعيا، بل لا يجدون غضاضة أو إشكالا في أن يفعلوا بالضبط الشيء الّذي يعيبونه على المستشرقين. فالمستشرق بنظر هؤلاء المؤرخين المتخمين بالحسّ الدّيني الإسلامي، هم فئة تبحث في الإسلام لدوافع سياسية واستعمارية وهم متحيّزون ضد الإسلام بسبب خلفياتهم المسيحية واليهودية أو أنّهم ملحدون متحاملون على الإسلام وسائر الأديان. إذن، ما هو الحل لهذا الإشكال؟ فلنتعمق أكثر لتتوضّح صورة الحلّ الّذي يطرحونه لهذه المعضلة.
يطرح الدكتور عماد الدين خليل ما يلي موضّحا للقرّاء مقياسه ومعاييره في الحكم على النصوص:
"وبقدر ما رأيت في بعض الروايات والأخبار قوة وأهمية، فوقفت عندها طويلا محللا مستنتجا، رابطا إياها في نسقها النوعي من الوقائع، بقدر ما لمست في روايات وأخبار أخرى ضعفا وانعدام أهمية فأغفلتها إغفالا تاما، أو مررت بها مرورا سريعا معتمدا في ذلك على المقياس الصارم وهو قبول كل ما لا يتعارض مع آيات القرآن الكريم ومعطيات السنن الصحيحة، ورفض ما عدا ذلك أو- على الأقل- عدم التسليم المطلق به." هامش 5
لاحظ أن قبوله للقرآن كمقياس للحُكُم ما إذا كان شيء أو حدثٌ أو كلامٌ منسوب لمحمّد صحيحا أو خاطئا، بالإضافة إلى " ومعطيات السنن الصحيحة" هما مقياسان كلاسيكيّان لا يعتمد أي انفتاح لبحث تاريخي أصيل، ولأنه سيرفض أيضا ما يناقض شروح هذه الصحاح، وبالتالي عاد ودخل ضمن القراءة التقليدية للسيرة المحفوفة بالتأويل والتفخيم والتعظيم.
نجد الدكتور جواد علي على نفس المنهج فنجده في يقول:
" ويعم العالم الإسلامي اليوم جمود وركود في العقل وفي الجسم. والسواد الأعظم في جهالة عمياء وفي ظلام دامس: تعصب بغيض يشبه تعصب قريش في أيام الرسول. وكسل وأمراض، حتى وقع في روع الكثير من الغربيين والشرقيين، أن ذلك من الإسلام وأن الإسلام معناه الكسل والاتكال والاستسلام، وأنه سبب تأخر المسلمين، وأن العالم الإسلامي لا يمكنه لذلك من مجاراة ركب الحضارة، إلا بابتعاده عن الإسلام وبتخليصه من أصوله المسيطرة على العقول..." ثمّ يضيف: " يتشكى منها، وهي أمراض مزمنة قديمة في الغالب، ورثها الشرق من عهود سبقت ظهور الإسلام، وليس للإسلام فيها دخل ولا يد." هامش 6
منطق الدفاع واضح لدى كلٍّ من الباحثين اللذين هما الآن محطّ النقاش، فالإسلام والنّبي محمّد والقرآن والتراث هي ثوابت لا يمكن المساس بها، وأي استنتاج بحثي يتم التوصل إليه ويكون متناقضاً مع الرواية الرسمية ومع هذا المجموع من المصادر فإنّه حسب هؤلاء الباحثين، ومنطقهم يشككني في كونهم باحثين حقيقيين، يجب تفنيده وسحق وإلغاء هكذا استنتاج. تخيّل معي باحثا بضخامة جواد علي يضرب بشخبطة قلم على قرون من الكوارث بالقول: "أمراض مزمنة قديمة في الغالب، ورثها الشرق من عهود سبقت ظهور الإسلام، وليس للإسلام فيها دخل ولا يد." فالقبليّة والحروب الأهلية والحطّ من قيمة المرأة وضرب الأطفال وغيرها من المشاكل في العالم الإسلامي يمكن إلقاء اللوم فيها على الوثنية البائدة أو على اليهوديّة والنصرانيّة-المسيحية والمجوسيّة وغيرها من الأديان، أمّا الإسلام فهو خطّ أحمر.
هذه الازدواجية في المنطق هي سمة غالبة على العقل المتدين، والعقل المتديّن ليس محصورا في الإسلام فحسب، بل كان هو السائد في أوربا إلى ما بعد عصر النهضة، لكن هذان المؤرخان، خصوصا جواد علي الّذي يحسبه كثيرون مؤرخا علمانيا، يستخدمان منطقا في قمّة التناقض، فنجده يقول واصفا ما يسميه كغيره بتحيزات المستشرقين ضدّ الإسلام: "وآية ذلك أن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين، أو من المتخرجين من كليات اللاهوت. وأنهم إن تطرقوا إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام، حاولوا جهداً إمكانهم ردها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من يهود، وخاصة بعد تأسيس «إسرائيل» وتحكم الصهيونية في غالبيتهم، يجهدون أنفسهم لرد كل ما هو إسلامي وعربي إلى أصل يهودي. وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء." هامش 7
لاحظ كيف أنّ هذه العقلية الإسلامية، الّتي تطالب الغربي، سواءٌ كان مسيحيا، وهي تسمية يرفض المسلمون استعمالها، أو يهوديّا أو ملحداً لا دينيا، تتهم كل هؤلاء بالعداء والتحيز والتلاعب والتحريف إذا كانت استنتاجاتهم لا تتوافق مع قواعد عقائدية إسلاميّة محدّدة في دراسة التاريخ الإسلامي، وهذه القواعد لو قام المستشرق بتبنّيها فسيصبح حرفيّا نقيضا للبحث العلمي، بمعنى آخر، سيصبح كاتبا عقائديا لا يختلف عن جواد علي أو عماد الدين خليل، وهذا ما يفعله الأخير في نقله عن المستشرقين، حيث المستشرق الوحيد الموثوق به، حسب رؤيته، هو ذلك الّذي اعتنق الإسلام أو كاد يعتنقه.
يعتمد عماد الدين خليل ويؤسس مقياسه ومعياره المتحامل على الغرب عبر الاقتباس من جواد علي نصّا لا هدف تاريخيّ أو بحثيٍّ منه سوى أنّه غاضب من كون المستشرقين الغربيين يسعون لا لشيءٍ سوى زعزعة إيمان المسلمين بدينهم، متناسيا كليا منهجية البحث والّتي يتجاهلها خليل بنفس الطريقة، أيّ تبنّي المنهج العلمي لفظا وتحطيمه وإلغاءه كليّا عبر التصفيق للعلم ومنهجية البحث العلمي واقعا، ولكن يتقبّلونه فقط عندما ينسجم مع الرواية الإسلامية الرّسمية.
فنجد عماد الدين خليل يقول ويستعير من جواد علي: "ويمضي الدكتور جواد علي إلى القول بأن كثيرا من المستشرقين ’غالوا في كتاباتهم في السيرة النبوية، وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك في السيرة. وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول ﷺ، ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجود النبي." ثمّ يضيف عماد الدين: "...فالمنهج العلمي هو المنهج العلمي، والخروج عنه خروج عن العلم الصحيح سواء مارسه رجل في أقصى الغرب أم في أقصى الشرق، وسواء كان وراءه إنسان يتعبد في كنيسة أم يصلّي في مسجد." هامش 8
والمثير للسخرية، فإنّ عماد الدين خليل الّذي يُفترَض به أن يكون حياديا في البحث التاريخي، يضيف مستشهدا بحديث عن محمّد نبيّ الإسلام والّذي يتوعد فيه الكاذبين الّذين ينسبون له أقوالا لم يقلها بالنار: ".. ولم يحدد [محمد] ﷺ هوية الكاذبين وانتما آتهم الدينية والجغرافية." هامش 9 وهو خلطٌ واضحٌ بين ما هو عقائدي –لاهوتي—وما هو بحثٌ تاريخيٌّ لا يأبه بقداسة الشخص أو الحقبة الزمنية المدروسة، فالمستشرق الّذي يتعرض هنا للنقد، ويُتّهَم بأنّ له دوافع دينيّة (متعصّبة) أدّت به لاستنتاجٍ ما، إنّما يتعرّض للنقد من قِبَل متديّن مؤمن بدين آخر وعقيدة أخرى. فكيف يقوم جواد علي وعماد الدين خليل وبقيّة المؤرخين العرب والمسلمين على منوالهم باتهام المستشرقين باللا-حيادية والتعصب الديني مستخدمين بالضبط ذلك المنطق الدّيني المغلق الّذي ينتقدانه؟ أمّ أنّهم يعتبرون التدين المسيحي واليهودي والموقف المادّي العلمي غير مقبولٍ وتعصّبا، بينما كلّ الفتوحات والغزوات وتدمير المعابد والكنائس وانتزاع البلدان بالقوة والجهاد مقبولا وأخلاقيا وحتى اعتباره تَسامحاً.
وهذا كلام يناقض ما يعلنانه في بحثيهما جملة وتفصيلا ولسبب بسيط وهو أنّ المستشرقين والباحثين الغربيين قد قاموا بالفعل بوضع الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد وكذلك كتابات الحاخامات والتلمود وكُتُب المدراش وآباء الكنيسة الأولى تحت طائلة البحث العلمي المكثف الّذي دفع غالبية الكنائس والحاخامات إلى مراجعة معتقداتهم التقليدية اللاهوتية والتشريعية والتاريخية.
وينقل عماد الدين خليل أيضا من كتاب محاضرات في تاريخ العرب لمؤلّفه أحمد صالح العلي حول أنّ "التعصب والتحامل كانا يطغيان على كتابات المستشرقين القدامى نظرا لتأثرهم بروح التعصب الديني الذي كان مسيطرا ومتبلورا بتأثير الحروب الصليبية، ونظرا لضعف معرفتهم باللغة العربية، وقلة المصادر المتوفرة لديهم. غير أنه لم يخل الغرب منذ أوائل العصور الحديثة من مفكرين معتدلين امتدحوا الإسلام..." هامش 10 فالمهم لدى هؤلاء المؤرّخين المسلمين ليس الوصول إلى حقائق واكتشافات علميّة تفتح آفاقا جديدة في البحث في السيرة، وإنّما المهم أن يحصل محمّد والإسلام على المدح والإطراء والتصفيقات الحارّة في الندوات والمؤتمرات الدّولية. هذه العقلية ليست نتاجا لحسٍّ دينيّ وقوميٍّ فقط، ولكنه يعكس ارتباط الأكاديمية في الدّول العربيّة والإسلاميّة بسلطات الدولة، والدولة القوميّة تحديدا، الّتي هي الآن في طورِ الانحدار، تحتاج من "الباحث" الأكاديمي أن يكون حارسا ليس فقط للرّواية الرسميّة فحسب، ولكن أيضا للعقيدة الرّسمية.
فها هو عماد الدين خليل ينقل من المستشرق دينيه الّذي اعتنق الإسلام سنة 1908 م وحوّل اسمه إلى ناصر الدين دينيه Nasriddine Dinet قدّم نقدا لبعض المستشرقين أنّه من الصّعب، إن لم يكن من المحال، "أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وأنهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يغشي على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من اتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم محمدا يتحدث بلهجة ألمانية، إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا، وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب." هامش 11
تُهمةٌ كهذه يمكن تطبيقها بشكل مُعاكس أيضا، إذ أنّ الرؤية الإسلاميّة الّتي تعتبر السيرة والسنّة والتراث الإسلامي ذات خصائص قوية وتمتاز بالدّقة والموضوعية، لا تعدو أنْ تكون استسلاماً لتقليد إسلامي يزيد على 1000 سنة وأنّه ليس سوى استسلاما عقليا لنزعة حنين لمجدٍ أسطوريّ يفتقده هؤلاء الأكاديميّون الّذين لا يُعدّون إلاّ جنودا إضافيين للدولة وحرّاسا للعقيدة. ووفق العقيدة، تصبح كلمة "بحث" و"مراجعة" و"منهج علمي" لا تعدو كونها سوى كلماتٍ فارغة من أيّ معنى. كذلك، سيصبح النّبي محمد وزوجاته وصحابته وأهل بيته حبيسي الصحراء العربية، ولن يكون من المجدي للباحث الألماني والفرنسي والبريطاني والأمريكي وغيرهم أن يقوموا بنقد ثقافة لا يفهمها ولا يستوعبها إلاّ أهل الصحراء.
ناصر الدين دينيه وغيره من المعجبين بالإسلام بين المستشرقين، وعددهم ليس بالكبير، لا يختلفون كثيرا عنّ كتّابٍ آخرين ممّن يمكن أن نسميهم بالمعجبين بفكرة المتوحش النّبيل The Noble Savage من أمثال تاسيتوس [يلفظ تاكيتوس بلغة الرومان] من القرن الأول للميلاد الّذي يجسّد كتابه جرمانيا القبائل الألمانية الّتي كانت تهاجم حدود الإمبراطورية الرومانيّة الشمالية، وصفهم تاسيتوس كمجموع أفراد متوحشين في الظاهر، ولكنهم ملاّك كلّ فضيلة، شجاعة وكرم وحريّة، والحقيقة أنه كان ينتقد انحطاط الإمبراطورية الرومانية، وأيضا في القرن الـ16 الكاتب ميشيل مونتاين وفي القرن الـ17 مسرحية غزو الإسبان لغرناطة للمؤلف الإنكليزي جون درايدن، وأعمال أدبية أخرى تجسّد البدوي والقبلي كمتوحّش نبيل، ولكن أشهر الفلاسفة والمفكرين الّذين أُعجِبوا بهذه الفكرة كان جان جاك روسو 1712-1778 م الّذي اعتبر الحضارة والتطور الصناعي شرّا لحق بالإنسان الّذي كان حرّا طليقا وهو يعيش في أجواء الطبيعة، وهو محطّ إعجاب لدى الفاشيّين والشيوعيين المتطرّفين إلى اليوم.
طبعا، لم يكن دينيه مختلفا عن كلّ الّذين ذكرناهم والّذين قدّموا في فكرة المتوحش النبيل كمادة خام جاهزة ليُعجَب بها الفاشيون والقوميون الّذين يكرهون التطور الحضاري وتلاحم الشعوب عرقيّا وثقافيا.
يخبرنا عماد الدّين خليل عن المستشرق الفرنسي "الّذي أعلن إسلامه" أنّه خلص إلى التالي مقتبسا كلامه: "إن صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقول الإسلامي تبدو أجلّ وأسمى إذا قيست بهذه الصور المصطنعة الضئيلة التي صيغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد" هامش 12 وتعليقي هنا هو أنَّ النّبي الّذي جمع الزوجات والإماء لمتعته الخاصة وغزى ونهب وسلبَ وقتل الأسرى وارتكب المذابح بحقّ بني المصطلق وبني قريظة وخيبر وغير ذلك، تبدو سيرته هذه في نظر دينيه "أجلّ وأسمى" لأنّ محمّد بكل بساطة يمثّل بالنسبة للإنسان ذو النزعة الفاشيّة ذلك "المتوحش النبيل" الّذي تقع الفتاة الّتي اغتصبها في حبّه.
عماد الدين خليل يحاول إقناع جمهوره من القرّاء بأنّ المستشرق –كباحث غير منتمي للإسلام—يجب اعتباره متحيّزا ومتحاملا على محمّد والإسلام، إلاّ إذا قام باعتناق الإسلام مثل دينيه كما رأينا، أو إذا اعتبر الآيات والأحاديث دالّة على صدق محمّد، أو على الأقل القول أنّ محمّدا كان بالفعل مؤمنا بنبوّته الشخصية. فنجد عماد الدّين خليل يقتبس من المستشرق مونتجومري واط وقوله في كتابه "محمّد في مكّة" حيث يقول:
"إن عزيمة محمد في تحمّل الاضطهاد من أجل عقيدته، والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به، وكان لهم بمثابة القائد، وأخيرا عظمة عمله في منجزاته الأخيرة، كل ذلك يشهد باستقامته التي لا تتزعزع؛ فاتهام محمد بأنه دجّال Imposter يثير من المشاكل أكثر مما يحلّ، ومع ذلك فليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حطّ من قدرها في الغرب كمحمد. فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عن محمد. وكلما ظهر أي تفسير نقدي لواقعة من الوقائع ممكنا قبلوه" ويضيف عماد الدين قول واط: "فإذا أردنا أن نصحح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدده، فيجب علينا في كل حالة من الحالات، لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها، أن نتمسك بصلابة بصدقه، ويجب علينا ألا ننسى أيضا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وأنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه." هامش 13
الخطأ الكبير الّذي وقع فيه المستشرقون القدماء ويقع فيه المؤرخون المسلمون إلى اليوم هو أنّهم يتعاملون مع شخصية محمّد بمنهج اللاهوتيين وليس بمنهج المؤرّخين. يُعتبر مونتجومري واط واحداً من أسوأ المؤرخين لأنه ببساطة انخرط في الكهنوت الكاثوليكي وكان يشارك في طقوس كنسية، وهو ما انعكس على دراسته لمحمّد في كتابيه محمد في مكة ومحمد في المدينة. وكونه تحاشى في كتابه وصف القرآن بأنه وحي إلهي، واستخدامه تعبير "يقول القرآن" بدلا من "يقول محمّد في قرآنه" وبدلا من تعبير "يقول تعالى" كان لتفادي إغضاب المسلمين والمسيحيين. يقول واط في ص 6 من كتابه محمّد في مكّة، بعد محاولته إرضاء قرّاءه المسيحيين:
"وأقول لقرائي المسلمين شيئاً مماثلا. فقد الزمت نفسي، رغم اخلاصي لمعطيات العلم التاريخي المكرس في الغرب، ان لا أقول اي شيء يمكن ان يتعارض مع معتقدات الاسلام الأساسية. ولا حاجة بنا إلى القول بوجود هوة فاصلة بين العلم الغربي والعقيدة الاسلامية. وإذا حدث أن كانت بعض آراء العلماء الغربيين غير معقولة عند المسلمين، فذلك لأن العلماء الغربيين لم يكونوا دائماً مخلصين لمبادئهم العلمية وأن آراءهم يجب اعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة."
فالرجل ببساطة هو مجامل للمسلمين، ربّما منطلقا من لاهوته الحاص به ككاهن كاثوليكي. وعلينا ألا ننسى أنّ مناهج الغرب العلمية لم تكن مزعجة للمسلمين فحسب، بل للمسيحيين أيضا، ومحاولته تخليص الإسلام من المناهج الغربية الصارمة إنّما هي محاولة لتخليص المسيحية نفسها من مناهج العلم الحديث الّتي أخرجت المسيحية من سباتها اللاهوتي إلى كونها موضوعا تاريخيا يُدرس حسب المنهج العلمي الطبيعي.
القراءة المزاجية، وارتكاب مغالطة انتقاء الكرز بشكل متكرر، هو بالضبط ما يرتكبه أيّ باحث عقائدي، وعماد الدين خليل هنا يقوم بتقديم نموذج أو اثنين ممّا يسمّيه (الانتقاء الكيفي) أو التفسير (الاختياري) الّذي يرتكبه هؤلاء المستشرقون، فيقول:
"فبروكلمان- على سبيل المثال- لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة، ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول ﷺ في أشد ساعات محنته، ولكنه يقول «ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضا على كل حال». ويتغاضى (إسرائيل ولفنسون) عن حادثة نعيم ابن مسعود في معركة الخندق كسبب في انعدام الثقة بين المشركين واليهود، ولعله يريد أن يوحي بذلك أن اليهود لا يمكن أن يُخدعوا!!" هامش 14
أولاً نحن نلاحظ أنّ عماد الدين خليل لا يتخلى عن إضافة الصلوات بعد اسم محمد، كأيّ كاتب ديني، وفي الوقت نفسه يتهم بروكلمان وولفنسون بأنّهما يقومان بهذا الانتقاء الكيفي أو الاختياري، وأحسبه يقصد "مغالطة انتقاء الكرز" الّتي بدوري أتهمه هو بها. أيضا، لابدّ لنا ألّا نتغاضى عن الكم الهائل من المغالطات الّتي يرتكبها عماد الدين خليل ومن يتّبع نفس الطريقة الّتي تخضِع النصوص التاريخية لسلطة اللاهوت والعقيدة، فالمشكلة مع السرديّة الإسلاميّة تشبه تماما المشكلة الموجودة مع الأناجيل في العهد الجديد المسيحي الّتي يريد منّا المسيحيون استخدامها في دراسة يسوع التاريخي. فكما أنّ الأناجيل كتبها مؤمنون بيسوع الناصري كمخلص ومؤمنين بأنّ هذا المخلّص قد قُتِلَ على يد اليهود، فهي تُعتبر مصادر غير حياديّة، حتى لو ثبُتَ أنّ مؤلفيها، وكلّهم مجهولون، قد عاشوا فعلا في زمن يسوع، كذلك فإنّ الأمر نفسه ينطبق على الحوليّات والسرديّات الإسلامية الّتي تؤمن بنبوة محمّد وتعتبر اليهود خونة للأمانة، باعتبارهم أخفوا النصوص الّتي تبشّر بنبوة محمّد، بالتالي فإن كُتّاب هذه السرديات، ولهم مصلحة في تعظيم محمّد وتشويه صورة خصومه بأكبر قدر ممكن، هذه الأسباب تجعلنا نشكّ في مصداقيّة هؤلاء.
تسخير البحث التاريخي لأغراض دينيّة وعقائدية لا يمتّ للبحث العلمي بِصِلة لأنّه وببساطة لا يختلف عمّا فعله النازيون 1933-1945 م حيث كان يُجبَر أيّ باحث علمي في ألمانيا النازيّة على إهمال أي استنتاج علمي يناقِض الرؤية النازية الرّسميّة في تفوّق العنصر الشمالي الأبيض، وبالتالي فبالنسبة لعماد الدين وجواد علي وغيرهما كثير فإن اليهود خونة ومتآمرون طالما وافق الأمر الرواية الإسلامية. فكما كان محمّد معصوما عن الخطأ، فإنّ كتّاب ورواة السيرة لابدّ، في الخطوط العامّة على الأقل، أن يكونوا على صواب حسب رؤية هؤلاء المؤرخين العقائديين. دليلٌ بسيط على أنّ يهود بني قريظة لم يخونوا محمّدا، كما تزعم الرواية الإسلاميّة، هو أن الخندق نجح في إفشال جيش تحالف قريش وأنّ يهود بني قريظة بالفعل ترددوا في دعم أيّ من الفريقين ضد الآخر لا يبرّر قيام محمّد بالغارة عليهم ثم ارتكاب مذبحة بحقّهم، وعماد الدين خليل، كما سنرى، يلجأ إلى أحكامه الشخصيّة العنصرية عندما يعجز عن الإتيان بدليل مقنع أنّ محمّد كان يردّ على خيانتهم.
يقول عماد الدّين خليل:
"وهنالك مثل آخر، إن إسرائيل ولفنسون يشير، بصدد مهاجمة يهود بني النضير، إلى أن مؤرخي العرب يذكرون سببا آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهودية ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول ﷺ‘ لكن المستشرقين- يقول ولفنسون ينكرون صحة هذه الرواية ويستدلون على كذبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير.. والذي يظهر لكل ذي عينين (!!) أن بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبي واغتياله على مثل هذه الصورة لأنهم كانوا يخشون عاقبة فعلتهم هذه من أنصاره ولو أنهم كانوا ينوون اغتياله غدرا لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أن يفاجئوه وهو يحادثهم إذ لم يكن معه غير قليل من أصحابه‘" وهنا ولأنّ حجّة ولفنسون قويّة ولأنّ عماد الدّين خليل لم يكلّف نفسه عناء البحث فهو يضيف قائلا: "ويبدو أن ولفنسون يغافل هنا مسألة التركيب النفسي (لليهودي) وتجنّبه المعروف لأيّة مجابهة حقيقية!!" هامش 15
لاحظ كيف أنّ "الباحث العقائدي" الّذي لا يختلف كثيرا عن منظّري النازيّة والشّيوعيّة، عندما لم يجد أيّ مخرجٍ تاريخيٍّ، خصوصا أنّ قصّة تخطيط اليهود للإلقاء صخرة على محمد تبدو ساذجة لحدّ الغباء، سواءٌ في تعامله مع السردية أو النصوص العقائدية، لجأ إلى حسّه الديني والقومي ولجأ لصورة نمطية عنصرية عن اليهود. لا ننسى أيضا أنّه كان أستاذا جامعيا في ظلّ البعث العربي الاشتراكي –صدام حسين—وكان الحِسّ القومي العربي على أشدّه، وبالتالي كان استخدام النمطية في عبارته "مسألة التركيب النفسي (لليهودي)" طبعا سيلقى آذاناً صاغية لدى السلطة ولدى النخبة المستفيدة من السلطة. تخيل أنّه قال هذا عن اليهود رغم أنّ إسرائيل هزمت في وقتنا المعاصر جيوش مصر وسوريا والأردن والعراق وغيرها مجتمعة في حروب شهدها جيله.
إنّ البحث العلمي الملتزم بقوانين الكون، حيث أثبت غاليليو ومن بعده نيوتن وألبرت أينشتاين أن قوانين الفيزياء والطبيعة هي هي، في كلّ مكان في هذا الكون، والالتزام بوجود هذه القوانين وإخضاع التاريخ لها سوف لن يتلاءم أو يتوافق مع عقيدة المؤرخ العقائدي، وموقف عماد الدّين خليل في أخذه بالعلم الحديث، هو فقط حينما لا يتعارض مع السردية والثوابت، وهذا لا يختلف كثيرا عن موقف الأكاديميين المسيحيين، وخير مثالٍ هنا هو وليام لين كريغ، حيث يأخذون أيّ سردية تاريخية ويمحّصونها ويدققونها ولكن ما أن تكون النتيجة مناقضةً للعقيدة أو الإيمان، كتناقض النتيجة مع قصّة قيامة يسوع من بين الموتى أو نزول الوحي على محمد، فإن هؤلاء المؤرخين العقائديين يرمون تلك الاستنتاجات جانبا ويبدؤون البحث من جديد لصياغة استنتاج تاريخيٍّ آخر يتناسب مع العقيدة والإيمان.
يقول عماد الدّين خليل:
"الطابع العلماني، الوضعي، للمناهج الغربية في تعاملها مع تاريخنا، أوقع عددا من المستشرقين في خطأ آخر مفاده أن الرسول ﷺ لم يكن يخطو خطوة واحدة وهو يعلم مسبقا ما الذي يليها!! أي إن نشاطه كانت توحي به الظروف (الراهنة) ومتطلباتها ولوازمها. وأبرز مثل في هذا المجال ما ذكره (فلهاوزن) وعدد من رفاقه حول قومية الحركة الإسلامية في عصرها المكي، وأنها لم تنتقل إلى المرحلة العالمية- في العصر المدني- إلا بعد أن أتاحت لها (الظروف) ذلك، ولم يكن الرسول ﷺ ليفكر بذلك من قبل، وما قالوه حول اعتماد الرسول ﷺ أسلوب (اللاعنف) في العصر المكي وتحوله إلى القوة بعد أن شكل دولة في المدينة وتجمع حوله المقاتلون." هامش 16
هل تتذكّر عزيزي القارئ من كان ذلك القائل "...فالمنهج العلمي هو المنهج العلمي، والخروج عنه خروج عن العلم الصحيح سواء مارسه رجل في أقصى الغرب أم في أقصى الشرق، وسواء كان وراءه إنسان يتعبد في كنيسة أم يصلّي في مسجد." هامش 17 ؟ ها هو ذات مؤلفنا العقائدي المدّعي للالتزام بمنهج العلم، يقوم بنقد المنهج العلمي ذاته، ولكن لأنّه يدرِك أنّه قد أوقع نفسه في مطبٍّ واضح أمام جمهوره لذا قرّر إعادة صياغة نقد المنهج العلمي تحت عنوان آخر أسماه "الطابع العلماني، الوضعي، للمناهج الغربية" وبالتالي، وعبر شقلبة بهلوانية، يسدّد سهام نقده للمنهج العلمي تحت عنوان مختلف. طبعا، عماد الدين خليل لا يأبه لا بالمنطق ولا بالمنهج العلمي ولا بالأدلة، بل الشيء الوحيد الّذي يهمه في تمحيص كتابات المستشرقين هو "هل يمدحون الإسلام؟ هل يعظّمون محمّد؟".
ادعاء عماد الدين خليل أنّ محمّد كنبي كان يخطو خطوات عقيدة مع توجيهٍ مُسبق واضحٌ في تعبيره أعلاه واعتراضه –كمتديّن—على المستشرقين وادعاءهم أنّ محمد "لم يكن يخطو خطوة واحدة وهو يعلم مسبقا ما الذي يليها!! أي إن نشاطه كانت توحي به الظروف (الراهنة) ومتطلباتها ولوازمها." واعتراضه طبعا ليس اعتراض عماد الدين المؤرّخٍ والباحث، بل هو اعتراض عماد الدين المؤمن العقائدي. وأول ما يعترض عليه من ضمن استنتاجات المستشرقين هو أنّ الطور المكي لحياة محمّد كان ذي نزعة قومية عربية، وأنّ محمّد لم ينزع للعالمية إلاّ بعد هجرته إلى يثرب (المدينة) واحتكاكه بمنطقة غالبيتها خليط من العرب واليهود.
فالمؤرخ المسلم العقائدي يريد من هؤلاء الغربيين إلغاء القوانين الكونيّة وإلغاء الحسّ السليم، بل وحتّى تجاهل التباين الواضح والصارخ بين محمّد المكّي ومحمّد المدني اليثربي بحيث نجدهما وكأنّهما نبيّان لا يتشابهان إلاّ قليلا! بل إنّ وجود الناسِخ والمنسوخ هو دليل قويّ، إن لم يكن داحض، على أن الظروف والحاجات والمصالح الدّنيوية كان لها أكبر الأثر على صياغة دين وتشريع نبيّ قرر تغيير، ليس حياة الآخرين فحسب، بل حتى حياته الخاصة الشخصية الّتي انتقلت بحيث أصبح شخصا آخر. وكان سيكون أدقّ لو قسّمنا حياة محمد إلى ثلاثة أقسام: حياته إلى حين دخوله غار حراء ونزول الوحي، ومن نزول الوحي إلى هجرته إلى يثرب، ومن الهجرة إلى وفاته، أو موته مسموما كما تصرّ بعض الروايات.
اعتراض عماد الدين خليل على قول المستشرقين، خصوصا فلهاوزن، بأنّ دين محمّد كان أكثر ارتباطا بالانتماء القبلي والعربي في الطور المكّي منه في الطور المدني الّذي بدأ يميل للعالمية، هذا الاعتراض هو سطحي جدّا، لأنّه ببساطة هناك وجهة نظر أخرى تعتقد أنّ محمّدا كان ينتظر فقط تغيّر الظروف للمضي قدما نحو استخدام الأسلحة والجيوش، وهو أمرٌ كان ببساطة مستحيلا في مكّة.
يقوم بعض المستشرقين بتقديم السيرة بأسلوب تنميقيّ تجميليّ أدبيّ بحيث يظنّ القارئ وكأن هذا المستشرق –امرأة كانت أو رجلا—هم من المعجبين بالنبي محمد أو حتى مؤمنون به كنبيّ، ولكن الكاتب في الحقيقة إنّما يكتب بهذه الطريقة ربّما، حتى لو كان يكتب سيرة جنكيزخان، قاتل الملايين، أو سيرة فلاد المخوزق Vlad the Impaler المعروف في الخرافات الشعبية بدراكولا، والهدف فقط هو أن ينخرط القارئ في التفاصيل عبر التشويق والإثارة الّتي يقدّمها أيّ كتاب يسعى للشهرة وتحقيق ريع كبير وإيفاء أتعاب المؤلف.
يستشهد عما الدين خليل ببعض كلام بندلي جوزي Panteleĭmon Krestovich Zhuze وهو مؤرّخ روسي من أصول عربية فلسطينية توفي 1942 م وكتابه (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) حيث يقول عماد الدين في الصفحة 22: "غير أن أسوأ نموذج يمكن أن نجده لهذه الانحراف المنهجي، حول مسألة تأثر الرسول ﷺ بالظروف الراهنة، وتحركه وفق مستلزماتها، ما ذكره بندلي جوزي، أحد رواد التفسير المادّي للتاريخ الإسلامي، في كتابه." وهنا تعليقي أنّه بالتالي يكون مفارقة مضحكة أنّ شخصا يؤمن بالآية القائلة: وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم {البقرة 120} يرينا بوضوح أنّه لا يرضى بأي باحثٍ كان، استشراقيٍّ وغير استشراقي، إلاّ إذا أقرّ بالمصدر الإلهي للإسلام وإنكار أي تأثيرٍ للوقائع وللظروف والسّياق التاريخي على محمّد. عماد الدين خليل ينكر ما هو بديهي من نصوص القرآن والحديث والسرديةُ الإسلامية بحدّ ذاتها تظهر مدى تأثير الوقائع والخصومات الشخصية على النّص التأسيسي للإسلام.
يقول عماد الدّين:
"إن فهم السيرة لا يمكن أن يتم إلا وفق نظرة شمولية تدرس حركة الإسلام كخطوات في برنامج شامل مرسوم في علم الله، ومحدّد في قرآنه، وأن الرسول ﷺ لم يكن سوى منفّذ لهذا البرنامج بأسلوب يعتمد على قدراته وأخلاقيته وذكائه وإمكاناته الفذة في التخطيط والتنفيذ.. ورغم أن القرآن الكريم نزل منجّما، وراحت آياته تنزل على مكث لكي تلامس الأحداث وتعلّق عليها (بعد وقوعها) إلا أنه بمجموعه كمبدأ (أيديولوجية) لا يخرج عن نطاق كونه برنامجا إلهيا شاملا ترتبط ممارساته الجزئية بكليّات شاملة محددة سلفا في علم الله." هامش 18
هذا الاقتباس يوضّح لنا بما لا يقبل الشكّ أنّ كل حديث عماد الدين خليل عن "المنهج العلمي" و"البحث الموضوعي" واتّباع الأدلة، لا يعدو أن يكون بروباغاندا أو ما يشبه التسويق الإعلامي ودعاية للأيديولوجية الّتي تحوي في حقيقتها كل نقيض للبحث العلمي الأكاديمي، ولكن لإنجاح تسويقها فهو يضطرّ إلى تلبيسها بالحلاوة أو السُّكَّر Sugarcoating لكي يسهل تصديرها للجامعات والمعاهد وللقارئ العام على أنّها أطروحة لا تناقض البحث الأكاديمي. أنا كباحثٍ ومهتم بالتاريخ كأحد العلوم الّتي ينبغي للعقل الفيزيائي المادّي، كوجود الجاذبية الّتي هي كانت ولا زالت وستبقى حاضرة في حركة الكون، له دور في هذه الدراسات، أجِد نفسي مضطرّا لمواجهة خلط اللاهوت والعقيدة في علمٍ يبحث عن أجوبة مقنعة لأحداثٍ تمّ تألهيها وتعظيمها والمبالغة فيها، وهو تعبير "الجنوح صوب الخيال القصصي الإسرائيلي، والتهويل الأسطوري" الّذي استخدمه عماد الدين خليل ذاته بحق روايات هو يرفضها، كما ناقشنا أعلاه.
زعمُ عماد الدّين خليل أنّ محمّد كان يسير ويدعو ويبحث ويسعى لنشر الإسلام وفق مخطّط إلهي مسبق هو أولاً مثير للضحك في أي مجلسٍ أو مؤتمر أكاديمي لأنّها مجرّد ادعاءات غير قائمة على أيّ دليل علمي، وبالطبع فإنّ ما يتمّ ادعاؤه بلا دليل فهو يُنكَر بلا دليل. نجد عماد الدين خليل يضيف في الصفحة 25:
"وهذا ما يبدو واضحا منذ أول لحظة، في الشعار الحاسم الذي طرحه الرسول ﷺ بوجه الجاهلية (لا إله إلا الله!!)، فأي ظرف راهن، موقوت، أوحى بهذا الشعار الانقلابي الشامل الذي جاء يدمر على الوجود الجاهلي جلّ قيمه وأهدافه ومعالمه، ومفاهيمه، وعاداته وتقاليده؟!"
إن المؤرّخ العقائدي – عماد الدين خليل—يتكلّم هنا عن الفترة من 575 م إلى حوالي 632 م وكأنّه يصف فترةً زمنيّة قد تمّ تصويرها وتوثيقها بالفيديو وبأحدث الكاميرات الملونة الحديثة، متناسياً أنّ هذه الفترة التاريخية تُعتبر جافّة من حيث شحّة المصادر، وبالأخص لأننا لا نملك أيّ وثيقة مكتوبة لا من عصرِ محمد ولا خلفائه الأربع أو حتّى من بني أميّة، رغم اتساع امبراطورية الأمويين وامتدادها من اسبانيا وحتى أفغانستان وأذربيجان. يستشهد عماد الدين بشعار الإسلام الأساسي المعروف (لا إله إلاّ الله) كأساس للارتباط الأيديولوجي للإسلام منذ ظهوره سنة 610 م ولحين هجرة محمّد بعدها بعقدٍ من الزمن إلى يثرب. لكنّه ادّعاء لا يقوم على أي أساس تاريخي لأنه يناقض حتى المسكوكات الإسلامية المكتشفة هامش 19 من العصر المبكر للإسلام، والمئة سنة الأولى للهجرة تحديدا، لا تظهر أي إشارة إلى ذكر الشهادتين أو حتى أي إشارة لشهادة لا إله المعروفة عند المسلمين.
القطع النقدية المكتشفة الّتي صكّها المسلمون خلال القرن الأول للهجرة—السابع والثامن ميلادي—لا تحملان قطّ أيّ شعار أو تلميح إلى (لا إله إلاّ الله) بل بالأحرى تعابير أخرى كالحمد لله أو الشكر لله وما إلى ذلك، وإليك هذا النموذج https://twitter.com/AFormerRepubli2/status/1710442666763149511/photo/1 : عملة عربية ساسانية لعمر بن عبيد الله بن معمر، فارس، 68 هـ / 687-688 م

وفي هذه العملة كما نرى أعلاه على اليمين فإنّ الكتابة هي صيغة للهّ الحمد بينما على اليسار هيئة شخصين يحيطان بمحراب وهي عملة عربية ساسانية لوالي الزبير على البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر، ضُربت سنة 68 هجرية. هامش 20
عبادة الإله الواحد لم تكن من اختراع محمّد، ولا أعرف بالضبط ما الّذي كان يخطر في ذهن عماد الدين خليل وهو يطرح شعار الإسلام التوحيدي ليُقنع القارئ بوحدة الأيديولوجية الإسلامية، خصوصاً ونحن نعرف أنّه كان هناك مؤمنون أحناف—على الأرجح لهم علاقة بمسيلمة بن حبيب الحنفي الّذي أعلن نبوته قبل محمد وعاش حتّى بعد وفاة محمّد وانتهى مقتولا في حروب الرّدة—يؤمنون بالإله الواحد، وطبعا اليهود كانوا أهل الإله الواحد في العصر القديم وقبلهم كان الملك الفرعوني الشهير أمنحوتب الرابع المعروف باسم أخناتون (القرن 14 ق.م) هو أوّل من خرج للعالم بنظرية الإله الواحد في العالم القديم. وبالتالي، وبشهادة القرآن نفسه فإنّ التوحيد وجِد قبل الإسلام، إذن لا معنى لمناقشة صيغة التشهد في هذا السياق التاريخي.
يقول عماد الدّين خليل:
"إن القرآن الكريم كان قضية فوقية هامش 21 جاءت آياته لتقود الإنسان في كل زمان ومكان إلى عصر جديد، ولم يكن (ينفعل) انفعالا مؤقتا بالوضع السائد، سلبا وإيجابا، كما يتصور معظم المستشرقين مسيحيين وماركسيين، وإنما كان ينظر نظرة شمولية بعيدة كل البعد عن ردّ الفعل المباشر، وهذا هو الذي يفسر لنا الكثير من الأخطاء التي مارستها مناهج البحث الغربية." هامش 22
الحقيقة هي أن التقليد الديني الإسلامي المنقول، وعلينا ألّا ننسى أنّ محمّدا قد مات ولم يترك وراءه لا مصحفاً ولا خليفة، يُظهِر بما لا يقبل الشكّ أنّ القرآن لا يمكن فهمه ولا تبيُّن مقاصده ومعانيه إلاّ عبر وضعه في سياقه التاريخي وسياقه الثقافي لأنّ القرآن، وإلى جانبه التقليد الحديثي، لا يستطيع رؤية المستقبل كأيّ نصٍّ بشري، وكان بالفعل "ينفعل انفعالا" ويخمّن ويتوقّع، على نقيض ادّعاء عماد الدّين خليل، بل ويتأثّر بالظروف وبمزاج محمد. الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولࣱ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِی۟ن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ} آل عمران 144 تُظهر وبشكلٍ لا لبس فيه أنّ كاتب القرآن ومؤلّفه لم يكن فقط جاهلا بالمستقبل، إذْ لم يجرؤ أن يخبرنا ما إذا كان محمد سيموت ميتةً طبيعية أو أنّه سيتعرّض للقتل، بل واختار النص تدوين الاحتمالين (مات أو قُتِلَ) لكي يكون آخذا بالاحتياط فيما قد يحصل مستقبلا. أيضا نجد في الآية 66 من سورة الأنفال {ٱلۡـَٔـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِیكُمۡ ضَعۡفࣰاۚ} أنّ الإله الّذي أوحى بالقرآن قد غيّر رأيه بالفعل وأنّ هذا الإله قد عَلِمَ في لحظة معيّنة مُعبَّرٍ عنها بكلمة "الآن" أنّ هناك وضعا يجب تداركه لأن الآية 65 الّتي قبلها كانت تعد بالنصر فتقول {إِن یَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَـٰبِرُونَ یَغۡلِبُوا۟ مِا۟ئَتَیۡنِۚ وَإِن یَكُن مِّنكُم مِّا۟ئَةࣱ یَغۡلِبُوۤا۟ أَلۡفࣰا مِّنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟} ولكن تبيّن للإله أنّه كان مخطئا في هذه الحسابات ولذلك احتاج للتدارك والتوضيح في الآية 66.
النسخ القرآني لآيات قرآنية أخرى هو دليل آخر على تأثر القرآن بالبيئة، على سبيل المثال، نجد أنّ الآية 5 من سورة التوبة {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُوا۟ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدࣲ} أنها قد نسخت عددا هائلا من الآيات، هامش 23 وينقل الهرري في تفسيره نقلا عن ابن حزم أنّ سورة الأنعام وحدها تحوي 14 آية منسوخة "أولاهن {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15} [وهي] مكية فهي منسوخة، وناسخها قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ سورة الفتح 2}[ إلى آخر الآيات}." هامش 24
يضيف عماد الدّين قائلا:
"ونحن لا نطلب من الغربيين هنا أن يؤمنوا أن القرآن منزل من السماء وأن محمدا رسول.. وإنما نطلب أن يكونوا أكثر تجرّدا وموضوعية فينظروا إلى سيرة الرسول ﷺ كوحدة عضوية متكاملة، وإلى القرآن الكريم كبرنامج Ideology مترابط، تعلو معطياته على الظروف الموقوتة زمانا ومكانا، رغم ملامساتها اليومية المباشرة للوقائع الزمانية والمكانية، ولكنها الملامسة التي تنبثق عنها قيم ودلالات ذات طابع شمولي ما كان للمستشرقين أن يغافلوا عن أبعادها!!" هامش 25
نجد أنّ العقليّة الإسلامية، مجسّدة في عماد الدين خليل وجواد علي، تريد الجمع بين نقيضين لا يمكن أن يلتقيا، وهي أن يقوم الباحث الغربي بإخضاع النّص القرآني لمعايير الأرض الدنيوية والفيزيائية الطبيعية، كما تتطلّبه الحياة الأكاديمية، وفي نفس الوقت أن يقوم المستشرقون بالتعليق والبحث في النص القرآني دون أيّ مراجعة لسياقه الزمني والاجتماعي، وقد رأينا بالفعل كيف أن المستشرقين مُتّهَمون، كمسيحيين ويهود وملاحدة، بأنّهم متحيّزون ومتحامِلون ضد الإسلام، وأنّ هنالك فقط بضعة مستشرقين مقبولين إسلاميا، ويا للمفاجأة فهم معتنقون للإسلام أو معروفون بكتاباتهم العاطفية.
وبعد أن اقتبس عماد الدّين خليل صفحات من آراء المستشرقين حول محمّد وتناقض مواقفه من قريش واليهود وغيرهم، يختتم بعبارات تُعتَبر إعلان إيمان حيث يقول:
" أستميح القارئ عذرا إن قصّرت أو أخطأت، وأنتظر الفرصة التي يتيحها لي لتلافي التقصير وتسديد الخطأ.. فكل بنى آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. وصدق رسول الله." هامش 26
فالرّجل لم يكن يكتب كباحِث ودارس، ولكن هو يكتب كمؤمن يؤدّي فرضا دينيّا، كالّذي يصلّي أو يجاهِد في سبيل الله وبالتالي لا يَهم ما إذا كانت أقوال واستنتاجات المستشرقين قائمة على نصوص وأدلة قوية، لكن هو –أي عماد الدين خليل—فقط يقوم بواجبه في الدّفاع عن الرسول والقرآن.


الفصل الثاني
ولادة محمّد –نبي الإسلام—بعد أبيه بسنوات
لفهم مشكلة المولد النبوي وهل كان المسلمون الأوائل في القرون الأول والثاني والثالث الهجري يشكّون حقا في تاريخ مولده؟ المعروف أنّ الحمل الطبيعي التام علميا هو 9 أشهر، ولكن مولد النبي محمد يتفاوت بين سنتين إلى أربع. لتوضيح المسألة إليك هذا الرسم البياني: https://twitter.com/AFormerRepubli2/status/1624219319474475008


السؤال المثير لغضب المؤمنين بالإسلام والتراث الحديثي هو التالي: لماذا تعتبر ولادة محمّد ذات إشكالٍ خطير كونه ولِد بعد وفاة أبيه بأكثر من سنتين على الأقل أو حتّى أربع سنواتٍ وفق مصادر أخرى؟
حسب هذا الرسم التوضيحي، الّذي سنناقشه بالتفصيل، هناك فراغات في التاريخ النبوي –روايات السيرة—الّتي لا بدّ من تمحيصها ومراجعتها وكشف المستور وراء الروايات الّتي تبدو في الظاهر كأيّ سردٍ آخر، والشخصيات تتحرّك –كشخصيّات أيّ قصّة أو ملحمة—نحو هدف أو غاية. لكن مع قراءة هذه النصوص والروايات بعين ناقدة وعقلٍ يعتبر الشك وإعادة تحليل وتقييم الروايات هدفا أساسيا، فإنّ من الممكن اعتبار هذا المنهج مفتاحا لفهم ما تمّ فقدانه من الإسلام الأول، حيث أنّ أقرب راوٍ للسيرة هو محمد بن إسحاق الّذي عاش بين 85 إلى 151 هجرية (705-768 م) و أيضا من الّذين نُسِب لهم اهتمام بروايات السيرة "وهب بن منبه وأبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير وشرحبيل بن سعد، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري وموسى بن عقبة وهشام بن عروة بن الزبير." هامش 27
ما يجب ملاحظته هنا فهو أنّ هؤلاء الرواة، وغالبيتهم جاء في عصر كان الصحابة فيه قد ماتوا، لم يتركوا لنا أثرا مكتوبا أو مخطوطا، عدى رواياتٍ شفهية كتبها تلاميذ التلاميذ أو تابعي التابعين من بعد عصر الصحابة. في نهايات القرن العشرين، نشر الدكتور سهيل زكار سيرة ابن إسحاق معتمداً على مخطوطتين كتبتا من بعده بمدة طويلة. يقول الدكتور زكّار: "ذلك أن ما كتبه ابن إسحاق لم يصل إلينا بشكله الأول، بل وصلنا بعد تهذيبه وتعديله من قبل آخرين أشهرهم وأهمهم ابن هشام. وكنت قد حصلت منذ سنوات على مصوّرة لقطعة من سيرة ابن إسحاق موجودة بالمغرب، ضممتها إلى أوراق من قسم المغازي موجودة بالمكتبة الظاهرية بدمشق، ثم قمت بمقارنة الموادّ والأخبار الموجودة في هاتين القطعتين بما عند ابن هشام مما يقابلهما فاتضحت لي أهمية نشرهما."
إنّه حقّا لإشكالٌ كبير أنّ سيرة آخر الأنبياء وحياة الرّسول الأخير للبشر، الّذي سيسكت بعده الإله إلى يوم القيامة عن مخاطبتهم –حسب العقيدة الإسلامية—تُهمَل وتترَك يتداولها الناس شفاهاً وبدون كتابة لما يفوق قرنا من الزّمن وحتى أولئك القلّة الّذين كتبوا شيئا عن سيرته كانت كتاباتهم غير متداولة و أيضا كانوا متهمين في عدالتهم. بل إنّ ابن هشام تحرّج من كثير مما رواه ابن إسحاق فقرّر حذفه. لكن دعونا ننظر في الروايات الدائرة حول مولد محمّد وصيغها المختلفة، ثمّ ننظر في الطابع الملحمي الأسطوري الّذي له غاياتٌ لاهوتية، وهو ما يذكّرنا بالسرديات الإنجيلية المسيحية الّتي يعتبرها كثيرٌ من الباحثين على أنّها تاريخٌ سيء Bad History بمعنى أنّ هدف كُتّاب ورواة هذه السِيَر ليس إيصالَ مادّة تاريخية تساعد المؤرخين و المؤمنين و غير المؤمنين في معرفة ما حصل بالفعل على أرض الواقع، بل هي روايات تريد التأكيد على إيصالِ فكرة لاهوتية معيّنة تروّج لإيمان أو عقيدة ما. لكن كون هذه السرديات مشبعة باللاهوت وتعظيم البطل الأسطوري –-كإضافة الصلوات إلى ذكر محمّد كلّ ما جاء ذكره—لا يعني أنّ المؤرّخين لا يستطيعون الاستفادة من هذه السرديات، لأنّ عمل المؤرِّخ الحقيقي يشبه عمل المحقِّق البوليسي الّذي يعتمد على التفاصيل، حتى تلك الّتي تبدو عديمة الأهمية، كما يفضّل المؤرّخ الأمريكي الشّهير بارت إيرمان أن يذكِّر قرّائه الباحثين في المسيحيّة الأولى، و لربّما بصمةٌ أو شعرةٌ في مسرح الحدث قد تكفي لفكِّ أحجية غامضة، المسألة فقط تحتاج إلى إطّلاع واسِع إلى جانب خيالٍ قادرٍ على استكشاف خبايا سيناريوهات محتملة.
........
من خلال قراءة سيرة ابن إسحاق (كتاب السِيَر و المغازي) نجد و كأن راوي الأحداث –و غالبيّتها مُرسل لا يحيل لأيّ راوٍ من الرواة، و كأنّه يريد إيصال فكرة مفادها أنّ نبوة محمد كانت معدّة لها إلهيا و يبدأ بالفعل، كتحضيرٍ للولادة المعجزة –ما يشبه ولادة موسى و ولادة يسوع [عيسى]—بقصّة حفر أو إعادة اكتشاف زمزم على يد عبد المطلب هامش 28 [جدّ النبي محمد و الّذي كان اسمه الحقيقي شيبة و سمّي اشتباها بعبد المطّلب ظنا من الناس أنّ عمّه المطّلب ابتاعه من سوق العبيد] هامش 29 و أنّ حادثة اكتشاف زمزم كانت محطّ اهتمام السماء أو الإرادة الإلهية و قوى الجِنّ أو الشّيطان.
يُعِدّ ابن إسحاق إخباره بالحدث، كتهيئةٍ للتفاصيل، بالقول: "بينا عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف نائمًا في الحجر، عند الكعبة، أتى، فأُمِرَ بحفر زمزم." ثمّ يبدأ بالتفصيل بالقول أنّه لمّا رأى في المنام –وهذا يذكرنا بحلم يوسف زوجِ مريم في إنجيل متّي—من يأمره بحفر زمزم، جابهه قومه، فيقول ابن إسحاق: "فقالوا له: أبُيِّنَ لك أين هي؟ فقال: لا، قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي أريت فيه ما أريت، فإن كان حقًا من الله بين لك، وإن كان من الشيطان لم يعد إليك، فرجع فنام في مضجعه، فأتى فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، هي تراث من أبيك الأقدم، لا تنزف الدهر ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام حافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، فهي ميراث وعقد محكم، ليست كبعض ما قد يعلم، وهي بين الفرث والدم." هامش 30
نجد في هذه الرواية إيحاءً بأنّ جدّ محمّد، عبد المطلب الّذي نشكّ كونه جدّ محمد وأنّه في الحقيقة هو أبٌ لمحمّد كما سيأتي، يملك خاصيّة توجيهٍ إلهي وأنّه إلى حدٍّ ما يشبه القول، لو فرضنا وجود هكذا اعتقادٍ آنذاك، بأنَّ عبد المطلب امتلك نوعاً من النبوة والّتي سيورثها، كما سيبدو، لحفيده [ابنه] محمّد. هذا التحضير لا يقتصر هدفه على ربط محمد بسلالة إسماعيل بن إبراهيم، بل يهدف لتحضير تحويلٍ لمجرى أحداثٍ لم تكن لِتُعجِب المسلمين آنذاك لو لم يتمّ تغيير السّرديّة، وبالتالي كان سعيُ ابن إسحاق لخلق قصّة تليق بمؤسس الدّين الجديد وبدوره كمؤسّس إمبراطورية ضرورةً لأصدقائه العبّاسيّين.
عبد المطلب، حسب ابن إسحاق، يجسّد شخصية مركزية في الملحمة المحمدية و لكي يعدّ ابن إسحاق لظهور "النبي الخاتِم" فإنّ على الرواية أن تهيّء نوعاً من العلاقة الحميمة بين عبد المطّلب و محمّد بحيث لا يكون هناك نوعٌ من القطيعة في نَسَبٍ لا يتعلّق بمحمّد فقط، بل يتعدّاه للعباسيين والعلويين، المنافسين الأقوى لبني أميّة، و نحن نعرف مدى قرب محمّد بن إسحاق من أبي جعفر المنصور ومناصريه من الشّيعة الّذين سينقسمون في مواجهة العباسيين لاحقاً. لخلق هذه العلاقة الحميمة كان ينبغي اختلاق شخصية تربط عبد المطلب في نَسَبٍ متماسك مع محمّد، لأنّ العلاقة السلبية بين عبد المطلب والرضيع محمّد ستكون فعلا وصمةً تُنقِص من مقام النّبي المؤسس وكلّ شرعية الخلافة العباسيّة ستكون موضوع شكّ.
أولا: يصوّر ابن إسحاق في رواياتٍ متفاوتة كيفية نشوء خلافٍ بين قبيلة قريش وعبد المطلب بعد حفره واكتشافه لبئر زمزم و أنّهم نازعوه إياها، مع كنوزٍ اكتشفها عبد المطلب مع البئر.
ثانيّا: قِصّة هذا الصّراع بين قريش وعبد المطلب هي تهدف لظهور عبد الله ابن عبد المطلب والّذي يبدو لي أشبه بشخصيّة يوسف، الّذي كان هو و أخوه بنيامين الطفلين المدلليْن من بين 12 ابناً ليعقوب ابن إسحاق في القصة التوراتية المعروفة.
في روايات مختصرة عند ابن إسحاق، نجد النّزاع بين عبد المطّلب وقريش يُحَلّ بعد امتحانٍ إلهي بسيط حيث إنّهم طرحوا عليه فكرة الاحتكام إلى كاهنة "بني سعد بن هذيم، وكانت بأشراف الشام. فركب عبد المطلب في نفر من بني أبيه، وركب من كل بطن من أفناء قريش نفر، وكانت الأرض إذ ذاك مفاوز فيما بين الشام والحجاز، حتى إذا كانوا بمفازة من تلك البلاد، فنى ماء عبد المطلب وأصحابه حتى أيقنوا الهلكة، فاستسقوا القوم، قالوا ما نستطيع أن نسقيكم..." وهنا و بعد يئس من النجاة، و بقدرة إلهية تنفجر عينٌ من ماء عذب تحت ناقة عبد المطلب و ينتهي الخلاف بالرضوخ لهذه المعجزة الإلهية في أفضلية عبد المطّلب. هامش 31
يبدو أنّ هذا الحلّ البسيط لحبكة القصة لم تكن مفيدة ومرضية تماما لدولة بني العباس، إذْ أفترضُ أنّ هناك رواياتٍ أو صِيَغً أخرى للسيرة كانت سائدة في زمن ابن اسحاق الّذي عاش في فترة انتقال الإمبراطورية العربية الإسلامية، مع مراعاة فكرة أنّ الإسلام كان لا يزال في طور التشكّل، من سلالة بني أمية إلى بني العبّاس، ولهذا نجد أنّ كتاب ابن إسحاق كان يسمّى "كتاب السِّيَر و المَغازي" حيث إنّه من المنطقي أن يحوي العنوان كلمة مغازي لوصف حروب و غزوات محمد. لكن وجود صيغة الجمع "سِيَر" بدلا من سيرة –صيغة المفرد—في عنوان الكتاب هي في حدّ ذاتها جديرة بالاهتمام لأنّها تحوي احتمال امتلاك ابن إسحاق لعدة مصادر من السيرة و أنّ ما وصل إلينا اليوم هو نتاج الحاجة العباسية لخلق نوعٍ من قدسيّة النسب بحيث تضفي قداسة على النسب الهاشمي تحديدا و أيضا تنهي، و إلى الأبد، رواية أو روايات كانت تطرح محمّدا كابن غير شرعي أو مطعونٍ في نسبه، و هو احتمالٌ غير بعيد لأنه يشبه تماما الخلافات و الجدل المسيحي الّذي كان يصارع لإيجاد سردية تحسم الجدل حول بنوة يسوع لله و وجود أبوين بشريين له.
قصة نذر عبد المطّلب وتهيئة ظهور عبد الله
تبدأ الرواية كالتالي: "حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال: وكان عبد المطلب بن هاشم فيما يذكرون، قد نذر حين لقي من قريش- عند حفر زمزم- ما لقي: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة." هامش 32 فالرواية كما نرى هنا تختلف عن الرواية السابقة الّتي أنهت خلاف عبد المطّلب مع قريش بتفجير نبع ماءٍ تحت جمل عبد المطّلب، بينما هذه الرّواية، وهي واضحة الاختلاق كما سيأتي، هي مطوّلة –تتكون من تسعة صفحات ص 32-41—و هي رواية مرسلة، بمعنى أنّها غير منسوبة لأيّ صحابي و لا هي منقولة عن أيّ تابعيٍّ آخر.
من المهم ملاحظة أنّ السّند الّذي تبدأ به هذه الرواية المطوّلة: "حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا [اختصار كلمة حدّثنا] يونس بن بكير عن ابن إسحق قال..." غير ذي قيمة من ناحية تحقّقنا أنّها بالفعل رواية تعود لزمن محمّد كون هذا السّند هو الّذي وصل لنا كتاب ابن إسحاق عبره، لكن ما كان مهمّا أنّ نراه هو أنْ يخبرنا ابن إسحاق أسماء أولئك الّذين كانوا هُم مصدر روايته هذه، و حتّى الرواية المنقولة في تاريخ الطبري ج 2 ص 240 تقف عند ابن إسحاق، و هي لا بدّ أنّ يكون لها أكثر من راويٍ واحد لأنّ من شبه المحال أن يروي شخصٌ واحدٌ هذه الرواية المطوّلة و الّتي تحوي أبياتاً شعرية ركيكة لا تناسب بلاغة العرب كما هو معهود لما قبل الإسلام.
حسب هذه الرواية، فإنّه لمّا اكتمل لعبد المطّلب عشرة أولاد، وهُم: الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله، وعَلِم أنّهم سيمنعونه، أيّ يحمونه من أعدائه، أخبرهم بنذره.
الإشكال في هذه القائمة هي أنّ حمزة لم يكن قد ولد بعد –وهو خطأ يظهر تناقض الرّاوي—وأنّه سيولد بعد حادثة النذر هذه، والّتي أرَجّح أنّها صيغت من قبل ابن إسحاق أو أنّه تلقّاها من غيره، وسنوضّح السِر وراء وضع هذه القصّة الّتي هي محاولة لإلغاء رواية أخرى تمّ التعتيم عليها بفعل قصّة نذر عبد المطلب وفداء ولده (عبد الله) ليصبح ذائع الصيت ويترك هالةً من القداسة لابنه محمّد.
أيضا، الرّواية تصف في بدايتها وببعض التّفصيل عاداتِ القريشيين والعرب في مشاورتهم مع سدنة الكعبة وكيفية عمل "القداح" والّتي كانت نوعا من القرعة الّتي كانت تتم في محضر هبل كبير آلهة الكعبة، أو آلهة أخرى لعلاج، أو حلِّ معضلة ،أو البَتّ في أمر مهمٍ و جلل. بل يبدو من روايات ابن إسحاق وكأنّ نبوة محمّد وقرآنه وبلاغته لم تكن سوى استمرارٍ لبلاغة وكهانة العرب قبل الإسلام فيقول:
"وكانت قريش ومن سواهم من العرب إذا اجتهدوا في الدعاء، سجعوا وألفوا الكلام، وكانت فيما يزعمون قلما ترد إذا دعا بها داع." هامش 33
ولا أستبعد أنّ ابن إسحاق في الحقيقة لم يقتنع بالإسلام تماماً وأنّه كان لا يزال ذلك السّريانيّ الّذي وقع أبوه كأسير حرب، رغم أنّه لم يكن مقاتلا. وهكذا فإنّ ابن إسحاق، وإن كان هناك احتمال وارد أنّه أسلم، لم يمانع في التعاون مع الشّيعة عموماً والعبّاسيين خصوصاً ربّما لأنّهم كانوا أقلّ عنصريّة وتعصّباً للعرب من الأموييّن.
السؤال الخطير مرّة أخرى هو التالي: لماذا تعتبر ولادة محمّد ذات إشكالٍ خطير كونه ولِد بعد وفاة أبيه بأكثر من سنتين على الأقل أو حتّى أربع سنواتٍ وفق مصادر أخرى؟
فلنبدأ مع ابن إسحاق الّذي نجده يقول في فصل تزويج عبد الله بن عبد المطّلب وولادة النّبي محمّد: "فلما وضعته [أي آمنة]، بعثت إلى عبد المطلب جاريتها- وقد هلك أبوه عبد الله وهي حبلى، ويقال أن عبد الله هلك والنبي ﷺ ابن ثمانية وعشرين شهرًا، فالله أعلم أي ذلك كان." هامش 34
فهذه الإشكالية كانت واضحة في زمن ابن إسحاق وسيتداوَل الأمر في مصادر حديثية وفقهية كما سنرى ولأنّ الإشكال يتعلّق بحقيقة علميّة مفادها بأنّ أطولَ فترة حمل تم تسجيلها في التاريخ كانت في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1945 في مدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا و كانت السيدة بيولا هنتر قد ولدت طفلتها بعد 375 يوما و هو ما يعادل ما يزيد على السّنة بقليل. هامش 35
هذا الإشكال يصيب رجال الدّين السّنّة، خصوصا المختصّين بردّ الشبهات، بالغضب والانفعال وكثيرا ما نجدهم يتّهمون الخصوم اللا-دينيين والملحدين بأنّهم يلفّقون هذا الإشكال بهدف إضعاف الإسلام وفتنة المسلمين عن دينهم. المعضلة هي أنّ ما يستند عليه الباحثون وناقدوا الإسلام موجود في كُتُب السّنّة، ولسنا هنا بصدد البحث فيما إذا كان لدى الشّيعة نصوصٌ إشكاليّة مماثلة. بل إنّ كتب الرّد على الشّبهات السّنيّة تأخذ الموضوع بسطحية، رغم اللغة العاطفية المستخدمة في نقد المهاجمين للإسلام وكأنّ هؤلاء المؤلّفين والكُتّاب، وهم ذوو إطّلاع في التراث، يدرِكون ضعف أدلّتهم فيأتون بأدلّة هي استدلالٌ ذو نتائج عكسية لأنّ الأدلة الّتي يوردها الدارئون للشبهات حول الإسلام تحوي –تحليليّاً—أدلّة إضافية على موقف الباحثين في صحّة نسب النّبي محمّد. وإليكم هذا النموذج:
في هذه المناقشة وهذا التحليل سنقوم باقتباسات ومن ضمنها اقتباسات مطوّلة من كتاب (موسوعة محاسن الإسلام ورَدّ شبهات اللئام) وهو من تأليف أحمد بن سليمان أيوب، ونخبة من الباحثين ومن منشورات دار إيلاف 2015. عنوان الكتاب بحدّ ذاته مشحون عاطفيّا ويحمل في طيّاته أحكاما مسبقة على المعترضين أو حتّى أولئك الرّاغبين بمناقشة السيرة وتاريخ ظهور الإسلام بمنظور علمي، وهو أمرٌ طبيعي تماما ويتوَقّع حصوله عندما يقوم رجل دين أو لاهوتيّ الاختصاص بمناقشة موضوع تاريخي من خلال منظور ديني لاهوتي.
يقوم كاتب الرّد على شبهة نسب النبي أولا بإيراد الشبهة الّتي يراد مناقشتها والرّد عليها فيقول:
"كانت آمنة بنت وهب بن عبد مناف في حجر عمها وهيب بن عبد مناف، فمشى إليه عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بابنه عبد الله بن عبد المطلب، فخطب عليه آمنة بنت وهب فزوجها عبد الله بن عبد المطلب، وخطب إليه عبد المطلب بن هاشم في مجلسه ذلك ابنته هالة بنت وهيب على نفسه، فزوجه إياها فكان تزوج عبد المطلب بن هاشم، وتزوج عبد الله بن عبد المطلب في مجلس واحد؛ فولدت هالة بنت وهيب لعبد المطلب حمزة بن عبد المطلب فكان حمزة عم رسول الله - ﷺ - في النسب وأخاه من الرضاعة. استدل المعترض بهذه الرواية وبعدة روايات أخرى على عدم صحة نسب النبي - ﷺ - إلى أبيه أو أمه." هامش 36
لقد قام الكاتب لهذه الشبهة بكتابتها على نحوٍ من الغموض متعمِّد بقصدِ التشويش على القارئ بهدف حفظه من الانحراف أو منعه الخروج عن الإسلام، وليس بقصد كتابة الموضوع بوضوح بحيث يصبح القارئ مطّلعاً على حيثيات الموضوع.
هذه النظرة المتعالية من قِبَل رجال الدّين والفقهاء والإسلاميين ليست وليدة عصرنا الحاضر، بل هي نتاج قرونٍ من تعالي طبقة رجال الدّين المتواطئين مع الحكّام ومع الطّبقة الغنية وهي تعود إلى عصرٍ حيث كان أبو حامد الغزالي يناوئ الفلسفة بحجّة أنّها تُضِلّ "العامّة" أو الطبقة التي يرتزق رجال الدين على أكتافها.
كان ينبغي، لتوضيح الشبهة، أن يقال أنّ محمدا وُلِدَ بعد وفاة أبيه بسنتين إلى أربع سنوات، وهو ما كان سيعتبر الشبهة الأقوى في تاريخ الإسلام، وطبعاً كان لزاماً على القوم إيجاد تبرير للخبر. إنّ المعلومة لم تكن معلومة جانبية في القرون الأولى للإسلام، بل كانت تؤخذ مأخذ الحقيقة، ولربما كانت هناك رواياتٌ أكثر تطرّفا بهذا الخصوص، ولكن الدّولة العبّاسيّة ومن خلال تعاونها مع المحدّثين في فترة تأسيسها على أنقاض الدولة الأموية، وبالإرهاب حينا آخر عبر فرض رؤيتها بالسيف، استطاعت طمس تلك الروايات للأبد.
ثمّ يضيف الكاتب خمسة وجوهٍ للردّ على هذه الشبهة على النحو التّالي:
"الوجه الأول: ذكر نسب النبي - ﷺ - الصحيح المعتمد.
الوجه الثاني: جمع النصوص الصحيحة الثابتة الواردة في نسب النبي - ﷺ -.
الوجه الثالث: التحقيق في ترجمة الواقدي.
الوجه الرابع: تحقيق الروايات التي استدل بها المعترض.
الوجه الخامس: والحق ما شهدت به الأعداء." هامش 37
فإيراد النسب [الصحيح] كما يسمّونه، لا قيمة له على الإطلاق هنا لأنّ الإشكال ليس في إضافة أو حذف بضعة أسماء من النسب، و هي نوعاً ما المشكلة الّتي تواجه الباحثين في مناقشة نسب يسوع الّذي يحوي تناقضات كبيرة من إنجيل متّي الفصل 1 و إنجيل لوقا الفصل 3 و الّذي يحوي أسماء نساءٍ كنّ يعتبرن غير مستقيماتٍ أخلاقياً (إنجيل متّي) مثل ثامار الّتي كانت زوجة ابن يهوذا ثمّ زنت معه وهو يعتقد أنها عاهرة منقّبة [يعني تلبس نقابا] وأيضا راحاب "العاهرة" الّتي تساعد يوشع وبني إسرائيل أثناء حصار أريحا، إلى جانب راعوث الّتي تتقرّب و تغري سيدها في العمل و تنتهي العلاقة بالزواج، وأيضا بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي الّتي زنا بها داوود كما في سفر صموئيل الثاني فصل 11 ثم تزوّجها داوود بعد قتل زوجها.
التحدّي هنا يكمن فيما إذا كان هناك شيء مماثل في مرويّات المسلمين في العصر الإسلامي الأول عن محمّد، وسنرى كيف أن الشكّ في نسبة محمّد لعبد الله بن عبد المطلب تشكّل مشكلة حقيقية للمدارس الفقهية.
نجد في الوجه الأول في الرّد على هذه الشبهة في موسوعة محاسن ما يلي: "إن النبي - ﷺ - أشرف الناس نسبًا، وأكملهم خَلْقًا وخُلُقًا، ولقد كان وما زال شرف النسب له المكانة في النفوس؛ لأن ذا النسب الرفيع لا تنكر عليه الصدارة، نبوة كانت أو ملكًا، وينكر ذلك على وضيع النسب، فيأنف الكثير من الانضواء تحت لوائه، ولما كان محمد - ﷺ - يعد للنبوة هيأ الله تعالى له شرف النسب ليكون مساعدًا له على التفاف الناس حوله. إن معدن النبي - ﷺ - طيب ونفيس، فهو من نسل إسماعيل الذبيح، وإبراهيم خليل الله، واستجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام -، وبشارة أخيه عيسى - عليه السلام - كما حدث هو عن نفسه، فقال: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى»." هامش 38
واحدة من أكبر الإشكالات الّتي تواجه السيرة المحمديّة هي هذا التركيز الشديد على تعظيم نسب محمّد و توقيره إلى حدّ أن الرواة روجوا لأحاديث اصطفاء بني هاشم على قريش و قريش على العرب و تفضيل العرب على سائر الأُمم، و هو ما سيردّده مؤلفو موسوعة محاسن الإسلام ص 10 و 11 كحديث: "عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - ﷺ -: ‘إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم‘" و الحديث ورد في صحيح مسلم 2276 و الترمذي 3848 و أحاديث أخرى جعلت كاتب موسوعة محاسن يقول نصّا: "النصوص الأخرى التي أوردناها تدل على أن العرب أفضل الناس من ناحية النسب" هامش 39
وهذه النظرية، أيّا كانت دوافعها، تعظّم نَسَبَ محمّد وتسمو به وبقبيلته و كأنّها نوعٌ من تجاهُل تحدٍّ قرّر الرواة محوه من التراث و عدم الخوض فيه لأنّ القرآن و الأحاديث و إن أخبرت بكثيرٍ من اعتراضات القريشيين ومن سواهم ممن رفض الإسلام، لكنّ القرآن و الحديث لم ينقل ربما الاعتراضات الأقوى و قد تمّ السكوت عنها بشكلٍ شبه مؤكّد.
و نجد أنّ القرآن ، الّذي استخدمه محمّد أداةً لمجابهة خصومه، غالبا ما يبادل الشتيمة بالشتيمة كما في سورة المسد ﴿تَبَّتۡ یَدَاۤ أَبِی لَهَبࣲ وَتَبَّ ۝١ مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ ۝٢ سَیَصۡلَىٰ نَارࣰا ذَاتَ لَهَبࣲ ۝٣ وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ ۝٤ فِی جِیدِهَا حَبۡلࣱ مِّن مَّسَدِۭ ۝٥﴾ الّتي هي ردٌّ على أبي لهب و شتمه محمّدا، و سورة الكوثر ﴿إِنَّاۤ أَعۡطَیۡنَـٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ۝١ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ۝٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ ۝٣﴾ و التي كانت ردّا على من اتّهم محمّدا بأنّه لا ولد له، و من المحتمل أيضا أنّ محمّدا سمي بالأبتر أي المقطوع النّسب، المعنى غالباً تم إطفاءه و تحويره إلى "ذلك الّذي ليس له ولد"، و أيضا الآية عُتُلِّۭ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ زَنِیمٍ [القلم 13] و الّتي تتحدّث عن شخصٍ من المشركين ألحِق بنسب قوم لا ينتمي لهم، و هذا الرد قد يكون على شتيمة مماثلة تلقاها محمّد من قِبَل ذلك الشخص.
من ثمّ يحاول الكاتب للردّ على الشبهة أن يشير إلى أنّ ما ورد في الآثار عن أنّ حمزة بن عبد المطلب كانّ أسنّ، أكبر سِنّاً، من محمد هو غير صحيح فيقول: "وأما ما قاله وما أثبته من أن حمزة أكبر من النبي - ﷺ - بسنتين أو أربع سنين هذا هو الصحيح الذي نقله أئمة السير عندنا" ويورد الروايات التالية: "قال ابن عبد البر: كان أسن من رسول الله - ﷺ - بأربع سنين وهذا لا يصح عندي؛ لأن الحديث الثابت أن حمزة وعبد الله بن الأسد أرضعتهما ثويبة مع رسول الله - ﷺ - إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين." ثمّ ينقل رواية ابن إسحاق، وهذه المعلومة غير موجودة في النسخة الّتي حقّقها الدكتور سهيل زكّار، من أنّ عمر حمزة يوم قُتِلَ في غزوة أُحُد كان 59 سنة، أكبر من محمد بسنتين، أي أنّ محمّدا كان في الـ57 حينها.
غزوة أحد هذه كانت سنة 3 هـ الموافقة لسنة 624 م والّذي يعني حسابيا أنَ حمزة كان قد ولد سنة 565 م بينما يكون ابن أخيه محمّد قد ولد سنة 567 م. ثمّ ينقل الكاتب: "وقال ابن الأثير: عم رسول الله - ﷺ - وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وأرضعت أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان حمزة - رض -، أسن من رسول الله - ﷺ - بسنتين، وقيل: بأربع سنين، والأول أصح." والخلط وعدم اليقين بينهما لا يتوقف عند هذا، بل إنّ كاتب الرّد على الشبهة يضيف:
"وكان مقتل حمزة للنصف من شوال من سنة ثلاث، وكان عمره سبعًا وخمسين سنة، على قول من يقول: إنه كان أسن من رسول الله - ﷺ - بسنتين، وقيل: كان عمره تسعًا وخمسين سنة، على قول من يقول: كان أسن من رسول الله - ﷺ - بأربع سنين، وقيل: كان عمره أربعًا وخمسين سنة، وهذا يقوله من جعل مقام النبي - ﷺ - بمكة بعد الوحي عشر سنين، وقيل: كان عمره أربعًا وخمسين سنة، وهذا يقوله من جعل مقام النبي - ﷺ - بمكة بعد الوحي عشر سنين، فيكون للنبي - ﷺ - اثنتان وخمسون سنة، ويكون لحمزة أربع وخمسون سنة؛ فإنهم لا يختلفون في أن حمزة أكبر من النبي - ﷺ -." هامش 40
بعد كلّ التخبّط –وربّما يكون مُتعمّدا—والتناقضات في فارق السِّن بين حمزة ومحمّد، كما رأينا أعلاه، يضيف الكاتب وبنبرةٍ غاضبة توحي بمعرفته ويقينه العقلي على أنّ سَلَف السّنّة "لا يختلفون"، كما في الاقتباس أعلاه، في أنّ حمزة أسنُّ من محمّد، فيقول كاتب الرّد على الشبهة:
"فهذه أقوال علمائنا في سن حمزة بن عبد المطلب، أما ما تخيله المعترض بناء على روايات باطلة فهو سراب خادع ظنه ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا."
هذا الكلام مثيرٌ للسخرية حقّا لأنّ الاستشهادات المقدّمة لدحض وإبطال "الشبهة"، بدلاً من أن تدعم الرّد على الشبهة، هي داعمةٌ للشبهة وتفتح الباب أمام استنتاجاتٍ جديدة، بعضها لم يسبق أحدٌ إليها قبل هذا البحث.
المسألة هي أنّ محمّداً لم ينضمّ لآل عبد المطّلب بشكلٍ طبيعي كونه ولِدَ من زيجة عبد الله بن عبد المطّلب، كما تقول الرواية الرسميّة، لكن من غير المستبعد أنّنا هنا أمام قصّة مشابهة لقصّة يهوذا بن يعقوب وزوجة ابنه المدعوة ثامار. علينا، لكي نفهم العلاّقة بين عبد المطّلب وآمنة بنت وهب، أنّ نقرأ الفصل 38 من سفر التكوين والتعريف بالشخصيّات لكي نستطيع فهم وجود التشابه الكبير بين هذه القصّة والألغاز الّتي تحيط بولادة محمّد الملغزة والّتي سندخل في تفاصيلها أكثر.
قصة يهوذا وثامار والتعريف بالشّخصيات
الاقتباسات هي من الفصل 38 من سفر التكوين كما في الترجمة العربية (كتاب الحياة):
يهوذا هو الابن الأكبر ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (أبو العبرانيين كما كان يُسمّى عند اليهود وخليل الرّحمن كما يسميه المسلمون) ويهوذا هو واحدٌ من بين 12 ابنا ليعقوب. في الفصل 38 من سفر التكوين نجد أنّ يهوذا أنجب ثلاثة أبناء هم عير وأونان وشيلة، وأنّه لمّا بلغ ابنه عير سِنّ الزواج زوّجه أبوه من امرأة اسمها ثامار، والّتي يعني اسمها حرفياً "تمر" أو "ثَمَر" بالعربية، و التوراة تخبرنا أنّ عير بكرَ يهوذا –ابنه الأكبر—كان شرّيرا فأماته الرّب و من ثمّ طلب يهوذا من ابنه الثاني أونان أن يتزوج أرملة أخيه ثامار و يُقيم لأخيه نسلا. إقامة نسلٍ للأخ الميت كان عُرفاً متّبعا عند العبرانيين القدماء فيتزوج الشخص زوجة أخيه وينجب أبناء يحملون اسم أخيه المتوفي. أونان هذا، قام بالفعل بالزواج من ثامار لكنّه لم يجعلها تحبل وهذا ما أثار غضب الرّب عليه فمات كأخيه عير.
لمّا مات الابن الثاني، وكان شيلة لا يزال أصغر من سنّ الزواج، طرح يهوذا على ثامار أن تذهب لبيت أبيها، وهي طبعاً كان عليها أن تبقى لابسةً ثياب ترمّلها إلى أن تتزوج. هذا طبعا لم يرق لها:
"وَبَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مَاتَتْ زَوْجَةُ يَهُوذَا ابْنةُ شُوعٍ. وَإِذْ تَعَزَّى يَهُوذَا بَعْدَهَا انْطَلَقَ إِلَى جُزَّازِ غَنَمِهِ فِي تِمْنَةَ بِرِفْقَةِ حِيرَةَ صَاحِبِهِ الْعَدُلامِيِّ. فَقِيلَ لِثَامَارَ: «هُوَذَا حَمُوكِ قَادِمٌ لِتِمْنَةَ لِجَزِّ غَنَمِهِ». فَنَزَعَتْ عَنْهَا ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا، وَتَبَرْقَعَتْ وَتَلَفَّعَتْ وَجَلَسَتْ عِنْدَ مَدْخَلِ عَيْنَايِمَ الَّتِي عَلَى طَرِيقِ تِمْنَةَ، لأَنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّ شِيلَةَ قَدْ كَبُرَ وَأَنَّهَا لَنْ تُزَفَّ إِلَيْهِ. فَعِنْدَمَا رَآهَا يَهُوذَا ظَنَّهَا زَانِيَةً لأَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْهَهَا، فَمَالَ نَحْوَهَا إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ وَقَالَ: «دَعِينِي أُعَاشِرُكِ». وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي أَنَّهَا كَنَّتُهُ. فَقَالَتْ: «مَاذَا تُعْطِينِي لِكَيْ تُعَاشِرَنِي؟» فَقَالَ: «أَبْعَثُ إِلَيْكِ جَدْيَ مِعْزَى مِنَ الْقَطِيعِ». فَقَالَتْ: «أَتُعْطِينِي رَهْناً حَتَّى تَبْعَثَ بِهِ؟» فَسَأَلَهَا: «أَيُّ رَهْنٍ أُعْطِيكِ؟» فَأَجَابَتْهُ: «خَاتَمُكَ وَعِصَابَتُكَ وَعَصَاكَ». فَأَعْطَاهَا مَا طَلَبَتْ، وَعَاشَرَهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ. ثُمَّ قَامَتْ وَمَضَتْ، وَخَلَعَتْ بُرْقُعَهَا وَارْتَدَتْ ثِيَابَ تَرَمُّلِهَا."
طبعا، عندما اكتشفوا لاحقاً أنّ ثامار حاملٌ، أراد يهوذا أن يقتلها حرقاً، وهذه كانت عقوبة الزّنا عند العبرانيين حينها غير أنّ الفضيحة كانت أنّ ثامار أخرجت خاتمه وعصابته وعصاه فعرف أنها كانت المرأة الّتي ظنّها زانيةً مبرقعة وفعلا ولد له منها إبنان تؤامان.
لا يعنينا هنا أن نحاول مطابقة قصّة يهوذا وعير وثامار بقصّة عبد المطلب وعبد الله ابنه وآمنة لأنّ التطابق ليس هو الحاصل في انتقال قصّة أو ملحمة من ثقافةٍ إلى أخرى أو من شعبٍ إلى آخر، لأنّ أيّ قصة أو ملحمة كانت، فهي تأخذ نوعاً من الطّفرة فتتغير الأسماء وأحيانا تختلف الحبكة أو تختلف في هدفها أو المعنى الأساسي لها. هنا نجد أنّ هناك دورا للجنس وللإنجاب، الّذي هو مهمٌّ جدا في الثقافات المتديّنة، وتبدو القصة وكأنها مخططٌ لها إلهيا لكي تنتهي المسألة بإنجاب يهوذا لإبني ثامار فارص وزارح بدلا من ابنيه الشريرين عير وأونان. والسؤال هنا هو: هل كانت قصّة مولد محمّد الأصلية من هذا النمط؟
عودة للروايات الحديثيّة
والآن لنعد إلى الروايات الحديثية ومتعلّقات السيرة، فقد رأينا كيف أنّ ابن إسحاق، على ما يبدو، لم يقتنع بنهاية حبكة قصّة عبد المطلب واكتشافه لبئر زمزم ومن ثمّ دخوله في صراعٍ مع قريش و الّتي تنتهي بقبولهم بأحقيّة تملكّه البئر بعد تفجّر نبع ماءٍ تحت جمله، و لهذا تأتي الرّواية المطولة و الّتي يحاول كاتبها خلق لحظةٍ للذروة. في الرواية الممتدة من ص 32 إلى 41 من "السير والمغازي" لابن إسحاق، نجد أنّ أبناء عبد المطلب يقدّمون لأبيهم ردّ المطيع، كما في إبراهيم و ابنه في سورة الصافات 102، فيطلب منهم أن يكتب كلّ منهم اسمه على سهمٍ و ليتمّ القِداح –القرعة—في الكعبة أمام هُبَل كبير الآلهة، و تشاء الأقدار أنّ عبد الله يكون هو الّذي يقع الاختيار عليه.
الرواية تضيف ص 34 أنّ عبد المطّلب لمّا همّ بذبح ابنه عبد الله عند صنمي آساف ونائلة، حيث كانت قريش تنحرُ ذبائحها، همّت قريش إلى منعه، وهنا يضيف ابن إسحاق ما يبدو كإعطاء دورٍ ما للعبّاس بن عبد المطلب –جدّ بني العبّاس—فيقول:
"حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: ذكروا أن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حتى خدش وجه عبد الله خدشًا، لم يزل في وجهه حتى مات." هامش 41
وفي هذه الرّواية المطوّلة في ص 36، يعود ابن إسحاق إلى قصّة العرّافة، الّتي كان لها دورٌ في روايته السابقة المختزلة، و لكي يضيف نوعاً من التدخل الإلهي، حيث أنّ القرآن نفسه يشير في مواضع كثيرة أنّ كلّ شيء يحدث بإذن الله، و هذا يتضمّن إرسال الشياطين. هامش 42 هذه العرّافة ذات خلفيّة يهودية –على الأرجح—لأنّه حسبَ ابن إسحاق كان على عبد المطّلب و القريشيين الذّهاب شمالاً إلى خيبر، القريبة من يثرب –الّتي ستصبح لاحقا مدينة الرّسول—و هناك يسألونها المساعدة فتطرح عليهم أن يضربوا القرعة على عبد الله و عشرة من الإبل كلّ مرة، شيء يبدو و كأنّهم أصلا كانوا يعرفونه. ثم تمضي القصّة بحيث يصل عدد الإبل إلى المئة وعندها تذهب القرعة للإبل، لكنّ عبد المطلب يرفض ويريدهم أن يتأكدوا بأن يكرّروها ثلاثا، وبالفعل تتمّ التضحية ب130 من الإبل كبديل عن نذر عبد المطلب. هنا تبدأ القصّة المشوّقة.
وقبل أنّ نذهب لقصّة زواج عبد الله بن عبد المطّلب من آمنة بنت وهب، فلننظر ماذا يقول الدكتور سهيل زكار عن هذه الرواية المطولة عن نذر عبد المطلب وفداء عبد الله:
"أثر الاختراع على هذه القصة شديد الوضوح، وهي كما يبدو اخترعت من قبل أكثر من انسان وعبر فترة طويلة، ويبدو أيضا أن فكرتها مستوحاة من القرآن حيث تم ذكر النبي ابراهيم مع قصة ذبحه ابنه ومسألة الفداء، ولا شك أن هذه الرواية استهدفت رفع مكانة النبي محمد ﷺ والعناية الخاصة التي أحيط بها والده، ومن الأدلة على اختراعها انعدام الأضاحي البشرية في مجتمع مكة لما قبل الاسلام، ذلك أن القرآن لم يشر لوجود مثل هذه العادة كما لم يشر من جهة ثانية الى حادثة من هذا القبيل وقعت لأبي النبي، والمشكلة العويصة في هذه الرواية هي الشعر، فهو منظوم ركيك محال ضبطه وبالتالي من العبث شرح كلماته، وسبق لابن هشام أن واجه هذه المسألة حين أورد هذه القصة فحذف الشعر وقال: وبين أضعاف هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر."
فكما ترى، الرّوايات عن مولد محمد شديدة الغموض والتفرّد، بحيث لا توجد رواياتٌ أو أيّ أدلة أثرية تعضد هكذا أسطورة، ويبدو لي أنّ كلّ قصة الفداء هذه وضِعت لكي تهيء لظهور عبد الله، والّذي هو لقبٌ يعنى به "شخصٌ مجهول"، و الدليل هو أنّ ابن إسحاق نفسه ينقل في ص 28-29 رواية، و لاحظ كيْفية ورود تعبير "عبد الله" بحيث يبدو وكأنّ ابن إسحاق يلمّح إلى أنّ اسم عبد الله بحدِّ ذاته يعني شخصٌ مجهول، عن "أبي بكر أنه قال: كنت امرءًا تاجرًا، فسلكت ثنيه في سفر لي، فإذا رجل منها يقول: أتؤمني أؤمنك؟ فقلت: نعم، فقال: أدنه، فأتيته، فإذا هو نهيش قد أنْيَبَته حيه أصابته، فقال: يا عبد الله هل أنت مبلغي إلي أهلي ها هنا، تحت هذه الثنية؟ فقلت: نعم، فاحتملته على بعيري، فأتيت به على أهله، فقال لي رجل من القوم: يا عبد الله ممن أنت؟ فقلت: رجل من قريش، فقال: والله إني لأظنك مصنوعًا لك، والله ما كان لص أعدى منه."
في هذه الرّواية، و الّتي تبدو لي مبهمة و غير واضحة المدلول، لا تبدو ذات معنى إلاّ أن يكون ابن إسحاق قصد منها متعمّدا إرسال رسائل مشفّرة توحي للقارئ الخبير بأنّ اسم "عبد الله" له مدلول آخر غير الاسم، وهو أنّ كلّ شخصٍ مجهول هو ضِمنيّا عبدٌ من عباد الله، كالحديث: "إنَّ المَلائِكَةَ يَرْفَعُونَ عَمَلَ العَبْدِ مِن عِبادِ اللَّهِ فَيُكْثِرُونَهُ ويُزَكُّونَهُ حَتّى يَنْتَهُوا بِهِ حَيْثُ شاءَ اللَّهُ مِن سُلْطانِهِ" هامش 43 و الحديث: "كانَ عَبْدٌ مِن عَبّادِ اللهِ آتاهُ اللهُ مالًا ووَلَدًا، فَذَهَبَ مِن عُمُرِهِ عُمُرٌ" هامش 44 و يُنقَل عن ابن عمر قوله: "ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكنِّي عبدٌ من عباد الله، أرجو الله تعالى وأخافه" هامش 45
والآن لنرى من هو عبد الله بن عبد المطّلب، وما هي أسرار علاقته بآمنة بنت وهب وتفاصيل أخرى قد تبدو مشوّشة في البداية، لكنها ستظهر بوضوح أكثر في الاستنتاج.
عبد المطّلب، عبد الله، آمنة ونساءٌ أخريات
هنا نصل إلى القِسم المشوّق من القصة، فالرواية المطوّلة لابن إسحاق عن نذر عبد المطّلب وإنقاذ عبد الله ابنه بـ130 ناقة وكلّ ما صاحبها من أشعار وأبيات، تبقى ناقصة و غير مكتملة بدون الروايات التالية و الّتي تبدو أيضا غير مكتملة و ناقِصة و بلا معنى بدون وضعها كتتمّة لقصة النّذر.
الرواية تنتهي بزواج عبد الله من آمنة، كما يروي ابن إسحاق: "حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال: نا يونس، عن ابن إسحق قال: ثم انصرف عبد المطلب آخذًا بيد عبد الله، فمر به- فيما يزعمون- على امرأة من بني أسد ابن عبد العزى بن قصي، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه- فيما يذكرون-: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي؛ قالت: لك عندي مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع علي الآن، فقال: إن معي أبي الآن، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، ولا أريد أن أعصيه شيئًا فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة- ووهب يومئذ سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا- فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وأم برة: أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي، وأم حبيب بنت أسد لبرة بنت عوف بن عبيد بن كعب بن لؤي." هامش 46
والملاحظ أنّ المرأة لم يتمّ تسميتها وإنّما تخبرنا الرواية فقط بأنّها من "بني أسد ابن عبد العزى بن قصي"، وسنرى كيف أنّ الروايات تختلف في هويّة هذه المرأة وأنّ هناك لغزا وراء صلتها ببني أسد بن عبد العزّى. ابن أسحاق نفسه يأتي بروايةٍ اكثر اختزالا من هذه الرواية التي تشير، على الأقل، إلى البطن أو القبيلة الّتي كانت هذه المرأة تنتمي إليها.
لكن، لننظر أولا كيف أن العلاقة بين عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب، وفقاً للروايات، لم تكن علاقة حبٍّ أو إعجاب متبادل، بل مجرّد زواجٍ مصلحي أو مصاهرة قبليّة إنّ صحّ وجود هكذا زواج أصلا، وهنا يقول ابن إسحاق:
"فذكروا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه، فوقع عليها عبد الله، فحملت برسول الله ﷺ، فخرج من عندها حتى أتى المرأة التي قالت له ما قالت، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهي في مجلسها، فجلس إليها، وقال: ما لك لا تعرضين علي اليوم مثل الذي عرضت عليّ أمس؟ قالت: فارقك النور الذي كان فيك، فليس لي بك اليوم حاجة" هامش 47
الغريب، أنّ هناك رواية ينقلها البلاذري في أنساب الأشراف ج 10 ص 271 تنصّ على وجود عداوة بين بني عبد مناف وبني زهرة، وإليك الرواية:
"قالُوا: وكانَ أمية بْن عَبْدِ شمس بْن عَبْدِ مَناف رجلا جميلا، وكانَ طريقه عَلى منزل وهب بْن عَبْد مَناف بْن زهرة بْن كلاب، وكانت لوهب قينتان فكره وهب ممره عَلى رحله فنهاه عَن ذَلِكَ فأبى فضربه وهب بالسيف عَلى اليته فَقالَ: مهلا أمي فإن البغي منقصة … لا يكسبنك يوما شره ذكر
فنفرت لِذَلِكَ بنو عبد مَناف بْن قصي، والمطلب بْن عَبْدِ مَناف يومئذ حي، فغضب لابن أخيه، فأجمعوا عَلى إخراج بني زهرة من مَكَّة، فعزم بنو زهرة عَلى الرحلة، فبينا هم عَلى ذَلِكَ إذ صاح صائح من دار عدي بْن قَيْس وكانَ سيدا عزيزا: ألا إن الركب مقيم أصبح ليل. فقالت بنو عبد مَناف:
من الصارخ؟ قيل: عدي بْن قَيْس بْن عدي، وكانَ فِي سهم ثروة وعدد ومنعة فاجتمع بنو عبد مَناف إلى المطلب بْن عَبْدِ مَناف بأسفل مَكَّة وتجمعت بنو سهم وبنو زهرة، فعرف بنو زهرة أنهم ممنوعون، وكانَ أمية حليما، فلما رأى ذَلِكَ أتى عمه المطلب فَقالَ: يا عماه قد وهبت الضربة لبني عمي
فاصطلحوا، وهَذا اليَوْم يسمى يَوْم عز الركب، ويوم الصلح فَقالَ عَبْد اللَّهِ بْن الزبعرى:
نحن منعنا من الإجلاء إخوتنا … لما أنخت مطايا القوم حالينا
لما رأوا مكفهرا لا كفاء لَهُ … من شر سهم وناداهم منادينا
بأن أقيموا وأصبح ليل إن لنا … أمرا سيكفيهم منا ويكفينا." هامش 48
فهل لهذه القصّة علاقة أو شبه بخطبة عبد المطلب لنفسه ولابنه عبد الله بنتين من بيت بني زهرة؟ الاحتمال الأول هو أن عبد المطّلب أراد فعلا أن يُحَسّن علاقة قومه ببني زهرة على أساس هذا الزواج، والاحتمال الثاني هو أنّ لأصل القصة سردية مختلفة وأنه قد تم تحويرها بحيث تصبح الشخصية المعنية بالعداوة بين بني عبد مناف وبني زهرة هو أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف وليس شخصا آخر. الاحتمال الوارد هو أنّ عبد الله هو شخصية خرافية لا وجود لها وأنّ عبد المطلب ربّما كان هو في الحقيقة من تسبّب في العداوة، وأنّ آمنة حبلت منه وأنّه كترضيةٍ لأبيها وهب، وفي بعض الروايات عمّها وهيب، قام بخطبة ابنة وهيب -هالة- وبتبنّي الطفل محمّد الّذي كان فعلا يسمّى "محمد بن عبد المطلب".
إنّ تناقض الروايات في سرد الأسماء، واسم المرأة الّتي عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب واختلاف كُتّاب السيَر والمؤرخين المسلمين في هويتها ربّما تمّ بشكل متعمّد لتسهيل تغيير رواية سائدة في فترة من الزمن كانت هي الرواية الرسمية.
من المهم أن نُعَرِّف القارئ هنا أنّ للمرأة الّتي عَرضت نفسها على عبد الله لها نسبٌ يتّصل بعائلةٍ كانت لها دعوى لشرعيّتها في الخلافة أثناء صراع الصّحابة على خلافة محمّد، إذ كان عليٌّ ومعسكره في العِراق في مواجهة بني أميّة في الشّام، ولاحقاً سيدخل آل الزّبير بن العوّام في هذا الصّراع متّخذين مكّة والحجاز قاعدة لدعوتهم.
فلننظر في نسب عبد الله بن الزبير بن العوام كما ورد في معجم الصحابة للبغوي ج 3 ص 514: "سمعت أبا بكر بن زنجويه يقول: أبو خبيب عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي." لاحظ معي أنّ ابن إسحاق، كما رأينا، أخبرنا أن المرأة الّتي عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب هي من "بني أسد ابن عبد العزى بن قصي". يبدو أنّ الزبيريين كانوا بالفعل مقتنعين أنّهم ورثة النبي محمّد لأننا يجب ألا ننسى أنّ خديجة بنت خويلد هي عمّة الزّبير بن العوّام بن خويلد لأن خديجة والعوّام كلاهما من أبناء خويلد، وأنّ كون أسماء بنت أبي بكر –زوجة الزّبير وأمّ ابنه عبد الله—وعائشة بنت أبي بكر شقيقتين زاد من قناعة الزبيريين بفرصتهم للخلافة لأنّ عائشة كانت زوجة محمّد وأمّ المؤمنين.
عند استكشافنا لهذه الأنساب، نستطيع الوصول إلى مغزى قصّة النّور الّذي كان في وجه عبد الله بن عبد المطلب قبل جماعه لآمنة بنت وهب ولماذا كانت المرأة الّتي أرادت عبد الله أن يقع عليها قد تمّ ربط نسبها تحديدا بـ"بني أسد بن عبد العزّى" لإيصال فكرة أنّ النور الإلهي وشرعية النبوة إنّما هي في بني هاشم، العبّاس وعلي تحديداً كممثّلين لهذا المعسكر، حيث ينتقل النور من عبد الله إلى محمد وآل عليّ من خلال فاطمة.
وإذا استمرّينا في قراءة سردية ابن إسحاق، نجد أنّه بالفعل يؤكّد على هذه النتيجة المتحصلة من أحقّية بني هاشم وأنّ نسلَ محمّد هم ورثة هذا "النور الإلهي" حيث يقول:
"حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق قال: وكانت- فيما ذكروا، تسمع من أخيها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر واتبع الكتب- يقول: أنه لكائن في هذه الأمة نبي من بني إسماعيل، فقالت في ذلك شعرًا، واسمها أم قبال ابنة نوفل بن أسد-" هامش 49 فمؤلّف الرواية هنا يريد أن يركّز على أنها –المرأة الأسديّة—كانت تريد أن تكون هي حاملة هذا السرّ الإلهي وأنّ أخاها ورقة، المتبحّر في الكتاب المقدّس، أخبرها أن هناك نبيّا سيظهر من نسل إسماعيل. لكن، حسب ابن إسحاق، فإنّ المشيئة الإلهية وضعت الطفل في رحم آمنة ويضيف بعض أبيات للمرأة الّتي يسمّيها "أمّ قبال":
" الآن وقد ضيعت ما كنت قادرًا … عليه وفارقك الذي كان جابكًا
غدوت علي حافلًا قد بذلته … هناك لغيري فالحقن بشأنكا
ولا تحسبني اليوم جلوا وليتني … أصبت حبيبًا منك يا عبد داركا
ولكن ذا كم صار في آل زهرة … به يدعم الله البرية ناسكًا" ويضيف ابن إسحاق أنّ عبد الله ردّ على شعرها ببضعة أبيات وأنها أجابته بالأبيات التالية:
" عليك بآل زهرة حيث كانوا … وآمنة التي حملت غلاما
يرى المهدي حين يرى … عليه نور قد تقدمه أماما
فيمنع كل محصنة خريد … إذا ما كان مرتديًا حساما
وتخفره الشمال وبان منها … رياح الجدب تحسبه قتاما
فأنجبه ابن هاشم غير شك … وأدته كريمته هماما
فكل الخلق يرجوه جميعًا … يسود الناس مهتديا إماما" هامش 50
ومرّة أخرى، هناك رواية أخرى منقولة عن ابن إسحاق ص 44 في أسطورة نور النبوّة هذا فيقول:
" حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير، عن ابن إسحق قال: حدثني والدي إسحق بن يسار قال: حدثت أنه كان لعبد الله بن عبد المطلب امرأة مع آمنة ابنة وهب بن عبد مناف، فمر بامرأته تلك، وقد أصابه أثر طين عمل به، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به أثر الطين، فدخل فغسل عنه أثر الطين، ثم دخل عامدًا إلى آمنة، ثم دعته صاحبته التي كان أراد إلى نفسها، فأبى للذي صنعت به أول مرة، فدخل على آمنة فأصابها، ثم خرج فدعاها إلى نفسه، فقالت: لا حاجة لي بك، مررت بي وبين عينيك غرة، فرجوت أن أصيبها منك، فلما دخلت على آمنة، ذهبت بها منك."
فالفكرة مكرّرة هنا وإن كان بصيغة مختلفة لكن ربّما كانت هذه الرواية واحدةً من إبداعات ابن إسحاق في تطوير القصّة الأسطورية، وهي طبيعة المؤلّفين عبر العصور، وهي أنّ الفكرة بحدّ ذاتها تتغيّر مع مجيء المؤلف بأفكارٍ جديدة، وقد لاحظنا احتمالاً مشابهاً في قصص حلّ الخلاف والتنازع بين عبد المطلب وقريش حول "زمزم". فعبد الله بن عبد المطلب هنا يبدو مهووساً بالجنس، ربّما لأنّ هذا النور الإلهي يقوّي الرغبة الجنسية لإيصال النطفة المراد لها حملّ النور إلى رحمٍ محدّد ليأتي للوجود.
وبعد أن يذكر ابن إسحاق أنّ أمّه آمنة حملت به وتمّ إخبارها، وفي بعض الروايات رأت في الحلم، أنّ نورا يخرج منها يملأ قصور بصرى من أرض الشّام، يأتي للفقرة الّتي يقول فيها:
"فلما وضعته، بعثت إلى عبد المطلب جاريتها- وقد هلك أبوه عبد الله وهي حبلى، ويقال أن عبد الله هلك والنبي ﷺ ابن ثمانية وعشرين شهرًا، فالله أعلم أي ذلك كان- فقالت: قد ولد لك الليلة غلام فانظر إليه، فلما جاءها، أخبرته خبره، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو الله، ويشكر الله الذي أعطاه إياه" هامش 51
لاحظ معي تضارب وحتّى صيغة الشكّ في مولد محمد فيقول أنه هلك وهي حبلى، ثمّ يضيف كلمة "يُقال" أن عبد الله "هلك والنبي ﷺ ابن ثمانية وعشرين شهرًا" ولكي يبعد عن نفسه أيّ تهمة يقول "فالله أعلم أي ذلك كان". لكن لنقف ها هنا ولننظر لموقف الفقهاء من مدّة حمل المرأة.
الحمل ومُدّته في الفقه السّنّي
فلننظر الآن في موقف الفقه السّنّي في مدّة الحمل وسنعتمد كتبا حديثة وقديمة للفقه وبالتالي نبني طرحنا هنا على قاعدةٍ أكثر متانة ومدعومة باستدلال أقوى. فطول مدّة حمل المرأة عند السّنة إنما هو أطول من الحمل الطبيعي المُثبَت علميّاً بسبب اطلاعهم على إشكاليات مولد نبي الإسلام بعد وفاة أبيه بسنوات، وسنرى كيف أنّ أمّه احتفظت به ثمّ سلّمته للرّضع، إذ يبدو احتمالا وارداً أنّ الله لم يبارك في حليبها وإرضاعها له وكان لذلك صعبا عليها أن تربّيه، أو أنها كرهته أو رأت فيه نوعا من النّحس كما يرى العفيف الأخضر في كتابه من "محمّد الإيمان إلى محمّد التاريخ" ص 42.
المصدر الفقهي الأول الّذي سنرجع إليه هو الموسوعة الفقهية الصادر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدّينية في دولة الكويت الصّادر 1992 م 1410 هـ ط 2. حيث تقول الموسوعة ما يلي:
"اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِي تَحْدِيدِ أكْثَرِ مُدَّةِ الحَمْل، فَقال الشّافِعِيَّةُ وهُوَ ظاهِرُ المَذْهَبِ عِنْدَ الحَنابِلَةِ وقَوْلٌ عِنْدَ المالِكِيَّةِ: إنَّ أكْثَرَ مُدَّةِ الحَمْل أرْبَعُ سِنِينَ، لِقَوْل مالِكِ بْنِ أنَسٍ: «هَذِهِ جارَتُنا امْرَأةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ امْرَأةُ صِدْقٍ، وزَوْجُها رَجُل صِدْقٍ حَمَلَتْ ثَلاَثَةَ أبْطُنٍ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً كُل بَطْنٍ فِي أرْبَعِ سِنِينَ» وما لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ يُرْجَعُ فِيهِ إلى الوُجُودِ، وقَدْ حَكى أبُو الخَطّابِ أنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعَ سِنِينَ وهَكَذا إبْراهِيمُ بْنُ نَجِيحٍ العُقَيْلِيُّ، وإذا تَقَرَّرَ وُجُودُهُ وجَبَ أنْ يُحْكَمَ بِهِ. ولأِنَّ عُمَرَ ضَرَبَ لاِمْرَأةِ المَفْقُودِ أرْبَعَ سِنِينَ ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لأِنَّهُ غايَةُ الحَمْل. وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمانَ وعَلِيٍّ وغَيْرِهِما." هامش 52 وتحيلنا الموسوعة في استدلالاتها الفقهية إلى مغني المحتاج الجزء 3 ص 373-380 والمغني لابن قدامة جزء 7 ص 477 وبداية المجتهد جزء 2 ص 372.
ثمّ تضيف الموسوعة قائلة:
"وقال الحَنَفِيَّةُ، وهُوَ رِوايَةٌ عَنْ أحْمَدَ: إنَّ أقْصى مُدَّةِ الحَمْل سَنَتانِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عائِشَةَ وهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، لِما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: ما تَزِيدُ المَرْأةُ فِي الحَمْل عَلى سَنَتَيْنِ ولاَ قَدْرَ ما يَتَحَوَّل ظِل عُودِ المِغْزَل [الأثر عن عائشة: «ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين ولا…» أخرجه البيهقي (7 / 443 - ط دائرة المعارف العثمانية] وذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ إلاَّ تَوْقِيفًا، إذْ لَيْسَ لِلْعَقْل فِيهِ مَجالٌ، فَكَأنَّها رَوَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. والمَشْهُورُ عَنْ مالِكٍ أنَّ أقْصى مُدَّةِ الحَمْل خَمْسُ سِنِينَ." هامش 53 وتحيلنا الموسوعة بهذا الخصوص إلى المصادر التالية: الاختيار الجزء 3 ص 179 وابن عابدين جزء 2 ص 857 وبداية المجتهد جزء 2 ص 252 والمغني جزء 7 ص 477-480.
ولنرجع إلى واحدٍ من كتب الفقه الكلاسيكية، البيان في مذهب الإمام الشّافعي أبي الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني الشّافعي اليمني المتوفّي 558 هـ في المجلد 11 ص 11-13 حيث يقول:
"وأما أكثر مدة الحمل: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب: فمذهبنا: أن أكثر مدة الحمل أربع سنين. وذهب الزهري، وربيعة، والليث إلى: أن أكثر مدة الحمل سبع سنين. وذهب الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وعثمان البتي إلى: أن أكثر مدة الحمل سنتان، وروي ذلك عن عائشة. وعن مالك ثلاث روايات: إحداهن: كقولنا. والثانية: كقول الزهري، وهو الصحيح عنه. والثالثة: كقول أبي حنيفة. والرابعة: ذهب أبو عبيد إلى: أنه لا حد لأكثره. دليلنا: أن كل ما ورد به الشرع مطلقا وليس له حد في اللغة ولا في الشرع.. كان المرجع في حده إلى الوجود، وقد ثبت الوجود فيما قلناه. قال الشافعي: (ولد ابن عجلان لأربع سنين). ومثل الشافعي لا يقول هذا إلا بعد أن علمه. وروي: أنه قيل لمالك حديث جميلة بنت سعد عن عائشة أنها قالت: (لا تزيد المرأة عن السنتين في الحمل)، فقال مالك: سبحان الله! من يروي هذا؟ هذه جارتنا امرأة عجلان، حملت ثلاث بطون، كل بطن يبقى الحمل في جوفها أربع سنين! هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: امرأة محمد بن عجلان. وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد: أن سعيد بن المسيب أراه رجلا، وقال: إن أبا هذا غاب عن أمه أربع سنين، ثم عاد وقد ولد هذا وله ثنايا. وذكر القتيبي: أن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين. وكذلك منصور بن ريان، ومحمد بن عبد الله بن جبير، وإبراهيم بن أبي نجيح ولدوا لأربع سنين، وإذا وجد ذلك عاما.. وجب المصير إليه. فإن قيل: فقد روى سليمان بن عباد بن العوام قال: كان عندنا بواسط امرأة بقي الحمل في جوفها خمس سنين، ثم ولدت غلاما له شعر إلى منكبيه، فمر به طائر، فقال له: إش! وقال الزهري: وجد حمل لسبع سنين. قلنا: لم يثبت هذا متكررا، فدل على بطلانه، وما رويناه قد ثبت متكررا."
حقيقةً، لم أجِد نصّا صريحا وقويا في التصريح بأنّ الحمل قد يزيد عن الحدّ الطبيعي بسنوات أقوى من هذا النصّ، خصوصا وأنّه كحال أيّ كتاب دينيّ يعتمد الروايات والقيل والقال، وهو ما يجب ألا نستغرب له من بيئة كانت لا تعرف شيئا عن الدّليل والاستدلال العلمي، بل كانت كلّ مدرسةٍ من هذه المدارس الفقهية تعني برواياتها، وبالتالي عندما تصلهم روايةٌ تقول مثلا أنّ محمّدا ولِد بعد وفاةِ أبيه بـ4 سنوات، لا يمكن لأحدٍ أن يجرؤ على القول أن عبد الله بن عبد المطلب يستحيل أن يكون هو الأب في هذه الحالة للأسباب العلميّة التي شرحناها. ولم يكن الحلّ عند هؤلاء أن يقولوا أن محمّدا وحده اختصّ بالبقاء في بطن أمّه لمدّة طويلة، كما فعل المسيحيون –ومن بعدهم المسلمون—مع ولادة يسوع الإعجازية فقالوا أنّ الله خلقه بدون أب. بل راحوا يتناقلون (روايات) عن زيادات مدّة حملٍ هنا وهناك لتبرير الروايات، الّتي بدت للفقهاء السنة قويّة وذات مدلولٍ كان له أكبر التأثير في دفع الفقهاء بهذا الاتجاه.
مصدرٌ آخر، من الفقه الحنبلي (الوهّابي) نستدل به هنا، كزيادةٍ للتوثيق، هو كتاب "المُطْلِع على دقائق زاد المُسْتقنِع" تأليف عبد الكريم بن محمّد اللاحم المجلد 5 ط 1 لسنة 2010 ص 45-46:
"وجه القول الأول بأن أكثر مدة الحمل أربع سنين: 1 - بأنه لم يرد في الشرع تحديد لأكثر مدة الحمل فيرجع فيها إلى الوجود وقد وجد من تحمل أربع سنوات فيعمل به ويوقف عنده؛ لأن الأصل عدم الزيادة فيوقف عندما وجد. 2 - أن الصحابة ضربوا لامرأة المفقود أربع سنوات وهذا يدل على أنها أكثر مدة الحمل. الجزء الثاني: توجيه القول الثاني: وجه القول بأن أكثر مدة الحمل سنتان ما ورد أن عائشة قالت: (لا تريد المرأة في الحمل على السنتين) [الحديث منقولٌ عن السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 443] الجزء الثالث: توجيه القول الثالث: وجه القول بأنه لا حد لأكثر مدة الحمل: بأنها لم تحدد في الشرع فلا يجوز تحديدها من غير دليل."
كما ترى، فإنّ هؤلاء القوم لا يعنون لا بكلام الأطباء ولا بالدليل المنطقي العلمي الّذي يستمدّ شرعيته من التجربة والمراقبة وتكرار التجارب. هذا الموقف الفقهي هو واضحٌ في أنّه يعاني من تناقض داخلي لسبب بسيط وهو علم هؤلاء أنّ التجربة ستثبت أنّ محمّد لم يكن ابن عبد الله بن عبد المطّلب.
........
حسب السّردية الإسلاميّة الرّسميّة، فإنّ محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب (نبيِّ الإسلام) كان قد وُلِد حوالي سنة 570 أو 571 م. أما إضافة اليوم والشهر –12 من ربيع الأول وكانَ يوم اثنين—فهو على الأغلب دِقّة مصطنعة لإضفاء نوعٍ من الموثوقية على الحدث، حيث أنّ المجتمعات الحضرية القديمة، فضلا عن البدوية، لم تكن تملك سجلاّت ولادة دقيقة كما هو الحال في العصر الحالي. بالإضافة إلى ذلك، يقوم المؤرخ المسلم، وعماد الدين خليل هنا هو خير نموذج، بتقديم الحدث والشّخص ونسبهِ وكلّ ما يتعلق به على سبيل التعظيم والتفخيم، حيث أنّ نصرة العقيدة والإيمان أهمّ بكثير عنده من الصّحة والدّقة التاريخيّتين فيقول عن محمّد أنّه ولِد "لأبوين عريقين في نسبهما ينتمي أحدهما، وهو عبد الله، إلى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب وتنتمي الأخرى، وهي آمنة، إلى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب حيث تلتقي مع نسب زوجها عبد الله."
لا يبدو لي حقّا أنّ محمّد كان يمتاز بصحّة النسب والحسب، بل الأرجح أنّه كان محطّ استصغار ويُعامَل بدونيّة، حتّى كطفل رضيع، وليس هناك سبب واضح لماذا بقي مع أمّه، وتجاهله جدّه إلى ان اضطرّ إلى تكفّله بعد وفاة أمّه آمنة. كذلك فإنَّ محمّد بالفعل شبّ كيتيم منبوذ إذ تشير رواية ابن إسحاق إلى أنّ حليمة، مرضعته، كانت تردّد أنّه لا أحد أراد أن يأخذ محمّدا حيث تقول حليمة كما نقل ابن إسحاق:
"فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها- رسول الله ﷺ فإذا قيل «إنه يتيم» تركناه، وقلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الوليد، فأما أمه فما عسى أن تصنع إلينا؟ فو الله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنّه، قال: لا عليك، فذهبت، فأخذته، فو الله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره."
من سياق الرواية أعلاه، وفيها تخبرنا حليمة أنّها أخذت محمّدا الرضيع في وقتٍ كان الناس يشهدون سنةً شهباء (أي شديدة القحط)، نجد أنّها أخذت محمّدا كاضطرارٍ لعدم وجود أي رضيعٍ آخر يمكن لآبائه أو أقاربه صرف المصاريف عليه، والغريب أنّ محمّدا الّذي قام جده عبد المطلب بنحرِ 130 ناقةً لإنقاذ أبيه عبد الله من الذّبح، كما ناقشنا أعلاه، فجأةً يصبح غيرَ آبهٍ بحفيده ويصبح محمّد، ذلك الطفل البائس المسكين، رهينا بموقف أمّه منه. والمثير في القصّة أيضا هو أنّ هذا الإله الّذي جعل أمّه ترى مولده كإعجاز وبركة، تخلّى عن أمّه وواضحٌ أنها لم تكن قادرة على رعايته وإرضاعه (أين البركة الإلهية؟)
هذه البركة الإلهية انتقلت إلى حليمة حيث تقول، ومن المهم ملاحظة أنّها تتكلّم بعد إسلامها:
"فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم ترى إلى ما بتنا به الليلة من الخير حين أخذناه؟! فلم يزل الله يزيدنا خيرًا، حتى خرجنا راجعين إلى بلادنا، فو الله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك، يا بنت أبي ذؤيب، أهذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟ فأقول: نعم، والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأنًا، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله عزّ وجل أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعًا، لبنًا، فنحلب ما شئنا، وما حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعًا، حتى أنهم ليقولون لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فيريحون أغنامهم جياعًا وما فيها قطرة لبن، وتروح غنمي شباعًا، لبنًا، نحلب ما شئنا، فلم يزل الله عزّ وجلّ يرينا البركة، ونتعرفها حتى بلغ سنتيه، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فو الله ما بلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا، هامش 56 فقدمها به على أمه، ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة." هامش 57
من الواضح أنّ الرواية تصبح محطّ شكٍّ لسبب بسيط، وهو أنّ الراوية –إنّ صحّ نسبتها لحليمة—لها مصلحة في أن تمدح شخصا كانت قامَت برضاعته وقد أصبح الآن، حين تروي قصّة هذه البركة، يُسمّى رسول الله وهو ذو سلطة وسطوة، فطبيعي أن تنسب كلّ إيجابية إلى الزعيم الّذي أرضعته.
وهنا نجد عماد الدّين خليل يتكلّم عن حادثةٍ من الواضح أنّها لا يمكن أن تُقبَل وكأنّها حادثة يقبلها العقل والمنطق، وهي حادثة شقّ صدر محمّد وتطهير قلبه، وعماد الدّين خليل بالفعل يسمّيها حادثة شقّ الصدر، وطريقة سرده تظهِر أنّه متردّد في رفض أو قبول الرواية لسببٍ بسيط وهو أنّ القصة وردت في كتب الصِحاح كصحيح مسلم ج 1 ص 101-102 ومسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 121 ولو اقتصر الأمر على مصدرٍ كمحمد بن إسحاق، الّذي بالفعل يروي هذه القصة، لكان عماد الدّين خليل قادرا على إنكارها بكل سهولة، رغم أنّ كتاب ابن إسحاق ذو موثوقيّة تاريخية أكثر بكثير من جميع صحاح السّنة وكتب الشيعة الحديثية ولسببٍ بسيط وهو أنّه زمنيا أقرب إلى فترة ظهور الإسلام من كتّاب وجامعي الصحاح.
فلننظر إلى طريقة سرد د. عماد الدّين خليل للحادث فيقول:
"بعد أشهر من عودته إلى مضارب بني سعد، وقعت حادثة شق الصدر وعاد أخوه من الرضاعة يوما، وهو يلهث، فقال لأمه وأبيه، وهما يرعيان أغناما لهما خلف دورهم: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيضاء فاضجعاه وشقّا بطنه، فهما يسوطانه [أي يحرّكانه]، فخرجت حليمة وزوجها نحوه فوجداه قائما منتقع الوجه فسألاه: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو.. وسرعان ما عادت به حليمة وزوجها إلى خبائهما." هامش 58
الواضح أنّ الصيغة المكتوبة لم ترد في أيّ مصدر أساسي من مصادر السيرة أو كتب الحديث ولأنّ عماد الدين خليل لم يقدّم لنا المصدر أو المصادر الّتي صاغ سرديته على أساسها، فقد تهرّب من هذا الإشكال بأن وضع الهامش رقم 4 حيث يقول:
"وفي صيغة أخرى للحادث عن أنس أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق قلبه فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ... ثم لأمه وأعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني مرضعته- أن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون (أخرجه مسلم وأحمد) ويرى درمنغم أن هذه (القصة) نشأت عن قول القرآن أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... وأن هذه العملية أمر باطني قام على تطهير ذلك القلب وتوسيعه ليتلقى رسالة الله عن حسن نية ويبلغها بإخلاص تام ويحتمل عبثها الثقيل (حياة محمد ص ٤٨)." هامش 59
فالرواة أنفسهم يصيغون القصة صياغات مختلفة، ولكن الجانب الواضح هو استمرار الجانب المأساوي لقصة محمّد، فليس من الواضح حسب ما يسرده عماد الدّين خليل، كما سنرى، كيف استطاعت حليمة وزوجها إقناع آمنة أمّ محمّد بأنّ ما حصل لمحمّد كان بالفعل تدخّلا إلهياً وأنّ ابنها محمّد لم يتعرّض للتعسّف أو الاستغلال الجنسي، وسنرى اختلاف ما يورده محمّد بن إسحاق عن سردية عماد الدّين خليل. ولأنّ محمد بن إسحاق أقدم من عماد الدين فطبيعي أن نورد روايته أولا ثمّ نتكلم عن سردية عماد الدين.
ينقل محمد بن إسحاق رواية مطوّلة عن حليمة السّعديّة فيقول:
"فبينا نحن خلف بيوتنا، وهو [أي محمّد] مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا، جاءنا أخوه يشتد، فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائمًا، منتقعا لونه، فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني، ما شأنك؟
قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئًا فطرحاه، ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، انطلقي بنا، فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما يتخوف." هامش 60
إلى هنا، تبدو رواية ابن إسحاق لا تختلف كثيرا عمّا أورده عماد الدين خليل، وكلاهما أظهر الحالة النفسية المريعة الّتي مرّ بها محمّد من خلال تعرّضه لهذه التجربة "التطهيرية" والّتي لا تبدو مختلفةً كثيرا عن أيّ حادث اعتداءٍ جنسي أو محاولة قتل أو إيذاء قد يتعرض لها أيّ طفل وخصوصا في بيئة كالبيئة البدوية، حيث يسود قانون الغاب والغلبة أكثر من بيئة مكّة أو يثرب حيث يوجد تجمّع بشري أكبر وبالتالي يخفي بعض الناس حتى أخلاقهم الخسيسة.
الآن، يظهر الاختلاف في التبرير الّذي ستقدّمه حليمة وزوجها لآمنة بنت وهب، أمّ الطفل الصغير محمّد، إذ يقومان بإعادته إليها فجأة بعد أن كانا قد أقنعاها بأن تترك محمّدا وقتا أطول في رعايتهم. يقول ابن إسحاق مستمرا في سرد حديث حليمة:
"قالت: فاحتملناه، فلم ترع أمه إلا به قد قدمنا به عليها، فقالت: ما رد كما به، قد كنتما عليه حريصين؟! فقلنا: لا والله يا ظئر، ألا إن الله عزّ وجلّ قد أدى عنا وقضينا الذي علينا، وقلنا: نخشى الإتلاف والأحداث، نرده إلى أهله، فقالت: ما ذلك بكما، فاصدقاني شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابني هذا شأن، ألا أخبر كما بخبره؟" هامش 61
الملاحظ في هذه السردية، وهي الأقدم، أنّ حليمة وزوجها حاولا بالفعل تقديم تبرير منطقي لإعادة الطفل، بعد إقناعهما أمّه قبل أشهر قليلة بأنّ تمدّد فترة رعايتهما له، وأنّ آمنة ستقوم كردّ فعل من إنسانة ذكيّة بأن تسألهم في حزمٍ ونبرة فيها غضب عن حقيقة ما جرى. وعندما يخبرانها بحقيقة ما جرى، تجيبهم بأنّ ابنها لا يمكن أن يقع ضحية للشيطان، وهنا تبدأ آمنة –حسب ابن إسحاق—بتقديم قصّة ولادة محمّد الإعجازية، وفيها طبعا عبارة شديدة الخطورة تتحدّث فيه آمنة وكأنّها اختبرت شخصيا أكثرَ من حالة حمل قبل حملها بمحمّد. وهذا ما سنناقشه أدناه، لكن دعونا نرى كيف قام عماد الدين خليل بإخراج المشهد وكيفيّة صياغته له.
نحن توقفنا مع وصف الدكتور عماد الدين خليل لحالة الطفل محمّد بعد مروره بتجربة التطهير المرعبة، وهنا نكمل كيفيّة وصفه:
"فحملته مرضعته وقدمت به إلى أمه فأعلمتها أنه قد بلغ، وأنها قد قضت الذي عليها، فأخذته أمه حيث ظلت ترعاه في حماية وإشراف من جده عبد المطلب. وعندما بلغ السادسة من عمره توفيت أمه بالأبواء، وهي في طريق عودتها إلى مكة..." هامش 62
الإشكال الكبير الّذي سيراه أبسط خبير في الروايات ونقدها هنا هو أنّ رواية ابن إسحاق تبدو منطقيّة أكثر، دعك من الجانب الإعجازي والبطولي الخارق للقصة، لكنّ الموقف المنطقي الصحيح للسردية في ابن إسحاق يُظهِر أنّ آمنة أدركت أنّ هناك سبباً غير مقنع لما قالاه أنّ الله فرّج عن دَينهما المالي، وطالبتهما آمنة بالقصّة الحقيقية، ومن ردّها نعرف أنّها كانت غاضبة لإهمالهم لابنها. أما عماد الدين خليل، فقد تجاوز هذا الإشكال بكلّ بساطة، وكأنّ آمنة أخذت كلامهما على محمّل الجد وقررت أن ترعى ابنها وبحماية من جدّه، وهو الأمر الّذي لا نملك أي دليل عليه حتى من السردية نفسها، إلاّ إذا ألغينا النظرة النقديّة أساسا.
فلنكمل ما قالته آمنة عن حملها بمحمّد وولادته الإعجازية حسب ابن إسحاق:
"قالت: حملت به، فما حملت حملًا قط أخف منه، فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعًا ما يقعه المولود، معتمدا على يديه، رافعًا رأسه إلى السماء، فدعياه عنكما." هامش 63
هذه الولادة الإعجازية ليست محصورة في سيرة محمّد، فإلى جانب الميلاد العذري ليسوع كما ورد في إنجيلي متى ولوقا، نجد أيضا في التوراة سفر الخروج الفصل 2 قصّة إنقاذ الله لموسى الرضيع ونجاته من القتل وتبنّيه من قبل آل فرعون. إذن هذه القصص الإعجازية عن ولادة وطفولة محمد ليست ببدعٍ لو قارناها بعظماء ومؤسسي الأديان الكبرى كالبوذية واليهودية والمسيحية. ويبقى السؤال الّذي لم يناقشه أحد، لماذا وصفت آمنة حملها لمحمد بقولها: "فما حملت حملًا قط أخف منه" في إشارة واضحة إلى أنها اختبرت الحمل أكثر من مرّة قبل محمد.
يقول عماد الدين خليل مكملا الطفولة المأساويّة لمحمّد:
" فأخذته أمه حيث ظلت ترعاه في حماية وإشراف من جده عبد المطلب. وعندما بلغ السادسة من عمره توفيت أمه بالأبواء، وهي في طريق عودتها إلى مكة في أعقاب زيارة لأهلها من بني عديّ بن النجار قصدت بها أن تزيره إياهم، فتولى أمره جده عبد المطلب الذي كان يقعده إلى جواره في مجلسه في ظل الكعبة، ويقول لبنيه إذا ما أرادوا إبعاده عنه «دعوا ابني، فو الله إن له لشأنا» ثم يمسح ظهره بيده ويسرّه ما يراه يصنع." هامش 64
ولم تكن قصّة طفولة محمّد المأساوية لتتوقف عند وفاة أمّه بعد أبيه، بل توفي جدّه، [أبوه المحتمل في الواقع] وعمره 8، يقول عماد الدّين خليل:
"لم تطل رعاية الجد وعطفه الذي عوّض حفيده حدب الأب وحنان الأم، إذ ما لبث أن توفي، ومحمد لم يجاوز الثامنة من عمره فتولى أمره عمه أبو طالب، لأنه وعبد الله والد الرسول ﷺ كانا لأم واحدة." هامش 65
وهنا نأتي إلى قصّة أخرى ذاتِ طابعٍ أسطوري، ألا وهي قصّة بحيرى الراهب. ونجد عماد الدين خليل قد اعتمد على ما نقله ابن هشام متجاهلا الراوي الأقدم محمد بن إسحاق والّذي كانت الطعون الموجهة إليه سببا في قيام ابن هشام بـ"تنقيح" مدوّنته وإعادة كتابتها لأنّه كان يرى أنّ فيها ما لا يليق نسبته إلى نبي الإسلام. وعماد الدين خليل يقوم هنا بإيراد القصّة وكأنها من مسلّمات الروايات ويحيل القرّاء في الهامش إلى الصفحات 271-272 من نفس الكتاب لكي يخبر القرّاء في ذلك القسم بأنّ الرواية مطعون في سندها معتمدا على بحثٍ كتبه محسن عبد الحميد، وهو مفكّر إسلامي، في طريقة توحي بأنّ عماد الدين خشي إخبار القرّاء بموقفه هذا وأجّله إلى آخر الكتاب. ولعلّ الإشكال الأكبر الّذي خشي من وقوعه فيه هو أنّه إلى جانب معرفة محمّد بورقة بن نوفل، وهو شخصية بارزة في قصّة الوحي، فإن لقاءه برهبان وأحبار آخرين في صباه ستخلق إمكانية وضع تفسيرٍ تاريخي يوضّح أن احتكاك محمّد مع رجالات دين مسيحيين ويهود قد أمكنه من جمع عناصر عقائدية ساهمت في خلق القرآن.


الهوامش:
بارت د. ايرمان (2000). المزيد من المعايير التاريخية ". يسوع التاريخي. سلسلة الدروس العظيمة.
عماد الدين خليل (معاصر) دراسة في السيرة 1991 م ص 5.
لاحظ قوله بقدر الإمكان لأنه يعرف تماما أن هدفه من هذه الأبحاث دفاعيّ بحت.
المصدر السابق ص 5.
المصدر السابق ص 6.
جواد علي تاريخ العرب في الإسلام ط الجمل 2009. ص 12-13.
المصدر السابق ص 14-15.
عماد الدين، دراسة ص 10-11.
المصدر السابق ص 12.
المصدر السابق ص 13.
المصدر السابق ص 14.
الاقتباس في المصدر السابق ص 16 من كتاب دينيه محمد ص 43-44.
المصدر السابق ص 16 مقتبسا من محمد في مكة ص 94.
المصدر السابق ص 17.
المصدر السابق ص 19.
المصدر السابق ص 20.
عماد الدين، دراسة ص 10-11.
المصدر السابق ص 24-25.
https://www.islamic-awareness.org
https://www.islamic-awareness.org/history/islam/coins/drachm5
لاحظ ضحالة العقلية التي لا تفهم أنه لا وجود في الكون لما هو فوق أو تحت وأن هكذا مفاهيم أرضية بحتة.
عماد الدين، دراسة ص 25-26.
https://rb.gy/9aqvn
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن ج 8 ص 188. تأليف محمد الأمين الهرري.
عماد الدين، دراسة ص 26.
ص 34.
-كتاب السير والمغازي لمحمد بن إسحاق المطلبي – تحقيق الدكتور سهيل زكار ص 8.
كتاب السير لابن إسحاق ص 23.
أنظر: تاريخ الطبري ج 1 ص 501.
كتاب السير لابن إسحاق ص 23.
كتاب السير لابن إسحاق ص 25.
كتاب السير لابن إسحاق ص 32.
كتاب السير لابن إسحاق ص 28.
كتاب السير لابن إسحاق ص 45.
راجع المقال: https://www.mamamia.com.au/longest-human-pregnancy/
موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: أحمد بن سليمان أيوب، ونخبة من الباحثين (2015) ج 8 ص 7.
نفس المصدر.
نفس المصدر ج 8 ص 7-8.
نفس المصدر ج 8 ص 12.
نفس المصدر ج 8 ص 8 و9 والاقتباس من الاستيعاب ج 1 ص 109.
كتاب السير لابن إسحاق ص 34.
مثل سورة مريم آية 83.
الإخلاص والنيّة لابن أبي الدنيا ج 1 ص 46.
المعجم الكبير للطبراني ج 19 ص 422.
مواعظ الصحابة: عمر المقبل ج 1 ص 185.
كتاب السير لابن إسحاق ص 42. ونقله البيهقي في دلائل النبوة مخرجا الجزء 1 ص 102 وابن كثير في البداية والنهاية ج 3 ص 348 والروض الآنف للسهيلي ج 2 ص 135.
كتاب السير لابن إسحاق ص 42-43.
أنساب الأشراف للبلاذري ج 10 ص 271-272.
كتاب السير لابن إسحاق ص 43.
المصدر نفسه.
المصدر نفسه ص 45.
الموسوعة الفقهية: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة دولة الكويت ج 18 ص 144-145.
المصدر ذاته ص 145-146.
عماد الدين، دراسة ص 37.
-كتاب السير والمغازي لمحمد بن إسحاق المطلبي – تحقيق الدكتور سهيل زكار ص 49.
أي بريء من أيّ مرض.
-كتاب السير والمغازي لمحمد بن إسحاق ص 49-50.
عماد الدين، دراسة ص 38.
المصدر السابق.
السِير والمغازي لابن إسحاق ص 50.
المصدر السابق.
عماد الدين، دراسة ص 38.
السِير والمغازي لابن إسحاق ص 50-51.
عماد الدين، دراسة ص 39.
المصدر السابق.



#سهيل_أحمد_بهجت (هاشتاغ)       Sohel_Bahjat#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعقيب على مقال فيصل القاسم -هل تنتصر البشرية على شياطين الأر ...
- تاريخٌ اليهودية مارتن غودمان (المدخل) (مترجم)
- (مقال مترجم) التحدّي... على الرغم من الطعن شبه المميت - وعقو ...
- رسول النجوم: رؤية كونيّة حولَ الحضارة للكاتب الأمريكي نيل دغ ...
- ولادة محمّد –نبي الإسلام—بعد أبيه بسنوات
- الحرب العالمية الثالثة –العراق—و تحليل دعبولي
- تأمّلات في الإِسْلام و القرآن القسم الثاني في بحث دونية المر ...
- العراق ... دور المرجعية الشيعية في مائة عام من الفشل
- هل هناك نسويات إسلاميات؟ مغالطات في غرف النسوية على كلبهاوس
- العراق من بعث السّنّة إلى بَعث الشّيعة – هل فقدت المراقد بري ...
- تأمّلات في الإِسْلام و القرآن 3 هل قَتَلَ محمّد آل بيته؟
- تأمّلات في الإِسْلام و القرآن 2 مُحَمّد و -نجاسة المُشْرك-!
- أردوغان و الإسلام و إمبراطور الصّين العاري
- تأمّلات في الإِسْلام و القرآن 1 محمّد و دونيّة المرأة في الإ ...
- الإِسْلاَم: كارِثة طَويلة الأَمَدْ!
- (نجاح و كريم و أبو فراس) و مشروع التنين الصّيني في العراق!
- الجذور و الأصول الرافيدينية الفرعونية للإسلام: موسى و عيسى و ...
- تاريخ الدّولة العثمانية من أرطغرل و حتى وفاة محمد الثاني 148 ...
- عبد الباري عطوان و هاني النقشبندي ... نماذج لمحامي الإرهاب ا ...
- تعقيب على مقال حضرة القس فيلوباتير عزيز (الأهرام الجديد لم ت ...


المزيد.....




- أغاني البيبي تفرح وتسعد طفلك..حدث تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- رأي.. بشار جرار يكتب عن مستقبل -الإخوان- في الكويت والأردن: ...
- 3 أحفاد يهود.. هل تؤثر روابط بايدن العائلية على دعمه لإسرائي ...
- الشرطة الفرنسية تقتل جزائريا أضرم النار في كنيس يهودي
- أبو عبيدة: التحية لأخوتنا في المقاومة الإسلامية في العراق
- دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا
- جدل وسخط بين الأوساط الدينية في مصر ضد انطلاق -مركز تكوين ال ...
- قلوب ولادك فرحانة.. تحديث جديد لـ تردد قنوات الأطفال نايل سا ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف موقعي ‏بياض بليدا و‏البغد ...
- -جزائري الأصل-.. وزير الداخلية الفرنسية يكشف معلومات حول الم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سهيل أحمد بهجت - كتابة السيرة بين المسلمين والمستشرقين مع ملحق عن إخفاء المسلمين قصّة ولادة محمد بعد أبيه بسنوات