أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - كيف كانت التجارة في بلاد الرافدين القديمة ؟















المزيد.....


كيف كانت التجارة في بلاد الرافدين القديمة ؟


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 7849 - 2024 / 1 / 7 - 18:50
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


بداية التجارة الداخلية في بلاد الرافدين القديمة كانت في فترة العُبيد (حوالي عام 5000-4100 قبل الميلاد) ، ومن ثمّ تطورت إلى التجارة الخارجية في فترة أوروك (عام 4100-2900 قبل الميلاد) . كما ازدهرت في وقت مبكر من عصر الأسرات (عام 2900-2334 قبل الميلاد) ، واستمرّ نموّها حتى عام 651 ميلادي ، حيث بداية العصر الحديث للشرق الأدنى .

كان مفهوم " الحاجة " قد أدى إلى ممارسة التجارة في بلاد الرافدين ، وبالسبب نفسه عُرفت في جميع مناطق العالم . وكان للبلاد فائضاً من الحبوب و الفخّار والقصب (من بين موارد أخرى) التي يمكن تقديمها مقابل السلع والبضائع التي تفتقر اليها مثل ؛ المعادن الثمينة والأحجار والأخشاب وغيرها من مناطق أخرى .

شملت السلع المُصدَّرة من بلاد الرافدين إلى دول العالم البعيدة ؛ ما يلي :
الخزف ، الفخّار ، الزجاج ، الحبوب ، المنتجات الجلدية ، السمك ، فسائل النخيل والزيوت النباتية ، السلال والحصران المصنّعة من القصب ، الأقمشة ، والمنسوجات .
أمّا البضائع المستوردة من خارج بلاد الرافدين قد شملت مايلي :
النحاس ، العاج ، اللؤلؤ ، الأحجار شبه الكريمة ، الخرز، العقيق ، التوابل ؛ والتي كانت تُستورد من وادي السند . أمّا الذهب والفضة والمعادن النفيسة الأخرى كانت من بلاد النيل وآسيا الصغرى . والأخشاب من بلاد الشام و عيلام ، و بلاد فارس لاحقاً . وكان اللازورد يُستورد من أفغانستان القديمة .

لقد أدى تطور التجارة الخارجية خلال فترتي العُبيد وأوروك إلى اختراع الكتابة بشكلها المسماري عام 3500 قبل الميلاد ، حتى يتمكن التجّار من التواصل مع عملائهم في المناطق الأجنبية أو مدن بلاد الرافدين البعيدة .
وجرى تنقيح الكتابة المسمارية في أوروك عام 3200 قبل الميلاد ، وجُعل منها وسيلة إتصال أكثر وضوحاً ودقّة في مضمون المكاتيب والرسائل المُبعثة ، وبالتالي تطوير صيغتها الأدبية .
كما شجعت التجارة على استخدام العجلات في مركبات النقل ، وتحسين الطرق ، وزيادة أعداد الحيوانات الأليفة في جرّ العربات ذات الحمولة الكبيرة . وتُعدّ الثورة الزراعية حوالي عام 10000 قبل الميلاد في زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات ، هي أساس الحضارة ؛ بيد أن التجارتين الداخلية والخارجية قد شجّعتا على تطويرها .
كانت الأركان الخمسة التي حددت مفهوم الحضارة والتي تطورت بفضل التجارة :
فائض المحاصيل الزراعية ، تقسيم العمل ، التمّدن ، الحكومة ، ونظام الكتابة .

التجارة المُبكرة
كما هو معروف أن التجارة الداخلية قد بدأت بين مجتمعات بلاد الرافدين في فترة العُبيد ، وكان التجّار يمارسونها في حمل بضاعتهم سيراً على الأقدام ، أو استخدام ظهور الحيوانات في بعض الأحيان . والسلع التجارية التي كان الإقبال عليها كبيراً هي المنتجات الفخارية ، بما في ذلك الأوعية والأباريق والتماثيل . وكانت الاختام الاسطوانية تجارتها رائجة في ذلك الوقت ، والتي كانت تعرّف بكل من التاجر والفنّان الذي صنعها .

على الرغم من أن فترة العُبيد غالباً ما كانت ترتبط بالتجارة الداخلية ، إلاّ أن بعض العلماء يرون أن التجارة الخارجية كان معمول بها أيضاً في ذلك الوقت مع مناطق بعيدة مثل الصين . ومن الواضح تماماً ؛أن مجتمعات العُبيد في شمال بلاد الرافدين كانت تتاجر مع المناطق الجنوبية مثل البحرين (دلمون) في الخليج العربي ؛ وهي مركز حيوي للتجارة الذي ربط الشرق الأدنى بمناطق أبعد شرقاً ، بما في ذلك وادي السند . كما كانت مدينة اريدو شريكاً رئيسياً في التبادل التجاري قبل عام 5000 قبل الميلاد ، وكانت هناك مدن أوروك ، وأور ، ونيبور؛ قد ساهمت جميعها في توسيع الشبكات التجارية خلال فترة أوروك .

التجارة في فترة أوروك
شهدت فترة أوروك ربط التجارة مع بلاد النيل خلال "الفترة الجرزية" ؛المعروفة أيضاً باسم "فترة نقادة الثانية" (عام 3500-3200 قبل الميلاد ) .
وقد كان الخزف معروفاً في مدن بلاد سومر( إريدو ، نيبور ، أور ، أوروك) . حيث عُثر على بعض اللقى الأثرية أثناء عمليات التنقيب في مصر ؛ وكان يعود تاريخها إلى حوالي عام 3500 قبل الميلاد ، وهي عبارة عن مجموعة من الخزفيات والأختام الأسطوانية وقلائد من اللازورد. ويعتبر وجودها خلال تلك الفترة دليلاً على الثروة التي حققتها المدن السومرية من خلال التبادل التجاري ، وخاصة مدينة أوروك التي أنشأت عدة محطّات تخزين خارج حدودها الجغرافية عند التقاطعات المهمة في طرق التجارة .

كانت التجارة البرية في جميع أنحاء بلاد الرافدين مستمرة خلال تلك الفترة على طول الطرق الممتدة ، وأسفل نهري دجلة والفرات حتى الخليج العربي . فقد كانت جزيرة البحرين التي أطلق عليها السومريون "دلمون" ـ أرض الآلهة ـ ؛ بمثابة مستودع تجاري مركزي ضخم للبضائع القادمة من مناطق وادي السند (عام 7000-600 قبل الميلاد) . ولم يكن هناك نظام مالي يتعامل بمفهوم "العملة" في ذلك الوقت ؛ إلاّ أنه كان يتم استبدال البضائع بأخرى ذات القيمة المتساوية .
كتب الباحثان " م . واين ألكسندر" و"ويليام ڤيوليت " التعليق التالي حول أقيام السلع التجارية :
" النقود على شكل عملات معدنية موحّدة لم تكن قد سُكّت بعد من قبل الحكومات في ذلك التاريخ . إلا أن الفضة والحبوب قد أُستخدمتا باستمرار كوسائل للتبادل السلعي من الألفية الرابعة إلى الألفية الثانية قبل الميلاد ." (ص 14)
وكانت ممارسة تبادل البضائع ذات القيمة المتكافئة أكثر شيوعاً في بلاد الرافدين ، حسب ما يراه الباحثان إسكندر وڤيوليت عن صناعة المنسوجات في مدينة أور خلال تلك الفترة ، وكما في التعليق التالي :
" تشير المدوّنات التاريخية إلى أن حوالي ستة آلاف امرأة قد عَمِلن في منطقة گيرسو المجاورة ، و ثلاث عشرة ألف عاملة في أور وحولها عَمِلن في المنسوجات الصوفية ... وقد تمّ تصدير المنتوج في ورش المعبد إلى الأراضي البعيدة ؛ يقابلها المعادن والأحجار الكريمة ، والتوابل ، والموارد الطبيعية الأخرى ." (ص 14)
من بين المناطق التي انتقلت إليها منسوجات مدينة أور كانت بلاد الشام ، حيث تم تداول المنتجات السومرية مع مدن لبنان القديمة بحلول عام 3000 قبل الميلاد ، وخلال ذلك التاريخ أيضاً ، كانت مدينة "جبيل" في بلاد الشام ؛ تتبادل تلك المنتجات مع بلاد النيل التي كان يقابلها صنفاً من الخشب ذي التكلفة العالية.
كما تم استيراد الخشب أيضاً من منطقة عيلام في ذلك التاريخ مقابل المنتجات الخزفية . وكانت عيلام قد بدأت تجارتها مع بلاد الرافدين حوالي (عام 3200 ـ 2700 قبل الميلاد) ، والتي بدورها قد أثرّت على شكل الفّن والعمارة والثقافة العيلامية طوال الفترة العيلامية القديمة (عام 2700 ـ 1600 قبل الميلاد) .

حسب رأي بعض العلماء ؛ أثرت التجارة في بلاد الرافدين (خاصة السومرية) على النقوش الفنّية والتصاميم المعمارية في بلاد النيل . وقد أشارت البروفيسورة "مارگريت پونسون" على سبيل المثال لا الحصر ؛ إلى أن لوحة "نارمر أو نعرمر" الشهيرة (حوالي عام 3150 قبل الميلاد) ؛ "بتصويرها للوحوش والثعابين المتشابكة الطويلة العنق ، تتميز بتصميمها المنفرد الذي يعود إلى بلاد الرافدين حصراً " (ص 267 ) .

عُثرعلى قطع من الزجاج الأزرق في مدينة اريدو عام 1919 ميلادي ، ويرجع تاريخها إلى عام 2000 قبل الميلاد، ويُعتقد في أنها كانت من إنتاج مصنع زجاجي قديم قريب من مكان وجودها ؛ وهي تتطابق مع قطع الزجاج الأزرق المماثلة التي عُثر عليها في بلاد النيل . ويشار إلى أن المصريين قد أدخلوا صناعة الزجاج إلى بلادهم من خلال التجارة مع بلاد الرافدين . كما تدل التماثيل والتصاميم المعمارية المصرية من تلك الفترة أيضاً إلى تأثير بلاد الرافدين ، والذي استمر خلال فترة الأسرات المبكرة .

عصور الأسرات والأكدية المبكرة
خلال فترة أوروك ، ازدهرت التجارة وتطورت الزقّورات (المواقع الأثرية المميزة لبلاد الرافدين) . ولم يكن بناء الزقّورات في المدن لأغراض دينية فحسب ؛ بل كانت أيضاً بمثابة معلم حضاري بارز يميّز المدن عن بعضها .
واصلت أوروك هيمنتها على التجارة في بلاد الرافدين خلال تلك الحقبة ، ولكن بعد ذلك ، كما يرى البروفيسور" پول كريڤاشيك" ، أنه قد حدث شيء ما بحاجة إلى تفسير، كما في التعليق التالي :
" يخبرنا علم الآثار عن تغييرات مهمة قد حصلت فجأة حوالي عام 3000 قبل الميلاد. أو هكذا يبدو ، حيث زال الارتباط بين العديد من مراكز المدن الموزّعة في جميع أنحاء بلاد الرافدين الكبرى . فقد قُطعت طرق التجارة ، مثل تلك التي تؤدي إلى مناجم اللازورد الأفغانية. ثمّ اختفت محطات أوروك التجارية من مناطق إيران وسوريا والأناضول ." (ص 72)
يعتقد كريڤاشيك بأسباب محتملة لذلك ؛ بما فيها تغيّر المناخ ، لكنه يؤكد أن السبب الرئيسي هو محاولة هيمنة أوروك على دول المدن والتي قوبلت بمقاومة منها . وبحلول فترة عصر الأسرات المبكرة ، تم حلحلة الأوضاع هناك (كيف ؟ غير واضح) .

كانت مدن بلاد الرافدين التي كانت لها مشاركة في التجارة الخارجية على سبيل المثال لا الحصر مايلي :
أداب مع بلاد النيل حتى عام 2000 قبل الميلاد . أكشاك مع أفغانستان وربما بلاد النيل أيضاً .إيبلا مع بلاد النيل . إريدو مع بلاد النيل . قادش مع بلاد النيل . كيش مع عيلام وغيرها . لارسا مع وادي السند حتى عام 2358 قبل الميلاد عندما تم تدميرها . ماري مع بلاد النيل للذهب وبلاد الشام . نيپور (غير واضح) . شروباك مع بلاد النيل (الذهب) . سيپار (غير واضح) . تل برك مع بلاد النيل . أوما؛ ربما مع بلاد النيل تحت حكم ملكها لوگال ـ زاگ ـ سي . أور مع بلاد النيل . أوروك مع بلاد النيل وغيرها .

بحلول أوائل فترة الأسرات الثالثة (عام 2600-2334 قبل الميلاد) ، كانتا كيش وأوروك قوتين مهيمنتين سياسياً وتجارياً . حيث كلاهما كانتا دولة - مدينة ذات استقلال سياسي . وبطبيعة الحال ، فإن المنافسة بينهما كانت شديدة في التجارة والموارد مثل؛ حقوق الأرض والمياه . وقد تغيّر كل ذلك مع صعود سرگون الكبير إلى سّدة الحكم (عام 2334-2279 قبل الميلاد) ، الذي غزا المنطقة بأكملها وأسس امبراطوريته الأكدية .

خلال الفترة الأكدية (عام 2334 -2218 قبل الميلاد) ، كانت جميع دول المدن تحت سيطرة مدينة أكد ، ونُظمّت التجارة فيها من قبل المسؤولين الأكديين الذين تم ترقيتهم إلى مناصب السلطة في مختلف المدن . وقد ازدهرت التجارتان الداخلية والخارجية في ظل المنظومة الإدارية الأكدية التي قضت على التنافس وتباين الأسعار بين دول المدن ، وفرض ممارسات تجارية موّحدة ، مع تحسين طرق التجارة . وقد وصف البروفيسور كريڤاشيك لحظة وصول البضائع إلى الميناء الأكدي حسب ما ذُكر في لوح طيني بالمقطع أدناه :
"ترسو القوارب الكبيرة التي أبحرت من مناطق بعيدة مثل دلمون ( البحرين) ، ماجان (عُمان) ، وحتى ملوهّة ( نهر السند) في أرصفة أكد وتفرغ حمولتها ؛ و يحتشد البحارّة الأجانب الذين يتحدثون بلغات غريبة في الشوارع بالقرب من الموانئ . كما تصل الحاويات المحمّلة بالحبوب من المزارع البعيدة التي تسقيها مياه الأمطار إلى ما هو أبعد من مناطق السهول يومياً إلى الميناء وتفريغها؛ حيث يجري تفكيكها على الفور ، للاستفادة من أخشابها في مشاريع البناء المحلية الواسعة." (ص 125)

في ذلك التاريخ كانت المنطقة تشهد هذا الازدهار الاقتصادي من خلال النشاط التجاري ، ومع ذلك ، فقد كانت تتأثر باستمرار نتيجة أحداث التمرّد والعصيان التي تحصل في دول المدن ضد الحكم الأكدي . إلاّ أن الملك سرگون والملوك الذين جاؤوا من بعده ، كانوا يقمعون الثورات باستمرار في جميع أنحاء المنطقة حتى سقوط أكد على يد أعدائها الگوتيين ، وهم جيوش غازية جاؤوا من سفوح جبال زاگروس .
يرى البروفيسور كريڤاشيك أن أكد قد سقطت على الأرجح لأسباب عديدة ، بما في ذلك تغيّر المناخ ، أو بسبب الگوتيين الذين ألقى المدوّنون السومريون اللوم عليهم ، واستيائهم من سيطرتهم على المنطقة .

الگوتيون وفترة أور الثالثة
تُظهر فترة الگوتيين (عام 2218-2047 قبل الميلاد) انخفاضاً ملحوظاً في مستويات التجارة ، وحسب مدوّنو فترة أور الثالثة التي جاءت بعد فترة الگوتيين (عام 2047-1750 قبل الميلاد) ، أن التجارتين البرّية والبحرية قد توقفتا ، وأخذ قطّاعوا الطرق بسلب ونهب المنقولات التجارية الداخلة والخارجة من وإلى المدن . كما ثبتت الأدلة الأثرية على تدهور التجارة والانحدار الاقتصادي خلال هذه الفترة .
الاحتمال الأول أن الگوتيين قد أساءوا إدارة شؤون البلاد . والاحتمال الثاني ؛ كان الجفاف وانتشار المجاعة ، والقضاء على فائض المحاصيل الذي كان العنصر الأساسي للتجارة في بلاد الرافدين .

قاد السومري " أوتو هيگال " ملك أوروك (عام 2055-2047 قبل الميلاد) ثورة ضد حكم الگوتيين ؛ مما أضعف قدراتهم . وبعد وفاته ، تولى الحكم الملك "أورـ نمّو" (عام 2047 إلى 2030 قبل الميلاد) ، مؤسس الأسرة الثالثة لأور؛ الذي قهر الگوتيون وطردهم من الأرض ، وأعاد تأسيس التجارة . كما تدعم الأدلة الأثرية وصف الكتّاب السومريين عن عهد أورـ نمّو ، في أنه كان مزدهراً . ويتضح ذلك من بناء زقورة أور العظيمة الذي بدأ في عهده . وكذلك سّن شريعته " دستور أورـ نمّو" ، بالإضافة إلى التحسينات التي أجراها على البنى التحتية ، وإعادة بناء أو إعمار المدن مثل ؛ لگش والمعابد المختلفة. وعندما استعاد الگوتيون قوتهم مرة أخرى في عام 2030 قبل الميلاد ، قُتل الملك أورـ نمو في المعركة ، ومن ثمّ تولّى العرش ابنه "شولگي"(عام 2029-1982 قبل الميلاد) من بعده .

ازدهرت التجارة مرة أخرى في عهد شولگي . وبعد انتصاره على الگوتيين ؛ قام بإصلاحات جذرية في مختلف النواحي ، وأهمّها توحيد الأوزان والمقاييس ، وتنظيم التوقيت والتقويم . لذا فقد أخذت مملكته تُدار في أكملها بانسجام تام .
على ما يبدو أن دول ـ المدن الرئيسية في بلاد الرافدين في عهد الملك شولگي ؛ قد انهمكت في التجارة الخارجية ، مما ساعد على تحقيق الازدهار والاستقرار الاقتصادي ، وانبعاث ثقافة المنطقة المعروفة باسم "النهضة السومرية" .

كانت الحكومات في فترة أوروك أو فترات الأسرات المبكرة و فترتي الأكدية ، و أور الثالثة ؛ مسؤولة بشكل مباشر عن التنظيم والإشراف على التجارتين الداخلية والخارجية ، وكذلك في بناء وصيانة المستودعات والأرصفة والطرق . فقد عزم الملك شولگي على بناء محطّات لاستراحة المسافرين والتبادل السلعي على جوانب الطرق ، وتزيينها بالمساحات الخضراء. لذا انعكس النجاح التجاري لبلاد الرافدين من خلال شركائهم في طرق التجارة . ومع تلبية الاحتياجات الأساسية ، أصبحت السلع الفاخرة عالية الطلب .
كتبت الدكتورة گويندولين ليك التعليق التالي حول هذه النقطة :
" نظراً لأن البلدان المحيطة ببلاد الرافدين نمت فيها أيضاً طبقة من النُخب الثرية ؛ زاد الطلب على السلع الفاخرة المنتجة في بلاد الرافدين . وكانت السلع النسيجية (الأقمشة الصوفية ، الملابس الجاهزة ، الأردية المطرّزة) ، الملابس الجلدية ، الأثاث الخشبي والمطعّم ، الأسلحة البرونزية ، الحُلي الذهبية والفضّية ، والمشغولات ذات الأحجار الكريمة والمجوهرات. وقد صُدرّت تلك المنتجات إلى جميع أنحاء الشرق الأدنى بما في ذلك بلاد النيل ، وذلك خلال الألفية الثانية ، ثم مرة أخرى خلال الفترة البابلية الجديدة." (ص 174)
بعد وفاة الملك شولگي ، حاول خلفاؤه الحفاظ على تماسك المملكة ، لكنها تفككت بشكل مطرد ؛ حيث أسس الآموريون ( البدو الرّحل) مستوطنات دائمة ، وتحدوا سلطة أور. ثمّ سقطت أور أخيراً بيد العيلاميين عام 1750 قبل الميلاد ؛ لكن الأموريين بحلول ذلك الوقت ، أعلنوا ثباتهم في المنطقة بالقوّة ، وأخذوا يشرفون على أبواب التجارة في بلاد الرافدين وتشجيعها.

الملك حمورابي والتكتلات التجارية
بدأ الملك الآموري "حمورابي" (عام 1792-1750 قبل الميلاد) عهده في بابل بهدوء ، حيث شرع في البناء ، وتدريب الجيش ، ثم أخذ بغزو المنطقة بأسرها وبسرعة مُلفتة. وبعد تثبيت سلطته ، توجّه إلى تحسين البنى التحتية للبلاد كالطرق والمخازن والمستودعات وأنظمة الرّي ومشاريع البناء الأخرى . وتقديراً لجهوده ؛ فقد حصل حمورابي على لقب "باني ـ متيم" بمعنى (باني الأرض) .

كتب الأستاذ الدكتور "ليونيل كاسون" تعليقاً يوضح فيه سرعة إنجاز المهام الموكلة في مملكة حمورابي نقلاً عن لوح طيني بابلي :
" في رسالة إلى حاكم لارسا ، أمره حمورابي باستدعاء أشخاص محددين بالاسماء إليه في أسرع وقت ممكن ، موضحاً فيها؛ (على هؤلاء الأشخاص أن يقضوا سفرتهم في الليل والنهار دون توقف ، وأن يصلوا بابل في غضون يومين) .
المدينتان تفصل بينهما حوالي 120 ميلاً [193 كم]. فإذا كانت تلك المدّة من ستة وثلاثين إلى ثمانية وأربعين ساعة ، فهذا يعني أنهم كانوا يعتمدون على متوسط ​​سرعة قدرها 2.5 إلى 3 ميل في الساعة (أي من 4 إلى 4.8 كيلومتر في الساعة ) . وهذا يكاد يكون متناسباً مع العربات التي تجرّها البغال على الطرق الرومانية المشهورة بعد فترة حمورابي بألفي عام !!." (ص 26)

يضيف الأستاذ كاسون أيضاً؛ أن الطرق المعبّدة كانت شبه معدومة ، باستثناء أعمال الطرق اللاحقة التي قام بها الحثّيون ، إذ كان التجّار والمسافرون والجيوش يسلكون الطرق الترابية دائماً . وبما أن الجسور كانت أعدادها قليلة ومتباعدة ، كان يتعيّن عليهم إما استخدام العبّارات في اجتياز الأنهار والنهيرات (حيث كانوا يفككون العربات الخشبية لجعلها أطواف ، ومن ثم يعيدون تركيبها بعد عبورهم) ، أو استئجار القوارب ، وغيرها من الوسائل المتاحة . وقد كانت عصابات اللصوص من الصعوبات الأخرى التي كان على التجّار وضعها في الحسبان ، حيث كان العديد منهم يوظّف حرّاساً مسلحين وبأعداد كبيرة لحماية قوافلهم التجارية .

بعد فترة وجيزة من وفاة حمورابي ؛ انهارت مملكته كما مملكة شولگي ، ثم استولى عليها الحثّيون عام 1595 قبل الميلاد، وذلك قبل تولي الكيشيين الحكم (عام 1595 ـ 1155 قبل الميلاد) الذين حافظوا على تنظيم التجارة مرة أخرى ، ولكن من غير الواضح إلى أي مدى تمكنوا من ذلك .
بحلول عام 1500 قبل الميلاد ، فرض الآشوريون أنفسهم كقوة كبيرة في المنطقة ، وفي عام 1400 قبل الميلاد ،انفصلوا عن مملكة ميتاني . وقد شجعت القوى الاقتصادية والعسكرية لأكبر الدول المستقلة في الشرق الأدنى وجيرانها على مبدأ المساواة والتعاون المشترك .

ما بين الأعوام 1500-1200 قبل الميلاد ، أشرف وبما يسمّى بـ (تكتل القوى الكبرى) في المنطقة على تجارة العالم وتنظيمها. وشمل ذلك :
الكيشيون في بابل ، الحثّيون في الأناضول ، المصريون في بلاد النيل ، الميتانيون ومن بعدهم الآشوريون ، العيلاميون ، الميسينيون ( حضارة يونانية) .

كتب البروفيسور "مارك ڤان دي ميروپ" حول التنافس التجاري في التعليق التالي :
"خلال الفترة مابين الأعوام 1500-1200 قبل الميلاد ، أصبح الشرق الأدنى مندمجاً تماماً في نظام دولي تجاري شمل المنطقة بأسرها من غرب إيران حتى بحر إيجه ، ومن الأناضول إلى بلاد النوبة. حيث تنافست عدد من الدول الإقليمية الكبيرة مع بعضها البعض لا سيّما في المنطقة السورية الفلسطينية ، وكان عدد من الدول الصغيرة تدين بولائها لجيرانها من الدول القوية ، والتي غالباً ما تستغلّها بالوكالة عنها في منافساتها ." (ص 129)

بحلول تاريخ "رسائل العمارنة" (هي مجموعة من المراسلات التي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد والتي تم تبادلها بين حكام الشرق الأدنى القديم وبلاد النيل ) ، كان تكتل الدول القوية هو كالتالي :

آشور ،الآشيا (في قبرص ) ،أرزاوا (جنوب غرب الأناضول)، بابل ، بلاد النيل ، حتّي (مملكة الحثيين وسط الأناضول) ، ميتاني .

استمرّت التجارة بين هذه القوى وأخرى ، لتصل إلى أقصى الشمال (الدنمارك) ، بالرغم من ظهور حركات التمرّد والعصيان ، والاشتباكات العسكرية بين الحين والآخر حتى نهاية العصر البرونزي (عام 1250 ـ 1150 قبل الميلاد) ، وذلك عندما تغيّر المناخ ، وزادت الكوارث الطبيعية ، وكثُرت الاضطرابات الاجتماعية ، وعدم ثبات الاستقرار السياسي . تلك الظروف البيئية والسياسية قد شجعت شعوب البحر على غزو المناطق المتحضّرة ؛ فعطّلت التجارة وغيّرت النُظم الاجتماعية والسياسية في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط ​والشرق الأدنى .

بحلول عام 525 قبل الميلاد ، اختفت جميع دول القوى العظمى . حتّي ، وميتاني قد انهارت كل منهما بحلول عام 1200 قبل الميلاد ، وسقطت الإمبراطورية الآشورية عام 612 قبل الميلاد ، واستولت الإمبراطورية الأخمينية الفارسية على بابل ، و أرزوا ، و الآشيا ( حوالي عام 550-330 قبل الميلاد). وسقطت بلاد النيل في أيدي الفرس عام 525 قبل الميلاد ، وفي هذا التاريخ أُدخلت العملات المعدنية في التعاملات التجارية المصرية . أمّا في ليديا فقد سُكّت العملات المعدنية لأول مرة في عهد الملك "ألياطيس" (عام 635-585 قبل الميلاد) ، إلاّ أن التجارة في الشرق الأدنى استمرت في استخدام نظام المقايضة .
لقد تمّ تداول العملات المعدنية في عهد الملك الأخميني " كورش "(سايروس الثاني ـ عام 550-530 قبل الميلاد) بعد غزو ليديا . أمّا الملك الأخميني " دارا الأول " (داريوس الأول عام 522-486 قبل الميلاد) ؛ يُعتقد أنه قد طوّر "الدريك" الفارسي ؛ وهو أول عملة ذهبية ذات قيمة موحدّة ، واُستخدم في التجارة لدى جميع أنحاء الإمبراطورية الأخمينية .

استمرّت التعاملات التجارية بعد سقوط الإمبراطورية الأخمينية على يد "الإسكندر الكبير" في عام 330 قبل الميلاد ، واستمر الحفاظ على الانماط التجارية المُتبعة من قبل عند جميع الكيانات السياسية التالية: الإمبراطورية السلوقية ( عام312-63 قبل الميلاد) ، والإمبراطورية البارثية (عام 247 قبل الميلاد ـ 224 ميلادي) ، والإمبراطورية الساسانية (عام 224-651 ميلادي) ، وأن تلك الكيانات قد اعتبرت التجارة جزءاً لا يتجزأ من نشاطها الحكومي . بيد أنه بعد سقوط الإمبراطورية الساسانية في يد العرب المسلمين عام 651 ميلادي ؛ وضع الحكّام الجُدد سياساتهم الخاصة فيما يتعلق بالتجارة ، لكنهم سلكوا النُظم التي كانت متبعة قبل آلاف السنين .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ دليل الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
فليمنگ كاول ، وجانيت ڤاربرج ـ التجارة الخارجية البعيدة جداً ـ بين بلادي النيل والرافدين مع الدنمارك في أواخر العصر البرونزي ـ مقال منشور في مجلة الشرق الأدنى القديم ـ برعاية الجمعية الأمريكية للبحوث الخارجية ـ بتاريخ 15 كانون الأول / ديسمبر 2015 .
مارگريت بونسون ـ موسوعة مصر القديمة ـ گرامرسي للنشر ـ 2023 .
ليونيل كاسون ـ السفر في العالم القديم ـ مطبعة جامعة جونز هوبكنز ـ 1994 .
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون: تاريخهم وثقافتهم وشخصياتهم ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين وولادة الحضارة ـ سانت مارتن گريفين ـ 2012 .
مارك ڤان دي ميروپ ـ تاريخ الشرق الأدنى القديم ـ وايلي بلاكويل للنشر ـ 2015 .
توبي ويلكينسون ـ نهوض وسقوط مصر القديمة ـ راندوم هاوس للنشر ـ 2013 .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معاداة السامية في أوروبا المسيحية
- الزقّورات في بلاد الرافدين
- الحروب وأدواتها في بلاد الرافدين القديمة
- الماء والخلق في فلسفة طاليس
- مملكة إسرائيل في التاريخ القديم
- كيف كانت حياة الأسرة في بلاد الرافدين ؟
- المرأة في مصر القديمة
- مَن هو الرّب يهوه ؟؟
- اليهودية المبكرة من منظور تاريخي
- حقائق ملفوفة بالخيال
- مفهوم الغنوصية الفلسفي عند المسيحية
- من هم الگوتيون ؟؟
- الطبيبات في مصر القديمة
- أوروك مدينة الحضارة الأولى
- دستور حمورابي وشريعة الآلهة
- الفلسطينيون الأوائل بين الكتاب المقدّس وعلم الآثار
- إله الكلمة والثقافة البابلي في عيد أكيتو
- أهريمان الشرّير في العقائد الإيرانية وقصة عيد النوروز
- ثماني نساء خالدات في تاريخ بلاد الرافدين
- أور مدينة الثراء والرفاهية في بلاد الرافدين


المزيد.....




- تركيا تعلن وقف التعاملات التجارية مع إسرائيل.. ووزير إسرائيل ...
- صحيفة أمريكية تتحدث عن انتصار السنوار في الحرب وهدفه النهائي ...
- الإعلان عن بطلان محاكمة أمريكية في دعوى قضائية رفعها ضحايا - ...
- تكريم سائق الفورمولا واحد الأسطوري آيرتون سينا في إيمولا وفي ...
- حانة -الكتابات على الجدران-.. أكثر من مجرد بار في بودابست
- لمواجهة الاحتجاجات.. الحكومة الفرنسية تمنح رؤساء الجامعات ال ...
- شاهد: مظاهرة وسط العاصمة الباكستانية كراتشي للمطالبة بوقف ال ...
- اليابان في مرمى انتقادات بايدن: -كارهة للأجانب- مثل الصين ور ...
- مسؤول أمني إسرائيلي: بايدن -يحتقر- نتنياهو وواشنطن تقف إلى ج ...
- ألمانيا: تراجع عدد المواليد والزيجات لأدنى مستوى منذ عام 201 ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - كيف كانت التجارة في بلاد الرافدين القديمة ؟