أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - دستور حمورابي وشريعة الآلهة















المزيد.....


دستور حمورابي وشريعة الآلهة


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 7601 - 2023 / 5 / 4 - 04:47
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


دستور أو شريعة حمورابي عبارة عن مجموعة نصوص تتألف من (282 ) مادة قانونية ، قام بنقشها على لوح من الحجر( المسلّة)؛ الملك البابلي "حمورابي" (عام 1795 ـ 1750 قبل الميلاد). ورغماً من أن شريعته لم تكن الأولى ، إلا أنها كانت الأكثر وضوحاً وتأثيراً من شرائع الحضارات الأخرى .

كانت أقدم شريعة في بلاد الرافدين القديمة ؛ شريعة أو قوانين "أورـ نمّو" في مدينة أور ، والتي صاغها إما الملك "أورـ نمّو" أو ابنه الملك "شولگي" ، ويرجع تاريخها للفترة مابين عام 2100 وعام 2050 قبل الميلاد . والملك الذي شرّع تلك القوانين ( أورـ نمّو أو شولگي ) ؛ كان يحكم مواطنيه الذين يحملون تقريباً ثقافة واحدة ، وردود أفعالهم عنها كانت متوقعة الى حد ما لدى المشرّع . أمّا في عهد حكم الملك "حمورابي" ؛ كان السكان أكثر تنوعاً ، وشريعته قد عكست مقدار دقّة موادّها ومدى فهم الناس لها عند التطبيق ، مع مراعاة ردود أفعالهم غير المتوقعة .

تناولت شريعة حمورابي قوانين العقود التجارية والأسعار المناسبة للسلع والخدمات ، وكل ما يتعلّق بالأحوال الشخصية ، والقوانين الجنائية . حيث كانت صفة كل جريمة ( جنحة أم جناية ) منقوشة على المسلّة ؛ تتبعها العقوبة الواجب تنفيذها . إذ لا يمكن لأحد أن يدّعي جهله بالقانون ؛ لأن المسلّة التي يزيد ارتفاعها عن المترين قد وضعت في مكان عام كي يتمكن الجمهور من مشاهدتها. وفي الجزء العلوي منها حيث صورة الإله شمش (إله العدل) ، يظهر فيها يهب نصوص شريعته إلى الملك حمورابي ، كما تشير عبارة أسفل الصورة : " هذه قوانين إلهية عادلة ، وليست بشرية ظالمة" .

لقد انهارت إمبراطورية الملك حمورابي بعد وفاته ، ونُهبت بابل مراراً وتكراراً وعلى مرّ السنين . وعند حوالي عام 1150 قبل الميلاد ، غزا ملك عيلام "شتروك ناخونتي" مدينة سيپار( اليوسفية) والتي تقع بالقرب من بابل . ويُعتقد أن الجيش الغازي قد نهب مسلّة حمورابي مع تمثال الإله مردوخ كغنائم حرب ؛ فقد عُثرعليها في عام 1901 ميلادي عند أطلال مدينة سوسة العيلامية ، والمعروضة حالياً في متحف اللوڤر في باريس .

أُولى الدساتير الرافدينية
قبل أن نتناول الشرح عن دستور حمورابي ؛ لابد لنا أن نتعرّف وبإيجاز على أهم الشرائع أوالدساتير الرافدينية القديمة التي سبقته ، كي تكون الفكرة واضحة لدى القارئة أو القاريء .

كان أقدم دستور في بلاد الرافدين هي "شريعة أوروكاجينا" (القرن الرابع والعشرون قبل الميلاد) والتي تحتفظ بها بعض المتاحف وصالات العروض على شكل نصوص لوحية متناثرة . ولربما ينطبق نفس الشيء على شريعة "أورـ نمّو" في أنها غير مكتملة أيضاً ، ولكنها إلى حدّ ما مفهومة وواضحة بجملة قوانينها. وقد تمت كتابة تلك القوانين بالمسمارية على ألواح من الطين وفق نموذج محدد ربما قد أُتّبِعَ لأول مرّة في "شريعة أوروكاجينا" ومن بعدها "شريعة أشنونا" (عام 1930 قبل الميلاد) ، ومن ثمّ انتقل إلى "شريعة ليپيت ـ عشتار"( عام 1870- 1860 قبل الميلاد) ، وانتهى بـ "شريعة حمورابي" .

دستور أورـ نمّو
على الرغم من أن شعب بلاد الرافدين قد ثار وانتفض مراراً ضد الملك سرگون الأكدي والملوك الآخرين من بعده ، إلاّ أنه وبعد سقوط الإمبراطورية الأكدية وما نتج عنها من فوضى حكم الگوتيين ؛ كان الملوك الأكديون يُنظر إليهم كأبطال خالدين في عصرهم الذهبي .

لقد أدرك الملك "أور- نمّو" (عام 2261-2224 قبل الميلاد) والذي هو حفيد الملك سرگون الأكدي ؛ أهمية تعريف نفسه واحداً من هؤلاء العظماء الذين لازال يتذكرهم شعبه في فترة حكمه ، وقدّم نفسه على أنه شخصية الأب لأمته ، وأسسّ كياناً سياسياً لمفهوم الدولة الموروثة ، وحضَّ رعاياه على التفكير في جعل أنفسهم أبناءً له ، وأنهم جميعاً من أسرة واحدة . ولكي يعمل على هذه الفكرة ؛ كان على الشعب أن يعلن موافقته . كتب البروفيسور "پول كريڤاشيك" التعليق التالي حول هذا المفهوم :
" لكي تكون الدولة الميراثية مستقرة مع مرور الوقت ، فمن الأفضل لها أن تُحكم بموافقة الشعب ، أو على الأقل بموافقة أكبر أقلّية إن لم تكن من الأغلبية. حيث يجب أن تكون القناعة والقبول هما القاعدة ، وإلا يجب بذل الكثير من الجهد لقمع الانتفاضات في تحقيق أهداف النظام الأوسع شمولاً ." (ص 149)

عانى الملوك الأكديون على وجه التحديد من انتفاضات عدّة؛ لأنهم لم يتمكنوا من قبول الشعب لهم دائماً . ولمنع حصول انتفاضة أو ثورة شعبية هنا أو هناك؛ ادعى الملك أورـ نمّو ؛ أن جميع قوانينه بُعثت من الآلهة ، وأن أورـ نمّو فقط؛ كان المسؤول والوسيط الذي نقل إلى الناس إرادة آلهتهم ، وفرض تعاليمهم من خلال تلك القوانين، وما عليهم إلاّ اتباعها والالتزام بها .

تتبع جميع القوانين نمط الجملة الشرطية : إذا كان هذا …. فيجب ذلك ، كما في هذه العيّنة المختصرة :

إذا اغتصب رجل اِمرأة جارية لرجل آخر وبالقوة ؛ وجب على ذلك الرجل أن يدفع خمسة شواكل من الفضة إلى مالكها ( الشيكل يعادل 11 غرام) .
إذا مَثُلَ رجل كشاهد وثبت أنه كاذب ؛ عليه أن يدفع خمسة عشر شيكلاً من الفضة.
إذا فقأ رجل عين رجل آخر؛ عليه أن يدفع وزن نصف مينا من الفضة ( المينا تعادل 567 غرام ) .
إذا كسر رجل ضرس رجل آخر ؛ عليه أن يدفع شيكلين من الفضة. (كريڤاشيك ، ص 150 )

كانت الغرامة على المخالفات بمثابة ردع لأصحابها، ولا تتطلب عقوبة أشد ؛لأن الملك أور ـ نمّو قد حصل مُسبقاً على موافقة الشعب الذي فهم القوانين (على الأقل من الناحية النظرية ) لذلك فقد عُدَّ سلوكاً مقبولاً لديه .

في ظل حكم الملك أورـ نّمو وابنه شولگي من بعده ؛ نجح هذا النموذج بشكل جيد ، وسمح في تحوّل ثقافي كبير لدى المجتمع السومري عُرف باسم "عصر النهضة السومرية" في عهديهما . وكما يبدو أن دستور أشنونا قد استعار شريعة أورـ نمّو كنموذج ، ولكنه طُبق فقط في مدينة أشنونا ، ولم يكن له تأثير كبير مثل غيره من الشرائع .

دستور ليپيت ـ عشتار
من غير الواضح فيما إذا كان الملك أورـ نمّو قد كتب وشرّع القوانين أم ابنه الملك شولگي قد نشرها بعد وفاة والده ، ولكن الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي حصل خلال سلالة أور الثالثة استمر حتى عهد الملك "إبي ـ سين" (حوالي عام 1963-1940 قبل الميلاد). وجاءت بعدها "سلالة آيسن" التي أسسها الملك "إشبي ـ إيرا" ( عام 1953/1940 قبل الميلاد). حيث ضعفت المملكة بشكل تدريجي خلال فترة حكمه ؛حتى وصلت إلى درجة كان صعباً عليها أن تصد غزوات الأموريين و العيلاميين الذين تمكنوا أخيراً من إسقاط سلالة أور الثالثة .
كان إشبي ـ إيرا كاتباً في عهد الملك إبي ـ سين ، وكثيراً ما انتقد الملك لضعفه قبل حصول الغزوات. حيث هزم إشبي ـ إيرا كل من الأموريين و العيلاميين وأعاد السيطرة على الحكم . إلاّ أن سلالة آيسن الحاكمة لم تكن ترعى تلك الدولة الأبوية المتجانسة التي أسسها الملك أور ـ نمّو؛ على الرغم من أن ملوكها قد اتبعوا نفس النهج وحافظوا عليه . ولكن خلال فترة حكم الملك الخامس ليپيت ـ عشتار ؛ كان من الضروري جداً كتابة دستور جديد .

على عكس دستور أور ـ نمّو؛ فقد وجب على دستور ليپيت ـ عشتار أن يكون أكثر دقة لتلبية احتياجات مجتمع أصبح أكثر تعقيداً في تركيبته الاجتماعية . فقد استمر في فرض الغرامات المالية كرادع للمخالفات ، ولكن كانت هناك حاجة إلى تشريعات أكثر تفصيلاً لقوانين الأحوال الشخصية والعقود التجارية. إذ لم يعد من الممكن افتراض أن كل فرد يمتثل للقانون طالما يفهمه ويدركه. إلاّ أن دستور ليپيت ـ عشتار كان مجزّءاً أيضاً ، ومن بين موادّه :

ـ إذا تخلف مالك عقار أو شريكته ( زوجته أو عشيقته) عن سداد ضريبة العقار المذكور ، وتحملّها شخص آخر في الدفع ( ليس لديه صلة قرابة لأحد الطرفين ) ولمدة ثلاث سنوات ؛ فلا يجوز للمالك طرده ؛ بل يتوجب نقل ملكية هذا العقار قانوناً إلى شاغله طالما تحمّل سداد ضريبته ، كما لا يحق للمالك السابق الطعن في هذا القرار والمطالبة باسترداد العقار.

ـ إذا لم تنجب زوجة لرجل أولاداً ( لأي سبب كان) ، ولكن بغي من الميدان العام قد عاشرها ذلك الرجل وأنجبت له ؛ وجب عليه أن يزوّد البغي بالحبوب والزيت والملابس . والأبناء الذين أنجبتهم البغي يرثون منه . كما لا يجوز أن تسكن البغي مع زوجة الرجل في نفس المنزل .

ـ إذا قطع رجل شجرة في بستان رجل آخر ؛ عليه أن يدفع نصف مينا من الفضة.

ليس من الواضح ما الذي دفع الملك ليپيت ـ عشتار إلى صياغة دستوره ، لكن الملوك الذين جاؤوا من بعده قد أشادوا به كملك عظيم لطرده الأموريين وسيطرته على النظام . حيث كُتبت الترانيم التي تمدحه ، وشريعته كانت رمزاً للاستقرار خلال فترة حكم آخر ملوك الأسرة "دامق ـ إليشو" الذي أطاح به والد حمورابي "سين ـ موبليت" (عام 1812-1793 قبل الميلاد) ملك بابل الخامس .

دستور حمورابي
لم يستطع الملك سين ـ موبليت التنافس تجارياً مع المدينة الاقتصادية الناجحة "لارسا " ( تبعد حوالي 25 كم جنوب شرق مدينة الوركاء) والمتحالفة مع سلالة آيسن ؛ فعمد إلى مهاجمتها، وهزْمِ ملكها "رِم ـ سين الأول". بعد ذلك اضطّر إلى التنازل عن عرشه لصالح ابنه حمورابي الذي بدأ عهده بهدوء من خلال الاستمرار بنهج والده في وضع الخطط ورسم السياسات الداخلية ، وأيضاً بتشييد المعابد في مدينة بابل وما حولها . وذلك منعاً في إثارة شكوك ملوك المنطقة الآخرين ؛ في أنه كان يقوم بتوسيع وتجهيز جيشه ، والتخطيط لحملات عسكرية التي من شأنها أن تمكنّه من احتلال بلاد الرافدين بأكملها .

ربما كان حمورابي قد صاغ دستوره وشرّع قوانينه عام 1772 قبل الميلاد ؛ من أجل ضمان نوع الاستقرار الذي يحتاجه في المملكة لإطلاق حملاته العسكرية بنجاح . وكما يرى البروفيسور كريڤاشيك ؛ أن الملك يحتاج إلى موافقة شعبه عندما تكون هناك قاعدة جماهيرية مستقرة في حال كان لديه طموح في مدّ نفوذه وتوسع أراضيه. لذا فقد توافق دستور حمورابي مع أهداف الملك من خلال السماح للشعب في أن يتعرّف وبشكل تفصيلي ؛ كيف عليه أن يتصرف ليعيش في سلام بموجب القانون . حيث كانت الدساتير والشرائع السابقة تحدد غرامات وعقوبات بسيطة إلى حد ما على تنوّع المخالفات ، إلاّ أن العقوبات التي فرضها حمورابي كانت أشّد بكثير. وعلى سبيل المثال وليس الحصر لبعض من تلك العقوبات :

ـ إذا فقأ رجل عين رجل آخر ؛ تُفقأ عينه.
ـ إذا كسر رجل عظم رجل آخر؛ يُكسر عظمه.
ـ إذا كسر رجل ضرس رجل آخر؛ يُكسر ضرسه.
ـ إذا بنى بنّاء منزلاً لأحد ولم يتقن عمله بشكل صحيح ، والمنزل الذي بناه إنهار وقتل صاحبه ؛ يُقتل ذلك البنّاء. وإذا قُتل ابن صاحب المنزل؛ يُقتل ابن ذلك البنّاء .

يجسّد دستور الملك حمورابي قانون العدالة الجزائية المشهور باسم (ليكس تاليونيس) والمعرّف بمفهوم "العين بالعين والسن بالسن". إذ يعتقد المشرّع أن تلك القوانين كانت ضرورية جداً ؛ لأن السكان أصبحوا في تلك الفترة أكثر تنوعاً مما كانوا عليه في عهد الملك ليپيت ـ عشتار. والبروفيسور كريڤاشيك له وجهة نظر حول هذا الرأي :

"تعكس قوانين حمورابي صدمة البيئة الاجتماعية غير المسبوقة ؛ لأن العالم البابلي كان متعدد الأعراق والأجناس . غير أنه في العصور السومرية والاكدية السابقة ؛ شعرت جميع المجتمعات بأن أفرادها ينتمون الى نفس العائلة ، وجميعهم خدم على قدم المساواة تحت أعين وإرادة الآلهة. في مثل تلك الظروف ؛ يمكن تسوية النزاعات بسهولة من خلال اللجوء إلى نظام عُرفي مقبول اجتماعياً ؛ حيث يكون الدم أكثر كثافة من الماء ، ويكون التعويض العادل أكثر قبولاً من الثأر. أما في العهد البابلي؛ كان المواطنون في المناطق الحضرية عادة ما يحتكوا بأكتافهم مع البدو الذين يتبعون طريقة مختلفة تماماً في سلوكهم ، والذين يتكلمون لغات الأمورو الغربية ولغات أخرى الغير مفهومة لدى معظم الناطقين بالأكدية ، عند ذاك ستمتد المواجهة حتماً وبسهولة إلى نزاع . حيث أن الثأر والانتقام غالباً ما كان يهدد تماسك الإمبراطورية." (ص 180)

لمنع احتمال تأثير مثل تلك الخلافات في عدم الاستقرار الاجتماعي ؛ يؤكد الملك حمورابي على أن شريعته إلهية مطلقة. بنفس الطريقة التي ادعى بها الملك أورـ نمّو أنه تلقى شريعته من الآلهة. ولكن من أجل أن يكون هذا واضح تماماً ، كانت لديه صورة لإله العدل ( شمش) ، منحوتة في أعلى المسلّة يظهر فيها أنه يسلّم قوانينه إلى حمورابي . وتشير القوانين التي أسفل الصورة في صفوف من الكتابة المسمارية إلى أصلها الإلهي ، بالإضافة إلى عظمة حمورابي باعتباره "باني متيم" (باني الأرض)؛ الذي بنى المعابد المهيبة للآلهة ، وشيّد قنوات الرّي وأقام السدود. وأنه كان يطبق هذه القوانين لصالح جميع الناس .

التحالف ثمّ الغزو
أظهر حمورابي نفسه ملكاً صالحاً وعادلاً لشعبه ، وبعد أن حصل على رضا الشعب من خلال سياساته وقوانينه ؛ فهو كان مستعداً لتوسيع نطاق نفوذه . ولمّا اجتاح العيلاميون جنوب بلاد الرافدين؛ تحالف حمورابي مع ملك لارسا وهزمهم . ثم انقلب على حلفائه بسرعة واستولى على مدينتي أوروك وآيسن اللتين كانتا تحت سيطرة لارسا ، وأخذ يستغل مواردهما للسيطرة على غيرهما من المدن . ثمّ راح يبرم اتفاقيات ويعقد تحالفات عدة ، فمن ناحية كان يبقي على بعضها طالما تخدم أهدافه التوسعية ، وبأخرى كان لا يتردد بتقويض بعضها عندما يجد أنها لم تعد نافعة .

وبمجرّد سيطرته على جنوب بلاد الرافدين اتجه الملك حمورابي شمالاً؛ حيث هاجم مملكة ماري الأموريّة ، وملكها " زمري ليم" (عام 1775 ـ 1761 قبل الميلاد) الذي كان داعماً له منذ بدء حملاته العسكرية . ويُعّد هذا الحدث مثال واضح بقدرة حمورابي العجيبة في الإنقلاب على حلفائه !.
وخلال حملاته ؛ كان حمورابي يستولي على المدن ؛ إما عن طريق غلق قنوات المياه والرّي لحين استسلام المدافعين عنها ، أو في بناء السدود حول القنوات ثم إطلاق المياه فجأة لإغراق المدينة وإحداث فوضى وارباك قبل الهجوم مباشرة ، ومن ثمّ يعيد بنائها وتجديدها . ولكن في حالة مملكة ماري ؛ فهو قد دمّر المدينة تماماً وتركها في حالة خراب ، ثمّ واصل بقية حملاته في جميع أنحاء المنطقة ، وبالتالي عزز سيطرته على بلاد الرافدين بالكامل بحلول عام 1755 قبل الميلاد .

تم صياغة دستور حمورابي ليشمل جهات الأرض كافة ، وتوحيد شعوبها تحت القانون بدلاً من الغزوات والحروب فقط . على عكس الإمبراطورية الأكدية التي وجدت أنه من الضروري تنصيب حكّام محليين يتم اختيارهم لإدارة مدنهم التي تم احتلالها ؛إلاّ أن حمورابي سيطر على إمبراطوريته من خلال فرض القانون . وفي مقدمة شريعته ؛ يوضح حمورابي ان هذه ليست قوانين إلهية للعرض فقط ؛ بل لديه فيها صلاحيات واسعة من الآلهة في إدارة مصالح شعبه من خلالها ، كما جاء في هذا المقطع من مسلّته :

"ولمّا آن عهد آنو الأعلى ملك الأنوناكي وبِلْ ربّ السماء والأرض الذي يقرر مصير العالم . لما آن عهد حكم بني البشر كلهم إلى مردوخ . ولما آنو وبِلْ نطقا باسم بابل الأعلى ، وأذاعا شهرتها في جميع أنحاء العالم ، وأقاما في وسطها مملكة خالدة أبد الدهر قواعدها ثابتة ثبات السماء والأرض . في ذلك الوقت ناداني آنو وبِلْ بالاسم ؛ أنا حمورابي الحاكم الأعلى ، عابد الآلهة ، لكي أنشر العدالة في العالم ، وأقضي على الأشرار و الآثمين ؛ وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء، وأنشر النور في الأرض وأرعى مصالح الخلق . أنا حمورابي ، أنا الذي اختاره بِلْ حاكماً ، والذي جاء بالخير والوفرة ، والذي أتمّ كل شيء لنيبور و دورـ إلو، والذي وهب الحياة لمدينة أوروك ؛ وأمدّ سكانها بالماء الوفير، والذي جمّل مدينة سيبار ، . وخزّن البذور لأوراش العظيم ، وأعان شعبه في وقت المحن ، وآمن الناس على أملاكهم في بابل . حاكم الشعب الخادم الذي تسر أعماله أنونيت … إلخ " (ديورانت ، ص 219)

طالما إن مفهوم القانون كنظام يحمي الضعيف من القوي، وقوّة يتساوى أمامها جميع الناس دون تمييز ؛ لربما قد شجع ذلك المجتمع على الطاعة والاحترام ليس فقط للقوانين ولكن لمن شرّعها أيضاً . وعلى الرغم من أن حمورابي قد استولى على المدن من خلال الحروب والغزوات ، إلاّ أن خلال السنوات الخمس الأخيرة من حكمه ؛ لم تظهر لدى العلماء أدلّة تاريخية في حصول تمرّد أو معارضة. وطالما أقرّ الشعب في أنّ دستور حمورابي كان خدمة لمصالحهم ، لذلك تمّت الموافقة عليه ، مما شجع المزيد من الاستقرار .

لسوء الحظ ، إن الدستور الذي شرّعه حمورابي لم يدم طويلاً بعد وفاته. إذ لم يكن ابنه وخليفته "سامسو إيلونا" والذي كان ولّي عهده بعد عام 1755 قبل الميلاد ؛ على مستوى المسؤولية في أن يصبح حمورابي ثانياً. فقد ثارت دويلات ـ المدن التي كانت قانعة بالحكم البابلي أثناء حياة الملك العظيم . إلاّ أن بعد وفاته ، لربما أبقوا على قوانينه في مجتمعاتهم المحليّة ، ولكنهم رأوا أنه لم يعد هناك حاجة للوحدة القسرية التي فرضها حمورابي عليهم .

هذا الابتعاد عن الوحدة جعل دويلات المدن فريسة سهلة للغزاة . حيث اجتاح الحثيون البلاد عام 1595 قبل الميلاد ، و الكيشيون بعد فترة وجيزة ، ثم العيلاميون عام 1150 قبل الميلاد في عهد ملكهم شتروك ناخونتي .
في ذلك الوقت ، يُعتقد أن مسلّة حمورابي قد نًهبت باعتبارها غنيمة حرب ، حيث عُثر عليها مهشمة في عيلام عام 1901 ميلادي . ومع ذلك ، فإن تأثيرها كان ملحوظاً في تشريع دساتير لاحقة مثل ؛ دساتير الفترة الآشورية الوسطى ، والفترة البابلية الجديدة ، وكذلك شريعة موسى في التوراة . وهي بجميعها تتبع نفس نموذج دستور حمورابي في العمل على توجيه الناس عن كيفية التعامل مع الآخرين ، وكيف ينبغي أن يُعامل الأفراد في مجتمع حضاري .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيڤن بيرتمان ـ الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
جان بوتيرو ـ الحياة اليومية في بلاد الرافدين ـ مطبعة جامعة جونز هوبكنز ـ 2001 .
ويل ديورانت ـ تراثنا الشرقي (قصة حضارة) ـ فاين كوميونيكيشن للنشر ـ 1997 .
پول كريڤاشيك ـ بابل: بلاد الرافدين وولادة الحضارة ـ سانت مارتن گريفين للنشر ـ 2012 .
گويندولين ليك ـ بلاد الرافدين من الألف إلى الياء ـ سكاريكرو للطباعة والنشر ـ 2010 .
جيمس بريتشارد ـ الشرق الأدنى القديم: مختارات من النصوص والصور ـ مطبعة جامعة برينستون ـ 2010 .
مارك ڤان دي ميروپ ـ تاريخ الشرق الأدنى القديم من عام 3000 إلى عام 323 قبل الميلاد ، الطبعة الثانية ـ بلاكويل للنشر ـ 2006 .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسطينيون الأوائل بين الكتاب المقدّس وعلم الآثار
- إله الكلمة والثقافة البابلي في عيد أكيتو
- أهريمان الشرّير في العقائد الإيرانية وقصة عيد النوروز
- ثماني نساء خالدات في تاريخ بلاد الرافدين
- أور مدينة الثراء والرفاهية في بلاد الرافدين
- أريدو مدينة الآلهة
- الملك سنحاريب وخراب بابل
- انتقال الفلسفة إلى الدين
- الملك السومري شولگي أورـ نمّو
- هل الملكة الآشورية سموـ رامات هي نفسها سميراميس ؟؟
- طريق الحرير
- أرض إيبر ـ ناري وتأريخ سوريا القديم
- الرسائل والبريد في العالم القديم
- الزراعة في تأريخ بلاد الرافدين
- حرب الطحين طريق إلى الثورة
- أورشليم المدينة التأريخية المقدّسة
- عاجيّات النمرود
- ورش الفنّ في عصر النهضة
- الإضطراب العمٌالي الأول في التاريخ
- مدينة أكد وسيرة ملوكها


المزيد.....




- تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا ...
- تركيا تعلن دعمها ترشيح مارك روته لمنصب أمين عام حلف الناتو
- محاكمة ضابط الماني سابق بتهمة التجسس لصالح روسيا
- عاصفة مطرية وغبارية تصل إلى سوريا وتسجيل أضرار في دمشق (صور) ...
- مصر.. الحكم على مرتضى منصور
- بلينكن: أمام -حماس- اقتراح سخي جدا من جانب إسرائيل وآمل أن ت ...
- جامعة كاليفورنيا تستدعي الشرطة لمنع الصدام بين معارضين للحرب ...
- كيف يستخدم القراصنة وجهك لارتكاب عمليات احتيال؟
- مظاهرة في مدريد تطالب رئيس الحكومة بالبقاء في منصبه
- الولايات المتحدة الأميركية.. احتجاجات تدعم القضية الفلسطينية ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - دستور حمورابي وشريعة الآلهة