أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - انتقال الفلسفة إلى الدين















المزيد.....

انتقال الفلسفة إلى الدين


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 7464 - 2022 / 12 / 16 - 04:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


أُعتبر وفاة الفيلسوفة "هيپاتيا" في الإسكندرية (عام 370 ـ 415 ميلادي) بمثابة "انتقال الفلسفة إلى الدين" ، وهذا يعني التحوّل من القيم الوثنية في العصور القديمة إلى قيم الديانة المسيحية الجديدة . وقد صاحب وفاتها القضاء على جميع رموز وشخصيات المعتقدات القديمة لإفساح المجال للدين الجديد .
كانت هيپاتيا ابنة (ثيون) آخر أستاذ في جامعة الإسكندرية ؛المرتبط ارتباطاً وثيقاً بمكتبة الإسكندرية الشهيرة . و(ثيون) هو عالم الرياضيات اللامع الذي ترجم مبادىء (إقليدس) و مؤلفات (بطليموس) إلى لغة عصره . كمّا علّم هيپاتيا ابنته الرياضيات والفلسفة لمساعدته في مجال تخصصه. ومع مرور الزمن؛ أخذت هيپاتيا بتأليف الكتب الفلسفية وإلقاء المحاضرات في الأروقة الثقافية ؛ لتصبح أول امرأة لها حضور في ثقافة يهيمن عليها الكتّاب والمفكرون الذكور.
درجة تأثيرهيپاتيا على تلاميذها الذكور لم يكن موضع ترحيب من قبل (سيريل) رئيس أساقفة الإسكندرية (ثمّ القديس سيريل) ؛ والذي شعر أنها كانت عقبة أمام قبولهم للمسيحية. وكان سيريل ينتقد بشكل خاص صداقتها مع الحاكم (أوريستيس) التي يعتبرها خطيرة و مريبة. كما يشير الكتّاب الأوائل بقوة إلى أن سيريل هو من شجّع الغوغاء على مهاجمة وقتل هيپاتيا ، وإزالة التأثير الوثني القوي من المدينة .

الإسكندرية في زمن هيپاتيا
كانت الإسكندرية ومنذ تأسيسها على يد الإسكندر الكبير؛ مركزاً للثقافة وصرحاً حضارياً لاستقطاب الفلاسفة والمفكرين من جميع أنحاء العالم المعروف. أمّا مكتبتها العظيمة التي ضمّت أكثر من 20,000 مخطوطة وكتاب ؛كانت نقطة جذب رئيسية للمثقفين الأثرياء والميسورين . واستمرت تلك المدينة الوثنية مزدهرة حتى عام 400 ميلادي ؛ولكن بعد هذا التاريخ بدت المدينة منقسمة بشكل متزايد عندما كان اليهود يتقاتلون مع المسيحيين الجُدد في الشوارع ، والوثنيون مع المسيحيون يخوضون معاركهم الشرسة ؛ نصرة لعقائدهم .

في عهد الإمبراطور الروماني (ثيودوسيوس الأول عام 379-395 ميلادي) ؛ تمّ حظر الممارسات الوثنية في أنحاء الامبراطورية و تشجيع القيادات المسيحية على استئصال التأثيرات المعادية للمسيحية في أقاليمهم . حيث كان من المقرر تحويل المعابد إلى كنائس أو تدميرها ، وتقاسم المواقع المقدّسة بين الديانات المتحاربة ، وأن لا يتم التسامح مع أولئك الذين لهم نشاط مميز في الدفاع عن العقائد الوثنية.
كانت بداية هذا الصراع الديني عام 391 ميلادي؛عندما فرض الإسكندري المسيحي (ثيوفيلوس) تطبيق سياسات الإمبراطور ثيودوسيوس الأول في المدينة وإغلاق المعابد ؛ مما أدى إلى تصاعد التوترات بين الطوائف الوثنية والمسيحية.

أوريستيس وسيريل
انعكست تلك التوترات في العلاقة بين حاكم الإسكندرية الوثني (أوريستيس) ورئيس الأساقفة المسيحي (سيريل). حاول أوريستيس الحفاظ على السلام في المدينة ، بينما شجع سيريل الغوغاء المسيحيين ضد يهود الإسكندرية في نهب وتدمير معابدهم ، وفي النهاية جاء طردهم من المدينة. وبمجرّد فرار اليهود من مواطنهم ؛ حوّل المسيحيون انتباههم إلى الوثنيين .
حافظ أوريستيس على وثنيته في مواجهة المسيحية ، وأقام علاقة وثيقة مع هيپاتيا التي ربما ألقى سيريل باللوم عليها في رفض أوريستيس الإيمان بالعقيدة الحقيقية ليصبح مسيحياً. وتصاعدت المواجهات بين الرجلين وأنصارهما بشكل متزايد ؛ حيث تجاهل كل منهما الدعوة للمصالحة والسلام ؛ بسبب أن كليهما مُقتنِعَين في صحة عقيدتيهما ، ورافضا فكرة تقبّل أحدهما الآخر. حيث كان الاختلاف بينهما بسبب ؛ أن أوريستيس لم يكن مهتماً بإيذاء أو قتل الآخرين للدفاع عن عقيدته الدينية ؛ بينما سيريل كان يؤمن في أن العنف مُبرّر لتأسيس مملكة الرّب على الأرض ! .

شخصية هيپاتيا
إن تعصّب سيريل الذي عكسه أتباعه قد أدّى في النهاية إلى مأساة موت هيپاتيا. حيث كانت هيپاتيا شخصية معروفة عند الوثنيين والمسيحيين على حد سواء ، لكن إصرارها على حضور العقل وما يطلق عليه اليوم [الإيمان بالعلم] في جميع مناحي الحياة ؛ قد شجّع سيريل على الاعتقاد أنها خطر كبير يهدد المسيحية وكينونتها. عن هذا المفهوم كتب المؤرخ (مگاسيريان) التعليق التالي :
"كانت هيپاتيا شخصية موهوبة بشكل غير طبيعي . وتوضح سيرتها كيف أنها تخطت كل الصعوبات بإرادة قوية ، وهي امرأة قد استثنتها التقاليد السائدة في ذلك الوقت من الملاحقات الفكرية . إذ كان بمقدورها طرح جملة من الأسباب التي تجعلها تترك الفلسفة لأشخاص أقوى وأكثر حرية منها ؛ لكنها امتلكت شغفاً مقنعاً برجاحة عقلها؛ عندما تغلبت على كل عقبة تتعارض مع أهدافها ." (ص4)

في جميع المقاييس ؛ كانت هيپاتيا امرأة ذكية وجميلة وعفيفة ، وحتى منتقديها والمؤيدين لـ (سيريل)؛ اعترفوا بأنها كانت فيلسوفة فاضلة حكيمة ونبيلة. حيث يصفها المؤرخ (ويل ديورانت) في أنها "الشخصية الأكثر إثارة للاهتمام في علم هذا العصر" ، ويذكر أنها "كانت مغرمة جداً بالفلسفة لدرجة أنها وأثناء سيرها في الشوارع كانت تتوقف وتُفسّر لكل من يسألها عن العبارات أو المقاطع الصعبة في كتب أفلاطون أو أرسطو. "(ديورانت ،ص 122) . ومع ذلك ، فهذه ليست وجهة النظر الوحيدة ؛ بل قد يرى الباحث التوراتي الإيرلندي الشمالي (روبرت هنري تشارلز) عكس ذلك ؛ كما في وصفه أدناه :
"وفي تلك الأيام ظهرت في الإسكندرية أنثى فيلسوفة وثنية اسمها هيپاتيا، كانت تكرّس نفسها في جميع الأوقات للسحر والإسطرلاب ، وآلات الموسيقا . وقد أذهلت الكثيرين من خلال حيلها الشيطانية. كما كان يكرّمها حاكم المدينة [أوريستيس] كثيراً ؛ لأنها خدعته بسحرها فامتنع من الذهاب إلى الكنيسة كعادته .. ولم يفعل ذلك فقط ؛ بل جذب إليها الكثير من المؤمنين ، واستقبل بنفسه الكفّار في منزله"(تشارلز ص 74).

أشار المؤرخ مگاسيريان إلى وصف حادثة وفاتها من خلال المقطع التالي :
"ذات يوم من عام 415 ميلادي ؛ وبينما كانت متوجهة إلى منزلها ؛ هوجمت هيپاتيا من قبل مجموعة مسيحيين متطرفين ، فأنزلوها من عربتها عنوة و اقتادوها إلى الكنيسة المجاورة ، ثمّ جرّدوها من ملابسها وضربوها حتى الموت بحجر كبير من القرميد ، وعندما كانت بين الحياة والموت؛ قاموا بفقأ عينيها الاثنتين ."
وأضاف مگاسيريان :
"أشار بعض المؤرخين إلى أن رهبان الكنيسة طلبوا منها تقبيل الصليب لتصبح مسيحية وتنضم إلى الدير إذا رغبت في إنقاذ حياتها. هؤلاء الرهبان الذين كانوا تحت قيادة سيريل اليد اليمنى لـ (بطرس الأول) بابا الإسكندرية ؛ قد جردوا هيپاتيا من ملابسها بشكل مخجل .
هناك؛ وبالقرب من المذبح والصليب ؛ انتزعوا لحمها من عظامها بأصداف المحّار. وكانت الأرضية الرخامية للكنيسة ملطخة بدمها الدافئ، والكثير منه كان منثورا حيث المذبح والصليب من شدّة العنف الذي طال جسدها ؛ بينما كانت أيادي الرهبان تبدو مقززة للغاية بحيث لا يمكن وصفها ." (ص8)

العواقب
وصف المؤرخ (ديورانت) كما العديد من العلماء الآخرين الوضع في الإسكندرية بعد وفاة هيپاتيا :
" كان هناك نزوح جماعي كبير لأساتذة الفلسفة الوثنية من المدينة بعد وفاة هيپاتيا ؛ في مسعى منهم للحصول على ملاذ آمن في أثينا ؛حيث كانت القيود على الديانات الغير المسيحية لا تزال ضعيفة نسبياً ..." (ديورانت ،ص 123).
"ليس الفلاسفة وحدهم من هرب من المدينة ؛بل جميع العلماء والمفكرين أيضاً بعد تدمير معبد (سيرابيس) بالكامل ، وإحراق مكتبة الإسكندرية الكبرى وجامعتها مع مخطوطاتها المحفوظة على الرفوف" (مگاسيريان).

أخيراً؛ تصالح أوريستيس مع سيريل وتحوّل إلى المسيحية ؛ وبذلك توقّف الاقتتال في شوارع الإسكندرية بين مناصري الطرفين . كما لم يُتهم سيريل شخصياً بقتل هيپاتيا، بل كوفىء بلقب [ثيوفيلوس الجديد ]ـ بمعنى محبوب الرّب ـ ؛ لأنه دمر آخر بقايا عبادة الأصنام في المدينة. وفي النهاية أصبح سيريل قدّيساً، والإسكندرية مركزاً مهماً للعقيدة المسيحية.
وفي النهاية لابد من استعارة تلك العبارة من المؤرخ ديورانت "انتقال الفلسفة إلى الدين : من أفلاطون إلى المسيح" ؛ تأكيداً على أن الإسكندرية قد آلت لهذا المنعطف بعد جريمة قتل هيپاتيا .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آر إتش تشارلز ـ الامبراطورية المسيحية الرومانية ـ ايفولوشن بوب للنشر ـ 2007 .
مايكل أب ديكين ـ هيپاتيا الإسكندرانية: عالمة رياضيات وشهيدة ـ بروميثيوس للنشر ـ 2007 .
ويل ديورانت ـ عصر الإيمان : تاريخ حضارة العصور الوسطى ـ فاين للنشر ـ 1997 .
مايكل غرانت ـ قراءات في المؤرخين الكلاسيكيين ـ سكريبنر للنشر ـ 1993.



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملك السومري شولگي أورـ نمّو
- هل الملكة الآشورية سموـ رامات هي نفسها سميراميس ؟؟
- طريق الحرير
- أرض إيبر ـ ناري وتأريخ سوريا القديم
- الرسائل والبريد في العالم القديم
- الزراعة في تأريخ بلاد الرافدين
- حرب الطحين طريق إلى الثورة
- أورشليم المدينة التأريخية المقدّسة
- عاجيّات النمرود
- ورش الفنّ في عصر النهضة
- الإضطراب العمٌالي الأول في التاريخ
- مدينة أكد وسيرة ملوكها
- مَنْ هم الإسماعيليون النِزاريون (الحشّاشون) ؟
- حياة الرهبنة في أديرة القرون الوسطى
- گلگامش والحياة الأبدية
- وداعاً سعدي جبار مكلّف
- قصة أسفار ابن بَطُوطَة
- معركة الملك نارام سين مع الآلهة ( لعنة أكد )
- الأدب في التأريخ القديم
- مفاهيم الحبّ والجنس والزواج في روما القديمة


المزيد.....




- تحليل لـCNN: إيران وإسرائيل اختارتا تجنب حربا شاملة.. في الو ...
- ماذا دار في أول اتصال بين وزيري دفاع أمريكا وإسرائيل بعد الض ...
- المقاتلة الأميركية الرائدة غير فعالة في السياسة الخارجية
- هل يوجد كوكب غير مكتشف في حافة نظامنا الشمسي؟
- ماذا يعني ظهور علامات بيضاء على الأظافر؟
- 5 أطعمة غنية بالكولاجين قد تجعلك تبدو أصغر سنا!
- واشنطن تدعو إسرائيل لمنع هجمات المستوطنين بالضفة
- الولايات المتحدة توافق على سحب قواتها من النيجر
- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - انتقال الفلسفة إلى الدين