أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عضيد جواد الخميسي - حقائق ملفوفة بالخيال















المزيد.....


حقائق ملفوفة بالخيال


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 7677 - 2023 / 7 / 19 - 06:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لم تكن الأصالة في المؤلفات الأدبية القديمة تحمل نفس الوزن والقيمة كما هي اليوم . إذ يُشار للكتّاب والمؤلفين بالبنان في عالمنا المعاصر عندما يعتمدون في نتاجاتهم على أفكار ورؤى جديدة لم يتطرّق اليها أحد من قبل . وقد يسعى المؤلف المبدع بأفكاره لإصدار كتاب أو منشور؛ أملاً في أن يجد له اهتمام بالغ لدى مجموعة واسعة من القرّاء . أمّا في العالم القديم ؛ هذا النموذج نفسه لم يكن مُتبعاً في الأساس . فقد كان متاحاً للمؤلف في أن يستعير هوية شخصية حقيقية مشهورة ويعمل على منحها الدور الرئيسي في حكاية من صنع خياله مستخدماً اسمه وأفكاره ، ويقدمها إلى الجمهور القارئ كعمل أدبي حقيقي من منظور الشخص الأول .

في بلاد الرافدين ؛ كانت مثل تلك الأعمال الأدبية تحظى بشعبية كبيرة ، وكذلك عند الثقافات الأخرى أيضاً في فترات لاحقة . وقد تمّ تعريف تلك المؤلفات بـ " أدب نارو "؛ حيث حلّت القصص والروايات التي عمل عليها الكتّاب في هذا النمط الأدبي محل أحداث تاريخية قد حصلت فعلاً ، وبمرور الوقت فإن تلك الأعمال الأدبية الأسطورية تصبح هي الحقيقة السائدة .
في هذا الصدد كتب البروفيسور "گيرديان جونكر" التعليق التالي :

"إذ يجب التوضيح ؛ في أن الكتّاب القدامى لم يكن هدفهم الخداع بإبداعاتهم الأدبية. حيث شكلّ الأدب المستوحى من نارو وسيطاً ممتازاً يمكن من خلاله الابتعاد عن الأنماط التقليدية ؛ وذلك برسم صورة اجتماعية جديدة عن الماضي ." (ص 95 )

أدب نارو في الكتب المقدّسة
الأعمال الأدبية الناروية لازالت موضع جدل بين العلماء فيما إذا كان قد تمّ قبولها فعلاً من قبل الجمهور على أنها روايات حقيقية في ذلك الزمان ، بيد أن لو تتبعنا الروايات المتعلقة بحياة يسوع المسيح تاريخياً في القصتين الإنجيليتين التي تشكل الكتب الأربعة الأولى من العهد الجديد مثلاً؛ يمكن أن نتوصل الى بعض الحقائق التي رافقت ظروف كتابتها . حيث لا توجد أية مخطوطات معروفة توضح تفاصيل حياة وتعاليم يسوع من قبل أولئك الذين عايشوا الأحداث بأنفسهم ؛ ولكنها كُتبت بعد أن أقرّت البعثات التبشيرية الإنجيلية للقديس بولس الطبيعة الإلهية ليسوع والغرض من رسالته في الفترة ما بين عام 50-90 ميلادي . بيد أن هذا لا يعني عدم وجود حقيقة لتلك الروايات ، ولكنها على الأرجح هي ليست الحقيقة التاريخية الكاملة .
وأيّاً كان الأمر ؛ فقد اُعتبرت تلك القصص تتعلق بحياة رجل مقدّس ترك انطباعاً حميداً لدى الناس . لذا فإن روايات الأناجيل المعروفة تتوافق تماماً مع نمط أدب نارو .

متّى ، مرقس ، لوقا ، ويوحنا ؛ ليست أسماء مؤلفي الأناجيل الأربعة الأصليون ؛ حيث تم اختيار هذه الأسماء عن قصد للتأثير على الجمهور القديم الذي آمن في أنها مرتبطة بيسوع المسيح ؛ إلاّ أن هذه الحقيقة قد لا تجد قبولاً عند الكثير من المؤمنين في العصر الحديث . وفي جميع الأحوال ؛ فإن ذلك لم يكن يشكل عقبة كبيرة عند الجمهور القديم بطريقة إيمانه ، طالما أن تلك الأناجيل مُؤَلّفة من قبل أشخاص قد عايشوا يسوع بالفعل وتلقّوا تعاليمه بشكل مباشر .

بحلول الفترة التي كُتبت فيها قصص الأناجيل ، كان الغرض من ذلك كما ورد في كتاب لوقا ؛ هو تقديم قصة موثوقة عن حياة يسوع وتعاليمه ، ولكن في الحقيقة أن كتاب لوقا قد أشار في بدايته إلى وجود العديد من النسخ المختلفة للقصة ؛ والتي تستند إلى شخصية محورية خضعت للعديد من التفاسير المختلفة . كما أن كتاب لوقا هو الإنجيل الوحيد الذي لا يقدم فيه الراوي نفسه كشاهد عيان على الأحداث الموصوفة. والغرض من ذلك هو تقديم "قصة رصينة" عن حياة يسوع كي يتمكن القارئ تمييزها عن غيرها من القصص في ذلك الزمان . ويوضح مؤلف كتاب لوقا في بداية السطر الأول من الكتاب ؛ في أنها ليست قصة شاهد عيان بل هي منقولة أو متوارثة ، وهو الاستثناء الوحيد من قواعد التأليف ؛ كما جاء في الإصحاح الأول من سفر لوقا ( 1 ـ 4 ) :

( إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا،كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ.)
(لوقا 1: 1-4)

تُعدّ الأناجيل الثلاثة الأخرى وتلك الأناجيل التي ليست من ضمن العهد الجديد ؛على أنها الكتابات المقدّسة الأولى . وبالطبع هذا ليس غريباً عندما يتعلق الأمر بالقصص الإنجيلية ، إذ أن بعض الرسائل قد نُسبت إلى بولس ولكنها من تأليف كتّاب مجهولين اتبعوا نفس أسلوب بولس في التعبير ؛ مثل الطريقة التي كُتبت بها قصيدة "درع هرقل" بأسلوب "هسيود" من القرن الثامن قبل الميلاد واعتُبرت منذ فترة طويلة على أنها من أعماله .

في كتاب العهد القديم حيث سفر نشيد الأنشاد ( المعروف أيضاً باسم نشيد سليمان) هو مثال آخر لنموذج أدب نارو في وصفه . حيث يبدأ في الإصحاح الأول من السطر الأول بعبارة " نَشِيدُ الأَنْشَادِ الَّذِي لِسُلَيْمَانَ "، الذي تمّت كتابته ما بين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد ، بينما عاش الملك سليمان من عام 970 الى عام 931 قبل الميلاد. لذا يُعتقد أن نشيد الأنشاد قد تمّ تأليفه عن طريق شخص مجهول باستخدام اسم سليمان بتاريخ لاحق ؛ وذلك بسبب شهرته الواسعة .
وينطبق هذا النموذج نفسه أيضاً على الكتب المقدسّة الأخرى مثل ؛ أسفار الجامعة والأمثال والمزامير ، والتي تُنسب دائماً إلى سليمان أو إلى والده الملك داود ، ولكن على الأرجح قد تمّت كتابتها أو جمعها مؤلفون في تواريخ لاحقة .

نارو وأفلاطون
يظهر هذا النمط نفسه من أدب نارو أيضاً في مؤلفات أفلاطون ، حيث يضع أستاذه سقراط في مواقف قد يبدو للقارئ أن الرّاوي كان شاهد حقيقي على الأحداث . على الرغم من أن أفلاطون جعل نفسه ضمن هيئة المحلفين في "حوارات الاعتذار"؛ إلاّ أن علماء التاريخ في تحدّي فيما لو أن ما قاله سقراط في ذلك اليوم يتوافق مع نسخة أفلاطون للأحداث في عهد الفيلسوف اليوناني "زينوفون" (عام 430 - 354 قبل الميلاد) ، والذي هو أحد تلاميذ سقراط ؛ حيث كانت له رؤية مختلفة عن المحاكمة .

وعن حوارات أفلاطون حول "فيدو" ، الذي يروي الساعات الأخيرة من حياة سقراط ، إذ يقول المؤلف إنه لم يكن حاضراً ولكنه استعان بزميله التلميذ فيدو؛ وذلك عندما قال أنه شهد هو ورفاقه إعدام الفيلسوف الأثيني سقراط بعد انتهاء الحوار .
يُقال إن فيدو قد نبذ ذلك الحوار باعتباره خيالاً وليس من الحقيقة ، لكن ذلك لم يمنع الجمهور من قراءة وتقييم كتاب "حوار فيدو" أو "الروح" لـ أفلاطون كما كان معروفاً .
ربما أن أصالة التأليف مايميّز شخصية الكاتب في أعماله ، ولكن عند النشر قديماً يكون الاسم المشهور هو الأهم . لقد كان فيدو عبداً وعمل سقراط على تحريره كي يتمكن من دراسة الفلسفة . وبعد موت أستاذه ، بدأ بتأسيس مدرسته الخاصة ، وكان مشهوراً في أثينا مثل أفلاطون .
على الرغم من أن أفلاطون لم يكن بحاجة إلى مساعدة في العثور على جمهور يتابعه ، إلا أن الحوار الذي يظهر فيه فيدو الشهير باعتباره الشخصية الرئيسية في الحدث كان سيحظى بجاذبية أكبر لدى جمهوره . ولم يعد مهماً لدى نفس الجمهور؛ فيما إذا أفلاطون أو فيدو كانا حاضرين بالفعل في زنزانة سقراط خلال ساعاته الأخيرة ؛ أم لم يحضرا ، حيث أصبح الحوار الذي يروي فيه فيدو قصة ذلك اليوم هو الحقيقة التاريخية التي صدّقها الناس .

أغراض أدب نارو
هذا التقليد في كتابة القصص الذي يُفترض قد جرت تفاصيله على أرض الواقع مثل العديد من الممارسات والمفاهيم والاختراعات التي انبثقت من بلاد الرافدين ؛ إلاّ أن في أدب نارو تبدو الأمور قد أخذت منحى آخر حسب رؤية عالم الآشوريات "أوليڤر گورني":

" كان نارو عبارة عن نُصب حجري يُشاهد عليه نقشاً ؛ يسجل الملك الحاكم عليه جميع إنجازاته العمرانية والحربية . والسمات المميزة في هذا النصب هو عرض النقش باسم الكاتب ( الملك) وألقابه الرسمية ، ويحمل صيغة الضمير المتكلم . والخاتمة عادة ما تكون عبارة عن سيل من الشتائم واللعنات لكل من يتجرأ حاضراً أو في المستقبل على تشويه أو تخريب محتوى ذلك النُصب !! .
وما يسمّى بأدب نارو ؛ هو عبارة عن مجموعة صغيرة من الكتابات لأحداث مزيفة التي ربما بدأ انتشارها في أوائل الألفية الثانية قبل الميلاد ، ولكن باسم مشاهير الملوك خلال العصور القديمة ، ومن أمثلة ذلك أسطورة سرگون الأكدي . " (ص 93)

وقع العلماء في حيرة ما إذا كان ينبغي تسمية مثل تلك القصص بحق "أدب نارو" أم "سيرة شخصية مزيفة " ولكن أياً كان المصطلح المستخدم ، فإن تلك النصوص كانت تمثل نفسها عن قصد في أنها روايات من منظور الشخص الأول لحدث ذي أهمية ، والذي من المفترض أن يكتسب الجمهور منها معلومات مهمة ؛ سواء كانت "حقيقية" كأحداث تاريخية ، أو مواعظ أخلاقية ودينية ، أو مجرّد دروس وعِبَر ما كان يُعتقد أنها ذات فائدة للمتلّقي .
مصطلح "أدب نارو" مشتق من " نارو " الذي أوضحه البروفيسور گيرديان جونكر، كما في المقطع أدناه :

" تُستخدم كلمة نارو لتسمية العديد من الأشياء ، وهي في الأصل اسم الأحجار ذات الشكل الهندسي المحدد ، أو الأحجار التذكارية والآثارية. وهناك نوعان من الأشياء المنقوشة على تسمية نارو في مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد : الألواح المصاحبة للهدايا ، والألواح المصممة لكتابة النقوش . أمّا في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد ؛ حيث لعب اسم نارو دوراً رئيسياً في التعاملات الدينية. وعند بداية الألفية الثانية قبل الميلاد، أصبح نارو حافظاً للتاريخ ليس فقط الحقيقي ، بل وحتى الاسطوري ."(ص 90)

بصفته حافظاً للذاكرة أو التاريخ الحقيقي ، كان لأدب نارو أهمية كبيرة عند أولئك الذين سمعوا حكاياته ، وكان هذا ينطبق بشكل خاص على تلك القصص المتعلقة بملوك الإمبراطورية الأكدية العظماء .
الملك سرگون الكبير (عام 2334-2279 قبل الميلاد) وحفيده الملك نارام ـ سين (عام 2261-2224 قبل الميلاد) ؛ هذان الشخصان كانا من أكثر الملوك شهرة في بلاد الرافدين ، حيث برزا بشكل واضح في أدب نارو المتأخر في تلك المنطقة. وقد تم اعتبار أسطورة سرگون الأكدي التي ذكرها البروفيسور گورني سابقاً على أنها السيرة الشخصية للملك سرگون ، وقد تم قبولها على هذا النحو من قبل الجمهور القديم ، ولكن على الأرجح أن تلك السيرة عندما عُرِضت على الجمهور لأول مرّة ؛ كانت عبارة عن قصة أسطورية في محاولة لكسب عقول البسطاء والتعاطف معه .

يقدّم الملك سرگون الأكدي نفسه خلال سيرته ؛ أنه عندما ولِد كان الابن الغير الشرعي لكاهنة . إذ قامت والدته بوضعه في سلة مصنوعة من قصب البردي لتتركها تطفو على مياه نهر الفرات ، ثم ينقذه بستاني كان يسقي زرعه ، وبمساعدة الإلهة إنانا ، أصبح ملكاً على أكد .
في الفترة الذي تقلّد فيها سرگون العرش عام 2334 قبل الميلاد ، كانت سومر منطقة قد توحدت مؤخراً تحت سلطة الملك " لوگال ـ زاگيسي"، وحتى ذلك الوقت لم تكن تلك الوحدة متماسكة. حيث كانت المدن السومرية قبل سيطرة الملك لوگال ـ زاگيسي في حالة حرب دائمة مع بعضها البعض ، وكانت المنافسة على الموارد مثل المياه ، وحقوق الأراضي . وما زاد الوضع تعقيداً ؛ كان الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء على أشدّه . كتبت العالمة "سوزان وايز باور" التعليق التالي عن هذا الأمر:

"إن احتلال الملك سرگون السريع نسبياً لسهل بلاد الرافدين كان أمراً مذهلاً ، نظراً لعجز الملوك السومريين في السيطرة على أي منطقة أكبر بكثير من مدينتين أو ثلاث ، إلاّ أن السومريين كانوا يعانون من فجوة متزايدة بين القادة الأغنياء والعمال الفقراء. حيث استخدم الأغنياء سلطاتهم الدينية والحكومية بالمطالبة لأنفسهم بما يصل إلى ثلاثة أرباع الأرض في أي مدينة يبسطون نفوذهم فيها. وقد كشف احتلال سرگون للمنطقة عن وقوف المجتمع السومري المُضطهد إلى جانبه ومناصرته." (ص 99)

من خلال إعلان نفسه "قائد الشعب" ، كان قادراً على حشد التأييد الشعبي في مساندته والاستيلاء على أراضي سومر بسهولة. وبمجرّد أن أصبح جنوب بلاد الرافدين تحت سيطرته ؛استمر في تأسيس أول إمبراطورية متعددة الأجناس والأعراق في التاريخ . ورغماً من أن فترة حكمه لم تخلو من الاضطرابات والانتفاضات والتي تذكر عباراته المنقوشة إنه أُجبر على التعامل معها ؛ إلاّ أنه كان مقبول لدى فقراء الشعب بعد أن سئموا استغلال الأثرياء الذين يتحكمون بهم كما يحلو لهم .

يُعتقد أن الملك الفارسي "دارا الأول" (عام 522-486 قبل الميلاد) قد اقتبس فكرة الملك سرگون الأكدي في "نقش بيستون" (حوالي عام 520 قبل الميلاد) والذي قام بتوثيق طريقة صعوده إلى السلطة. ويرى عدد من علماء العصر الحديث أن الملك دارا الأول قد اغتصب عرش الإمبراطورية الأخمينية ، ولكن وفقاً لنقشه ؛ حصل ذلك بسبب النعمة الإلهية التي منحها له الإله الأعلى "أهورا مزدا". وعلى الرغم من ذلك فقد كانت فترة حكمه ناجحة ومميزة لدرجة أنها أضفت الشرعية على نفسها .

أمثلة مشهورة من أدب الاساطير
أوضحت نصوص أخرى من أدب الألفية الثانية قبل الميلاد ، مثل تلك المتعلقة بالملك نارام ـ سين ، ودور الآلهة في حياة الناس وكيف ينبغي أن يتصرف المرء في التعامل مع الألوهية. والنّص الأدبي المعروف باسم " الثورة الكبرى"، هو نوع من الروايات التي استعارت أحداثها من الانتفاضات التاريخية ضد الحكم المُبكر للملك نارام ـ سين ، وذلك بعد ليّ الحقائق من أجل إقناع الشعب بالنصر المُبين لملكه نارام ـ سين ، والنوايا البغيضة لمدينة كيش التي أوقدت شرارة الثورة ضده .

في أسطورة كوثا ، وهي أيضاً من الألفية الثانية قبل الميلاد ، حيث تركز على أهمية الإيمان بالآلهة والالتزام في طاعتها .

في هذه القصة ، حيث تعرضت مملكة نارام ـ سين الى غزو جيش المخلوقات الخارقة (الگوتيون ـ دون ذكرهم بالاسم) ، والذين دمرّوا كل شيء في طريقهم ويبدو أنهم لا يُقهرون .
الملك نارام ـ سين أرسل أحد جنوده لطعن أحد تلك المخلوقات برمحه ومعرفة ما إذا كان ينزف دماً . وعندما عاد الجندي وأبلغ عن نزف المخلوق للدم ، عند ذاك تيقنّ نارام ـ سين أنه بالامكان قتله ، وبالتالي يمكن إبادة تلك المخلوقات المتوحشة الغازية . ثم يستشير نارام ـ سين الآلهة ما إذا كان عليه مهاجمة الغزاة . إلاّ أن الآلهة نصحته بالترّيث لحين البت في الأمر وابلاغه . ولكن صبر الملك نارام ـ سين قد نفذ بعد طول انتظاره أمر الآلهة ، وأخذ بمهاجمة جيش المخلوقات الذي عاث بالأرض فساداً ؛ وذلك بزّج الآلاف من محاربيه في المعارك ، ولكن "لم يعد أحد منهم حياً"(السطر 85). وتكررت الهجمات الواحدة تلو الأخرى ، والنتيجة مثل سابقاتها .
وفي إحدى المحاولات التي أُسر فيها اثني عشر مخلوقاً ؛ تعهّد الملك نارام ـ سين بأنه لن يمضي في العقوبة حتى يسمع رأي الآلهة .
وفي ردّها أخبرته (كهّان المعبد) ألا يؤذي الأسرى ، وأن لا يفعل شيئاً لصد الغزاة ؛ لأن الإله العظيم "إنليل" لديه خطط لتدميرهم بنفسه .
لقد كانت تلك إرادة الآلهة ، وما كان على الملك نارام ـ سين إلاّ أن يمتثل لأمرها ويسلّم الأسرى إلى كهنة معبد إنليل . ثم ينتهي النّص بتحذير من يقرأه في المستقبل ، وأن يلتفت إلى تلك الوصية ، ويحترم إرادة الآلهة بدلاً من الاعتماد على مشورة عقله وهوى قلبه وفعل ما يظنّه هو الأفضل .

كما هو الحال في العمل الأدبي للثورة الكبرى، كان للرسالة معنى بالنسبة للطبقة الحاكمة وعامة الناس على حد سواء. وعلى الرغم من أن العمل ينتهي بمخاطبة الحاكم ، إلا أن المتلّقي سوف يستمع له باهتمام بنفس الطريقة التي ينصت بها الشخص المؤمن عند تلاوة نصوص الكتب المقدسة في العصر الحديث . والوصية هي نفسها موجودة في سفر الأمثال (3: 5):
"تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ"
الملك نارام ـ سين ، في بداية القصة كان متغطرساً لدرجة أنه يعتبر نفسه أكثر حكمة وقدرة من آلهته ، ثم يتنازل في النهاية . لذا فقد جاء هذا العمل الأدبي الاسطوري كدرس وعبرة للآخرين .

مُنجز أدبي آخر " لعنة أكد "، ظهر فيه الملك نارام ـ سين ، والذي يبدو كان مشهور جداً عندما أوضح سبب تدمير الآلهة لمدينة أكد .
كانت مدينة أكد عاصمة الإمبراطورية الأكدية (عام 2334-2083 قبل الميلاد) والتي سقطت بعد غزوالگوتيين لها عام 2083 قبل الميلاد. وكانت أساس معظم القصص والأساطير لآلاف السنين .
وفقاً للنص المذكور في الألواح الطينية ؛ فقد رفع الإله السومري العظيم "إنليل" مباركته عن مدينة أكد، وبسبب ذلك ؛ فقد مُنعت الآلهة الأخرى من دخول المدينة ورعايتها .
لا يعرف نارام ـ سين ما يمكن فعله لتحمّل هذا الاستياء الإلهي ؛ لذا فهو أخذ يصلّي ويسأل عن البشائر والتنبؤات ، ومن ثمّ يقع في اكتئاب مدته سبع سنوات وهو ينتظر إجابة شافية من إلهه. أخيراً سئم الانتظار ، وكان غاضباً طوال الوقت لأنه لم يتلق الإجابة ، حتى أنه أعدّ جيشاً سار به إلى معبد إنليل في "إيگور" عند مدينة نيپور كي يدمرّه .
"يضع المجارف على أعمدته ليهدمها ، ومعاوله في الأساسات ليقلعها ، حتى بدا المعبد ساجداً مثل محارب قتيل" (ليك ، اختراع المدينة ، ص 106).
هذا الهجوم العسكري العنيف ؛ بالطبع الذي أثار غضب ليس فقط الإله إنليل ؛ بل الآلهة الأخرى أيضاً الذين بدورهم قد بعثوا جيوش "الگوتيوم Gutium " (وهم حشود جامحة لا يعرفون الخوف ، يمتلكون غرائز بشرية وذكاء الكلاب ومظهر القرود) ، لغزو مدينة أكد وجعلها أطلال . إذ خلّف ذلك الغزو المجاعة الواسعة لشعبها والدمار الرهيب للمدينة ، وحتى جثث الموتى تُركت متعفنة في الشوارع والمنازل ، والمدينة بأجمعها كانت في حالة خراب . وعند نهاية القصة تنتهي مدينة أكد والإمبراطورية الأكدية بسبب غطرسة ملكها تجاه الآلهة .

على الرغم من شيوع هذه القصة ؛إلاّ أنه لم يُعثر على دليل تاريخي يثبت صحة تلك الواقعة في تدمير معبد إنليل ، وخراب إيگور في مدينة نيپور من قبل الملك نارام ـ سين . ويُعتقد أن لعنة أكد كانت حكاية قد كُتبت وأُضيفت لاحقاً للتعبيرعن " قلق عقائدي لتثبيت شروط العلاقة المطلوبة بين الآلهة والملك المُطلق اليد "(ليك ، ص 107) . وقد اختار مؤلف تلك الحكاية مدينة أكد وملكها نارام ـ سين على رأس الحدث بسبب وضعهم الأسطوري في ذلك الوقت . لكن في الواقع ؛ أن الملك نارام ـ سين وحسب السجلاّت التاريخية كان كريماً مع الآلهة ، وتقيّاً مُلتزماً في إخلاصه لها . وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب الأدبي كان صنفاً شائعاً جداً في بلاد الرافدين ، إلاّ أنه في الغالب وعلى ما يبدو أن أحداث الماضي التي أوردتها تلك القصص قد أصبحت مقبولة كتاريخ حقيقي فيما بعد .



وكما أسلفنا ، يمكن تفسير مثل تلك الممارسات حول طمس الحقائق في المؤلفات على أنها غير أخلاقية للقارئ المعاصر ، ولكن بالنسبة للمتلّقي القديم ؛ كانت القصة أو الحكاية تُعّد رسالة مهمة تحمل في معانيها الدروس والعِبَر ، وليس تلك "الحقائق" الواردة فيها .

أشار أفلاطون إلى هذا النمط من التأليف في كتابه "الجمهورية" ( الكتاب الثاني)، عندما تحدّث عن مفهوم الكذبة الحقيقية (المعروفة أيضاً باسم الكذب في الروح)، وذلك عند مناقشة أشكال مختلفة من الأكاذيب ، كما في المقطع أدناه :

" في التعامل مع الخصوم ؛ ربما يكون الكذب في الكلام مفيد وليس بغيض في بعض الحالات . أو عندما ينتاب أولئك الذين نسميهم أصدقاء لحظة غضب وانفجار فجأة ثم يلحقو الأذى فينا ، فإن ذلك ربما يفيدنا نوعاً ما كي نتدّبر العلاج والوقاية . وينطبق الأمر نفسه على حكايات الأساطير التي كنا نتحدث عنها للتوّ ؛ وطالما نحن لا نعرف الحقيقة عن العصور القديمة ، فإننا نجعل الكذبة مثل الحقيقة بقدر ما نستطيع ، وبالتالي نحولها إلى قصة يصدقها الجميع !! " (ص 382)

لقد نقلت الأساطير إلى البشر صورة طريقة إدارة العالم ، ومن أين أتى الناس ، ولماذا هم هنا . وتلك الأساطير كانت دائماً مقبولة لدى أولئك الذين يسمعونها لأنها باعتقادهم تنقل لهم الحقيقة ، سواء كان ذلك كلياً أو جزئياً ، حرفياً أو مجازياً .
وفي العالم القديم أو الحديث ؛ يحتاج البشر دائماً إلى الشعور بالأمان في حياتهم ، والإيمان بأن هناك سبباً ما للنهوض كل يوم ومواجهة العالم . وبغض النظر سواء كان المرء مؤمناً بالفلسفة أو الدين ، أو قانعاً بأفكار أفلاطون أو بالكتب الدينية المقدسّة ، أو معتمداً على خبرته وتجربته الخاصة أو التطور العلمي ، إذ لا يزال يبحث عن هذا التأكيد في أن المجتمع وحياة الفرد لهما هدف ومعنى .

قدم أدب نارو في بلاد الرافدين القديمة هذا التأكيد من خلال منح القرّاء فهماً للعالم عندما تحكمه الآلهة التي لديها اهتمام وثيق بالاختيار والفعل البشري . وفي عمل مثل أسطورة سرگون الأكدي ، قد يكون هذا الدرس هو إتاحة الفرصة للمرء في أن يرتقي من خلفية اجتماعية متدنية وبمساعدة الآلهة ليصبح ملكاً ، بينما في أسطورة كوثا يمكن تلخيص الرسالة في سطرٍ واحد من سفر الجامعة العبري ـ الإصحاح الخامس (5: 2 ): "لاَ تَدَعْ فَمَكَ يَجْعَلُ جَسَدَكَ يُخْطِئُ، وَلاَ تَقُلْ قُدَّامَ الْمَلاَكِ: «إِنَّهُ سَهْوٌ». لِمَاذَا يَغْضَبُ اللهُ عَلَى قَوْلِكَ، وَيُفْسِدُ عَمَلَ يَدَيْكَ؟"

استفاد أدب نارو من الفترات الزمنية التاريخية الماضية من خلال تغليف الحقائق بالخيال لإيصال رسائل ذات هدف إلى جمهورٍ يبحث عن مثل تلك المقاصد . وكان ليس مهمّاً فيما إذا كان محتوى تلك القصص صحيح بالفعل أم لا . وطالما أن الرسالة كان لها صدى واسع عند عقول وعاطفة أولئك الذين سمعوها؛ فإن أدب نارو وبهذه الصفة قد لعب دوراً حيوياً في توجيه المجتمع من خلال نقل القيم الثقافية الشاملة عبر القصص الدرامية المؤثِرة والتي لا يمكن نسيانها عبر الأجيال المتعاقبة. وهذا النمط من الكتابة أتبعه مؤلفون في حضارات أخرى لاحقة لإثارة نزعة ثقافية أو فلسفية أو دينية مهمّة لدى المتلّقي .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
گيرديان جونكر ـ الموتى والتقاليد والذاكرة الجماعية في بلاد الرافدين (دراسات في تاريخ الأديان) ـ أكاديمية بريل للنشر ـ 1995 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين وولادة الحضارة ـ سانت مارتن گريڤن للنشر ـ 2012 .
گويندولين ليك ـ اختراع المدينة ـ بنگوين للكتاب ـ 2003 .
بريندان ناگل ـ العالم القديم: تاريخ اجتماعي وثقافي ( الجزء السابع ) ـ پيرسون للنشر ـ 2009 .
إديث هاملتون ـ سلسلة الحوارات الجامعة لأفلاطون ـ مطبعة جامعة برينستون ـ 2005 .
مجموعة من المؤلفين ـ نسخة الملك جيمس ، دراسة سكوفيلد للكتاب المقدّس الثالث ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
سوزان وايز باور ـ تاريخ العالم القديم ـ دبليو دبليو نورتون للنشر ـ 2007 .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم الغنوصية الفلسفي عند المسيحية
- من هم الگوتيون ؟؟
- الطبيبات في مصر القديمة
- أوروك مدينة الحضارة الأولى
- دستور حمورابي وشريعة الآلهة
- الفلسطينيون الأوائل بين الكتاب المقدّس وعلم الآثار
- إله الكلمة والثقافة البابلي في عيد أكيتو
- أهريمان الشرّير في العقائد الإيرانية وقصة عيد النوروز
- ثماني نساء خالدات في تاريخ بلاد الرافدين
- أور مدينة الثراء والرفاهية في بلاد الرافدين
- أريدو مدينة الآلهة
- الملك سنحاريب وخراب بابل
- انتقال الفلسفة إلى الدين
- الملك السومري شولگي أورـ نمّو
- هل الملكة الآشورية سموـ رامات هي نفسها سميراميس ؟؟
- طريق الحرير
- أرض إيبر ـ ناري وتأريخ سوريا القديم
- الرسائل والبريد في العالم القديم
- الزراعة في تأريخ بلاد الرافدين
- حرب الطحين طريق إلى الثورة


المزيد.....




- الحرس الثوري الإيراني: ردنا سيكون أوسع نطاقا في حال كررت إسر ...
- زاخاروفا تشبه نظام كييف بتنظيم -القاعدة- بعد تصريحات وزير خا ...
- إعلامية مصرية شهيرة تعلن حصولها على حكم قضائي ضد الإعلامي ني ...
- السفير الروسي في سيئول: روسيا وكوريا الجنوبية يمكنهما تحسين ...
- بلينكن يحذر نتنياهو من خسارة فرصة التطبيع مع السعودية
- مصر.. الهيئة الوطنية للإعلام تكشف تفاصيل سقوط أحد موظفيها من ...
- حرب غزة تنسف شعارات الغرب
- زاخاروفا: استنتاجات خبراء العقوبات ضد بيونغ يانغ مبنية على م ...
- صدى احتجاجات الطلاب يتردد في فلسطين
- القوات الإسرائيلية تفجر مباني جامعة الأزهر في منطقة المغراقة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عضيد جواد الخميسي - حقائق ملفوفة بالخيال