آدم الحسن
الحوار المتمدن-العدد: 7838 - 2023 / 12 / 27 - 19:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عند بدء الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980 التي استمرت حوالي ثمانية سنوات أخذت قيمة الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي و باقي العملات الصعبة تتراجع بشكل مستمر , ثم جاءت حرب الخليج الثانية سنة 1991 بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية و معها تحالف دولي من 32 دولة لإجبار القوات العراقية على الانسحاب من الكويت , تبعها حصار قاسي و ظالم على الشعب العراقي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية مدعوما بقرارات صادرة من مجلس الأمن الدولي استمر لحوالي 12 سنة , إذ لم تستخدم أي دولة من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن حق النقض الفيتو ضد تلك القرارات , ففي تلك الفترة كان العالم قد دخل مرحلة القطب الأمريكي الأوحد و ذلك بعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي السابق و تفككه .
لا يمكن لاقتصاد أي دولة في العالم الصمود أمام الكوارث التي خلفتها تلك الحروب المتتالية التي أنهكت العراق , فقد رافق ذلك , كنتيجة حتمية , تراجع كبير في قيمة العملة العراقية ( الدينار ) أمام جميع العملات الصعبة , حيث وصل ذلك التراجع الى مستوى الانهيار حيث خسر الدينار العراقي حوالي 99.99% من قيمته , إذ كان الدينار العراقي الواحد قبل الحرب العراقية الإيرانية يعادل أكثر من ثلاثة دولارات أمريكية ليصبح الدولار الأمريكي الواحد حوالي الفين دينار عراقي ...!
في تلك الفترة حدثت علاقة طردية واضحة بين تفشي ظاهرة الفساد المالي و تراجع قيمة الدينار العراقي , فكلما زاد تراجع قيمة الدينار العراقي كلما زاد معه الفساد لينخر في جسد الدولة العراقية المتهالك .
بسبب انخفاض قيمة الدينار العراقي تراجعت القوة الشرائية لرواتب موظفي الدولة , و لقد حاول النظام العراقي السابق معالجة تدهور القوة الشرائية لرواتب الموظفين بمنح زيادات على رواتبهم , لكن ذلك زاد من تراجع قيمة الدينار العراقي بسبب حدوث تضخم متسارع في اسعار السلع و الخدمات في السوق العراقية , لقد تم ضخ كتلة نقدية من الدينار العراقي اغرقت السوق العراقية بعملة ورقية ليس لها أي غطاء أو سند يحميها .
مع انهيار قيمة الدينار العراقي ازداد الفساد المالي بشكل ملحوظ و سريع و خصوصا الفساد المرتبط بالرشوة التي يفرضها موظفي الدولة العراقية على من يراجع دوائرهم لإنجاز معاملة ما , حيث اصبح الكثير من الموظفين مجبرين على تَقَبُل أو فرض رشوة على المراجعين و ذلك لتغطية جزء من النفقات الضرورية لمعيشتهم , بعكس ما كان حال مؤسسات الدولة العراقية قبل الحرب العراقية الإيرانية التي كانت نظيفة و تكاد تخلو من هذه الظاهرة .
لقد تفشت ظاهرة الرشوة في دوائر الدولة العراقية في الفترة الصدامية لحكم العراق بعد أن تمكن صدام حسين من إزاحة الرئيس الراحل أحمد حسن البكر و بدء حروبه العبثية التي بدأها بحرب الخليج الأولى مع إيران ثم بحرب الخليج الثانية بغزوه للكويت التي تسببت في أكبر خسارة عسكرية و اقتصادية للعراق و ما تبعها من حصار اقتصادي دولي قاسي و مؤلم و ظالم على الشعب العراق فصارت الرشوة ظاهرة مقبولة اجتماعيا و جزء من الثقافة السائدة حين اصبح الكثير من موظفي الدولة العراقية لا يخجل من معرفة ابنه أو زوجته أو حتى اصدقائه أنه يتقبل أو يفرض الرشوة بل بالعكس اًصبحت الرشوة لدى عدد ليس بالقليل من العراقيين عبارة عن شطارة لتوفير لقمة العيش رغم إنها كانت وسيلة لابتزاز عموم العراقيين و بالأخص القطاع الخاص العراقي .
مر الشعب العراقي بفترات كارثية مؤلمة , فمن حرب الى حرب , و من حصار الى حرب , ثم سقط النظام الصدامي في نيسان 2003 على يد المحتل الأمريكي و الدول التي تحالفت معه و بذلك حدث السقوط الكارثي للدولة العراقية و دخل العراق في مرحلة خراب و دمار جديدة .
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق و سقوط النظام الصدامي ورث النظام الجديد الذي تشكل بعد 2003 مؤسسات حكومية فيها الكثير من الموظفين الذين اعتادوا على تعاطي الرشوة إلا أن الزيادة الحقيقية و الكبيرة جدا التي حققها النظام الجديد على رواتب موظفي الدولة العراقية من مدنيين و عسكريين ساهمت بشكل فعال في تراجع هذه الظاهرة , لكن في تفس الوقت ظهرت أنواع جديدة من الفساد المالي أكثر خطورة على النمو الاقتصادي و التنمية .
إن عدد المتعاطين للرشوة من موظفي الدولة العراقية خلال النظام السابق كان كبير لذا كانت الرشوة تمثل طريقة لإعادة تقاسم الدخل القومي العراقي بين أبناء الشعب فقد كانت في نظر الكثير من العراقيين ظاهرة اجتماعية لها مبررها و جزء من الثقافة السائدة في تلك الفترة , أما بعد التغيير في 2003 فإن عدد المتعاطين للفساد المالي في العراق صار قليل نسبيا إلا أن حجم الأموال التي يجنيها الفاسدون أصبحت كبيرة حيث بدأ يطلق على الفاسدين بحيتان الفساد , و بذلك خسر الفساد المالي مقبوليته المجتمعية و صار الفاسدون منبوذين من عامة الشعب , لذا شاع الحديث عن ضرورة مكافحة الفساد و تصدرت طروحات كل الأحزاب السياسية في العراق السبل الكفيلة بمكافحة آفة الفساد المالي و الإداري رغم أن معظم قيادات هذه الأحزاب هم جزء من حيتان الفساد نفسها .
بشكل عام , يمكن تقسيم الفساد الى الأنواع التالية :
النوع الأول : فساد يستنزف الموارد المالية للمواطن العراقي من خلال ابتزازه بدفع رشاوي تمكنه من تجاوز الروتين في المعاملات الرسمية .
بعد سقوط النظام السابق في 2003 و تشكل حكومات عراقية جديدة وفق اسس المحاصصة السياسية تراجع هذا النوع من الفساد المالي و يعود سبب ذلك الى تحسن الحالة المعاشية لموظفي الدولة العراقية , مدنيين و عسكريين , من خلال ارتفاع القيمة الحقيقية لرواتبهم .
النوع الثاني : الفساد الذي يؤدي الى سرقة موارد الدولة المالية و العينية بشكل مباشرة و كمثال على ذلك :
** التجاوز على شبكة الكهرباء الوطنية و سرقة طاقة كهربائية من الدولة دون دفع ثمنها .
** استخدام موارد الدولة للأغراض الشخصية كاستخدام سيارات الدولة و غيرها .
النوع الثالث : الفساد المرتبط بكيفية إبرام العقود مع الجهات الحكومية و مراحل تنفيذ هذه العقود , لحيتان الفساد دور كبير في ‘دارة و تنمية هذا النوع من الفساد و من خلاله تجني الأموال بإبرام صفقات لعمولات تصل أحيانا الى نسبة ليست قليلة من قيمة العقود .
النوع الرابع : فساد يحول دون ورود موارد مالية للدولة العراقية كالتهرب الضريبي او التهرب من دفع الرسوم الجمركية من خلال دفع رشاوي للموظفين المسؤولين عن جباية هذه الرسوم و الضرائب .
إن الفساد من الأنواع الثاني و الثالث و الرابع قد تصاعد بشكل كبير بعد التغيير في 2003 و يعود ذلك للأسباب التالية :
اولا : ضعف العقوبات , في عهد النظام الصدامي كانت العقوبات على مَنْ يتجاوز على اموال الدولة قاسية جدا , فصدام حسين كان يعتبر العراق و كل ما فيه من ثروات هي ملكية خاصة له و لعائلته و كانت عقوبة مَنْ يتجاوز على تلك الملكية شديدة جدا لدرجة انها في بعض الحالات تكون مبالغ فيها جدا و لا تتناسل مع حجم التجاوز .
كان لصدام حسين وحده الحق بالتصرف بثروات العراق , يحرق منها ما يشاء في حروبه العبثية , يمنح هذه الدولة أو تلك الدولة شيء من ثروات العراق , يعطي هذا الشخص أو ذاك الشخص منح مالية أو اراضي حسبما يشاء , كان حر التصرف بكل ثروات العراق و حين سقط نظامه لم يعد للعراق مَنْ يتحكم به فسقطت هيبة الدولة , فبدلا من وجود حوت واحد عملاق ظهرت حيتان عديدة .
ثانيا : المحاصصة السياسية , من المؤكد أن المحاصصة هي من اهم عوامل نمو حيتان الفساد في فترة ما بعد 2003 , فلكل طرف سياسي حصة من ثروات العراق يستولي عليها من خلال حيتانه .
ثالثا : الفشل في إجراء تطوير اداري للأنظمة المتبعة في الأجهزة الحكومية بشكل يتناسب و متطلبات التغيير الذي طرأ على الهيكل الإداري للدولة العراقية و على اسلوب تنفيذ مشاريع الدولة الذي فرضه المحتل الأمريكي من خلال المستشارين التابعين له و الذين تم زرعهم في كل الوزرات العراقية .
رابعا : سيطرة الميليشيات على بعض مفاصل الدولة العراقية .
لقد نشطت الميليشيات التابعة للأحزاب و الحركات السياسية التي لها نفوذ كبير في عراق ما بعد 2003 حول مناطق تنفيذ مشاريع الدولة لغرض ابتزاز المقاولين الذين يتم إحالة المشاريع بعهدتهم لتنفيذها و كذلك في الموانئ العراقية في البصرة و في الدوائر التابعة للجمارك حيث تستحصل هذه الميليشيات حصة من الرسوم الجمركية اكبر من حصة الحكومة العراقية من تلك الرسوم .
خامسا : عدم وجود أي رقابة للدولة الاتحادية العراقية على أجهزة الحكومة المحلية لإقليم كوردستان , ففي هذا الإقليم يتكيف الفساد بما يرضي الحزبين المسيطرين على الإقليم الذي أصبح و كأنه ملكية خاصة لهما , كل المؤشرات تدل على إن الحصة الأكبر مِنْ ما يستحصل من الفساد المستشري في الإقليم هي للحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي يتزعمه السيد مسعود البرزاني .
(( يتبع ))
#آدم_الحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟