طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7780 - 2023 / 10 / 30 - 07:17
المحور:
الادب والفن
قصة للأطفال
آتٍ مع الشمس
طلال حسن
العش الدافىء
ـــــــــــــــــــــــــــ
أرخى الليل سدوله ، وأويت إلى العش مع زوجي ، وجثمنا كالعادة متجاورين ، وتطلع إلى السماء ، المتشحة بالظلام والنجوم ، وبدا وكأنه يحلق بعيداً ، لكن سرعان ما أشرقت عيناه بالحنان ، والتفت إليّ ، وقال : يبدو أن الصغيرين قد هجرانا .
فأجبته مازحة : هذا أفضل .
وابتسم قائلاً : لا أصدقك .
وضحكت بمرح ، فتابع : ليتني أراهما مرة أخرى .
وأثارت كلماته مشاعري ، وتذكرت طيرانهما الأول ، يا لله ، كم كانا رائعين ، وهما يرفرفان حول العش ، وتشجع أصغرهما مرة ، ومضى حتى الجدول ، وحين عاد ، لاحظت آثار ضفدع على منقاره ، لقد كبر صغيرانا ، فليطيرا حيثما يريدان ، وليختارا حياتهما كما فعلنا نحن ذات يوم ، عندما كنا في عمريهما .
وهبت نسمة باردة ، وكالعادة التصقت به ، لأستمد منه الدفء ، فرفع رأسه متلفتاً ، ثم قال : سيحل البرد قريباً .
وابتعدت عنه بعض الشيء ، وقلت : لكن الجو دافىء .
ومدّ جناحه ، وسحبني إليه ، وقال : وسيبقى دافئاً إذا عدت إلى جانبي هكذا .
والتصقت به ثانية ، وقلت : ليت السنة كلها دافئة .
وابتسم قائلاً : طبعاً لتبقي هنا .
ورفع رأسه ، وتطلع إلى الآفاق المتشحة بالظلام النجوم ، ثم قال : عزيزتي ، لقد هاجر الكثير من اللقالق ، ولابد أن نهاجر نحن أيضاً .
فرفعت عينيّ إليه ، وقلت : دعني أودع القرية وأهلها الطيبين أولاً .
فلفني بجناحيه ، وقال : حسن ، ودعيهم غداً ، وسنبدأ الهجرة بعد غد .
الجناح المكسور
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم أمض ِ معه ، حين مضى مبكراً إلى الجدول ، فقد أردت أن أودع القرية وأهلها الطيبين ، وهبطت إلى الساحة ، ورحت على عادتي ، ألهو مع أصدقائي الأطفال الصغار .
وأقبل سالم ، وأراد أن يأخذني معه إلى بيته ، لكن الأطفال الآخرين ، لم يرضخوا لإرادته ، فأمسكني من جناحي ، وصاح : سآخذها رغماً عنكم .
فصحت به ، والألم يمزقني : أرجوك ، يا سالم ، دعني ، ستحطم جناحي .
لكن سالماً لم يلتفت إليّ ، وفجأة تهاوى جناحي إلى جانبي ، فصاح أحد الأطفال : أيها المجنون ، لقد كسرت جناحها .
وانتفضت بقوة ، لعلي أفلت من بين يديه ، لكنني سقطت في هوة مظلمة ، لا قرار لها ، لم أدر ِ كم مرّ من الوقت ، حين أفقت من غيبوبتي ، ووجدتني في بيت سالم ، يحيط بي مع والديه ، وتطلع الأب إليّ ، وابتسم قائلاً : اطمئن ، يا بنيّ ، لقد زال الخطر ، ستعيش .
وهزت الأم رأسها ، وقالت : لكنها لن تستطيع الهجرة هذا العام .
وجنّ جنوني ، ورحت أنتفض وأصيح ، لكن الأب ضمني بذراعيه ، وقال : لا عليك ، ستبقين في رعايتنا ، نحن نحبك .
وتناهت من العش طقطقة زوجي ، إنه يناديني ، فصحت متألمة كأني أستنجد به ، فقالت الأم : لندعها تمضي إلى رفيقها .
وأطلقني الأب قائلاً : اذهبي .
وقبل أن ينتهي من كلامه ، أسرعت إلى الشجرة ، التي بنينا عشنا فوقها ، وما إن رآني مقبلة ، حتى هتف بي : أين كمت ؟ لقد ناديتك طويلا ، تعالي .
فرفعت رأسي إليه ، وقلت بصوت تخنقه الدموع : لا أستطيع الصعود إلى العش .
وعلى الفور هبط إلى جانبي ، وتساءل : ما الأمر ، يا عزيزتي ؟
فقلت وأنا أحاول أن أخفي دموعي : لن أهاجر معك هذا العام .
واتسعت عيناه ، وتفرس فيّ متسائلاً : ماذا تقولين ؟
فأجبته وأنا أريه جناحي : لقد كسر جناحاي .
واشتعلت عيناه غضباً ، فسارعت إلى القول : سالم يحبني ، ولم يتعمد إيذائي .
وتطلع إليّ بعينين دامعتين ، دون أن ينبس بكلمة ، فارتميت بين جناحيه ، وأجهشت في البكاء .
الليلة الأخيرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
قضينا تلك الليلة كلاجئين ، تحت الشجرة ، وبدا عشنا للمرة الأولى ، منذ أن بنيناه ، خاوياً مهجوراً ، واشتد البرد ، عند منتصف الليل ، ففرد جناحيه ، وضمني إلى صدره ، فقلت في نفسي ، وقد تندت عيناي بالدموع : آه ليتني أبقى هكذا إلى الأبد .
وانثالت دموعي ، إذ انتابني شعور ، بأني لن أنعم ، بعد الليلة ، بهذا الدفء ، وكفكفت دموعي ، حين سمعته يخاطبني متسائلاً : كيف أنت الآن ؟
فأجبته وأنا ألتصق بصدره : بخير ، اطمئن .
وتنهد قائلاً : أي خير وجناحك ..
وسكت ، ولم يستع أن يكمل ، فقلت : لا عليك ، يا عزيزي .
فقال بصوت مذنب : كان عليّ أن أبقى إلى جانبك .
وحاولت أن ابتسم ، لكني لم أستطع ، فقلت : لا تلم نفسك فالخطأ ليس خطأك .
ورفع رأسه ، وتعلقت عيناه في الآفاق البعيدة ، فقلت بصوت حاولت أن أجعله فرحاً : الوقت متأخر ، نم الآن ، يا عزيزي .
لم يجب بشيء ، فأضفت قائلة : أمامك غداً طريق طويل متعب .
فالتفت إليّ ، وقال : لن أهاجر .
وتطلعت إليه مذهولة ، وقبل أن أتفوه بكلمة ، تابع قائلاً : سأبقى إلى جانبك .
فهززت رأسي ، وقلت : كلا ، يا عزيزتي ، هاجر غداً ، إن سالم وأبويه سيعنون بي .
ولاذ بالصمت ، فتابعت قائلة : هاجر ، ولكن لا تنسَ ، إنني أنتظرك .
ثم خبأت رأسي في صدره الدافيء ، وقلت : سأجدد العش ، وأزينه بالأزهار ، وسنحيا فيه ، ولن نفترق ثانية .
ومع الفجر ، فتح جناحيه ، ومضى نحو الآفاق البعيدة ، فرحت ألوح له ، والدموع تنثال من عينيّ ، حتى تلاشى في زرقة السماء .
أجنحة الحلم
ــــــــــــــــــــــــــ
اصفرت أوراق الأشجار ثم راحت تتساقط ، واشتدّ البرد ، وتساقطت الثلوج ، حتى غطت الحقول ، والأشجار العارية ، ومرّ الوقت ببطء ، ورغم عناية سالم وأبويه بي ، لكني رحت أذوي ، وأذوب كما تذوب الشمعة .
وأرقدني سالم ، ذات يوم ، قرب الموقد ، وجلس إلى جانبي ، يحدق فيّ مذهولاً ، وجاء أبوه ، فرفع عينيه الدامعتين إليه ، وقال : بابا .
واختنق بدموعه ، فتطلع أبوه إليه ، وقال : لا تخف ، إنها بخير .
وتملكني الخوف ، رغم كلماته ، فقد كانت عيناه تقولان شيئاً آخر ، وارتفعت حرارتي خلال الليل ، وغشيتني غيبوبة عميقة ، ورأيتني في العش أنتظر ، والشمس تكاد تغرب ، ولاح سرب من اللقالق، لعله بينهم ، نعم ، إنه بينهم ، لكن ماذا لو نسيني ، وهاجر إلى مكان آخر ، مع أنثى أخرى ؟ كلا ، إنني أعرفه ، إنه يحبني ، ولن يهجرني ، وفجأة رأيته مقبلاً مع الشعاع الأخير للشمس الغاربة ، وقد فرد جناحيه القويين ، فطقطقت بمنقاري ، وفردتُ جناحيّ فرحاً ، و .. يا ويلي ، إنه ليس وحيداً ، هناك أنثى أخرى معه ، الخائن .. انتظرته حتى ذبت كما تذوب الشمعة .. وها هو يخونني .. سأمزقه .. وأمزق أنثاه و .. ، وهجمت عليه ، ورحت أطعنه وأطعن أنثاه بمنقري .. و .. ، وأفقت على أم سالم تنحني عليّ ، وتقول : المسكينة .إنها الحمى ، يا إلهي كيف فكرت لحظة ، أنه يمكن أن يخونني ، سأصارحه بالأمر حين يعود ، وسيضحك مني كعادته ، و .. وجاءني صوت سالم تبلله الدموع : بابا .
فمد الأب يديه ، واحتضنه وقال : لا عليك ، يا بنيّ ، ستشفى .
وأغمضت عينيّ ، نعم ، سأشفى ، فأنا أنتظره ، إنه يحبني ، وسيعود حتماً ، ونحيا من جديد معاً .
وحلقت على أجنحة الحلم ، في سماء زرقاء كالبحر ، وتفجر الفرح في أعماقي ، فقد رأيته آت وحده مع الشمس ، يحمل لي في جناحيه الدفء والحياة .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟