أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن















المزيد.....



رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7671 - 2023 / 7 / 13 - 12:20
المحور: الادب والفن
    


رواية للفتيان







فتاة الحلم






طلال حسن




شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأم

2 ـ ليم

3 ـ بيلايا

4 ـ الإلهة اينانا












" 1 "
ــــــــــــــــــــ

من بعيد ، من قلب الظلمة ، وككل مرة ، جاءه الهتاف : ليم ..
وككل مرة ، تظهر الفتاة ، نفس الفتاة ، على الفور ، لا يظهر منها غير وجهها ، هادئاً .. جميلاً .. أنيساً .. وقبل أن تختفي ، كما ظهرت ، تقول له : تعال ، يا ليم ، تعال ، تعال .
ويتلفت ليم حوله ، في حلمه المتكرر ، ككل مرة ، باحثاً عنها في الظلمة ، لعله يقع لها على أثر ، لكنها وككل مرة ، تختفي ، دون أن تترك أثراً .
ويستيقظ ليم ، في ظلام غرفته الصغيرة ، إنه كالعادة حلم ، والفتاة التي يراها دائماً حلم ، والحلم يبقى حلماً ، مهما كان جميلاً .
هذه الليلة ، وبعد أن هتفت به الفتاة ، تعال ، تعال ، لم تختفِ في الظلمة ، بل ظلت أمامه ، وقالت : تعال ، يا ليم ، تعال إليّ ، تعال ، تعال .
وحدق ليم فيها ملياً ، ثم قال : مهما كان ، هذا حلم ، حلم لا أكثر .
فقالت الفتاة كأنها تردّ عليه : تعال ، وسترى .
وأضاف ليم : وأنتِ نفسكِ حلم .
ابتسمت الفتاة ، وقالت : اسمي بيلايا .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : تعال ، وستراني .
وتململ ليم في فراشه ، وقال كمن يحدث نفسه : هذا حلم داخل حلم ، فلأستيقظ ، وسيختفي كلّ شيء ، حتى هذه الفتاة ، التي تقول إن اسمها بيلايا ، ستختفي .
لكن الفتاة لم تخنفِ ، وإنما أضيء ما حولها ، كأن قمراً ساطعاً ، أضاء بقعة من غابة ، تقف الفتاة وسطها ، وانتابته الدهشة ، فقال : أنتِ لم تختفي هذه المرة .
فقالت بيلايا : أنا لكَ ، يا ليم ، تعال ، إنني أنتظرك ، وسط الغابة ، قرب هذه الشجرة الضخمة ، التي تراها الآن ، والتي تطل على هذا الجدول الرقراق .
وما إن إنتهت الفتاة بيلا من كلامها ، حتى اختفى القمر من السماء ، ومعه اختفى الجدول الرقراق والشجرة الضخمة والفتاة نفسها .
وعلى الفور ، وكأنّ يداً هزته ، أفاق ليم ، ومن ظلمة الغرفة ، والظلمة التي مازال في الخارج ، جاءه صوت الفتاة بيلا ، يهيب به : تعال .. تعال .. تعال .




" 2 "
ــــــــــــــــــــ

فتح ليم عينيه ، دون أن يعتدل في فراشه ، لقد طار منهما النوم ، وحلقتا بعيداً ، إلى الشجرة الضخمة ، وسط الغابة ، والجدول الرقراق .
وظلت فتاة الحلم ، الذي كان يتكرر باستمرار ، رغم اختفاء وجهها الهادىء الجميل ، تهيب به بصوتها العذب : تعال .. تعال .. تعال .
أراد ليم ، أكثر من مرة ، أن يحدث أمه بشأن هذه الفتاة ، التي قالت أن اسمها بيلايا ، لكنه كان يتردد ، إذ لم يعد لأمه غيره في الحياة ، بعد أن رحل أبوه ، وتزوجت أخته ، ومضت إلى قرية بعيدة .
إن أمه ، كما يعلم ، وربما هذا حقها ، تريده أن يقترن بفتاة حقيقية ، وابنة أخيها الشابة ، هي في نظرها هذه الفتاة ، وليس فتاة الحلم .
وظلت بيلايا ، عند ليم ، ورغم حضورها المتكرر في منامه ، فتاة حلم ، لم يحدث أمه عنها ، حتى جاءته اليوم ، وحددت له المكان ، الذي تنتظره فيه .
وفكر ليم ، ربما ليقنع نفسه ، يبدو أن هذه مشيئة الإلهة اينانا ، نعم إنها مشيئتها ، إذن فلتكن مشيئتها ، فهي إلهة الحب في العالم ، ولابد أنها هي التي اختارت له هذه الفتاة ، ودبرت له تلك الرؤيا المتكررة .
وفكر ليم ، صحيح إنه لا يريد أن يعصي أمه ، فهو يحبها كثيراً ، وقلما خرج عن ارادتها ، لكنه ، ويا للحيرة ، هل يعصي الإلهة اينانا ، ويصمّ اذنيه عن نداء بيلايا ، التي تهيب به دلئماً ، أن تعال ؟
بعد شروق الشمس ، جاءته أمه ، وتوقفت على مقربة منه ، وقالت : ليم .
وكمن فزّ من غيبوبة ، ردّ ليم : نعم ، أمي .
فقالت أمه : الفطور جاهز .
واعتدل ليم متكاسلاً ، فابتسمت أمه ، وقالت : صرتُ عجوزاً ، وربما لن يعجبك فطوري بعد اليوم .
فنهض ليم ، وقال : لن يعجبني غير فطورك ، فهو فطور أمي الحبيبة .
ومدت أمه يدها المحبة ، وداعبت خصلات شعره ، وهي تقول : ستأتي فتاة شابة ، وتحتل قلبك ، وسيعجبك فطرها أكثر .
وغمز ليم لأمه ، وقال بنبرة مزاح : يبدو أن هذه الفتاة الشابة ستأتي قريباً .
ونظرت إليه أمه فرحة ، وقالت : إنها ابنة خالك طبعاً ، يا عزيزي ليم .
وهزّ ليم رأسه ، وقال : لا ، فابنة خالي طفلة .
فقالت الأم : كانت طفلة ، فأنت لم ترها منذ سنوات عديدة ، لو رأيتها الآن لما عرفتها .
ولاذ ليم بالصمت ، فحدقت أمه فيه ، وتساءلت : فتاة الحلم ؟
ونظر ليم إلى الخارج ، عبر النافذة الصغيرة ، وقال كمن يحدث نفسه : سأحضرها اليوم .


" 3 "
ـــــــــــــــــــــ

حاولت أمه عبثاً ، أن تثنيه عما قرره ، لكنه انطلق بحصانه الفتي ، عبر الحقول والبساتين ، نحو المكان الذي عينته له فتاة الحلم بيلا يا .
ودخل الغابة عند الضحى ، وسار بين الأشجار الكثيفة ، ممنياً نفسه بمقابلة الفتاة ، وسط الغابة ، عند الشجرة الضخمة ، المطلة على الجدول الرقراق .
ولاحت له الشجرة الضخمة ، كم رآها في الحلم ليلة البارحة ، وكانت تطل فعلاً على جدول رقراق ، فخفق قلبه بشة ، ها هو حلمه يكاد يتحقق ، ولابد أن الفتاة بيلايا تنتظره تحت الشجرة .
وترجل ليم عن الحصان ، على مقربة من الجدول الرقراق ، تحت الشجرة الضخمة ، وتلفت حوله متلهفاً ، لكن لا أثر للفتاة بيلايا .
واقترب من الجدول ، وتطلع في مائه الرقراق الصافي الصقيل كالمرآة ، وخفق قلبه بقوة ، فقد رأى إلى جانبه في الماء ، تقف فتاة شابة ، كأنها الفتاة التي رآها ليلة أمس في الحلم .
أهو حلم آخر ؟ وعلى الفور ، استدار متلهفاً ، وإذا فتاة الحلم نفسها ، تقف إلى جانبه ، ثم تبتسم له ، فتساءل بصوت متحشرج : أنتِ !
فهزت الفتاة رأسها ، وقالت مبتسمة : اسمي بيلايا . واتسعت ابتسامتها ، وأضافت قائلة : عرفتُ أنك ستأتي ، يا ليم .
ونظر ليم إليها فرحاً ، وقال : منذ أن زرتني في الحلم أول مرة ، أردتُ أن ألبي نداءكِ ، وآتي إليكِ ، لكني لم أعرف مكانكِ ، حتى أخبرتني به ليلة البارحة ، فأتيتُ دون تردد .
وتطلعت بيلايا إليه ، وقالت : أشكركَ .
وقال ليم : أتيتُ لآخذكِ معي إذا وافقتِ .
فقالت بيلايا : أنا أوافق ، لكن ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : بالصفة التي اختارتها لنا الإلهة اينانا .
وتمتم ليم مندهشاً : الإلهة اينانا !
ومدت الفتاة بيلايا يدها ، وأمسكت يد ليم ، وقالت : هيا بنا ، إنها تنتظرنا الآن ، في معبدها وسط مدينة اوروك المقدسة .


" 4 "
ـــــــــــــــــــ

ركب ليم الححصان ، وأردف بيلايا وراءه ، وقال لها : تمسكي بي جيداً .
وطوقت بيلايا خصره بذراعيها ، وقالت : لنمض ِ إلى الإلهة اينانا ، إنها تنتظرنا الآن في المعبد .
وانطاق ليم بحصانه ، يركض به خبباً ، بين أشجار الغابة ، وحين خرج إلى الحقول ، حثّ الحصان فزاد قليلاً من سرعته .
وبعد ساعات ، لاحت أسوار اوروك العالية ، تلمع تحت أشعة الشمس ، فأشار ليم إليها ، وقال : تلك اوروك المقدسة ، ها قد وصلنا ، يا بيلايا .
وردت بيلايا قائلة : لن نقول وصلنا ، حتى نقف بين يدي الإلهة العظيمة اينانا .
واقترب ليم على حصانه ، من بوابة المدينة ، فالتفت إلى بيلايا ، وقال : سأنزل عن الحصان ، وأقوده إلى داخل المدينة ، وأنت على صهوته .
فتشبثت به بيلايا أكثر ، وقالت :لا تنزل ، يا ليم ، إن أحداً لا يراني كما تعرف .
وردّ ليم ، وهو يجتاز بحصانه بوابة المدينة : مهما يكن ، سنصل المعبد قريباً .
وقاد ليم حصانه ، عبر شوارع اوروك ، المزدحمة بالناس ، وبيلايا تطوق خصره بيديها الحبيبتين ، حتى وصل معبد الإلهة اينانا وسط المدينة .
وتوقف أمام المعبد ، وترجل عن حصانه ، ثم ساعد بيلايا على الترجل ، ثم أمسك يدها ، وقال : ها قد وصلنا المعبد ، يا بيلايا .
فقالت بيلايا مبتسمة : لنمض ِ الآن إلى الإلهة اينانا ، وستقرر مصيرنا .
ويداً بيد ، دخل ليم وبيلايا حرم المعبد ، ووقفا صامتين أمام الإلهة العظيمة اينانا ، ينتظران ما ستقرره لهما ، فقالت الإلهة بصوتها العميق الدافىء : ليم ..
وردّ ليم قائلاً : مولاتي العظيمة .
واستطردت الإلهة اينانا قائلة : ها هي حلمك إلى جانبك ، كما أريتها لك في المنام ، وهي بمثابة ابنة لي ، وقد أهديتها لكَ .
ورمق ليم بيلايا بنظرة سريعة ، وقال : ويا لها من هدية ، يا إلهتي العظيمة .
ومرة أخرى ، استطردت الإلهة اينانا قائلة : هذه هدية العمر ، زوجة لك ، وأنت تستحقها .
فقال ليم : أشكرك ، يا مولاتي العظيمة ، وستكون هديتك مدى العمر ، في قلبي وعينيّ .
وصمتت الإلهة اينانا برهة ، ثم قالت : أنت تعرف أنها لا ترى ، وأن أحداً غيرك لا يراها .
ولاذ ليم بالصمت ، فقالت الإلهة اينانا : وستبقى هكذا ، مادامت تريد ذلك .
وردّ ليم قائلاً : الأمر لكِ ، يا مولاتي العظيمة .
فقالت الإلهة اينانا : والآن خذها إلى بيتك ، يا ليم ، إنها زوجتك .






" 5 "
ـــــــــــــــــــــ

لبثت الأم في البيت قلقة مهمومة ، تنتظر ليم ، الذي ذهب ، لا تدري إلى أين ، ليأتي على ما يقول ، بالفتاة التي ستكون زوجة له .
وتندت عيناها بالدموع مراراً ، يا لحياتها البائسة ، لقد أعطتها الآلهة ابناً ، لكنها أخذت منها زوجها المحب ، وهذا الابن نفسه ، رغم محبته ، واطاعته لها ، في كلّ شيء ، عصاها في زواجه .
لقد أرادت أن تفرح به ، وتزوجه من ابنة خاله ، وهي فتاة شابة ، قوية ، جميلة ، كانت ستسعده ، وتملأ عليهم البيت بالحياة والأطفال .
لكنه ، ولابد أنه سُحر ، سحرته امرأة عدوة ، لا تريد لها الخير ، فجعلته يتعلق بامرأة وهم ، يقول إنها جاءته في الحلم ، وها هو يهيم وراءها ، لا تدري أين ، ولن يجد لها أثراً .
وعند المساء ، بعد أيام من غيابه ، تناهى إليها وقع حوافر حصان ، وعرفته ، إنه هو ابنها ليم ، لقد عاد إليها من رحلته إلى التيه .
وهبت من مكانها ، وأسرعت تفتح الباب ، وإذا ليم فعلاً على صهوة حصانه ، وما إن رآها ، حتى أشرق وجهه بابتسامة فرحة ، لم تره يبتسمها منذ فترة طويلة ، فهتفت فرحة : بنيّ ليم ..
وترجل ليم عن حصانه ، وهو يقول : لقد قلتُ لكِ ، يا أمي ، سأذهب وأعود بعروسي .
ونظرت الأم إليه ، وقد اختفت فرحتها ، نعم ، لقد عاد ابنها ليم ، لكنه ليس ليم الذي تتمناه ، والتفتت بيلا إلى ليم ، وقالت : ليم .
ونظر ليم إليها ، وقال : هذه أمي ، أريد أن أفرحها .
فقالت بيلايا : لكن تذكر ، إنها لا تراني .
ومدّ ليم يديه إلى بيلايا ، وأنزلها عن الحصان ، وتقدم بها نحو أمه ، التي نظرت إليه صامتة ، ثم مدت يديها إليه ، وعانقته دامعة العينين ، وهي تقول بصوت تخنقه الدموع : ليم ، بنيّ ، المهم عندي أنك عدت .
وانسحب ليم من بين يدي أمه ، ثم التفت إلى بيلايا ، التي كانت تنظر إليه ، وأمه تعانقه باكية ، وقال : تفضلي ، هذا بيتك منذ الآن .
وأمام عيني الأم المذهولتين ، الغارقتين بالدموع ، تنحى ليم قليلاً ، ثم دخل البيت ، وكأنه يدخل وراء شخص يتقدمه في السير .





" 6 "
ــــــــــــــــــــ

في غرفتهما الصغيرة ، داخل البيت ، وقفت بيلايا تتلفت حولها ، ثم نظرت إلى ليم ، وقالت : الغرفة بحاجة إلى اعادة ترتيب .
فردّ ليم قائلاً : الغرفة غرفتك الآن ، ولكِ أن ترتبيها كما يحلو لكِ ، يا بيلايا .
ولاذت بيليا بالصمت ملياً ، ثم قالت : يبدو لي ، أن أمك لم تفرح بزواجنا .
وتطلع ليم إليها ، وقال : لو رأتكِ لفرحت .
ولاذت بيلايا بالصمت ، صحيح إنها لم تلمس لوماً في قول ليم ، لكنه ربما لم يكن راضياً تماماً ، ولكي تبعد أي وساوس عنها ، انصرفت إلى اعادة ترتيب الغرفة ، كما ينبغي أن تكون .
وعند المساء ، فتح باب الغرفة الصغيرة ، وأطلت الأم من فتحة الباب ، وتوقفت مذهولة ، وهي تتلفت حولها ، وترى الغرفة الصغيرة ، وقد أعيد ترتيبها ، كما لم ترها من قبل .
وتطلع ليم إلى أمه ، وقال : نعم أمي .
فالتفت أمه إليه ، وقالت : العشاء جاهز .
فردّ ليم قائلاً : سآتي في الحال .
وبدت الأم مترددة ، والقت نظرة سريعة على الغرفة ، ثم خرجت ، وهي تتساءل في نفسها متعجبة ، ترى من رتب الغرفة ، بهذه الطريقة الغريبة ؟
وجلست الأم أمام سفرة العشاء تنتظر ليم ، وزوجته ! لكن أين زوجته ؟ وجاء ليم وحده ، وجلس قبالة أمه ، ثم قال : لنأكل ، يا أمي .
ونظرت أمه إليه متسائلة ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فمدّ ليم يده ، وبدأ يأكل ، وهو يقول بصوت حاول أن يكون هادئاً : تقول إنها ليست جائعة .
وعلى غير عادته ، لم يأكل ليم سوى لقيمات قليلة ، فقالت له أمه : كل يا بني .
فنهض ، وقال : شبعت .
ثم اتجه إلى غرفته الصغيرة ، وهو يقول : تصبحين على خير ، يا أمي .
وألقت الأم لقمة الطعام من يدها ، وردت قائلة : تصبح على خير ، يا بنيّ .
ودخل ليم غرفته ، وأغلق الباب ، فنهضت الأم ، ورفعت سفرة الطعام ، التي لم تكد تمس ، والدموع تغرق عينيها الشائختين .



" 7 "
ــــــــــــــــــــ

مع الأيام ، لاحظت الأم ، بقلب كسير ، وعينين غارقتين بالدموع ، أن ابنها ليم صار يقضي معظم وقته ، في غرفته الصغيرة .
ترى مع من هو ، في تلك الغرفة ؟
هذا ما لا تعرفه ، وما حاولت أن تعرفه مراراً ، وإن كانت في داخلها ، متيقنة أنه وحده في غرفته ، مع زوجته الوهم .
وطالما حاولت أن تنصت إلى ما قد يدور في غرفته ، لعلها تسمع صوت أحد ، غير صوت ابنها ليم ، لكنها لم تسمع ، ولا حتى مرة واحدة ، أي صوت عدا صوت ليم ، يتحدث أحياناً وكأنما يحاور شخصاً معه في الغرفة ، وتهز الأم رأسها ، لقد جُنّ ليم .
وفي أوقات الطعام ، يخرج ليم وحده ، ويجلس قبالة أمه ، ويتناول طعامه معها صامتاً ، ثم يأخذ قليلاً من الطعام ، ويذهب به إلى غرفته ، وبعد قليل يخرج بالصحن ، وفيه بقايا الطعام .
وتتساءل الأم في نفسها ، ترى من أكل الطعام في الغرفة ، هي ! لكن من هي ؟ أم أن ليم هو من يأكل الطعام ، ليوهمها بأن زوجته ـ الوهم ، معه طول الوقت في داخل الغرفة .
وأحياناً ، عند المساء ، يُفتح باب الغرفة ، ويقف ليم كأنه ينتظر أحداً ليمرّ ، وتنظر أمه إليه ، فيقول بصوت هادىء : سنتجول قليلاً ، يا أمي ، ثم نعود ، نامي أنتِ إذا تأخرنا بعض الشيء .
ويفتح ليم الباب الخارجي ، وينتظر قليلاً ، وكأنه ينتظر أحداً ليمرّ ، وتتطلع أمه إليه مذهولة ، فتراه يخرج بهدوء ، ويغلق الباب وراءه .
ورغم تعبها من العمل طول النهار في البيت ، وشعورها بالنعاس ، لا تأوي إلى فراشها ، حتى يعود ليم من جولته ، فتقدم له طعامه ، الذي يأخذه إلى غرفته الصغيرة ، ويقول : سأتناول العشاء معها ، فأنت لابد أنك تناولتِ عشاءكِ ، يا أمي .
وقبل أن يغلق باب غرفته الصغيرة ، يضيف قائلاً : نامي أنتِ ، يا أمي ، وارتاحي .
وتأوي الأم إلى فراشها ، بعد أن يغلق ليم باب غرفته الصغيرة ، وغالباً ما تبقى مستيقظة ، حتى منتصف الليل ، تنصت متلهفة دون جدوى .




" 8 "
ــــــــــــــــــــ

قالت له أمه ، ذات مساء ، وهي تعد الطعام : البارحة رأيتُ ابنة خالك في المنام .
ورمق ليم أمه بنظرة سريعة ، لكنه لم يردّ عليها ، فقالت أمه : لابد أنها الآن شابة ناضجة ، إنها جميلة مثل جدتها .
ولأنه لم يردّ هذه المرة أيضاً ، تنهدت الأم ، وقالت كمن تحدث نفسها : لقد كبرت الآن ، وصارت في عمر الزواج ، ليتها تزورنا قريباً .
لقد ازداد حديث أمه ، في الفترة الأخيرة ، عن ابنة خاله ، حتى قال لها مرة بشكل قاطع : أمي ، لا تنسي ، أنني متزوج الآن .
والتفتت أمه إليه ، وقالت : هذا ما لا أستطيع أن أقوله لأحد ، يا بنيّ .
فقال ليم : المهم أنتِ ، يا أمي .
وحدقت أمه فيه ، وقالت : ليتني أتأكد ، أنا نفسي ، بأنّ لك زوجة فعلاً .
واقترب ليم من أمه ، وطوقها بذراعيه الشابين ، وقال : أمي ، ثقي بي .
فقالت أمه : إنني أثق بك ، يا بنيّ ، لكني أريد أن أراها بعينيّ هاتين .
وأطرق ليم لحظة ، ثم نظر إليها ، وقال : سترينها ، سترينها قريباً ، يا أمي .
وبعد العشاء ، تمدد ليم صامتاً ، مهموماً ، إلى جانب بيلايا ، في الغرفة الصغيرة ، وضوء القمر يتسلل إليهما من الكوة الصغيرة .
والتفتت بيلايا إليه ، وقالت : سمعتُ أمك تتحدث إليك مساء اليوم .
فقال ليم ، دون أن يلتفت إليها : نعم ، حدثتني مرة أخرى ، عن ابنة خالي .
وابتسمت بيلايا ، فتابع ليم قائلاً : وكالعادة قالت إنها شابة ، وقوية ، وجميلة ، وأنها كانت لتملا بيتنا الصغير الصامت بالحياة والأطفال .
وصمت ليم لحظة ، ثم قال : أمي تريد أن تراكِ .
ولاذت بيلايا بالصمت ، فقال ليم : إنها تحب الأطفال ، وتنتظر منا أن نهديها ولو طفلاً واحداً .
واعتدلت بيلايا ، وهمت أن تنهض ، فمدّ ليم يده ، وأمسك يدها ، فقالت : لا ..
وسحبها ليم برفق إليه ، وقال : أريد طفلاً منك ، تراه وتراك أمي ، وتفرح بكما .
فقالت بيلايا : لا .. لا .


" 9 "
ــــــــــــــــــــ

في منامه ، تلك الليلة ، سمع ليم زوجته بيلايا ، تناديه من الظلمة ، كما كانت تناديه فيما مضى : ليم .. ليم .. ليم .
وتململ في منامه ، هذه رؤيا ، نعم رؤيا وليس حقيقة ، وتجسدت زوجته بيلايا أمامه ، كما في الماضي ، لكن وجهها هذه المرة ، كان قاتماً حزيناً ، وقالت له : قلت لك لا ..
وبدأ وجهها ينطفىء ، ويتلاشى شيئاً فشيئاً ، حتى غاب تماماً ، ومعه تلاشى صوتهه الحزين ، وهي تقول : وداعاً ، يا ليم ، وداعاً .
وفتح ليم عينيه بصعوبة ، منتزعاً نفسه من ظلمات سباته العميق ، وخفق قلبه بشدة ، حين تلفت حوله ، ولم يجدها إلى جانبه ، كما كان يجدها كلّ يوم ، فاعتدل في فراشه هامساً : بيلايا .
لم تردّ بيلايا عليه ، وكيف تردّ وهي ليست موجودة ، لا في فراشه ، حيث تنام كلّ ليلة ، ولا في الغرفة الصغيرة ، ولا في أي مكان من البيت ؟
وسمعته أمه العجوز ، وهي راقدة في فراشها ، فهبت مسرعة إليه ، وإذا هو يدور وسط الغرفة ، كمن يبحث عن شيء عزيز فقده ، فبادرته قائلة : بنيّ ليم ، ما الأمر ؟
ونظر إليها مشدوهاً ، وقال : زوجتي .
وتمتمت الأم مذهولة : زوجتك !
فقال ليم : زوجتي التي أتيت بها إلى هنا .
واقتربت أمه منه ، وقالت : ليم ، بنيّ ، أنت لم تأتِ إلى هنا بأحد .
واندفع ليم خارجاً من الغرفة ، فخرجت أمه في أثره ، ودار في أرجاء البيت ، ودارت هي وراءه ، وسمعته يتمتم : بيلايا .. بيلايا .
وتوقف وسط البيت ، وعيناه تدوران في محجريهما ، فتقدمت منه أمه ، واحتضنته بذراعيها ، وهي تقول باكية : ليم .. بنيّ ليم .
فقال ليم ، كأنه يكلم نفسه : قالت لي لا ..قالت لي لا .. لا .. لكني لم أصغ ِ إليها ..
وصمت ليم برهة ، ثم قال : فقالت لي .. وداعاً .
وانسل ليم من بين ذراعيها ، ومضى متعثراً إلى الخارج ، وهو يقول بصوت متهدج : لابدّ أن أعود بها إلى البت وإلا .. متّ ُ .


" 10 "
ــــــــــــــــــــــ

من شروق الشمس ، حتى غروبها ، ولأيام عديدة ، راح ليم يجوس الغابة ، طولاً وعرضاً ، بحثاً عن زوجته بيلايا ، لكن دون جدوى .
وعند المساء ، غالباً ما يأوي إلى الشجرة الضخمة ، المطلة على الجدول الرقراق ، حيث التقى بيلايا لأول مرة ، على أمل أن يراها في منامه ، كما كان يراها في الأيام الخوالي .
لكنه ، وربما لشدة تعبه ، ما يكاد يتمدد ، حتى يستغرق في نوم عميق ، لا يفيق منه ، حتى صباح اليوم التالي ، دون أن يرى في منامه أيّ شيء .
وذات ليلة ، وقد رقد تحت الشجرة ، لم يستغرق في النوم ، إلا حوالي منتصف الليل ، ورأى في منامه ، بدل زوجته بيلايا ، الإلهة اينانا نفسها .
وهتف مذهولاً : مولاتي !
فنظرت الإلهة اينانا إليه ، ونادته قائلة : ليم .
وردّ ليم قائلاً : مولاتي .
فأشارت له ، وقالت : تعال .
واقترب ليم منها ، متوجساً قلقاً ، فقد عصاها ، حتى غضبت بيلايا منه ، وخرجت في الليل بعيداً عنه ، وعلى عكس ما توقع ، ابتسمت له ، وقالت : إنني أنتظرك في المعبد .
وهبّ ليم من مكانه ، وتلفت حوله مذهولاً ، الليل مازال ليلاً ، والقمر يطل عليه من أعالي السماء ، ويضيء الطريق المؤدي إلى اوروك ، كأنما يقول له : هيا ، تعال وسر على الطريق .
وعلى الفور ، اعتلى صهوة حصانه ، ومضى مسرعاً ، عبر أشجار الغابة إلى اوروك ، وعند الفجر ، دخل المدينة ، وقاد حصانه في شوارعها شبه الخالية ، حتى وصل معبد الإلهة اينانا .
وترجل ليم عن حصانه ، واندفع دخل المعبد ، ووقف خاشعاً أمام الإلهة اينانا ، ثم رفع عينيه إليها ، وخاطبها قائلاً : مولاتي العظيمة اينانا .
وحدقت الإلهة اينانا فيه لحظة ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال ليم : مولاتي ، سامحيني ..
وقاطعته الإلهة اينانا قائلة : ليم ، اسمعني جيداً ..
وردّ ليم قائلاً : مولاتي .
فقالت الإلهة اينانا : بيلايا زوجتك ..
ولاذ ليم بالصمت ، فقالت الإلهة اينانا : اذهب إلى بيتك ، إنها تنتظرك الآن هناك .
وهمّ ليم أن يتكلم ، فقالت الإلهة اينانا : عد إليها ، لقد انتظرتك طويلاً ، وستفرح لعودتك .


" 11 "
ــــــــــــــــــــــ

على جناح السرعة ، وعبر شوارع اوروك ، التي بدأت تدب بها الحياة ، وتزدحم بالمارة ، طار ليم راكباً حصانه ، إلى بيته في طرف المدينة .
وما إن وصل إلى البيت ، حتى ترجل عن حصانه ، واندفع إلى الداخل ، وإذا أمه تستقبله ، على عكس ما توقع ، بوجه باش ، يطفح بالفرح .
وتلفت ليم حوله ، متسائلاً : أين هي ؟
وغالبت أمه ابتسامتها الفرحة ، وقالت : من هي ؟
فردّ ليم متردداً : زوجتي .
وأشارت أمه بعينيها الفرحتين ، إلى غرفته الصغيرة ، وهالت : ها هي قادمة .
وفتح باب الغرفة ، وأطلت بيلايا مشرقة ، تتطلع فرحة نحوه ، فقالت أمه : إنها تنتظرك منذ أيام .
وتقدم ليم منها ، متأملاً إياها في فرح ، فها هي أمه قد رأتها ، وبموافقة الإلهة اينانا ورضاها ، واقتربت الأم منه ، وقالت : منذ البداية ، قلت لك ، لا تصلح لك زوجة غير ابنة خالك .
والتفت ليم إلى أمه متسائلاً : ابنة خالي !
فردت أمه قائلة : نعم ، ابنة خالك ،بيلايا ، إنك لم ترها منذ أن كانت طفلة صغيرة ، وها هي قد نضجت ، وصارت شابة قوية وجميلة .
وضحكت وكأنها تزغرد ، وأضافت : وستملأ بيتنا الصامت بالحياة والأطفال .
والتفت ليم إلى بيلايا ، وأمسك يديها بين يديه ، ناظراً إليها ، فابتسمت بيلايا ، وغمزت له ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
وعندئذ مدت الأم يديها الفرحتين المحبتين ، ودفعتهما برفق إلى غرفتهما الصغيرة ، وهي تقول : بنيّ ، خذ زوجتك بيلايا ، إلى جنتك ، وعش حياتك كما تمنيتها أنتَ ، وكما تمنيتها لك .
ودخلا الغرفة الصغيرة ، وأغلقت الأم عليهما الباب ، وأخذ ليم بيلايا بين يديه ، فنظرت إليه ملياً ، وقالت : قد تتساءل لماذا عدتُ .
فرد ليم قائلاً : المهم أنكِ عدتِ .
ومدت ليم يدها ، وأخذت يده ، ووضتها فوق بطنها ، وهمست له فرحة : طفلنا .
عانقها ليم فرحا ، فقالت بيلايا : أمك تحب الأطفال .
وأخذ ليم وجهها بين كفيه ، وقال : ابنة خالي !
ابتسمت بيلايا ، وقالت : لا يصعب شيء على الإلهة العظيمة .. اينانا .


12 / 5 / 2015














رواية للأطفال







المعجزة







طلال حسن





شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأم

2 ـ دادو

3 ـ الكاهن

4 ـ الحطاب

5 ـ آما










" 1 "
ـــــــــــــــــــــ

عند شروق الشمس ، طرق باب البيت ، فألقت الأم ما بين يديها ، ونهضت متحاملة على نفسها ، وسارت ببطء عبر الفناء ، نحو الباب .
وكالعادة هتفت : من بالباب ؟
وجاها الردّ فوراً : أنا .
ودون أن تعرف بالضبط ، من هو " أنا " هذا ، فتحت الباب ، وإذا خادم كاهن معبد آشور في نينوى ، فقالت له : تفضل ، ادخل .
لكن الخادم لم يدخل ، وإنما قال لها : جئت إلى ابنك ، دادو .
فقالت الأم : دادو مازال نائماً .
وقال الخادم : الكاهن يريده .
ولاذت الأم بالصمت ، آه من الكاهن ، ومضى الخادم مبتعداً ، وهو يقول : فليذهب إلى المعبد ، ويقابل الكاهن ، حالما يستيقظ .
وأغلقت الأم الباب ، ومضت عبر الفناء إلى الداخل ، وراحت تعد طعام الفطور لابنها دادو ، لن تخبره بأن الكاهن يريده ، حتى ينتهي من فطوره ، وإلا فإنه كالعادة ، لن يأكل منه لقمة واحدة .
استيقظ دادو متثائباً ، ولم توقظه أمه عامدة ، فهي لا ترتاح إلى الكاهن ، رغم تعبدها ، وزيارة معبد الإله آشور ، بماسبة أو غير مناسبة .
وبعد أن اغتسل بماء بارد ، ربما ليطرد البقية الباقية من النوم في عينيه ، جلس إلى السفرة قبالة أمه ، وراح يتناول طعام الفطور .
ونظرت إليه أمه ، وقالت : تأخرت البارحة في العودة إلى البيت .
وردّ دادو ، دون أن يتوقف عن تناول الفطور : كنت في حديقة المعبد ، مع الكاهن ، آه كان الإله سين يطل علينا ساطعاً من بين الأشجار .
وقالت أمه : لو كانت لك زوجة ، لجلست معها في ضوء القمر ، هذا ما يفعله الشباب في عمرك ، لا أن يجلسوا مع كاهن عجوز .
ورمقها دادو بنظرة سريعة ، وقال : سمعت الباب يُطرق ، قبل أن أستيقظ .
وقاطعته أمه قائلة : لابدّ أن أزوجك .
وتساءل دادو : من طرق الباب ؟
لم تجبه أمه ، وإنما قالت : أكمل فطورك .
وبدل أن يكمل دادو فطوره ، أبعد عنه الطعام ، وقال : أخبريني أولاً .
ولاذت الأم بالصمت فترة ، ثم قالت بصوت يشي بانفعالها : خادم الكاهن .
وهبّ دادو من مكانه ، وهو يقول : لابدّ أن الكاهن يريدني لأم هام .
وقالت الأم محتجة : لكنك كنت معه ليلة البارحة على ضوء القمر .
ومضى دادو مسرعاً إلى الخارج ، وهو يقول : وهذا ما يثير قلقي .
ولحقت به أمه ، عبر فناء البيت ، إلى الباب الخارجي ، وقالت بنبرة مصالحة : لا تتأخر عن الغداء ، سأعد لك اليوم ما تحبه ، كبة برغل محشية .
لكن دادو مضى في طريقه ، دون أن يلتفت إليها ، أو يحفل بالكبة المحشية ، رغم أنه كان يحبها ، أكثر من أي شيء آخر في العالم .





" 2 "
ــــــــــــــــــــ
لم يجد دادو الكاهن العجوز في غرفته ، كما لم يجده في الحديقة ، ولا تحت الشجرة الضخمة ، التي قضيا تحتها ساعات من ليلة البارحة .
وتقف دادو مفكراً ، ترى أين الكاهن العجوز ؟ إنه قلما يغادر المعبد ، إنه هنا ينتظره ، في مكان ما ، مادام قد أرسل في طلبه ، آه .
وأسرع نحو حرم المعبد ، لابد أنه الآن بين يدي الإله العظيم آشور ، ودخل الحرم ، وسبقته عيناه المتلهفتان إلى تمثال الإله آشور ، عجباً ، لم يكن الكاهن العجوز بين يديه ، أين هو إذن ؟
ومن إحدى الزوايا المظلمة ، داخل حرم المعبد ، جاه صوت هادىء عميق واهن ، إنه الكاهن العجوز يخاطبه قائلاً : دادو .
والتفت دادو نحو مصدر الصوت ، ولمح في الظلام الكاهن العجوز يقف جامداً ، فأسرع إليه ، وقال : سيدي ، أرسلت خادمك في طلبي ، وأخشى أن أكون تأخرت عليك ، أرجو أن تكون بخير .
فمد الكاهن العجوز يده ، وتشبث بيد دادو ، وقال : اطمئن ، مازلت بخير .
وصمت لحظة ، ثم قال : الجو هنا حار ، خذني إلى الحديقة .وسار دادو ببطء ، ممسكاً بيد الكاهن العجوز ، وقال : أنت محق ، لنذهب إلى الحديقة .
وخرجا إلى الحديقة ، وتوقف الكاهن العجوز لحظة ، وتنفس بعمق ، ثم واصل سيره ، متشبثاً بيد دادو ، وهو يقول : دادو ، ما تحدثت به إليك ، خلال الأسابيع الأخيرة ، تأكدت منه تماماً .
وتوقف دادو ، وقال متسائلاً : الإله مردوخ !
فقال الكاهن العجوز : سيظهر بنفسه في معبد المدينة المقدسة .. نيبور .
ونظر دادو إليه صامتاً ، فقال : هذا ما أكدته لي جميع الاشارات الغامضة ، التي قرأتها وراء سطور الرقم الطينية المقدسة للأولين .
وسار الكاهن العجوز ببطء أشد ، ويده مازالت متشبثة بيد دادو ، وقال بصوت متعب : لنجلس تحت الشجرة ، لديّ ما أقوله لك .
وجلسا جنباً إلى جنب تحت الشجرة ، التي قضيا تحتها ساعات ليلة البارحة ، وقال الكاهن العجوز : والبارحة ، قبيل الفجر ، جاءني في المنام .
وتساءل دادو : من ؟ الإله آشور ؟
فرد الكاهن العجوز قائلاً : لا ، الإله مردوخ .
وقال دادو متعجباً : لكن الإله مردوخ في نيبور .
وقال الكاهن العجوز : صحيح إنني كاهن معبد آشور في نينوى ، لكن أمي من نيبور .
ولاذ دادو بالصمت لحظة ، ثم قال : أعتقد أنك قلت لي مرة ، إن أمك من اريدو .
وبشيء من الحزم ، ردّ الكاهن العجوز : كلا ، ليست من اريدو ، وإنما من نيبور .
وثانية لاذ دادو بالصمت ، فقال الكاهن العجوز : جاءني الإله مردوخ في المنام ، وقال لي بصوته الإلهي المذهل ، سأنزل من مقامي في السماء ، إلى معبدي في نيبور ، وأريدك أن تزورني حيث أنزل .
ونظر دادو إليه ، وقال : سيدي ، نيبور المقدسة ليست قريبة ، وأنت لم تعد صغيراً ، ومن الصعب أن تصل إلى هناك الآن .
فقال الكاهن العجوز : أنت محق ، يا بنيّ ، ولهذا أرسلت في طلبك .
وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : أرادني أن أكون في نيبور ، أنا شخصياً ، أو من لينوب عني ..
وشد على يد دادو ، وقال بصوت هادىء عميق : وأنت من سينوب عني ، يا دادو .



" 3 "
ــــــــــــــــــــ

فوجئت الأم ، بعد منتصف النهار ، بابنها دادو يعود إلى البيت ، وهو يجرّ وراءه حصاناً ، لا يبدو أنه قوي أو فتيّ ، لا يصلح ربما إلا للوقوف بهدوء ، أمام مذود مليء بالجت الطري .
وغضت الأم النظر عن الحصان ، وألقت نظرة سريعة على دادو ، وقالت : تأخرت عند الكاهن العجوز ، حتى بردت كبة البرغل .
وشدّ دادو الحصان إلى شجرة خارج البيت ، وقال : لا بأس ، يا أمي ، تعالي نأكل .
وحول كبة برغل كبيرة ، محشوة جيداً باللحم ، جلس دادو وأمه العجوز ، وقبل أن يبدآ بتناول الكبة ، قالت الأم : هذا حصان المعبد ، على ما أظن .
وكسر دادو الكبة ، وأخذ قطعة منها ، راح يلتهمها ، وهو يهزّ رأسه أن نعم ، فوضعت الأم لقمة في فمها الأدرد ، وقالت : لقد رأيته ، في المعبد ، عند وفاة أبيك ، قبل سنوات .
فقال نور ، وفمه مليء بالطعام : إنه حصان مبارك ، فهو يعيش في معبد الإله آشور .
وقالت الأم : أظن أن هذه هي المرة الأولى ، التي يخرج فيها من المعبد .
ودفع دادو قطعة أخرى من الكبة في فمه ، وقال : نعم ، خرج من معبد الإله آشور ، وسيأخذني إلى معبد الإله مردوخ في مدينة نيبور المقدسة .
وتوقفت اللقمة في فم الأم العجوز ، حتى كادت تختنق ، وصاحت : ماذا ! نيبور ؟
ونهض دادو ، وقال : كبة البرغل لذيذة جداً اليوم ، اعطيني كبة أخرى ، سآكلها وأنا في الطريق إلى لقاء الإله مردوخ ، في المدينة المقدسة .
وهبت الأم العجوز من مكانها ، وقالت بصوت منفعل : إن أباك ، رغم خفة عقله ، لم يُقدم على شيء كهذا ، في أي مرحلة من مراحل عمره .
ونظر دادو إلى أمه ، وقال بصوت هادىء : أمي ، الإله مردوخ ، ناداني من معبده ، في مدينة نيبور المقدسة ، ويجب أن أذهب .
فردت الأم قائلة : لكننا لا نعبد الإله مردوخ ، بل نعبد الإله آشور .
وقال دادو : الآلهة كلهم اخوة ، كما يقول الكاهن العجوز ، ونحن نعبدهم جميعاً .
وتوقفت الأم العجوز مذهولة ، وقالت بصوت تغرقه الدموع : لقد جُنّ دادو .
" 4 "
ــــــــــــــــــــ

رغم اعتراضات أمه العجوز ، وتوسلاتها المعززة بالدموع ، امتطى دادو حصان المعبد ، الذي قال عنه الكاهن ، بإنه مبارك من الإله آشور نفسه .
ولم ينسَ دادو ، قبل أن ينطلق نحو مدينة نيبور المقدسة ، لمقابلة الإله مردوخ ، أن يوصي أمه قائلاً : قولي للبستاني ، أن يرعى البستان ، حتى أعود .
وحثّ دادو حصانه برفق ، فهو ليس حصاناً عادياً ، وإنما حصان المعبد ، يرعاه ، ويحميه ، ويمنحه القوة والصبر ، الإله آشور نفسه .
وتطلع بعيداً ، حيث الآفاق المفتوحة ، التي مازال يغمرها ضوء النهار ، الطريق ممتدّ ، وصعب جداً ، والمسافة بين نينوى ونيبور طويلة جداً ، لكن ـ وهذا هو المهم ـ سيجد في نهايتها الإله العظيم مردوخ .
وعند اللقاء ، الذي لن ينساه عمره كله ، سيقول للإله مردوخ ، إنه جاء نيابة عن كاهن معبد آشور ، فهو عجوز ومتعب جداً ، ولن يتحمل مشاق السفر ، وهو تلميذه ، وبمثاة ابنه أيضاً .
وسيفرح الإله مردوخ ، فقد لبى كاهن معبد آشور نداءه ، صحيح إنه لم يأتِ بنفسه ، لكن لا بأس ، فهذا ما يستطيعه ، فهو إنسان .. إنسان عجوز .
وفوجىء دادو بغياب الشمس ، وحلول الظلام ، حتى لم يعد يتبين طريقه جيداً ، إنه لا يدري كيف مرّ الوقت بهذه السرعة ، فقد كان مستغرقاً في أحلامه ، ولقائه الذي لن يتكرر ، بالإله العظيم مردوخ .
وأوى إلى شجرة ضخمة ، ربط حصانه الأثير إليها ، وتمدد على مقربة منه ، وهراوته الضخمة ، التي ورثها عن أبيه ، في متناول يده ، تحسباً من مهاجمة وحش ضار ، جائع ، قد يفكر في العشاء به .
وتذكر دادو ، أنه لم يتناول طعام العشاء ، ففتح الصرة ، التي أعدتها له أمه ، آه يا لأمه الحبيبة ، فهي رغم زعلها ، لم تضع له في الصرة كبة واحدة ، بل وضعت له كبتين محشوتين باللحم .
وعلى الفور ، تناول دادو نصف كبة ، ونام ، نعم ، عليه أن يقتصد ، فهو من نينوى ، وأهل نينوى ، أحفاد الحكيم العظيم احيقار ، معروفون بحرصه ، وعدم تبذيرهم ، والتأني ، و ..
وأيقظته شمس الصباح ، بأشعتها الساطعة الدافئة ، فهبّ إلى حصانه الأثير ، الذي يحميه الإله آشور نفسه ، وانطلق نحو نيبور المقدسة .
لم يتوقف دادو طول النهار ، إلا ليشرب الماء من الغدران أو الآبار ، التي يصادفها على الطريق ، ناسياً أمر الطعام ، وهل من المعقول ، أن يتذكر الطعام ، حتى لو كان كبة برغل محشية ، وهو يفكر في الإله العظيم مردوخ ؟
وعند المساء ، أوى متعباً إلى شجرة ، فربط حصانه الأثير إليها ، وجاء بصرته ، وجلس تحت الشجرة ، ليتناول عشاءه ، وما إن فتح الصرة ، حتى أقبل رجلان ماشيان ، وتوقفا على مقربة منه .
ونظر أحدهما إلى الآخر ، بعد أن رمقا صرة الطعام بنظرة خاطفة جائعة ، وقال الأول : هذا مكان جيد ، لنقض ِ الليلة هنا .
فردّ الثاني ، وعيناه الجائعتان تلتهمان الكبة المحشية : أنا معك ، إنه مكان جيد .
ونظر دادو أليهما ، فقال الأول : سنبات هنا ، على مقربة منك ، إن لم تمانع .
وردّ دادو قائلاً : ولمَ أمانع ؟ إن مبيتكا هنا لن يكلفني شيئاً .
وجلس الرجلان على مسافة أمتار منه ، وأخرج كلّ منهما كسرة خبز من بين ثيابه ، وعينهما تحوم حول الكبة المحشية .
وغمز أحد الرجلين للآخر ، ثم التفت إلى دادو ، وقال : نحن رفاق سفر ، لنأكل معاً .
وعلى الفور ، ردّ دادو قائلاً : لا ، ليأكل كلّ منّا مما معه من طعام .
فقال الرجل الثاني : لكن ليس معنا نحن غير هذا الخبز اليابس .
ونهش دادو قطعة من الكبة المحشية ، وقال : إذن كُلا الخبز اليابس .
وصمت الرجلان نحنقين ، فتابع دادو قائلاً : نحن أهل نينوى ، نعمل دائماً بوصايا حكيمن العظيم .. أحيقار .
وصمت لحظة ، ثم تابع قائلاً : قال مخاطباً ابنه بالتبني نادين ، يا بنيّ نادين ، لا تشتهِ كبة غيرك ، مهما كانت محشية .
وهزّ الأول رأسه ، وقال الثاني : لا أظن أن احيقار ، قال هذه الحكمة ، رغم أنه من نينوى .
فقال دادو، وهو يجهز على نصف الكبة المحشية : ما أدراكَ ؟ أنت لست من نينوى .





" 5 "
ــــــــــــــــــــــ

أفاق دادو قبيل الفجر ، فلم يجد الرجلين ، وإن وجد حصانه الأثير في مكانه ، من يدري ، ربما لم يكن الرجلان لصين ، وحتى لو كانا كذلك ، فما كان بإمكانهما سرقته ، إنه حصان الإله آشور .
وأراد أن يفطر ، قبل أن يواصل سيره إلى المدينة المقدسة نيبور ، لمقابلة الإله مردوخ ، لكنه فوجىء بعدم وجود صرة الطعام ، يا للصين اللعينين ، لقد سرقا الصرة بما فيها من طعام ، ولاذا بالفرار .
وامتطى دادو الحصان ، وواصل طريقه نحو نيبور ، رغم أنه لم يتناول شيئاً من الطعام ، يللإله آشور ، لقد حمى حصانه من اللصوص ، لكنه لم يحمي كبته المحشية ، وتركه فريسة للجوع ، ترى ماذا يمكن أن يقول أحيقار في مثل هذين اللصين ؟
مهما يكن ، فلابدّ أن هناك حكمة وراء ذلك ، لقد جاء من أجل هذف سام ٍ ، سيذهب إلى نيبور ، ويقابل الإله العظيم مردوخ ، عند نوله من مقره في السماء ، حيث يعيش الآلهة خالدين .
وسار الحصان بثبات على الطريق ، على العكس مما توقعت أمه ، وربما الفضل في ذلك يعود إلى الإله مردوخ ، رغم أن الحصان ، ليس حصانه وإنما هو حصان الإله آشور ، مهما يكن فالآلهة اخوة ، يعون بعضهم البعض عند الحاجة .
وعند منتصف النهار ، لمح من بعيد رجلاً يقف قرب مرتف من التراب كأنه القبر ، وحثّ حصانه ، لعل الرجل المسكين بحاجة إلى مساعدة ، وما إن اقترب منه ، حتى عرف أنه أحد الرجلين اللذين استغلا فرصة نومه ، وسرقا كبة البرغل منه .
ورفع الرجل عينيه المذنبتين إلى دادو ، ثم أشار إلى القبر ، وقال : صاحبي .
وهمهم دادو ، دون أن يعلق بكلمة ، فتابع الرجل قائلاً :
أكل الكبة وحده ، فمات .
وهمز دادو الحصان برفق ، وواصل طريقه ، وهو يقول : إنها حكمة الإله آشور .
وتوقف الرجل ، في مكانه قرب القبر ، يتابع دادو ، على حصان المتعب حتى غاب .
وشعر دادو بالعطش ، عندما رأى بئراً على طرف الطريق ، فتوقف على مقربة منه ، وترجل عن الحصان ، ليرتاح قليلاً ويشرب بعض الماء .



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان طيف الاهوار
- اللبوة الجريحة
- رواية للأطفال حي ابن الإنسان ...
- رواية للفتيان جزيرة القمر ...
- رواية للفتيان الجوهرة المفقودة طلال ...
- رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل
- رواية للفتيان إله الدمار ...
- جايا الغزالة
- رواية للفتيان شترا و ريشيا ...
- رواية للفتيان النمر طلال حسن
- الهدنة
- رواية للفتيان وادي الافاعي ...
- رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال ...
- رواية للفتيان غابة الذئاب ...
- رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
- رواية للفتيان قمر من سماء عالية ...
- روايةللفتيان الزنبقة ...
- رواية للفتيان عينان في الماء طلال ...
- رواية للفتيان يوهيرو الأمل ...
- رواية للفتيان التاج طلال حسن


المزيد.....




- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن