|
رواية للأطفال حي ابن الإنسان طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7652 - 2023 / 6 / 24 - 01:03
المحور:
الادب والفن
رواية للأطفال
حي ابن الإنسان
طلال حسن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ الملك 2 ـ الملكة 3 ـ الأمير 4 ـ المرضعة 5 ـ الوزير 6 ـ الصياد الشاب 7 ـ الغزالة وصغيرها 8 ـ القردة وصغيرها 9 ـ الأرنب 10 ـ السلحفاة العجوز
" 1 " ـــــــــــــــــ منذ أيام ، والملكة غير مرتاحة وحزينة ، فالأمور خارج المدينة ، تثير القلق ، مما حرمها من مجالسة الملك ، كما في الماضي ، فهو رغم حبه لها ، وتعلقه الشديد بها وبطفله الأمير الصغير ، الذي تجاوز السنة الأولى من عمره بقليل ، إلا أنه لم يعد يلتفت لها ، أو للأمير الصغير ، أو لأي شيء آخر . وهو حتى عندما يجلس معها للفطور أو الغداء أو العشاء ، لا يكاد يأكل لقيمات ، حتى يلقي ما في يده من طعام ، ويهبّ عن المائدة ، وهو يتمتم : هذا ليس وقت تناول طعام ، المدينة في خطر ، فلأدعُ الوزير والقادة ، وننظر فيما علينا أن نفعل . وغالباً ما تلحق به الملكة إلى باب الغرفة ، وتقول له : مولاي ، أنت لم تأكل شيئاً يذكر . فيردّ عليها الملك ، دون أن يتوقف : الأعداء يقتربون من المدينة ، نحن في خطر . واليوم ، عند حوالي منتصف النهار ، أقبل الملك على الملكة ، وقال لها : أين الأمير ؟ وتطلعت الملكة إليه ، وآلمها جداً أن الشحوب والإنهاك يعلوان وجهه ، وردت قائلة بصوت تخنقه الدموع : لا تقلق ، الأمير عند المرضعة . ولاذ الملك بالصمت لحظة ، وقد بدا عليه القلق ، فقالت الملكة : تعال لتراه .. وقاطعها الملك قائلاً بصوت مضطرب : سأراه فيما بعد ، إنني مشغول الآن . وبنبرة شبه متوسلة ، رجته الملكة قائلة : أرجوك ، ابقَ معنا ، الغداء سيجهز بعد قليل ، لنتغدّ معاً . وربت الملك على كتفها برفق ، وقال لها : لستُ جائعاً ، اذهبي إلى الأمير ، وابقي معه ، الأعداء يحاصرون المدينة ، وقد يقتحمونها في أية لحظة . وتمتمت الملكة ، وقد اتسعت عيناها هلعاً : يا ويلي ، طفلي ، الأمير .. ومدّ الملك يده ، ودفعها برفق ، وقال : اذهبي إليه ، أسرعي ، لا تدعيه يغيب عنك لحظة واحدة . وأسرعت الملكة ملهوفة قلقة إلى الأمير الصغير ، وداخلها بعض الشعور بالراحة ، حين رأته في أحضان المربية ، وهو يرضع باطمئنان ، وتطلعت المرضعة إليها ، وفي عينيها أكثر من سؤال خائف قلق ، فهربت الملك من عينيها ، وهي تقول لها بصوت مضطرب : أرضعيه حتى يشبع . وردت المرضعة ، ويداها حول الأمير ، الذي كان مستغرقاً في الرضاعة : نعم ، مولاتي . ورفعت المرضعة عينيها المسكونتين بالخوف والقلق ، وقالت بصوت خافت : مولاتي .. وحدقت الملكة فيها ، وقالت : أيتها المرضعة ، لو تعرفين مدى خوفي على طفلي ، الأمير الصغير .. ولاذت المرضعة بالصمت ، رغم الأسئلة التي تضج في عينيها الخائفتين ، وتابعت الملكة قائلة : أنتِ تعرفين ، أنني انتظرت سنين طويلة ، حتى جاءنا طفلنا هذا ، ولم نهنأ به بعد ، لا أنا ولا جلالة الملك . وقالت المربية ، والأمير الصغير مازال يرضع : لا عليك ، يا مولاتي ، ستهنئين به يعون الآلهة . ومالت الملكة على الأمير الصغير ، وقالت بحرقة : لكن الأخطار تحدق به من جميع الجهات . وضمت المرضعة الأمير الصغير إلى صدرها ، وقالت بحرارة : الأمير الصغير بضعة مني ، يا مولاتي ، وسأفديه بحياتي . واعتدلت الملكة ، وقد استبد بها الخوف والقلق ، وتساءلت وكأنما تتحدث إلى نفسها : ولكن ماذا لو أن الأعداء اقتحموا المدينة هذه الليلة ؟ آآآآه . وتطلعت المرضعة إليها ، وقالت : مولاتي .. وقاطعتها الملكة ، دون أن تنظر إليها ، وقالت : مهما كان الأمر ، المهم أن يكون طفلي بأمان . وكأن الأمير الصغير ، أحسّ بالأجواء المشحونة بالخوف والقلق ، فحاول أن يتوقف عن الرضاعة ، لكن المرضعة شدته إلى صدرها ، وقالت : مولاتي ، زوجي صياد سمك ، ولديه قارب جيد ، يمكننا أن نأخذك أنت والأمير الصغير ، و .. وأسرعت الملكة إليها ، وأمسكتها من كتفيها ، وقالت : كلا ، لا تهمني حياتي ، المهم حياة الأمير الصغير ، سأبقى إلى جانب الملك حتى النهاية ، وإذا ساءت الأمور ، خذي الأمير ، أنت وزوجك ، وتوغلا به بعيداً ، في عرض البحر ، بعيداً عن الأخطار . وهزت المرضعة رأسها ، وقالت : أمر مولاتي . وعند منتصف الليل ، اقتحم الأعداء المدينة ، وفزّت الملكة من نومها ، على قعقعة السلاح والصراخ والحرائق ، وهبت إلى الأمير الصغير ملتاعة ، وإذا به مستغرق في نوم عميق ، والمرضعة تتململ قلقة على مقربة منه ، وقد شلتها الأصوات ، التي تهبّ عليهم من أطراف المدينة المنكوبة ، وحين رأت الملكة ، استغاثت بها بصوت مضطرب : مولاتي .. وبصوت مضطرب أرادته أن يكون خافتاً ، خوفاً أن يفزّ الأمير الصغير ، قالت الملكة : أصغي ، إنه الدمار وحمام الدم ، يبدو أن الأعداء اقتحموا المدينة . وتساءلت المرضعة حائرة : ما العمل ، يا مولاتي ؟ الوقت يداهمنا ، لا يجب أن ننتظر . وركضت الملكة بسرعة نحو النافذة ، ونظرت إلى الخارج ، ثم عادت إلى المرضعة ، وقالت : إنهم على ما يبدو يقتربون من القصر ، علينا أن نسرع وإلا .. ومدت يديها ، وأخذت الأمير الصغير ، الذي راح يتمتم منهنها : ماما .. ماما .. وتندت عينا الملكة بالدموع ، وقالت وهي تحدق في الأمير الصغير : بنيّ ، انتظرتك طويلاً ، وها أنا أرسلك إلى المجهول ، لعلك تنجو . وتلفتت المرضعة حولها قلقة ، وأصوات المعارك تضج في الخارج ، وقالت : بل سينجو ، يا مولاتي بعون الآلهة ، دعيني آخذه . وفي تردد ، وضعت الملكة صغيرها الأمير ، بين يدي المرضعة ، وهي تقول : أيتها المرضعة ، هذه حياتي أضعها بين يديك ، حافظي عليها . وضمت المرضعة الأمير الصغير بذراعيها القويين إلى صدرها ، وعيناها تغرقان بالدموع ، فأجهشت الملكة بالبكاء ، وقالت : هيا ، اذهبي ، إنهم يقتربون ، ولن يرحموا صغيري إذا وقع بين أيديهم . وعلى عجل ، انطلقت المرضعة بالأمير الصغير إلى الخارج ، وهي تقول : اطمئني ، يا مولاتي ، الأمير حياتي ، ولن أفرط بحياتي مهما كانت الظروف . ورافقتها الملكة مهرولة ، ووقفت عند الباب ، تراقبها بعينيها اللتين يغشيهما الدمع ، حتى غابت ، وغاب معها الأمير الصغير . وأغلقت الملكة باب الغرفة ، وتراجعت ببطء إلى الوراء ، ثم تداعت جاثية أمام فرش صغيرها الأمير ، والدموع تغرق عينيها ، وتمتمت قائلة : بنيّ ، صغيري الأمير ، أودعتك بين أيدي الآلهة ، فلترعك الآلهة ، وتحفظك لي ، حيثما تكون .
" 2 " ـــــــــــــــــ تسللت المرضعة ، عبر حدائق القصر الخلفية ، تحت جنح الظلام ، إلى الخلاص ، ويداها المحبتان تضمان إلى صدرها الأمير الصغير ، وبخطوات متوجسة خائفة سريعة ، حادت عن الطريق المعبد ، المحاذي للقصر الملكي ، إلى طريق جانبي ، متعرج ، تظلله أشجار عالية كثيفة ، يؤدي في نهايته إلى ساحل البحر ، حيث مركب زوجها صياد السمك . وعند منتصف الطريق ، وحواسها الحذرة المرهفة تلتقط كلّ نأمة تصدر من حولها ، أحست بمقاتل أو أكثر ، ربما ليس من مدينتها ، يتوقف بعيداً ، وراءها ، ثم يصيح بأعلى صوته : من هناك ؟ لم تبطىء ، ولم تلتفت ، ولم تردّ عليه ، وإنما حثت خطاها ، ويداها تضمان الأمير الصغير إلى صدرها ، ولاح لها شاطىء البحر من بعيد رغم الظلام ، إنه الخلاص ، ويجب أن تبلغه مهما كلف الأمر ، ومن ورائها ، في ظلمات الطريق ، تناهى إليها وقع أقدام متسارعة ، إنه ليس مقاتل واحد ، هذا ما خمنته ، وجاءها صوت ، ليس هذا صوت المقاتل الأول ، يصيح بها آمراً : توقف .. توقف . وطبعاً لم تتوقف المرضعة ، فالتوقف لا يعني الموت لها فقط ، وإنما أيضاً يعني الموت لأمانتها ، كنزها ، حياتها ، الأمير الصغير ، وأسرعت أكثر وأكثر ، والقارب الخلاص يقترب منها أكثر وأكثر ، وجاءها صوت المقاتل الأول غاضباً ومهدداً : توقف ، أيها المجرم ، وإلا أطلقنا عليك سهامنا ، وقتلناك في الحال . وهذه المرة أيضاً ، لم تتوقف المرضعة ، وتمنت لو أن زوجها صياد السمك معها ، لربما أخذها بنفسه في القارب ، وطار بها وبالأمير الصغير ، بعيداً عن الحرائق والموت ، لكن زوجها في البيت ، مع صغيرها ، وهو تقريباً بعمر الأمير الصغير ، و.. وشعرت بشيء كالنار يلسعها في كتفها ، ترى ما هذا ؟ ولاح لها القارب رغم الظلام ، فهي تعرف مكانه ، وزوجها الصياد يسحبه من ماء البحر ، حين يعود من الصيد ، وأسرعت إلى القارب ، ودفعته إلى البحر ، ووثبت إليه ، وأصوات المقاتلين من الأعداء يأتيها من الظلام : توقف .. توقف .. توقف .. ووضعت المرضعة الأمير الصغير إلى جانبها في القارب ، وتناولت المجذافين ، وبكل ما تملك من قوة ، وتصميم على الخلاص ، راحت تجذف وتجذف ، مبتعدة عن الشاطىء ، والموت المحقق . ووصل المقاتلان لاهثين إلى الشاطىء ، حيث كان القارب ، الذي استقلته المرضعة ، ومعها الأمير الصغير ، وذابا في ظلام البحر ، وتلفتا يميناً ويساراً ، وحدقا في البحر ، الذي كان يغطيه الليل ، بعباءته السوداء القاتمة ، لكنهما لم يعثرا على أي أثر لما كانا يطاردانه ، فقال المقاتل الأول : أخشى أن ما رأيناه ، وطاردناه في هذا الليل ، مجرد شبح من الأشباح . وصاح المقاتل الثاني مستنكرا : شبح ! فردّ الأول قائلاً : نعم شبح ، وذاب في الظلام ، كما تذوب الأشباح ، وإلا فأين هو ؟ واستدار المقاتل الثاني ، وأعاد السهم إلى جعبته ، وهو يقول : أنت أعمى ، قلما ترى حتى في النهار ، كان أحدهم يركض ، وكان على ما يبدو يحمل شيئاً ثميناً ، ربما كنز . ولحق المقاتل الأول به ، وقد استشاط غضباً ، وقال : حسناً ، أنت المبصر حتى في الظلام ، أين اختفى حامل ذلك الكنز ، يا ذكي ؟ وحث المقاتل الأول خطاه ، وقال : دعنا من هذا ، هيا نسرع إلى القصر ، لعلنا نحظى بشيء له قيمته ، لقد فاتنا حامل الكنز ، فلا تدع يفوتنا ما في قصر الملك من كنوز ، هيا ، فلنسرع . وحثّ المقاتل الثاني خطاه المتلهفة ، ولحق بالمقاتل الأول ، وسرعن ما ذابا في جموع المقاتلين ، المتدافعين ، والمدججين بالأسلحة ، نحو قصر الملك . وعلى الطرف الآخر ، في البحر ، ورغم صخب أمواجه ، وتلاطمها في الظلام ، المحيط بالقارب الصغير ، انتبهت المرضعة ، وهي منهمكة بالتجذيف ، والهرب من نار الأعداء القاتلين ، إلى شيء دافىء يسيل فوق كتفها ، ومدت يدها ، أنه سهم ودماء ، وبكل ما تملك من قوة نزعت السهم من كتفها ، وكادت تتهاوى على أرضية القارب ، وهي تكتم صرخة متوجعة . وتماسكت بصعوبة ، ضاغطة على شفتيها بأسنانها ، كي لا تصرخ من شدة الألم ، وانتبهت إلى بكاء الأمير الصغير ، الملفوف جيداً بأكثر من دثار ، فتحاملت على نفسها ، ومدت يديها ، وحملت الأمير الصغير ، وضمته إلى صدرها ، وهي تقول : آه لابد أن الأمير الصغير المسكين ، يشعر بالبرد ، في هذا الليل المثلج . وانتظرت ، انتظرت متمنية أن يتوقف عن البكاء ، ويخلد إلى النوم ، لعلها تغفو هي الأخرى ، لكن دون جدوى ، ما العمل ؟ وهزت رأسها المتعب ، المثقل بالنعاس ، يا لحمقها ، إنه جائع ، فهو لم يرضع قطرة واحدة من حليبها ، منذ أن هربت من القصر حتى الآن . وعلى الفور ، فتحت أزراراً من ثوبها ، وأخرجت ثديها ، ووضعت حلمته بين شفتي الأمير الصغير ، وهي تقول بصوت أمومي دافىء : ارضع ، يا صغيري ، ارضع وسرعان ما ستشبع ، وتشعر بالدفء . وراح الأمير الصغير ، وهو آمن فوق صدر مرضعته الأمومي ، يرضع .. ويرضع .. ويرضع ، والأمواج تهدهده بهزها للقارب في الظلام ، وسرعن ما استغرق في نوم عميق ، وكأنه يرقد في فراشه الملكي ، الذي ترعاه أمه الملكة . وبعد منتصف الليل ، هبت ريح هادئة ، فانجابت الغيوم الثقيلة قليلاً ، وأطل القمر بدراً ، بوجهه الشاحب من أعالي السماء ، وابتسم بحزن شفيف ، حين رأى قارباً صغيراً ضائعاً بين أمواج البحر ، وعلى متنه امرأة متعبة غافية ، وفي حضنها الدافىء ، طفل صغير مستغرق في النوم .
" 3 " ــــــــــــــــــ أفاقت المرضعة على صيحات طيور ، أم إنه الألم الذي أحدثه السهم في كتفها ، هو من أيقظها من سباتها القلق ؟ من يدري . وفتحت عينيها بصعوبة ، وداهمتها أشعة الشمس ، إنه النهار إذن ، وفيما يشبه الحلم ، تراءى لها أنها ترى طيور البحر ، تحلق فوق القارب ، وينقض أحدها ، بين حين وآخر ، ليلتقط سمكة من ماء البحر . واعتدلت في مكانها بصعوبة بالغة ، فالألم الذي سببه السهم في كتفها ، ازداد خلال الليل ، وانتبهت إلى أن حلمة ثديها ، قريبة من شفتي الأمير الصغير ، وبدا لها أنه كان كلما استيقظ من نومه ، أطبق بشفتيه على حلمتها ، وراح يرضع ، حتى يشبع ، ويعود إلى النوم . وتلفتت حولها ، ولاحت أمام ناظريها جزيرة ، لا يبدو أنها كبيرة ، لكنها مكتظة بالأشجار الكثيفة العالية ، وتكاد تمتد حتى الشاطىء ، الذي تأتيه أمواج البحر ، وتنسحب منه بانتظام مرة بعد أخرى . وشعرت ، وهي في مكانها ، والأمير الصغير في حضنها ، أن أمواج البحر ، تدفع القارب برفق ، نحو الجزيرة الصغيرة الخضراء ، وتمنت أن تكون الجزيرة غير مأهولة ، فقد يطمع بعض أهلها ، بعد أن يعرفوها هي والأمير الصغير ، فيسلمونهما إلى الحكام الجدد ، الذين غزوا المدينة ، وباتوا حكاماً فيها الآن . وانتبهت إلى الأمير الصغير ، يفيق من النوم ، ويلتقم حلمة ثديها على الفور ، ويشرع في الرضاعة بنهم ، فابتسمت رغم آلامها ، وقالت بصوت مجروح : ارضع ، يا صغيري ، ارضع حتى تشبع . وعند حوالي منتصف النهار ، ارتطمت مقدمة القارب الصغير برمال الشاطىء ، فنهضت المرضعة محتضنة الأمير الصغير ، ونزلت به إلى الشاطىء الرملي ، ثمّ سحبت القارب بصعوبة ، وبشعور شديد بالألم ، وأبعدته قليلاً عن ماء البحر . وتوقفت تتلفت حولها ، لتعرف أين هي ، وأين يمكن أن تذهب ، ولو لبعض الوقت ، لتحمي نفسها ، هي والأمير الصغير ، مما قد يواجهها على هذه الجزيرة الصغيرة المجهولة الغامضة . وبخطوات ثقيلة مترددة ، سارت مبتعدة عن الشاطىء الرملي ، حتى اقتربت من صفّ الأشجار الأولى ، القريبة من البحر ، أشجار مختلفة ، عالية ، بعضها مثقل بمختلف أنواع الثمار الشهية . وتقدمت بين الأشجار الكثيفة العالية ، متألمة متوجسة ، والأمير الصغير بين يديها هادىء صامت ، وتوقفت مبتسمة حين رأت غزالة تنظر إليها ، وإلى جانبها خشف صغير يحدق فيها مندهشاً ، وكأنه يتساءل في نفسه ، من هي هذه الكائنة الغريبة ؟ ورمقت الأمير الصغير بنظرة سريعة ، كأنها تقول له ، هذه غزالة وخشفها ، والغزلان لا يؤذون أحداً ، فهم نباتيون مسالمون ، لكنها لم ترَ الثعلب الفتيّ ، يطل من وراء إحدى الأشجار ، ولو رأته لقالت في نفسها ، هذا كائن لا يُطمئن ، رغم أنه صغير بحجم الكلب . واستأنفت سيرها متوجعة ، وقد ضمت الأمير الصغير إلى صدرها ، وتوقفت بعد حين ، عندما رأت بين شجيرات قريبة كثيفة الأغصان ما يشبه الوكر ، ومن يدري لعله وكر غزالة من الغزلان ، تلوذ به خوفاً من الحيوانات الضارية ، وتساءلت بينها وبين نفسها ، ترى هل توجد ضواري في هذه الغابة ؟ من يدري ، إنها غابة ، وأي غابة . واتجهت إلى الوكر ، تسير متوجعة بصعوبة بالغة ، وهي تقول في نفسه ، هذا مكان ظليل ، يحمينا من أشعة الشمس الحارة ، ومن بعض الكائنات المفترسة ، إن كانت هنا مثل هذه الكائنات . ووضعت المرضعة الأمير الصغير برفق على العشب ، وتهاوت جالسة إلى جانبه ، وراحت تراقبه مبتسمة رغم توجعها ، وهو يعبث بيديه الصغيرتين بالعشب الأخضر الندي ، وحين سحب يديه الصغيرتين ، وقد ملّ من اللهو والعبث ، أخذته إلى صدرها ، وراحت ترضعه حتى شبع ، واستسلم للنعاس ، واستغرق في النوم ، عندها وضعته بدثاره السميك على الأرض المعشبة . وتراجعت إلى الوراء ، واتكأت على جذع إحدى الشجيرات ، وقرصها الجوع ، فتذكرت بأنها لم تأكل أي شيء منذ ليلة البارحة ، وتلفتت حولها ، ماذا يمكن أن تأكل هنا ، في هذه الجزيرة الصغيرة ؟ وتحاملت على نفسها ، ونهضت بصعوبة ، مستندة إلى أغصان الشجيرات القريبة ، وتوقفت في مدخل الوكر ، وتلفتت يمينا ويساراً ، ثم سارت ببطء ، وهي تئن وتتوجع ، وتوغلت بين أشجار الغابة الكثيفة العالية ، حتى غابت ، وتلاشى وقع خطواتها على العشب . وعلى مسافة من الأجمة ، التي يرقد فيها الأمير الصغير ، كانت الغزالة ترقد تحت شجرة ضخمة ، وقد استغرقت في نوم عميق ، بينما جثا خشفها إلى جانبها ، وهو يصغي إلى تغريد طائر ، يقف على غصن قريب . ونهض الخشف ، وقد كفّ عن الإصغاء إلى تغريد الطائر ، فقد تناهت إليه من الأجمة أصوات لم يألفها ، ولم يسمع مثلها من قبل ، وراح يسير متوجساً نحو مصدر الأصوات ، وتوقف عند مدخل الأجمة ، وتطلع بعينين مندهشتين إلى الداخل ، وفوجىء بكائن صغير ، لم يرَ مثله من قبل ، يتخبط على الأرض المعشبة ، باكياً بين طيات دثاره الغريب . ووقعت عينا الأمير الصغير على الخشف ، الذي كان يحدق فيه مندهشاً ، فكفّ عن البكاء ، ومدّ يديه الصغيرتين إليه ، وكأنه يناديه أن تعال ، وقبل أن يخطو الخشف إليه خطوة واحدة ، جاءه صوت الثعلب الفتيّ من ورائه قائلاً : دعه ، إنه ليس صغير غزالة مثلك ، لتدنو منه ، وتداعبه . لم يلتفت الخشف إليه ، وإنما قال له : وهو ليس صغير ثعلب مثلك ، لن أدعه لك ، فقد تؤذيه . وتقدم الثعلب الفتيّ منه ، ودفعه بقوة قائلاً : إنه لي ، فأنا صاحب هذا الوكر . وصاح الخشف مستغيثاً ، وهو يكاد يتهاوى على الأرض : ماما .. ماما . وعلى الفور أقبلت الغزالة ، وتساءلت : بنيّ ، ما الأمر ؟ لقد أقلقتني . فالتفت الخشف إليها ، وأشار إلى الثعلب الفتيّ ، وقال لها : الثعلب دفعني ، ويريد أن يأخذ هذا الصغير ، وقد يؤذيه كما يفعل بالصغار دائماً . وعلى الفور ، وبدون تردد ، أحنت الغزالة الأم رأسها ، واندفعت نحو الثعلب الفتي ، ونطحته بقوة ، وألقته على الأرض . وصرخ الثعلب الفتيّ متألماً ، ثم تحامل على نفسه ، ومضى مبتعداً ، وهو يولول : آه كسرتِ ساقي ، سأبقى مكسور الساق طول عمري ، هذا إذا شفيت . ونظر الخشف إلى أمه ، وقال : ماما ، لنبقَ مع هذا الصغير إلى أن تعود أمه ، فقد يعود الثعلب اللعين ، ويهاجمه ثانية . وربتت الغزالة على رأس صغيرها ، وقالت : كما تشاء يا بنيّ ، ، سنبقى معه ، فقد تعود أمه بعد قليل .
" 4 " ــــــــــــــــــ لم تعد المرضعة إلى الوكر ، الذي تركت فيه الأمير الصغير ، لا في العصر ولا بعده ، وقبيل غروب الشمس ، قالت الغزالة لصغيرها الخشف : بنيّ ، الشمس ستغرب بعد قليل ، ويخيم الليل ، علينا أن نسرع في العودة إلى وكرنا . ونظر الخشف إلى الطفل الصغير ، وقد خرج من دثاره ، وراح يزحف نحوه ، ثم قال لأمه : ماما ، هذا الصغير لم تعد أمه بعد ، وأخشى أن يأتي الثعلب ، ويؤذيه ، كما يؤذي الطيور والأرانب . ولاذت الغزالة بالصمت حائرة ، وحدقت في الطفل الصغير ، وهو يقترب من خشفها ، ويمدّ يديه الصغيرتين إليه ، ثم قالت : حسناً ، يا صغيري ، لنبقَ معه حتى تأتي أمه . وصمتت برهة ، ثم خاطبت خشفها قائلة : الشمس ستغرب بعد قليل ، وستخلد إلى النوم ، تعال ، يا صغيري ، وارضع قبل أن تنام . وعلى الفور ، أقبل الخشف على أمه ، ودس رأسه بين قائمتيها الخلفيتين ، وأمسك بشفتيه ضرعاً من ضروعها ، وراح يرضع بنهم . ويبدو أن الطفل الصغير ، تذكر المرضعة ، ومذاق حليبها الدافىء عندما كان يرضع منها ، فجلس قبالة الغزالة ، يحدق في صغيرها الخشف ، وسرعان ما راح يبكي بصوت مرتفع ، ويصيح : ماما .. وتوقف الخشف عن الرضاعة ، وانسحب من بين قائمتي أمه الخلفيتين ، وقال لها : ماما ، انظري إلى هذا الصغير ، يبدو أنه جائع . وهزت أمه رأسها حائرة ، ثم قالت : لا عليك ، يا صغيري ، ستأتي أمه بعد قليل ، وترضعه . ونظر الخشف إلى الطفل الصغير ، الذي ازداد بكاؤه ، ثم قال : وإذا لم تأتِ أمه ؟ ونظرت الغزالة إليه حائرة ، ثم قالت : إنه صغير ، يا صغيري ، يجب أن تأتي أمه وإلا .. وصمتت حين ارتفع بكاء الطفل ، وهو ينظر إليها ، ويصيح مستغيثاً : ماما .. ماما .. وتطلع الخشف إلى أمه ، وقال : ماما ، أرضعيه أنتِ ، ولو مرة واحدة ، ريثما تعود أمه . ولاذت الغزالة بالصمت حائرة ، لعلها كانت تفكر كيف يمكن أن ترضعه ، فهي لم ترضع من قبل صغيراً مثله ، واقترب الخشف من الطفل ، وراح يدفعه برفق ، نحو ضروع أمه ، وهو يقول : تعال ارضع ، أيها الصغير ، أمي سترضعك ريثما تأتي أمك . وتوقف الطفل عن البكاء ، وراح يتبادل النظر مع الخشف ، وكأنه يفكر فيما عليه أن يقوله ، ودس الخشف رأسه بين قائمتي أمه الخلفيتين ، وأمسك بشفتيه أحد ضروعها ، وراح يرضع ، ثم قال للطفل : أنت جائع ، تعال ارضع حتى تشبع ، تعال . وعلى الفور ، زحف الطفل على يديه وقدميه ، وتوقف قرب الخشف ، بين قائمتي الغزالة الخلفيتين ، والتقط بشفتيه المتلهفتين أحد ضروعها ، وراح يرضع .. ويرضع .. ويرضع .. دون توقف . وابتسم الخشف فرحاً ، وهتف بصوت مرتفع : ماما ، الصغير يرضع منك كما أرضع ، انظري .. وضحكت الغزالة فرحة لفرح صغيرها ، وقالت : ارضع معه ، يا صغيري ، حتى تشبعا . ورضع الطفل حتى شبع ، وترك الضرع المليء ، ولعق ما علق بشفتيه من حليب الغزالة ، ويبدو أن الخشف شبع هو الآخر ، فانسحب من بين قائمتي أمه الخلفيتين ، وهذا ما فعله الطفل أيضاً ، وثوى أحدهما إلى جانب الآخر ، في إحدى زوايا الوكر ، وسرعان ما استغرقا في النوم . وتوقفت الغزالة تنظر إليهما ، ثمّ مدت رأسها ، وأمسكت بأسنانها الدثار ، وسحبته برفق فوق خشفها والطفل ، وثوت إلى جانبهما ، وأغمضت عينيها ، وقبل أن تستغرق في النوم ، فكرت ملياً في هذا الطفل الغريب ، وماذا يمكن أن يجري له ، إذا لم تعد أمه في الوقت المناسب ، وتقوم برعايته حتى يكبر . ولأن المرضعة ، لم تعد في اليوم التالي ، ولا في الأيام التالية ، اضطرت الغزالة على البقاء في الوكر ، ترعى خشفها ومعه ترعى الطفل الصغير ، وإذا ألحّ عليها الجوع ، خرجت لبرهة قصيرة ، ترعى في الجوار ، ثم تعود بسرعة إلى الوكر . وذات يوم ، وكانت تلتهم العشب بسرعة ، قريباً من الوكر ، رأت الثعلب الفتيّ يحوم في الجوار ، وهو يعرج في سيره ، فتقدمت منه ، وخاطبته محذرة : أيها الثعلب ، إياك أن تقرب أحد صغيريّ . ورمقها الثعلب بنظرة سريعة حذرة ، ثم قال : الخشف صغيرك ، ولم أقربه يوماً ، لكن الأخر ليس صغيرك ، وليس صغير كائن نعرفه هنا .. وقاطعته الغزالة قائلة : هذا الصغير صغيري ، إنه خشفي الثاني ، إلى أن تظهر أمه ، ولن أسمح لك ، أو لأحد غيرك ، أن يُؤذيه . ولاذ الثعلب الفتي بالصمت ، ثم استدار ببطء ، ومضى في طريقه مبتعداً ، وهو يعرج ، وسمعته الغزالة يتمتم : يا للجنون ، غزالة تتبنى صغيراً ليس من نوعها . وفوجئت الغزالة ، بعد أيام ، بالطفل يتحامل على نفسه ، ويقف متمايلاً على قدميه الصغيرتين ، ويخطو بضعة خطوات ، وبدا أنه فرح بما قام به ، فقد توقف ضاحكاً ، وهو يغمغم : ماما .. ماما .. وتراءت لها صديقتها القردة ، التي تعيش مع صغيرها فوق شجرة ضخمة تطل على النبع ، تسير وصغيرها على قدمين ، وليس على أربعة كما تفعل هي وخشفها والأرنب والثعلب و .. ومضت إلى النبع ، لمقابلة صديقتها القردة ، وقبل أن تذهب ، لم تنسَ أن تقول لخشفها : صغيري ، ابق في الوكر ، أنت والصغير الآخر ، ولا تخرجا مطلقاً ، لن أغيب عنكما طويلاً . وردّ عليها الخشف قائلاً : نعم ماما ، سنبقى نلعب في داخل الوكر حتى تعودي . وكانت الغزالة عند وعدها ، إذ لم تغب طويلاً ، وجاءت بسرعة ومعها صديقتها القردة ، وصغيرها الذي يشبهها كثيراً ، وقالت لها ، وهي تدخل الوكر : تعالي ، وانظري إليه ، يبدو لي وكأنه واحد منكم . ونظرت القردة إلى الطفل ، ودققت فيه النظر ، وهو يضحك ويلهو مع الخشف ، ثم ينهض ويخطو ضاحكاً على قدميه ، فنظرت الغزالة إليها ، وقالت : انظري ، إنه يسير مثلك ومثل صغيرك على قدمين ، بل ويضحك مثلكما تماماً ، انظري جيداً ، ماذا تقولين ؟ ورمقت القردة صغيرها بنظرة سريعة ، ثمّ هزت رأسها ، وقالت : هذا ليس صغيراً من صغارنا ، نعم ، قد يسير ويركض على قدميه مثلنا ، وقد يقهقه كما نقهقه ، لكنه ليس قرداً ، إنه .. وصمتت القردة مفكرة ، فتساءلت الغزالة : إذا كان هذا ليس قرداً ، فما هو إذن ؟ ورفعت القردة يدها المشعرة ، وحكت رأسها بإحدى أصابعها الطويلة ، وقالت : لا أدري ، لكنه ما أدريه أنه ليس قرداً من القرود . ونظرت الغزالة إليه حائرة ، وقالت : إنني أرضعه الآن مع خشفي ، الذي سيأكل الحشائش مثلي حين يكبر ، لكن هذا الصغير ، إذا كبر ، ماذا سيأكل ؟ ومرة أخرى ، حكت القردة رأسها بأحد أصابعها الطويلة ، وهي تفكر ، ثم قالت : لا أدري .. وتمتمت الغزالة وكأنه تحدث نفسها : إنني أخشى ، إذا كبر ، أن لا يأكل الحشائش مثلنا ، وإنما يأكل ما يكله .. الثعلب .. والنسر .. و .. وتنهدت ، وقالت : ليت أمه تعود . لكن المرضعة لم تعد ، ولن تعود ، فقد اشتد ّ عليها الألم ، وهي تبحث عن طعام لها ، ثم سقطت بين الأعشاب ، ولم تنهض ثانية .
" 5 " ــــــــــــــــــ كما يمرّ السحاب في السماء ، تمرّ الأيام سريعة ، الشمس تشرق صباحاً من الشرق ، وتتسلق السماء ساعة بعد ساعة ، ثم تنحدر نحو الغرب ، حتى تغرب وتختفي ، ترى أين تختفي ؟ من يدري . ويظهر القمر ليلاً ، في البداية يظهر هلالاً ، ويكبر ويكبر مع الأيام ، حتى يصير بدراً ، ثم يتناقص ، لماذا ؟ من يقضمه ؟ لا أحد يدري ، ثم يختفي تماماً ، ليعود للظهور سريعاً ، على شكل هلال . كبر الخشف ، وصار له قرنان صغيران ، وترك ضروع أمه ، رغم أنها لا تخلو من الحليب الدافىء ، وراح يأكل الحشائش الندية اللذيذة ، غير أنه أحياناً ، ربما قليلة ، يحن إلى ضروع أمه ، لكنه لا يطلبها خجلاً ، لقد كبر ، لم يعد خشفاً صغيراً ، والحشائش كثيرة جداً ولذيذة ، وهي طعام الغزلان البالغة . والطفل ، الأمير الصغير ، نفسه ، لم يعد طفلاً صغيراً ، ولم يعد يزحف على الأرض ، أو يتمايل عندما يقف على قدميه ، بل صار يركض ، صحيح إنه يقلد الخشف أحياناً ، ويحاول أن يركض على أربعة ، لكن الخشف ، في هذه الحالة ، يسبقه ، وعندما يرى القرد الصغير ، يركض على قدميه ، يقلده أيضاً ، ويركض مثله ، لكن القرد الصغير ، يتفوق عليه ، وخاصة في تسلق الأشجار الضخمة العالية . وعندما ترك الخشف ، الذي لم يعد خشفاً ، ضروع أمه ، وحليبها اللذيذ الدافىء ، وترك القرد الصغير ثديي أمه ، اللذين يذكران الأمير الصغير ، فيما يشبه الحلم ، بثديي امرأة كان يرضع منها ، حاول أن يترك ضروع الغزالة ، التي لم تمنعه من الرضاعة ، كما لم تعرض عليه ضروعها ليرضع منها . وربما انتبهت القردة الأم إلى ذلك ، ومن يدري ، لعل الغزالة نفسها ، حكت ذلك للقردة ، فقدمت له القردة عدة أنواع من الثمار ، وقد تذوقها في البداية ، متردداً ، متوجساً ، لكنها أعجبته ، فترك هو الآخر ضروع الغزالة ، وراح يأكل الفواكه . وإلى جانب الفواكه ، حاول الأمير الفتيّ مراراً أن يقلد الغزال الفتيّ ، فيأكل الحشائش مثله ، لكنها لم تعجبه ، رغم أنها كانت زاهية وندية ، وجرب أوراق الأشجار والشجيرات ، لكنه لم تعجبه أيضاً ، وإنما أعجبته الفواكه على اختلاف أنواعها ، وبعد أن كان يطلبها من القردة الأم وصغيرها ، راح يبحث عنها بنفسه ، ويقطفها من الأشجار المختلفة ، التي تكثر في محيط النبع . وذات ظهيرة ، والجو حار بعض الشيء ، جلس الأصدقاء الثلاثة ، القرد الصغير ، والغزال الفتي ، والأمير الفتيّ ، تحت الشجرة الضخمة ، التي تطل على النبع ، بعد أن تناول كلّ منهم الطعام الذي يفضله . ولاح الثعلب من بعيد ، يسير متخفياً بين الأعشاب ، وهو يعرج ، وأشار إليه الغزال الفتي ، وقال ضاحكاً : انظرا ، إنه الثعلب الأعرج . ونظرا إليه معاً ، القرد الصغير ، والأمير الفتيّ ، وقال القرد : هذا الثعلب ، إنني لا أحبه . وهزّ الأمير الفتيّ رأسه ، وقال : لولا عرجه ، لكان كائناً جميلاً ، وأجمل ما فيه فراؤه . وضحك الغزال الفتيّ ، وخاطب الأمير الصغير ، وقال : ربما أنت لا تعرف ، لماذا يعرج هكذا . وابتسم القرد ساخراً ، وقال الأمير الصغير : نعم ، في الحقيقة ، لا أعرف لماذا يعرج . فنظر إليه الغزال الفتيّ ، وقال : لقد تعرض لك في الوكر ، وأنت طفل صغير ، وحاول أن يؤذيك ، فنطحته ماما نطحة قوية ، سببت له العرج . وهزّ القرد رأسه ، وقال : هذا المجرم اللعين ، إنه يستحق أكثر مما أصابه . وأضاف الغزال الفتيّ قائلاً : ليس لأنه فقط حاول أن يؤذيك ، وإنما لأنه لا يأكل ما تأكله كلّ الكائنات المسالمة في هذه الجزيرة . ونظر الأمير الصغير إلى الغزال الفتيّ ، وكأنما يسأله عما يعنيه ، فقال القرد الصغير : أنا آكل الفواكه ، وهذا ما تأكله أنت أيضاً ، والغزال الفتيّ يأكل الأعشاب ، أتعرف ماذا يأكل الثعلب اللعين ؟ وتساءل الأمير الصغير : ماذا يأكل ؟ ونظر الغزال الصغير إليه ، وبدل أن يجيب على تساؤله ، تساءل قائلاً : أتحب الطيور ؟ وردّ الأمير الفتيّ : نعم ، أحبها ، فهي كائنات جميلة ، مسالمة ، وأصواتها عذبة . وقال له القرد الصغير متسائلاً : والأرانب ، هل تحبها يا صديقي ؟ فردّ الأمير قائلاً : بالطبع أحبها ، فهي كائنات صغيرة ، جميلة ، طيبة . وصمت الأمير الصغير لحظة ، ثم راح ينقل عينيه المندهشتين بين القرد الصغير ، والغزال الفتيّ ، ثم قال : لكن أريد أن أفهم ، ما علاقة الطيور والأرانب ، فيما يأكله هذا الثعلب ؟ فنظر الغزال الصغير إليه ، وقال : هذا الثعلب المحتال اللعين ، يأكل الطيور والأرانب ؟ وشهق الأمير الصغير قائلاً ، بصوت يخنقه الانفعال والغضب : ماذا ! فردّ القرد الصغير هذه المرة : نعم ، هذا الثعلب ، الجميل الفراء ، يأكل الطيور والأرانب . وهبّ الأمير الصغير من مكانه ، وقال : هذا أمر لا يمكن تصديقه ، فالجزيرة مليئة بالحشائش والفواكه المختلفة اللذيذة . ونهض الغزال الفتيّ ، وقال : ومع ذلك ، فإنه لا يأكل سوى الطيور والأرانب . وأطرق الأمير الصغير رأسه ، ثم مضى مبتعداً ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فخاطبه القرد الصغير قائلاً : يا صديقي ، إلى أين ؟ فردّ الأمير الصغير ، دون أن يلتفت إليه : إنني متعب ، سأذهب إلى الوكر ، لعلي أرتاح . ونظر القرد الصغير إلى الغزال الفتيّ ، وقال : لم يحتمل الحقيقة ، ليتك تلحق ، وترافقه في الطريق . وعلى الفور ، انطلق الغزال الفتي في أعقابه حتى حاذاه ، وسار إلى جانبه ، ثم قال له : أنا أيضاً متعب ، وسأرافقك إلى الوكر . وسارا جنباً إلى جنب ، دون أن يلتفت أحدهما إلى الأخر ، أو يتبادلا الحديث ، وقد بدا التأثر والانزعاج على محيّا الأمير الصغير . وفي أول الليل ، رقد الغزال الفتيّ ، والأمير الصغير ، جنباً إلى جنب ، في إحدى زوايا الوكر ، بينما جلست الغزالة الأم بالمدخل ، تحت ضوء القمر . لم ينم الأمير الصغير ، رغم شعوره بالتعب الشديد ، على العكس من الغزال الفتي ، الذي راح يحلق في عالم آخر ، ويغط في نوم عميق . ونهض الأمير الفتيّ بهدوء ، وتسلل إلى مدخل الوكر ، وجلس إلى جانب الغزالة الأم ، دون أن يلتفت إليها ، أو ينبس بكلمة واحدة . والتفتت الغزالة الأم إليه ، وقالت مبتسمة : لم تنم اليوم كالعادة ، لابد أن هناك ما يشغلك . والتفت الأمير الفتيّ إليها ، وقال : ماما .. فقالت الغزالة الأم : نعم ، بني ، قل ما عندك . فتابع الأمير الفتيّ قائلاً : سمعت أن الثعلب لا يأكل الحشائش ، ولا الفواكه .. فقالت الغزالة الأم : نعم ، فهو ثعلب . ولاذ الأمير الصغير بالصمت ، ثم نهض ، ودخل الوكر ، وتمدد إلى جانب الغزال الفتيّ ، لكنه لم ينم حتى ساعة متأخرة من الليل .
" 6 " ـــــــــــــــــ في اليوم التالي ، استيقظ الأمير الفتيّ مبكراً ، وفتح عينيه المتعبتين ، الشمس لم تستيقظ بعد ، والغزالة وخشفها ، الذي لم يعد خشفاً ، لم يستيقظا بعد أيضاً ، لكن الغابة ، رغم ذلك ، كانت تستيقظ شيئاً فشيئاً . وبهدوء شديد ، اعتدل في مكانه ، ثم وقف على قدميه ، فهو لا يريد أن يوقظ الغزالة ، ولا غزالها الفتي ، وتسلل إلى الخارج ، وتوقف متلفتاً حوله ، متطلعاً إلى بعض الطيور ، التي استيقظت مبكرة مثله ، وراحت تزق صغارها ، التي ترفرف متصايحة حولها . وهمّ أن ينطلق إلى أعماق الغابة ، ليتجول في أرجائها وحيداً ، على غير هدى ، لعله يخفف من بعض ما عاناه مما قيل عن الثعلب ، عندما جاءه صوت الغزالة من ورائه ، وفيه آثار النوم ، مخاطبة إياه قائلة : بنيّ .. والتفت الأمير الفتي إليها متمتماً : ماما .. فقالت الغزالة بشيء من العتاب : الوقت مازال مبكراً ، يا عزيزي . فردّ الأمير الفتيّ قائلاً ، وهو يحاول أن يبتسم لها ، لعله يطمئنها : سأتجول بعض الوقت في الجوار ، ثم أعود إلى الوكر . ودنت الغزالة منه ، ولمست يده بشفتيها ، وكأنها تقبله ، وقالت : لا تتأخر ، أريد أن نفطر معاً . وتململ الأمير الفتيّ متأثراً ، دون أن يتفوه بشيء ، فقالت الغزالة له : اذهب ، يا بنيّ ، وتمتع بجولتك في أرجاء الغابة ، الشمس ستشرق قريباً ، والغابة أجمل ما تكون في مثل هذا الوقت . واستدار الأمير الفتيّ ببطء ، ثم سار مبتعداً ، وهو يقول ، سأعود قريباً ، يا ماما ، لن أتأخر . وظلت الغزالة في مكانها ، تنظر إلى الأمير الفتيّ ، بعينيها المحبتين المنديتين بالدموع ، حتى غاب بين الأشجار العالية ، التي تطاول السماء ، عندئذ استدارت ، وعادت إلى داخل الوكر . وتوغل الأمير الفتيّ في الغابة ، متجنباً قدر الإمكان محيط النبع والشجرة الضخمة ، ربما لأنه لا يريد أن يوقظ القردة وقردها الصغير من النوم ، ورأى في طريقه العديد من الأرانب والسناجب والطيور ، وتراءى له الثعلب ، على كره منه ، يقف على مرأى منه ، وعلى وجهه ابتسامة خبيثة . وتوقف الأمير الفتيّ ، وتنفس بعمق ، وكأنه يريد أن يزيح ركام الهموم ، التي تثقل صدره ، ورفع عينيه المتعبتين ، وراحت أنظاره تحلق فوق الأشجار العالية ، والإشعاع الأول للشمس ، التي أفاقت تواً من نوم عميق ، استغرق ساعات طويلة ، وراحت تخرج من أعماق البحر ، مبللة بالنور والدفء . وتنهد عميقاً ، آه ما أروع هذا العالم ، حشائشه ، وشجيراته ، وأشجاره ، وكائناته الجميلة ، وسماؤه الصافية ، وبحره الذي لا تحده حدود ، لولا .. وأفاق على صيحات لاهثة مستغيثة ، تصدر من مكان ليس ببعيد ، ماذا يجري ! ، وفوجىء بأرنب فتيّ جميل ، يندفع نحوه من بين الأعشاب ، وهو يصيح ، ويستغيث : النجدة .. النجدة .. النجدة . وتقدم الأمير الفتيّ نحوه ، وهو يهدئه ، ويقول : تعال ، لا تخف ، أنت بأمان . وتوقف الأرنب لاهثاً مرعوباً ، وتشبث بساقيه ، وقال : أنقذني .. أنقذني .. وصمت الأرنب الفتي ، وقد صعقه الرعب ، حين برز الثعلب من بين الحشائش ، وهو يعرج ، فزجره الأمير بنبرة غاضبة قائلاً : توقف .. وتوقف الثعلب لاهثاً ، وعيناه الشرهتان تتفرسان بالأرنب الفتيّ ، فتابع الأمير الفتيّ الغاضب قائلاً : لن أسمح لك ، مهما كانت الظروف ، أن تقرب هذا الأرنب أو غيره ، مادمتُ على قيد الحياة . ولاذ الثعلب بالصمت ، لكن عينيه مازالتا تحومان حول الأرنب ، الذي شله الرعب ، فرمق الأمير الفتيّ الثعلب بنظرة سريعة ، وقال : البارحة حدثني صديقاي ، القرد الصغير ، والغزال الفتي ، عما تقترفه بحق الأرانب والطيور ، و.. عليك أن تخجل .. ورفع الثعلب عينيه ، وحدق في الأمير الفتيّ ملياً ، ثمّ قال له : إنني جائع . ولاذ الأمير الفتيّ بالصمت لحظة ، ثم قال : لست وحدك الجائع ، أنا أيضاً جائع . وتساءل الثعلب : عندما تجوع ، ماذا تفعل ؟ فردّ الأمير الفتيّ : أبحث عما آكله ، وأسد به جوعي . فقال الثعلب : هذا ما أفعله أنا أيضاً ، أبحث عما آكله ، وأسدّ به جوعي . وبغضب وانفعال شديدين ، قال الأمير الفتيّ : أنت تطارد الأرنب ، و .. وهو كائن حيّ . وبدت ابتسامة خبيثة على شفتي الثعلب ، وقال : أنت ، عندما تجوع ، بماذا تسكت جوعك ؟ أخبرني . فأشار الأمير الفتيّ بيده إلى ما حوله من أشجار ، وقال : الغابة مليئة بالأشجار المثمرة ، ولي أن أتناول من أثمارها ما أشاء . فقال الثعلب مجارياً الأمير الفتيّ : والغابة مليئة كذلك ، بالأرانب والسناجب والطيور ، ولي أن أتناول منها ما أشاء ، كما تفعل أنت . لم يتمالك الأمير الفتيّ نفسه ، فصاح بالثعلب : تباً لك ، أيها القاتل ، أنت مجرم . ولاذ الثعلب بالصمت ، ولم يردّ عليه بكلمة واحدة ، وتناهى من أعالي السماء ، صيحات نسر ضخم ، فقال الثعلب : هذا نسر .. ورمقه الأمير الفتيّ بنظرة سريعة ، لكنه لم يرد عليه ، فتابع الثعلب قائلاً : وهو لا يأكل الفواكه ، كما تفعل أنت ، ولا الحشاش والأعشاب ، كما تفعل الغزلان ، ولا الملفوف والجزر ، كما تفعل الأرانب .. ولاذ الأمير الفتيّ بالصمت ، فتابع الثعلب قائلاً : وإنما يأكل الطيور ، والقرود الصغيرة ، والخشوف ، بل ويأكل حتى الأسماك ، التي تعيش في البحر . وصمت لحظة ، ثم استرسل قائلاً : والبحر لا يختلف عن الغابة ، فيه طيوره وسناجبه وأرانبه ، وفيه أيضاً ثعالبه ونسوره وأفاعيه ووحوشه ، التي لا تصدق ، هذا ما قالته لي مرة ، السلحفاة البحرية المعمرة . وصمت الثعلب طويلاً ، ثم رفع عينيه المهادنتين إلى الأمير الفتيّ ، وقال له : قرب شاطىء البحر ، يوجد كهف صغير ، لا تصله المياه ، تعيش فيه السلحفاة البحرية المعمرة ، اذهب إليها ، إنها كائن عذب مريح ، وستحدثك عن حقيقة عالم البحار ، الذي لا يختلف كثيراً عن عالم هذه الغابة ، الذي نعيشه بحلوه ومره . وأطرق الثعلب رأسه طويلاً ، ثم استدار ببطء ، ومضى يسير مبتعداً ، وهو يعرج ، دون أن يلتفت إلى الأمير الفتيّ ، ولا إلى الأرنب الفتيّ ، الذي كان يطارده ، ويريد أن يسد به جوعه .
" 7 " ـــــــــــــــــ توغل الأمير الفتي في الغابة ، وتجول على غير هدى ، بين الأشجار العالية ، الكثيفة الأغصان ، المثقلة بأنواع مختلفة من الفواكه ، وقرصه الجوع ، لكنه لم يلتفت إلى الفواكه ، التي يمكن أن يسد بها جوعه . هذا الثعلب الأعرج اللعين ، لقد أربك أفكاره ، بما قاله له ، وبما يمكن أن يقوم به ، بحجة أنه جائع ، وأنه يريد أن يسد جوعه ، مهما كانت الظروف . والأنكى أنه ليس للغابة فقط نسورها وثعالبها ، وإنما للبحر أيضاً نسوره وثعالبه ، هذا ما يقوله الثعلب ، ولابد أنه يكذب ، وهذا ما يقوله الجميع عنه ، فلا ينبغي الإصغاء إليه ، أو تصديق ما يقوله . ولكن .. من يدري ، فالأمير الفتي رأى بنفسه ما يمكن أن يفعله الثعلب ، ولولاه لكان اللعين قد سدّ جوعه بالأرنب الفتي المسالم الجميل ، و .. ماذا عن البحر ؟ ووجد الأمير الفتي نفسه ، ربما دون أن يدري ، أم أنه كان يدري ؟ مهما يكن الأمر ، فها هو البحر ، وها هو الشاطىء ، بل ها هو الكهف الصغير أيضاً ، الذي قال الثعلب ، أن السلحفاة البحرية العجوز ، تقيم فيه منذ أمد بعيد جداً . وتوقف الأمير الفتيّ على مقربة من الكهف ، وصاح متردداً : أيتها السلحفاة .. لم يردّ أحد عليه ، لعل السلحفاة العجوز ليست في داخل الكهف الآن ، وإنما في أعماق البحر ، تبحث عما تسد به جوعها ، لا بأس ، فليصح مرة ثانية . وبصوت أعلى صاح الأمير الفتيّ : أيتها السلحفاة ، أيتها السلحفاة . وهذه المرة أيضاً ، لم يردّ أحد عليه ، وهمّ أن يقفل عائداً إلى الوكر ، لكنه توقف حين تناهت إليه أصوات حركة مضطربة ، صادرة من داخل الكهف . وسرعان ما أطلت السلحفاة العجوز من مدخل الكهف ، وتطلعت إليه بعينيها الصغيرتين ، فحياها قائلاً : طاب يومك أيتها الجدة سلحفاة . وتوقفت السلحفاة العجوز في مدخل الكهف ، وردت قائلة بصوتها الشائخ : أهلاً ومرحباً .. وصمتت لحظة ، وهي مازالت تنظر إليه ، ثم قالت بصوتها الشائخ : هذا ما توقعته ، منذ أن رأيت قارب الصيد على الشاطىء ، لقد تمنيت أن أراك ، وخاصة بعد أن حدثني الثعلب عنك . ولاذ الأمير الفتيّ بالصمت ، فقالت السلحفاة العجوز : أهلاً ومرحباً بك ، أهلاً ، أهلاً . ثم أشارت له قائلة : تعال اجلس إلى جانبي ، إنني عجوز الآن ، وأريد أن أراك وأسمعك جيداً . وجلس الأمير الفتيّ إلى جانبها ، ونظر إليها ، وقال : رأيت الثعلب ، وحدثني عنك ، فأردت أن أراك ، وأسألك بعض الشيء عن البحر . ولسبب لا يدريه ، أهي الشيخوخة ؟ تغافلت السلحفاة العجوز عما أراده منها ، وقالت : يبدو أنك جئت إلى هذه الجزيرة الصغيرة المنعزلة عبر البحر ، لكن كيف ؟ فأنت صغير ، ولابد أنك كنت طفلاً عندما وصل القارب بك إلى شاطىء هذه الجزيرة . وصمتت السلحفاة البحرية لحظة ، ثم قالت : إنني أعرف هذه الجزيرة ، منذ عقود طويلة ، أعرف أشجارها ، وأحياءها كلهم ، أنت لست واحداً منهم .. وصمتت مرة ثانية ، وهي تحدق فيه ، ثم قالت : الأحياء في هذه الجزيرة ، وفي كلّ مكان ، على الأرض وفي البحر ، يولدون من ذكر وأنثى ، وأنت هنا وحدك ، لا ذكر يشبهك ولا أنثى .. ونظرت السلحفاة العجوز إلى الآفاق البعيد من البحر ، الذي لا تحده حدود ، ثمّ تابعت قائلة : لقد رأيت ، وأنا في وسط البحر ، الكثير من القوارب والسفن ، ورأيت فيها من يشبهك ذكوراً وإناثاً ، لابد أنك منهم ، نعم إنهم ما يسمونهم ناساً .. بشراً .. أنت إنسان . وأطرقت السلحفاة العجوز رأسها ، وقد ران فوقهما صمت عميق ، ماذا تقول هذه السلحفاة العجوز الخرفة ؟ إنسان ! ماذا يعني إنسان ؟ ورفعت السلحفاة العجوز رأسها ، الذي أثقلته السنون ، ونظرت إلى الأمير الفتيّ ، ثم قالت بصوته الشائخ المتعب : جئت إليّ ، أيها الحي ، ابن الإنسان ، لأحدثك بكل شيء عن البحار .. فقال الأمير الفتيّ : نعم ، ففي الغابة ، غابة جزيرتنا الصغيرة ، أرانب وسناجب وطيور ، وفيها أيضاً ثعالب وأفاعي ونسور . وابتسمت السلحفاة العجوز ، وقالت : وهذا موجود في البحار جميعها أيضاً . وفيما يشبه التساؤل ، قال الأمير الفتيّ : يوجد ثعالب .. ونسور .. و .. فقالت السلحفاة العجوز : يوجد ما يشبه الثعالب والنسور ، بل وما يفوقهما في كلّ شيء . واتكأ الأمير الفتيّ بجدار مدخل الكهف ، وقال : حسناً ، إنني أسمعك ، حدثيني عن كلّ شيء في البحر . ولاذت السلحفاة العجوز بالصمت لحظات ، ثم قالت بصوت هادىء عميق : البحر غابة ، وكما أنّ في الغابة نباتات وأحياء ، كذلك البحر ، فإن فيه نباتات وأحياء ، والأحياء فيه الصغير والكبير والكبير جداً . ورمقها الأمير الفتيّ بنظرة سريعة ، وتساءل قائلاً : وهؤلاء الأحياء ، ماذا يأكلون ؟ فردت السلحفاة العجوز قائلة : الأحياء الصغار ، يأكلون العوالق والنباتات ، والكبار يأكلون الصغار ، والأحياء الكبيرة جداً تأكل الأصغر منها ، وأحياناُ تأكل حتى الأكبر منه ، التي تقل عنها قوة شراسة . وتساءل الأمير الفتيّ متعجباً : كلهم ! فردت السلحفاة العجوز : نعم ، كلهم . وصمتت لحظة ، ثم واصلت كلامها قائلة : طائر البطريق مثلاً ، وهو طائر لا يطير ، يطارد الأسماك في البحر ويأكلها ، لكن الفقمات تطارده على الجليد ، وفي البحر ، وتأكله ، والحيتان القاتل ، الأوركا ، وهي أقوى وأشرس الكائنات في البحر ، تأكل الفقمات ، بل وتأكل حتى الحيتان الأخرى ، التي تفوقها في الحجم . وصمتت السلحفاة العجوز ، وبدا وكأنها توشك على الانهيار تعباً ، وأطرق الأمير الفتي ، وقد بدا عليه الحزن والإحباط ، فنظرت إليه السلحفاة العجوز ، وهي تحاول أن تبتسم ، وقالت بصوت خافت متعب : لكن الحياة ، يا صغيري ، ليست كلها نسور وثعالب وحيتان قاتلة ، فهناك الكثير والكثير من الطيور والأرانب والسناجب والأسماك والسلاحف و .. و .. و .. وكلها تحيا ، وتبني ، وتتكاثر ، رغم وجود بعض الوحوش والقتلة هنا وهناك . وتحامل الأمير الفتيّ على نفسه ، ونهض من مكانه ، وهمّ أن يمضي مبتعداً ، فخاطبته السلحفاة العجوز قائلة : أيها الفتى ، يا ابن الإنسان .. والتفت الأمير الفتيّ إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابعت السلحفاة العجوز كلامها قائلة : قبل أن تذهب إلى المكان الذي تعيش فيه الآن ، أريدك أن تذهب إلى الشاطىء ، وترى القارب الصغير ، الذي لابدّ أن أحدهم جاء بك على متنه ، وأنت طفل صغير . واتسعت ابتسامتها بعض الشيء ، واستطردت قائلة : من يدري ، لعل أمك أو أباك ، يبحثان عنك حتى الآن ، وقد يصلان إليك يوماً ما ، وتعود إلى عالم الإنسان . وسار الأمير الفتيّ مبتعداً ، بخطوات مضطربة ، فهتفت السلحفاة العجوز به ، وهي تتابعه بعينيها الشائختين المتعبتين قائلة : بني ، القارب الذي جئت به على ما أظنّ على الرمال ، هناك فوق الشاطىء ، اذهب إليه ، لعله يذكرك بشيء من عالك الأول . " 8 " ــــــــــــــــــــ وسط البحر الهائج ، في قارب صغير ، يواجه صاحبه ، صياد السمك ، بسنيه التي تجاوزت العشرين ، أمواجاً مجنونة ، لعله مثلها تماماً ـ أهو مجنون حقاً ؟ ـ من يدري ، هذا ما تقوله أمه . ورفع رأسه ، الذي أغرقته الأمواج بالمياه ، وقال : يبدو أن الآلهة غاضبة مني ، لكني لم أعصِ أمي ، ولم أجعها يوماً ، فأنا أقدم لها كلّ يوم ، السمك الذي تحبه ، والذي كان يقدمه لها أبي ، قبل أن تغرقه أمواج البحر . وصمت الصياد لحظة ، رغم أن الريح والأمواج ، التي تكاتفت عليه ، لم يسكتا ، وهزّ رأسه ، ثم تابع قائلاً : آه .. قالت لي أمي ، كن عاقلاً ، يا بنيّ ولا تتوغل في البحر ، كما فعل أبوك ذات يوم ، المجنون ، لعله رأى عروس البحر ، فلحقها إلى الأعماق ، ومن يدري ، لعل الأمواج قلبت قاربه ، وأغرقته . والتفت نحو الجهة ، التي تهب منها الريح ، وقال : أيتها الريح ، اهدئي ودعي الأمواج تهدأ ، صحيح إنني أريد أن أعود إلى أمي ، لكني قبل ذلك ، أريد أن أعود إلى الملكة الطيبة ، ملكتنا الحزينة ، وسأنقل لها ما ينسها حزنها ، وتعيش فرحة الألم . وتراءت له أمه ، وقد حكى لها ما رأى ، تصيح في وجهه ، " أنت مجنون " ، لن يقول لها ، سأذهب إلى الملكة مباشرة ، فهي ستجن ، ليكن ما يكون ، سيذهب إلى الملكة ، ويقول لها كلّ ما رأى . وفكر ، كيف يصل إلى الملكة ، والأمواج تتقاذفه وسط البحر ، وربما ستقلب قاربه ، وتأخذه إلى الأعماق المظلمة ، كما أخذت أباه من قبل ، وترك زوجته الشابة ، وترك معها طفله ، وكان ما يزال يحبو . وهبطت الشمس متعبة شاحبة ، إلى ظلمات البحر ، وأخذت معها النهار ، وأبقت له الليل ، وربما ستعوضه بعد ساعات ، بشقيقها الشاحب الضوء ، القمر ، لكنه وقف وسط قاربه غاضباً ، وصاح بأعلى صوته : أيتها الشمس ، خذي معك الريح ، التي تثير جنون الأمواج ، إنني أريد أن أصل إلى الملكة . وهدأت الريح ، حين خرج القمر ، من أعماق البحر ، والماء يقطر منه ، ومعها هدأت الأمواج ، وصارت مياه البحر سماء صافية ، تتغامز فيها النجوم ، وهي تحف بالقمر المبتسم ، رغم شحوبه ، وتمدد الصياد في القارب ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق . وفي منامه ، رأى نفسه يطير ، حتى بدون أجنحة ، فوق حراس القصر ، ويدخل على الملكة ، آه ما أروع الملكة ، صحيح إنه لم يرها من قبل ، لكن أمه قالت له ، إنها رأتها ، ومادامت أمه قد رأتها ، فهذا يعني أنه قد رآها أيضاً ، إنها جميلة ، و .. وحزينة ، حزينة على الأمير الطفل ، سيهزم حزنها ، سيمحوه ، حين يقابلها ، ويقول لها ، مولاتي ، اتركي الحزن ، جئتك بالفرح ، و .. ما هذا الصياح المزعج ، أهم الحراس ؟ أيها الحمقى ، إنني أتحدث إلى الملكة ، الملكة نفسها ، وسأقول لها ما يفرحها ، نعم سأقول .. وفزّ مستيقظاً ، وفتح عينيه المليئتين بما رآه في منامه ، لكن بدل الملكة والحراس ، رأى الشمس والنوارس و .. وعدداً من صيادي السمك ، يهتفون به من قاربهم : أيها المجنون ، أين كنت ؟ أسرع إلى أمك ، إنها تدور في المدينة كالمجنونة ، تبحث عنك . وتلفت حوله ، دون أن يردّ على واحد منهم ، فالريح هادئة ، والبحر عاقل ، والنوارس البيضاء تحلق في السماء الزرقاء ، ومن بعيد تلوح المدينة ، مدينته ، حيث أمه ، والملكة ، نعم الملكة ، التي سيقتل حزنها ، بما سيحمله لها من الفرح . وعلى الفور ، هبّ الصيد بسنيه التي تجاوزت العشرين ، من رقدته ، وأمسك المجذافين ، وراح يجذف بقوة وحماس ، سيصل بقاربه إلى المدينة ، وينزل منه بسرعة ، وبسرعة يطير نحو القصر ، ويرى الملكة ، ويقول لها ، أنه خرج قبل أيام للصيد ، وتوغل في البحر ، وضل الطريق ، وظن أنه سيموت جوعاً وعطشاً ، لكنه أفاق ذات يوم ، وإذا هو قرب جزيرة صغيرة منعزلة ، ربما لم يصلها أحد من قبل ، لكنه رأى على شاطئها قارب صيد ، عرفه ، فهو يعرف صاحبه ، فزوجته كانت مرضعة للأمير الصغير ، و .. وارتطم قاربه بالشاطىء الرملي ، وقفز منه على عجل ، وطار نحو القصر الملكي ، حتى دون أن يسحب قاربه خارج الماء . وأفاق ، يا للجنون ، ها هو أمام باب القصر ، يقف دونه عدد من الحراس المدججين بالسلاح ، فخاطب أحد الحراس قائلاً : أريد أن أرى الملكة . وزجره الحارس قائلاً : كن عاقلاً ، وابتعد عن هنا . لكن الصياد لم يبتعد ، وإنما قال بصوت مرتفع : قلت لك ، أريد أن أرى الملك ، ويجب أن أراها . ودفعه الحارس بشيء من العنف ، وقال له بصوت حازم ، أراده أن يكون خافتاً : أيها المجنون ، ابتعد من هنا ، فالملكة قد تكون في الحديقة . ولأنه مجنون ، كما تراه أمه ، راح يصيح وهو يحاول اقتحام الباب : دعني أدخل ، لديّ شيء مهم ، سأقوله للملكة ، دعني أدخل ، دعني أدخل . وبسرعة ، أحاط به الحراس ، وحاولوا إسكاته ، لكن صياحه تناهى إلى الملكة ، وهي تتمشى مع جاريتها في الحديقة ، فتطلعت نحو مصدر الصوت ، وقالت : أسمع صياحاً ، وضجيجاً ، ماذا يجري ؟ وتقدمت الجارية من الباب قليلاً ، ثم عادت إلى الملكة ، وقالت لها : مولاتي ، الصياد المجنون ، يحاول أن يدخل القصر ، ويريد أن يراك ، لكن الحراس يمنعونه . وتساءلت الملكة : ماذا يريد ؟ فردت الجارية قائلة : لا أدري ، يا مولاتي ، لكنه يقول ، لدي شيء مهم ، ويريد أن يقوله لجلالتك . فقالت الملكة : شيء مهم ؟ ونظرت إلى الجارية ، وقالت لها : قولي للحراس ، أن يدعوه يدخل ، أريد أن أراه . وفغرت الجارية فاها ، دون إرادة منها ، وقالت : مولاتي ، هذا الصياد مجنون . فقالت الملكة : اذهبي ، وليأتوا به . وذهبت الجارية مسرعة ، وهي تقول : نعم مولاتي . وسرعان ما عادت ، ومعها صياد السمك ، الذي قالت عنه أنه مجنون ، وقد أحاط به الحراس المدججون بالسلاح ، وقالت للملكة : مولاتي ، الصياد . وحدقت الملكة فيه ، أهو ما رأته في منامها البارحة ؟ لكن ما رأته في منامها ، كان طائراً ، وليس صياد سمك ، مهما يكن ، فقد حمل لها في منقاره حجرة كريمة جميلة ، من يدري ، يخلق من الشبه أربعين . وأشارت الملكة للحراس ، وهي مازالت تحدق في الصياد ، لعلها تتذكر بالضبط ما رأته في منامها : اتركوه ، وابتعدوا عنه . وتململ الحراس مترددين ، لكنهم تراجعوا ببطء ، إنها الملكة ، وعليهم أن يطيعوها ، فمالت عليها الجارية ، وهمست لها : مولاتي ، هذا الصياد مجنون ، غاب في البحر حوالي الشهر ، وأمه تبحث عنه . فقالت الملكة ، دون أن تلتفت إلى الجارية : اتركوه لي ، لعله جاءني بهدية لا تقدر بثمن . وتركه الحراس ، وأيديهم متشنجة على أسلحتهم ، وعيونهم المتوجسة تراقب كلّ حركة منه ، وتقدم الصياد من الملكة ، وتوقف أمامها ، وعيناه متعلقتان بوجهها ، ثم ركع أمامها ، وهو يقول : مولاتي ، أبشرك ، الأمير حيّ ، وفي صحة تامة ، وأنا أعرف أين هو ..
" 9 " ـــــــــــــــــــ هرول الوزير العجوز لاهثاً ، وراء الملكة وهي تسير داخل القصر ، متجهة إلى جناحها ، بعد غروب الشمس ، وقال : مولاتي .. لم تتوقف الملكة ، ولم تردّ عليه ، فتابع الوزير العجوز قائلاً ، وهو يهرول لاهثاً ، وقد تقطعت أنفاسه : هذا الصياد ، إنه مجنون .. وقالت الملكة بصوت حاسم ، دون أن تلتفت إليه : دعوا أمه تراه ، وتطمئن عليه .. وردّ الوزير قائلاً ، وقد ازداد لهاثه : مولاتي ، إن أمه نفسها تقول ، إنه مجنون . وواصلت الملكة سيرها ، وقد اقتربت من جناحها ، وقالت : أريد المركب غداً ، قبل صياح الديوك ، ولا أريد على متنه أكثر من عشرين مقاتلاً مدججين بالسلاح ، ومعهم الربان والصياد الشاب طبعاً ، الذي تقولون عنه .. أنه مجنون . وقال الوزير العجوز ، وكأنه لم يسمع ما قالته الملكة : مولاتي ، لا توجد على خرائطنا ، الجزيرة التي تحدث عنها هذا الصياد ال .. وتوقف الوزير العجوز متردداً ، حين التفتت الملكة نحوه ، وحدجته بنظرة صارمة وهي تقول بصوت حازم : الخطأ في خرائطكم ، وليس في الصياد ، إنني أصدقه ، وسأذهب غداً معه بنفسي ، وأنت معي . وهزّ الوزير العجوز رأسه ، وقال في نفسه : إنه مجنون ، يا مولاتي ، مجنون . وتلفت حوله ، خشية أن يكون أحد قد سمعه ، رغم أنه كان يتحدث إلى نفسه ، ثم استدار ، ومضى يدبّ بخطى ثقيلة متعبة ، وهو يقول في نفسه : غدا سنذهب إلى المجهول ، يقودنا صياد سمك مجنون . وأوت الملكة مبكرة إلى فراشها ، وأغمضت عينيها المغرورقتين بالأحلام والأماني ، وتمنت لو تنام ، فأمامها غداً رحلة طويلة ، محفوفة بالانتظار والآمال والمخاوف ، وتأوهت حين تراءت لها المرضعة الطيبة ، إنها لا تدري حتى الآن ، أهي ، الملكة الأم ، التي أخطأت ، أم أن التي أخطأت هي المرضعة . وتقلبت في فراشها مراراً ، ومع كلّ مرة ، يذهب عقلها إلى جانب ، تقول مرة ، إنها المرضعة ، لقد استعجلت ، وكان عليها أن تتروى وتتريث ، وتتأكد من مآل المعركة ، إذ أنها لم تكن قد حسمت بعد ، حين أخذت الأمير الصغير ، وهربت به ، ومرة أخرى تقول ، كلا ، المرضعة المسكينة ، لا ذنب لها ، فقد نفذت ما طلبته أنا منها ، كان مقاتلو الأعداء قد أوشكوا عل اقتحام القصر ، هذا ما خيل إليّ ، وخفت على الأمير الصغير ، فأمرتها أن تأخذه ، وتهرب به إلى مكان آمن ، بعيداً عن أيدي الأعداء ، الذين لم يرحموا أحداً ، آه .. من أين لي أن أعرف ، أن مقاتلي المدينة الشجعان ، وبالتعاون مع الأهالي المدججين بمختلف أنواع الأسلحة ، وحتى بعد مقتل الملك نفسه ، كروا على الأعداء ، وألحقوا بهم الهزيمة ، وطردوهم بعيداً عن المدينة . وحين استتب الأمر لأهالي المدينة ومقاتليها ، نُصبت زوجة الملك ، الذي قتله الأعداء ، ملكة على المدينة ، أمرت بالبحث عن المرضعة والأمير الصغير ، وجاب مقاتلوها البرّ والبحر ، بحثاً عنهما ، لكن أحداً منهم لم يقع لهما على أثر في أي مكان . في اليوم التالي ، وقد خرجت الشمس تواً من أعماق البحر ، وحبات الماء تقطر من أشعتها الدافئة ، كان المركب الملكي ، يمخر عباب البحر ، وعلى متنه الملكة والوزير وصياد السمك الشاب ، والربان وعشرين مقاتلاً من أشجع المقاتلين في المدينة . وتلفتت الملك حولها ، ماذا غير الماء والسماء ؟ والتفتت إلى الصياد الشاب ، وكان يقف إلى جانب الربان ، وحدقت فيه متسائلة ، فنظر إلى الأمام ، ثم التفت إلى الملكة ، وقال بثقة تامة : مولاتي ، نحن عل الطرق ، لابدّ أن نصل ، وسنصل . وبين حين وآخر ، استمرت الملكة على النظر إليه متسائلة ، واستمر هو على إجابتها بصبر لا ينفد : نحن على الطريق ، يا مولاتي ، سنصل . ورافقتهم الشمس بدفئها طول النهار ، حتى تملكها التعب ، وخفت دفء أشعتها بعض الشيء ، فتهاوت إلى الأعماق المظلمة من البحر ، وهوى معها النهار ، لكنهما عوضاهم بالقمر ، الذي أطلّ بعد حين ، وفرش ضياءه الشاحب البارد على مياه البحر . ويبدو أن الملكة قد تعبت هي الأخرى ، فعلى الرغم من أنها ملكة ، إلا أنها كائن حيّ ، والكائنات الحية جميعاً ، يتعبون ، ويحتاجون إلى الراحة ، ولا يرتاحون إلا إذا أغمضوا أعينهم ، وأخلدوا إلى النوم . ونظرت الملكة إلى الصياد الشاب ، بعينين يكاد النعاس أن يغلقهما ، فقل لها الصياد هذه المرة : مولاتي ، أنت متعبة ، والطريق طويل ، ليتك تدخلين قمرتك ، وترتاحين بعض الوقت . وحدقت الملكة فيه بعينين شبه مغلقة ، وقالت بصوت يثقله النعاس : أرجو أن نكون على الطريق الصحيح ، إنني لم أعد أحتمل الخطأ . فهزّ الصياد الشاب رأسه ، وقال : اطمئني ، يا مولاتي ، اذهبي إلى قمرتك ، سنصل عاجلا أو آجلاً ، وسيكون كلّ شيء على ما يرام . وعملت الملك بما طلبه منها الصياد الشاب ، وذهبت إلى القمرة ، وأوت إلى فراشها ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، وعلى الفور ، تراءى لها أنها تحلق فوق الماء ، على ضوء القمر ، وانشق الماء ، وخرج منه طائر من نور ، وقدم لها لؤلؤة ، وهو يقول لها : أيتها الملكة ، هذه لؤلؤتك ردت إليك ، خذيها ، و .. وأفاقت الملكة على الصياد الشاب ، يهتف فرحاً بأعلى صوته : مولاتي ، ها هي الجزيرة ، التي تحدثت عنها ، وقالوا عني أنني مجنون ، لقد وصلنا .. وهبت الملكة من فراشها ، وفاتها أنها ملكة ، فلم تتصرف إلا على أنها أم ، فاندفعت من قمرتها ، وإذا الجميع ، الصياد والوزير والربان والمقاتلون ، يتطلعون مذهولين إلى جزيرة صغيرة ، تلوح في الأفق ، وما إن رآها الصياد ، حتى أسرع إليها ، وهو يقول فرحاً : مولاتي ، انظري ، هذه هي الجزيرة ، التي حدثتكم عنها ، سترينها الآن وتعرفين أنني لست مجنوناً . واعتدلت السلحفاة العجوز في كهفها ، وراحت تنصت ، فقد تناهى إليها من الشاطىء القريب ، لغط وضجيج لم تسمع مثله من قبل ، فأطلت من مدخل الكهف ، ورأت مركباً ضخماً ، وقد نزل منه عدد من المقاتلين ، تتقدمهم امرأة في ثياب فخمة وجميلة ، لها مهابتها ، ويسير وراءها شاب من جهة ، ورجل عجوز من الجهة الأخرى ، ومعهم عدد من المقاتلين المدججين بالسلاح ، آه لابدّ أنهم جاءوا يبحثون عن ذلك الفتى الغريب ، الذي جاء به أحدهم ، قبل سنوات عديدة ، بذلك القارب الذي مازال على الشاطىء . ومال الصياد على الملكة ، وقال مولاتي .. وتوقفت الملكة ، وقالت : نعم . فأشار الصياد إلى قارب صغير ، على رمال الشاطىء ، يعلوه الغبار وآثار الإهمال ، وقال : ذلك هو قارب الصياد ، الذي استخدمته المرضعة على الأغلب ، في الوصول بالأمير إلى هذه الجزيرة . وتقدمت الملكة وحدها من القارب ، وتوقفت على مقربة منه ، وقد غرقت عيناها بالدموع ، ورمق الصياد الوزير العجوز بنظرة سريعة ، ثم اقترب من الملكة ، وقال بصوت خافت : مولاتي ، الوقت يمرّ ، لنتوغل في الجزيرة الآن ، لعلنا .. وصمت الصياد ، فالتفتت الملكة ، ونظرت إلى أعماق الجزيرة ، ثم قالت : لا أدري لماذا أشعر ، أن الأمير ينظر إليّ الآن من بين إحدى تلك الأشجار . فقال الصياد : لنذهب إذن ، يا مولاتي ، وسنجد الأمير في مكان ما من الجزيرة . فنظرت الملكة إليه ، وقالت : تقدمنا إذن ، هيا . وسار الصياد في المقدمة ، تتبعه الملكة ، ومن ورائهما سار الوزير والقبطان والمقاتلون ، وتوغل الصياد بهم في الغابة ، حتى وصلوا إلى النبع ، الذي تطل عليه شجرة ضخمة ، وتوقفت الملكة وتلفتت حولها ، وقالت : لم نرَ أحداً ، لا في الطريق ، ولا في هذا المكان . وحانت من الصياد نظرة ، إلى الأرض الرملية القريبة من النبع ، ثم قال للملكة بشيء من الفرح : مولاتي ، انظري إلى هذه الرمال . ونظرت الملكة ملياً ، إلى حيث أشار الصياد ، ثم قالت : هذه أثار أقدام أرنب ، وربما غزال ، و .. وصمتت الملكة ، فقال الصياد : وآثر أقدام فتى .. وتمتمت الملكة : نعم ، ربما .. وسمعت الملكة الربان يقول بصوت غريب فرح : مولاتي ، انظري .. ورفعت الملك عينيها ، ومن خلال دموعها ، رأت أمام الأشجار القريبة ، أرنبا ، وغزالاً وغزالة ، وقردة وصغيرها ، وبينهم جميعاً يقف فتى تجاوز العاشرة من عمره ، وسمعت الصياد يتمتم : مولاتي ، إنه هو .. الأمير الصغير . وبدون إرادة منها ، تقدمت الملكة نحو الفتى ، ومن معه من الكائنات الحية ، فتراجع الجميع ببطء عدا الفتى ، فقد ظلّ في مكانه ، وعيناه متعلقتان بالملكة . وتوقفت الملكة أمامه ، تحدق فيه من خلال دموعها ، وفوجئت به يتمتم بصوت غريب : ماما . فمدت يديها ، وضمته إلى صدرها ، وهي تقول من بين دموعها : طالما حلمت ، أن أضمك إلى صدري ، يا بني ، وها هو حلمي يتحقق أخيراً .
9 / 4 / 2022
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان جزيرة القمر
...
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة طلال
...
-
رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل
-
رواية للفتيان إله الدمار
...
-
جايا الغزالة
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان النمر طلال حسن
-
الهدنة
-
رواية للفتيان وادي الافاعي
...
-
رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال
...
-
رواية للفتيان غابة الذئاب
...
-
رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
-
رواية للفتيان قمر من سماء عالية
...
-
روايةللفتيان الزنبقة
...
-
رواية للفتيان عينان في الماء طلال
...
-
رواية للفتيان يوهيرو الأمل
...
-
رواية للفتيان التاج طلال حسن
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
المزيد.....
-
الفيلم السعودي -الزرفة-.. الكوميديا التي غادرت جوهرها
-
لحظة الانفجار ومقتل شخص خلال حفل محمد رمضان والفنان المصري ي
...
-
بعد اتهامات نائب برلماني للفنان التونسي بالتطبيع.. فتحي بن ع
...
-
صحف عالمية: إنزال المساعدات جوا مسرحية هزلية وماذا تبقّى من
...
-
محللون إسرائيليون: فشلنا بمعركة الرواية وتسونامي قد يجرفنا
-
فيديو يوثق اعتداء على فنان سوري.. قصوا شعره وكتبوا على وجهه
...
-
فيديو.. تفاصيل -انفجار- حفلة الفنان محمد رمضان
-
جواسيس ولغة.. كيف تعيد إسرائيل بناء -الثقافة المخابراتية-؟
-
-كأنه فيلم خيال علمي-: ولادة طفل من جنين مجمد منذ 30 عاماً
-
قمر عبد الرحمن لـ -منتدى البيادر للشعر والأدب-: حرب الوجود ا
...
المزيد.....
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|