أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان قمر من سماء عالية طلال حسن















المزيد.....



رواية للفتيان قمر من سماء عالية طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7592 - 2023 / 4 / 25 - 23:33
المحور: الادب والفن
    


رواية للفتيان








قمر
من سماء عالية





طلال حسن




شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نوموشدا أمير مدينة نيناب
2 ـ نامرات زوجة الأمير
3 ـ ادنيجكيدو ابنة الأمير
4 ـ مارتو عامل مياوم
5 ـ أم مارتو
6 ـ سومو صديق مارتو
7 ـ شمّه فتاة
8 ـ هاديم مصارع من الأهوار
9 ـ دادو صديق المصارع هاديم











" 1 "
ــــــــــــــ
لم تنم أم مارتو ، رغم مرور ساعات عديدة ، على موعد نومها المعتاد ، وكيف يمكن أن تنام ، وابنها الوحيد مارتو ، لم يعد بعد إلى البيت ؟
وقبيل منتصف الليل ، جاء ا مارتو ، سمعته يدفع الباب الخارجي ، ويدخل بخطوات رفيقة ، إلى فناء البيت ، وكأنه لا يريدها أن تستيقظ .
وفوجىء مارتو بأمه ، تنهض من تحت الشجرة ، التي في الفناء ، فتوقف قبالتها للحظات ، ثم قال لها : الوقت متأخر ، كان عليكِ أن تنامي ، يا أمي .
وحدقت أمه فيه ، والقمر يطل عليهما من السماء ، وقالت : أنت قلتها ، الوقت متأخر ، وكان عليك أن تفكر ، أن هناك أماً تنتظرك .
واتجه مارتو إلى الغرفة ، حيث ينام فيها هو وأمه ، وقال : قلت لك أكثر من مرة ، يا أمي ، لم أعد صغيراً لتنتظريني كلّ يوم .
ولحقته أمه إلى الغرفة ، وهي تقول : ستتزوج ، يا مارتو ، ويكون لك ولد ، وستعرف أن الولد يبقى صغيراً ، في نظر أمه ، مهما كبر .
لم يردّ مارتو عليها ، فنظرت الأم إليه ، وقالت : طعام العشاء برد ، سأسخنه لك .
وتخفف مارتو من بعض ملابسه ، استعداداً للنوم ، وتمدد في فراشه ، وقال : لست جائعاً ، إنني متعب ونعسان ، وأريد أن أنام ، كلي أنتِ .
وتهيأت الأم للتمدد في فراشها ، وقالت : لن آكل ، ما دمتّ ترفض أن تأكل .
وسحب مارتو الغطاء فوقه ، وقال كأنما يتحدث إلى نفسه : الجو بارد اليوم .
وتمددت الأم في فراشها ، وقالت : لابد أنك تجولت قرب النهر ، فشعرتَ بالبرد .
ولاذ مارتو بالصمت ، فسحبت الأم الغطاء فوقها ، وقالت : جاء سومو عشاء ، وأراد أن يراك ، يبدو أن لديه ما يهمك .
فقال مارتو : رأيته .
ونظرت أمه إليه متسائلة ، دون أن تتفوه بكلمة ، فأضاف قائلاً : غداً سيعمل في القصر الجديد للأمير ، ويريدني أن أذهب للعمل معه .
وسحب الغطاء فوق رأسه ، وقال : أيقظيني صباحاً ، قبل شروق الشمس ، سأذهب للعمل مع سومو ، في القصر الجديد للأمير .
لم ينم مارتو ، كما لم ينم ليلة البارحة ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، فقبل أيام قليلة ، كان يسير مع صديقه سومو ، في أحد أسواق المدينة ، حين التقت عيناه فجأة بوجه فتاة كالقمر ، كانت تسير إلى جانبها ، وصيفة في أواسط العمر .
وتوقف مارتو جامداً ، يتابع الفتاة القمر ، وقد غاب عنه كلّ ما كان حوله ، وانتبه سومو إليه ، ونظر حيث كان ينظر ، وقال له مبتسماً : مارتو ، انتبه يا صديقي ، أخشى عليك من الجنون .
لم يلتفت مارتو إليه ، وظلت عيناه متعلقتين بالفتاة القمر ، فلكزه سومو برفق ، وقال : من حقك أن تتطلع إليها ، يا مارتو ، إنها قمر وأي قمر ، لكن انتبه وابقَ في الأرض ، فهي من سماء عالية جداً .
واختفت الفتاة القمر ، هي ووصيفتها المتوسطة العمر ، بين سحب الناس المتكاثفة ، الذين كانوا يتجولون في السوق ، وأفاق مارتو ، على صديقه سومو ، يقول له : مارتو ، لك الحق أن تتطلع إلى القمر ، لكنك ستكون مجنوناً ، إذا حاولت الوصول إليه .
والتفت مارتو إليه ، وتساءل قائلا : من هذه القمر ، يا سومو ؟
فقال سومو : أنها ادنيجيكيدو ..
وتمتم مارتو مذهولاً : ادنيجيكيدو !
فقال سومو : ابنة أميرنا ، أمير مدينة نيناب .

" 2 "
ـــــــــــــــ
استيقظ مارتو ، في صباح اليوم التالي ، قبل أن تحاول أمه أن توقظه ، فقد كان مهتماَ بالعمل مع سومو ، في بناء القصر الجديد للأمير .
ونهض من فراشه على عجل ، وارتدى ملابسه ، وجلس مع أمه ، يتناولان طعام الفطور ، ورأته أمه يزدرد الطعام ازدراداً ، فقالت له وهي تبتسم : لا تتعجل ، يا ارتو ، الطعام ساخن جداً ، ستحرق فمك .
ودفع مارتو لقمة كبيرة في فمه ، وقال وهو يمضغ الطعام بسرعة : أنا أعرف سومو ، ستوقظه أمه ، قبل صياح ديكهم المجنون .
وقبل أن ينتهي مارتو من جملته ، ارتفع طرق متعجل على الباب ، فهبّ مارتو واقفاً ، واللقمة مازالت في فمه ، وقال : أرأيتِ ؟ إنه سومو .
ولحقت به أمه إلى الفناء ، وهي تقول : دع سومو يأتي ، معك اليوم على العشاء ، يا مارتو ، سأعد لك طعاماً تحبه ، لا تنسَ .
وقبل أن يخرج مارتو ، قال لأمه : لا تعدي أي شيء ، سأشتري سمكاً مقلياً ، وسيوزعون علينا في نهاية هذا اليوم ، وجبة من الخبز الأبيض .
وتوقفت الأم في الفناء قليلاً ، ثم عادت إلى الغرفة ، ولملمت بقايا الطعام ، دون أن تأكل أي شيء ، رغم أنها لم تكن قد شبعت تماماً .
وسار مارتو مع سومو ، إلى حيث سيعملان ، في بناء القصر الجديد للأمير ، الذي كاد العمل فيه أن يكمل ، وقدم سومو صديقه مارتو ، إلى المشرف على بناء القصر ، وقال له : سيدي ، هذا هو العامل ، الذي حدثتك عنه البارحة ، وطلبت مني أن أحضره .
وحدق المشرف في مارتو مبهوراً ، وقال : ما أضخمه ، يبدو لي أنه قوي جداً .
وربت على ذراعه ضاحكاً ، وقال : إنه يصلح أن يكون مصارعاً ، وليس فقط عامل بناء .
وردّ مارتو بصوت هادئ : أرجو أن أكون عند حسن ظنك ، يا سيدي .
وقال المشرف مازحاً : في المصارعة ؟
فرد مارتو قائلاً : كلا ، يا سيدي ، بل في البناء .
ونظر المشرف إلى سومو ، وقال : خذه معك ، يا سومو ، لنقل الحجارة ، التي يبنى بها السور .
فانحنى سومو قليلاً للمشرف ، وقال : أمرك سيدي .
وسار سومو مبتعداً ، وأشار لمارتو ، وقال بصوت خافت : تعال معي ، يا مارتو .
وسار سومو ، وإلى جانبه سار مارتو ، بقامته الفارعة ، وأكتافه العالية ، وذراعيه الملفوفي العضلات ، متجهين إلى موقع العمل في السور ، ووقف المشرف يتابع مارتو ، وهزّ رأسه وقال : مصارع حقاً .
وحوالي منتصف النهار ، انتبه مارتو إلى حركة غير عادية ، بين المشرف وعمال بناء القصر ، ورفع رأسه ، وتساءل : ما الأمر ، يا سومو ؟
ورفع سومو رأسه ، ونظر حيث ينظر مارتو ، وسرعان ما خفض نظره ، وهو يقول : عد إلى العمل ، يا مارتو ، يبدو أنه الأمير وابنته ادنيجكيدو قد حضرا .
لم يعد ارتو إلى العمل ، وظل جامداً في مكانه ، ينظر إلى المشرف ، الذي أسرع إلى الأمير وابنته ، المحاطين بعدد من الحراس المدججين بالسلاح ، وهو يقول مرحباً : أهلاً مولاي ، أهلاً ومرحباً .
وأشار الأمير برأسه إلى ابنته مبتسماً ، وقال للمشرف : أصرت الأميرة أن تأتي اليوم ، لتتأكد بنفسها ، أن القصر الجديد سيكمل قريباً .
وانحنى المشرف قليلاً للأميرة ، وقال : انظري ، يا أميرتي ، إنه كامل تقريباً ، وسيكون أجمل قصر في مدينتنا المقدسة نيناب .
وتأملت الأميرة ادنيجكيدو القصر ، وقد بدت فرحة ومبهورة ، وقالت : إنه أعجوبة حقاً .
وصمتت مستغربة حين التفتت ، ووقع نظرها على مارتو ، وهو يرفع صخرة ضخمة بين يديه ، ثم قالت للأمير : أبي ، انظر .
ونظر الأمير حيث تنظر الأميرة ، ثم تساءل ، دون أن يلتفت إلى المشرف : هذا العامل لم أره هنا من قبل ، يا للآلهة ، من هو ؟
فقال المشرف متحمساً : إنه عامل جديد ، أصله من البادية ، اسمه مارتو .
وقال الأمير ، وهو مازال ينظر إلى مارتو بإعجاب : مارتو ، آه يبدو أنه قويّ جداً .
وصمت لحظة ، ثم قال : أعطه مع أجره اليوميّ ، وجبتين من الخبز الأبيض .
فانحنى المشرف للأمير ، وقال : أمر مولاي .

" 3 "
ـــــــــــــــ
قبيل المساء ، عاد ارتو إلى البيت ، وبين يديه وجبتين من الخبز الأبيض ، وأخذت أمه الخبز فرحة ، وقالت : يبدو أنك قلت لهم ، إنك متزوج .
فنظر مارتو إلى أمه معاتباً ، وقال : إنني لا أكذب ، يا أمي ، مهما كان السبب .
فقالت أمه : أعرفك ، يا بنيّ ، أعرفك جيداً ، إنني فقط أردتُ أن أمزح معك .
ونظرت الأم إلى أرغفة الخبز الأبيض ، وقالت : شمّة تحب هذا النوع من الخبز .
ورمقها مارتو بنظرة سريعة ، دون أن يعلق بكلمة واحدة ، فأضافت الأم قائلة : سآخذ لها رغيفين من هذا الخبز ، بعد العشاء .
ومضى مارتو إلى الغرفة ، ليستبدل ملابس العمل بملابس نظيفة ، فأطلت عليه أمه ، وقالت : طعام العشاء جاهز ، سآتيك به الآن ، وسنأكل معاً .
وجلسا ، بعد قليل ، يتناولان طعام العشاء ، وتظاهرت أمه بأنها منهمكة في تناول الطعام ، لكنها رمقته بنظرة سريعة ، وقالت : زارتنا شمّة عصر اليوم .
لم يرفع مارتو عينيه إليها ، وإن كان يصغي لما تقوله جيداً ، فتابعت الأم قائلة : كانت ، على غير عهدي بها ، تبدو حزينة قلقة ، لا أدري لماذا .
وهذه المرة أيضاً ، لم يرفع مارتو عينيه إليها ، وتشاغل بتناول الطعام ، تطلعت الأم إليه ملياً ، ثم قالت مازحة : أنت تأكل بشهية ، يا مارتو ، لا أدري ، هل الطعام لذيذ ، أم أنك جائع جداً ؟
فرفع مارتو عينيه إليها هذه المرة ، وردّ عليها قائلاً : الاثنان معاً ، يا أمي ، عاشت يدك .
وابتسمت الأم فرحة ، وقالت : بالعافية .
وبعد غروب الشمس ، جلس مارتو وأمه ، في الفناء تحت الشجرة ، ولاحظت أمه أنه صامت ، وقد بدا ساهماً ، شارداً بعيداً عما حوله ، فقالت له : لم تحدثني بشيء عن يومك الأول في العمل .
ونظر مارتو إليها ، لكنه لم يتحدث في شيء ، ثم أطرق رأسه ، وفكرت أمه ، لابد أنه متعب ، ورفعت عينيها إلى السماء لحظة ، ثم قالت : السماء صافية الليلة ، سيبزغ القمر بدراً بعد قليل .
وكأنما انتبه مارتو ، إلى أمر هام ، كان قد غاب عنه للحظات ، فقد هبّ من مكانه تحت الشجرة ، واتجه مسرعاً إلى الخارج ، فهتفت أمه متعجبة : مارتو ، توقف ، يا بنيّ ، إلى أين أنت ذاهب ؟
لم يتوقف مارتو ، وخرج من البيت ، وقال وهو يغلق الباب وراءه : لا عليكِ ، سأعود بعد قليل .
وتنهدت الأم ، وقالت : لابد أنه ذاهب إلى النهر ، ترى ماذا يفعل هناك ؟ من يدري ، مهما كان الأمر ، عليّ أن أزوجه ، في أسرع وقت ممكن .
ونهضت من مكانها ، واتجهت إلى الغرفة ، وهي تقول : فلآخذ رغيفين من الخبز الأبيض ، الذي جاء به ارتو اليوم ، وأقدمه إلى شمّة ، لعل وعسى .
ووصل مارتو إلى النهر ، وقد بزغ القمر ، وبدا وكأنه بزغ تواً من أعماق الماء ، حتى خيل له ، أن قطرات من الماء تتساقط منه مع نوره الشاحب ، فجلس على مرتفع ، يطل على النهر ، وراح يتأمل القمر .
وتناهى إليه وقع أقدام خفيفة ، لكنه لم يلتفت ، فقد خمّن أنها شمّة ، وقد كانت هي فعلاً ، وتوقفت شمّة على مقربة منه ، ثم تقدمت في هدوء ، وجلست إلى جانبه ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
والتفت مارتو إليها ، بعد حين ، وقال لها : شمّة ، نحن في الليل ، وستقلق أمكِ عليكِ ، إذا عرفت أنك خرجت بدون علمها من البيت .
ونظرت شمّة إليه ، والحزن في عينيها وقالت : جئت أخبرك بأمر ، لعله يهمك .
ونظر مارتو إلى مياه النهر ، التي كانت تنسب وئيداً ، تحت نور القمر ، وقال : مهما كان الأمر ، يا شمّة ، كان عليك أن تنتظري حتى الغد .
وقالت شمّة بصوتها الحزين : الأمر لا ينتظر حتى الغد ، فإنه سيحسم هذا اليوم .
ولاذ مارتو بالصمت ، فقالت شمّة : كالو ، أخو سومو ، سيتقدم لخطبتي الليلة .
ونظر مارتو أليها ، ثم قال : كالو شاب نبيل ، وموفق في عمله ، إنه يستحقك ، يا شمّة .
وأطرقت شمّة ، ثم قالت : فهمت .
ورفعت شمّة رأسها ، ونظرت إلى القمر ، الذي صار فوق النهر تماماً ، وقالت بصوت تبلله الدموع : لك قمرك الآن ، يا مارتو .
ونهضت شمّه بتثاقل ، ثم استدارت ، ومضت مبتعدة في خطوات تائهة ، حتى غابت في الظلام ، وظلّ مارتو جالساً في مكانه ، فوق المرتفع المطل على النهر ، وقد تكدرت عيناه .

" 4 "
ـــــــــــــــ
اقترب يوم الاحتفال بعيد إله مدينة نيناب ، حيث يخرج الناس ، كباراً وصغاراً ، فتياناً وفتيات ، في ثياب العيد الجديدة ، إلى الشوارع والساحات ، فيشاهدون الرقصات الجماعية ، ويتمتعون بالأغاني الشعبية ، ومباريات المصارعة التي كانت تُجرى بحضور الأمير والأميرة زوجته ، وكذلك الأميرة الشابة ابنته .
وخلال هذه المدة ، حاول الأمير أن يحصر المتبارين ، في عدد محدد ومختار من المصارعين المعروفين بقوتهم ومهاراتهم ، وقد كلف وزيره أيضاً ، بالبحث عن مصارعين جدد متميزين .
وهذا الصباح ، ولم يبق ليوم العيد غير ثلاثة أيام ، جاءه الوزير مسرعاً ، وكان يذرع قاعة العرش بخطوات ساهمة ، فتوقف محدقاً في الوزير ، وقال له : ملامحك تقول ، إنك جئتني ببشرى سارة .
وانحنى الوزير مبتسماً ، وقال بصوت كالهمس : حدسك صحيح كالعادة ، يا مولاي .
وأمال الأمير رأسه ، وقال : حسن ، هات البشرى .
واعتدل الوزير ، وقال : إنه في الخارج ، ينتظر إشارة منك ، يا مولاي .
فقال الأمير : فليدخل ، هيا بسرعة .
وقال الوزير : أمر مولاي .
ثم التفت نحو الباب ، وأشار لحارس هناك ، فتنحى الحارس قليلاً ، ودخل رجل ، وسط في عمره ، أقرب إلى الوحش ، في ملامحه ، وجسمه ، وقوته التي تشع شرارا من عينيه ، وتوقف أمام الأمير ، فقال له الوزير بصوت خافت : انحنِ ، وحيّ الأمير .
وانحنى الرجل الوحش قليلاً ، وقال : مرحباً .
وحدق الأمير فيه ملياً ، ودار حوله ، ثم قال للوزير : فلينتظر قليلاً في الخارج .
وبدا الوزير قلقاً متوجساً ، وأشار للرجل الوحش ، وقال له بصوت خافت : اذهب ، وانتظر في الحديقة .
واستدار الرجل الوحش ، بوجه مقطب قبيح ، ثم مضى إلى الخارج ، بخطى ثقيلة متمايلة كخطى الدب ، حتى خرج ، وأغلق الحارس باب القاعة .
ونظر الأمير إلى الوزير ، الذي تململ محرجاً ، ثم قال بصوت متردد : مولاي ، هذا طراز جديد من المصارعين ، ولعله لا يُحبّ شكله ، ولكنك ، يا مولاي ، ستعجب بأدائه ، وقوته الخارقة جداً .
ولاذ الأمير بالصمت لحظات ، ثم جلس على كرسيّ العرش ، وقال كأنه يُحدث نفسه : قد يكون هذا الوحش قوياً ، وربما فائق القوة ، لكني لم أحبه .
ومال الوزير عليه ، وقال متردداً : إنه مجرد مصارع ، يا مولاي .
وهزّ الأمير رأسه ، ثم نظر بعيدا ، وقال محدثاً نفسه : ليتني أجد المصارع الإنسان .
ولاذ الوزير بالصمت ، فنهض الأمير عن كرسيّ العرش ، وتوقف قرب النافذة ، المطلة على حديقة القصر ، وقال : هذا العامل الشاب ، الذي يعمل في بناء سياج القصر ..
والتفت إلى الوزير ، وتساءل : ماذا كان اسمه ؟
فردّ الوزير قائلاً : أظن أن اسمه .. مارتو ، يا مولاي .
وهزّ الأمير رأسه ، وقال : مارتو ، نعم مارتو ، يبدو لي أن هذا العامل إنسان .
فقال الوزير : مولاي ، نحن نبحث عن مصارع .
ونظر الأمير إليه ، وقال : حسن ، ابقِ على الوحش ، الذي جئت به ، إنه مصارع ..
وقال الوزير متردداً : اسمه هاديم ، يا مولاي .
وتابع الأمير قائلاً : ليكن ، ابقِ عليه ، وليتدرب مع المصارعين الآخرين ، ويتعرف عليهم ، وقد نجد حتى يوم العيد ، من ينافسه ، ويحاول أن يغلبه .
وانحنى الوزير له ، وقال : أمر مولاي .
ثم استدار ، وخرج من قاعة العرش ، وتطلع الأمير عبر النافذة إلى البعيد ، ومرة أخرى تراءى له العامل الشاب مارتو ، وهو يحمل بين يديه صخرة كبيرة ، فالتمعت عيناه ، وتمتم : آه مارتو .

" 5 "
ــــــــــــــ
قبيل منتصف النهار ، استدعى الأمير المشرف على بناء القصر ، فحضر على الفور ، وانحنى أمامه مرتبكاً ، وقال : مولاي ، أرسلت في طلبي .
وابتسم له الأمير مطمئناً ، وقال : لا تقلق ، لديّ أمر يهمني ، أردتُ أن أسألك عنه .
وسكت الأمير ، لكن قلق المشرف لم يسكت ، وقال للأمير : اطمئن ، يا مولاي ، العمل في قصرك الجديد ، يسير بالشكل الذي خطط له ، و ..
وقاطعه الأمير مبتسماً ، وقال : أنا مطمئن لسير العمل ، ما أردت أن أسألك عنه شيء آخر .
ووقف المشرف أمام الأمير جامداً ينتظر ، وتمتم : مولاي ، اسأل ..
وقاطعه الأمير ثانية ، وقال : مارتو ..
وتساءل المشرف ، وقد فغر فاه : مارتو !
فقال الأمير : العامل الجديد .
وتململ المشرف ببعض الارتياح ، وقال : إنه عامل .. يبدو مجداً .. وقوياً .. و ..
وقال الأمير : أرجو أنك تصرف له يومياً ، وجبتين من الخبز الأبيض .
وعلى الفور ، ردّ المشرف قائلاً : نعم ، مرتين ، كما أمرت ، يا مولاي .
وحدق الأمير فيه ، وقال : عيد إله المدينة يقترب ..
وبسرعة ، قال المشرف : بعد ثلاثة أيام ، يا مولاي .
وتابع الأمير قائلاً : وستقام فيه كالعادة ، مباراة للمصارعة ..
وهزّ المشرف رأسه ، وقال : نعم ، يا مولاي .
وقال الأمير ، وكأنما يحدث نفسه : يبدو لي أن هذا العامل ، مؤهل للمشاركة في المباراة .
وهزّ المشرف رأسه موافقاً الأمير ، وقال : نعم ، يا مولاي ، إنه قويّ جداً .
فقال الأمير : شجعه إذن عل المشاركة في المباراة ، اطلب منه ذلك مباشرة ، وأغره بكل ما تستطيع ، وإذا وافق على المشاركة ، أبلغني بذلك .
وانحنى المشرف للأمير ، وقال : أمر مولاي .
وعاد المشرف إلى موقع العمل في القصر الجديد ، ودعا مارتو إليه ، فلبى دعوته على عجل ، وقد ساوره بعض القلق ، وقال له : تفضل ، يا سيدي .
وأشار المشرف إلى مقعد قريب من مجلسه ، وقال بصوت هادئ : اجلس ، يا مارتو .
وجلس مارتو متوجساً ، فنظر المشرف إليه ، وقال : مارتو ، اسمعني جيداً ..
وسكت المشرف لحظة ، فقال مارتو : نعم ، يا سيدي ، إنني أسمعك .
وتابع المشرف قائلاً : قبل قليل كنت عند الأمير ، وقد أشاد جداً بك .
وتحير مارتو بماذا يجيب ، وتمتم أخيراً بصوت خافت : أشكرك ، يا سيدي .
وتابع المشرف قائلاً : عيد إله المدينة قريب ، إنه بعد ثلاثة أيام بالضبط ، وستجري فيه مباراة للمصارعة ، وأريدك أن تشارك فيها .
وتمتم مارتو : المصارعة !
فقال المشرف : نعم ، هذا شرف لك ، ثم إنك قويّ ، والمصارعة لا تحتاج إلا إلى القوة .
ونهض مارتو ، وقال : عفواً ، يا سيدي ، لستُ مؤهلاً للمصارعة ، فأنا لا أحب العراك .
ونهض المشرف بدوره ، وقال : المصارعة ليست عراكاً ، إنها فن ، واختبار للقوة ، وسيبقى المتصارعون على علاقة ودية ، مهما كانت النتيجة .
وأطرق مارتو رأسه ، ثم قال : عفواً ، سيدي ، لن أشارك في أية مباراة للمصارعة .
وقطب المشرف حاجبيه ، مغالباً غضبه ، وقال : قد يغضب الأمير منك ، يا مارتو .
ونظر مارتو إليه ، وقال : الأمير إنسان طيب ، يا سيدي ، وسيتفهم موقفي .
وحدق المشرف فيه صامتاً ، ثم أشاح عنه بنظره ، وقال : عد إلى عملك .
واستدار مارتو ، دون أن ينبس بكلمة ، ثم مضى عائداً إلى عمله ، وبقي المستشار جامداً ، ثم تمتم منزعجاً : لابدّ أن أخبر الأمير بالأمر .
وهذا ما فعله المشرف ، وإن كان على مضض ، فعند المساء ، أسرع إلى القصر ، والتقى بالأمير ، وقال له : عفواً ، مولاي ، رغم إلحاحي اعتذر مارتو عن المشاركة في المباراة .
ولاذ الأمير بالصمت لحظة ، ثم قال : أمر مؤسف ، أنا لا أريد أن أجبره على المشاركة ، إنه إنسان طيب ، وكنت أتمنى أن يشارك ..
وصمت الأمير لحظة ، ثم قال بصوت هادئ : عامله باحترام ، وخفف عنه العمل ، واصرف له كالسابق ، وجبتين من الخبز الأبيض .
وانحنى المشرف للأمير ، وقال : أمر مولاي .

" 6 "
ــــــــــــــــ
طرق الباب الخارجي ، وقد حلّ الظلام ، فرفعت الأم رأسها ، ونظرت إلى مارتو ، الذي كان راقداً في فراشه الدافئ ، وعيناه مفتوحتان ، جامدتان ، فقالت له : الباب يُطرق ، يا مارتو .
وردّ مارتو ، دون أن يتحرك من مكانه : لعلها واحدة من نساء الجيران ، يا أمي .
ونهضت الأم ، وقالت : أنتَ تعرف أنّ النساء لا يأتين في الليل ، يا مارتو .
لم يلتفت مارتو إليها ، فمضت إلى الباب ، وفتحته ، وإذا سوتو يقف في الظلام ، فحدقت الأم فيه ، وقالت : أهلاً بنيّ سوتو .
وتقدم سوتو منها ، وقال : عفوا ، لعل الوقت متأخر ، لكني جئت لأطمئن على مارتو .
فقالت الأم : لا يبدو مارتو على ما يرام ، أخشى أن يكون قد تعرض لأمر أزعجه .
ودخل سوتو إلى الفناء ، وقال : هذا ما أريد أن أعرفه ، وأريد أن أعرف لماذا هو هكذا .
وأغلقت الأم الباب ، وتقدمت سوتو في الفناء ، وتوقفت تحت الشجرة ، وقالت : إنه قلما يتحدث إليّ عما يشغله ، ادخل أنت ، لعله يتحدث إليك .
وجلست الأم في الفناء ، حيث تجلس دائماً هي ومارتو ، ودخل سوتو إلى الغرفة ، وألفى مارتو متمدداً في فراشه ، فقال له : الوقت مازال مبكراً ، يا مارتو ، انهض من الفراش ، ودعنا نتحدث قليلاً .
واعتدل مارتو في فراشه ، وقال : إنني متعب ، وأريد أن أرتاح قليلاً .
وحدق سوتو فيه ، وقال مازحاً : انهض ، وتحرك ، يبدو أن القمر سيمرضك .
وقال مارتو : ليس القمر ، يا سوتو .
وحدق سوتو فيه ، وقال : حين عدنا ، بعد انتهائنا من العمل ، لم تتكلم طول الطريق ، ولا حتى كلمة واحدة ، فإذا لم يكن القمر هو السبب ، فلابد أن هناك أمراً آخر لا أعرفه .
وهزّ مارتو رأسه ، وقال : نعم .
فقال سوتو : حدثني ، إنني أخوك .
ونظر مارتو إلى سوتو ، وقال له : الحقيقة ، أن المشرف قال لي ، إن الأمير نوموشدا يريدني أن أشارك في مباراة المصارعة لهذا العام .
والتمعت عينا سوتو ، وقال : الأمير نفسه !
فهزّ مارتو رأسه أن نعم ..
فتابع سوتو قائلاً : أنت محظوظ جداً ، يا مارتو ، حظك من السماء ، ثم إن هذه المشاركة الكبيرة ، ستدنيك جداً من قمرك .. الأميرة .
وفغر سوتو فاه مصدوماً ، حين قال مارتو : لكني اعتذرت ، يا سوتو .
فقال سوتو : أنت مجنون .
وصمت لحظة ، ثم قال : علمتُ أن الوزير ، أحضر من منطقة الأهوار ، مصارعاً ضخماً كالدب ، وسيشارك في مباراة المصارعة .
فقال مارتو : ليس هذا هو السبب ، فأنا لا يهمني لا هذا الدب ولا غيره ، إنني لا أحب العراك ، مهما كان نوعه ، هذا ما قلته للأمير نفسه .
عندما خرج سوتو من الغرفة ، بعد حديثه مع مارتو ، نهضت الأم من تحت الشجرة ، وقالت له : ها ، أرجو أن تكون قد فهمت شيئاً منه .
فقال سوتو ، وهو يتجه إلى الخارج : مارتو بحاجة إلى من يعالجه ، لعله يشفى ، إنه مجنون .

" 7 "
ـــــــــــــــ
حلّ يوم العيد ، وخرج الناس من بيوتهم ، في ثياب جديدة ، تحاكي بألوانها ألوان الربيع في نيناب ، خرجوا كباراً وصغاراً ، شباباً وشابات ، وانتشروا في الشوارع ، والساحات ، والحدائق الغناء .
وكالعادة ، وككلّ عام ، في مثل هذا اليوم المقدس البهيج ، خرج الأمير نوموشدا ومعه زوجه الساطعة الجمال نامرات ، وابنته الشابة المحبوبة ادنيجكيدو ، وقصدوا المعبد ، حيث استقبلهم الكهنة ، وعلى رأسهم الكاهن الأعظم ، فزاروا إله المدينة في محرابه ، وقدموا له فروض الإجلال والطاعة .
ثم خرجوا من المعبد ، يتقدمهم الأمير ، وراحوا يتجولون بين الناس ، وسط ضرب الطبول ، وأصوات الصنوج والمزامير ، وحين لاحت للأمير ساحة المصارعة ، والجمهور يتزاحم حولها ، أسرع إليه وزيره ، وقال له : مولاي ، ساحة المصارعة جاهزة ، والمصارعون مستعدون للبدء بالمباراة .
وقال الأمير ، وهو يتلفت حوله ، كمن يبحث عن شخص يتمنى حضوره ، وقال : يبدو أن عامل البناء مارتو ، لم يحضر إلى ساحة المصارعة .
فقال الوزير ، وهو يسير وراء الأمير : لن يشارك مارتو في المباراة اليوم ، على ما أعرف ، يا مولاي ، لكن ابن الأهوار هاديم حضر مبكراً .
وقال الأمير : وهو يتقدم زوجته الساطعة الجمال ، وابنته الشابة ، من الساحة : طبعاً ، لابدّ أن يكون هذا الوحش أول الحضور .
وأفسح الوزير للأمير وزوجته وابنته الشابة ، مبعداً بعض الناس المتجمهرين ، وقال : تفضل ، يا مولاي ، أعددت لكم هذه المقاعد هنا .
وجلس الأمير ، وجلست زوجته الساطعة الجمال إلى جانبه ، لكن ابنته ادنيجكيدو لم تجلس ، وإنما قالت : بابا ، سأتجول قليلاً ، في الجوار .
ونظرت أمها إليها ، وقالت : لا تبتعدي ، يا عزيزتي ، وخذي وصيفتك معكِ .
فقالت ادنجكيدو ، وهي تسير مبتعدة ، ووصيفتها تهرول وراءها ، نعم ماما .
وتنهدت الأم ، وقالت : آه ادنجكيدو ، لا أدري من أين ورثت هذا التمرد .
وابتسم الأمير ، وهو يراقب المصارعين ، الذين نزلوا إلى الساحة ، وقال : ليس مني بالتأكيد .
ووسط الزحام ، قريباً من الساحة ، سدّ الطريق على الأميرة رجل ضخم كالدب ، فتوقفت الأميرة دون خوف ، وحدقت فيه ، فقال : أنا هاديم .
لم تبعد الأميرة ، عينيها غير الخائفتين عنه ، وقالت متهكمة : رأيتك البارحة ، وأنت تدخل القصر مع الوزير ، لتقابل أبي الأمير ، يا هاديم .
وكشر هاديم عن أسنانه المتداخلة البشعة ، إنه يبتسم للأميرة ، وقال : سأشارك اليوم في المصارعة ، وسترين أنني سأسحق جميع المتصارعين .
وقالت الأميرة : سأتفرج على المصارعة ، وعليك أن تعرف أن في نيناب مصارعين كباراً .
وقال هاديم مستفزاً : لا كبار أمام هاديم ، ليعرف الجميع أنني ابن الأهوار .
ولاحت ابتسامة سخرية ، على شفتي الأميرة ، وقالت : الأهوار والمستنقعات ، على ما أعرف ، يا هاديم ، تزخر بدجاج الماء والخنازير الضخمة .
وقال هاديم متحدياً : أنا ملك الأهوار ، وسأحطم مصارعي نيناب ، وأفوز بالجائزة الكبرى .
وصمت محدقاً في الأميرة ، وقال من بين أسنانه البشعة : والجائزة الكبرى هي أنتِ .
وأشاحت الأميرة وجهها عنه ، ومضت مبتعدة ، وقالت : لن تفوز ، ففي نيناب من يحميها .

" 8 "
ـــــــــــــــ
أراد مارتو أن يتجول مع سومو ، في الشوارع والساحات ، بين الناس الفرحين بالعيد ، لكن سومو أقنعه بعد جهد جهيد ، أن يذهبا أيضاً إلى ساحة المصارعة ، ويتفرجا على المباراة الكبرى ، التي سيشارك فيها العديد من المصارعين ، من بينهم وحش الأهوار هاديم ، الذي جاء به الوزير .
وعندما اقتربا من الساحة ، لاحت الأميرة ادنجكيدو ووصيفتها ، فتوقف مارتو مبهوراً ، وقد التمعت عيناه ، وخفق قلبه بشدة ، وتوقف سومو قربه ، وقال : هيا يا مارتو ، هيا لا تتوقف ، الزحام شديد هنا .
ونظر حيث ينظر مارتو ، وحالما رأى الأميرة مع وصيفتها ، تمتم مبتسماً : آه .. فهمت .
وتوقفت الأميرة ، حين صارت قريبة من مارتو ، وحدقت فيه ، وقالت : أنتَ العامل مارتو .
فقال مارتو : نعم ، أنا مارتو .
وقالت الأميرة بحماس : ليتك تشارك في المصارعة هذا اليوم ، يا مارتو .
فقال مارتو : عفواً ، لن أشارك .
وأراد سومو أن يشارك في الحديث مع الأميرة ، فقال للأميرة : إنه لا يحب العراك ، يا مولاتي .
وحدقت الأميرة فيه صامتة ، فقال بكلمات مرتبكة : هذا ما قاله مارتو ، يا مولاتي .
والتفتت الأميرة إلى مارتو ، وقالت : كنت أتمنى أن تشارك في المباراة ، لعلك تسحق خنزير الأهوار هاديم ، المغرور بقوة عضلاته .
وأطرق مارتو رأسه ، دون أن يحير جواباً ، فسارت الأميرة مبتعدة ، والوصيفة تهرول في أثرها ، فمال سومو على مارتو ، وقال : أنت مجنون حقاً ، يا مارتو ، هذه فرصتك الذهبية ، لتكون قريباً من قمرك الصعب المنال ، الأميرة ادنيجكيدو .
وهزّ مارتو رأسه ، وقال وهو يتابع بعينيه الذاهلتين ، الأميرة ، التي كانت تسير مبتعدة هي ووصيفتها ، وقال : قلت للأمير ، يا سومو لن أصارع ، ولا أريد أن أرجع عما قلته ، لن أصارع .
وفوجئ مارتو وسومو بهاديم ، بجسمه الضخم كالدب ، يتوقف متحدياً أمامهما ، وشرر الغضب يتطاير من عينيه الوحشيتين ، وحدق غاضباً في مارتو ، وقال : رأيتك تتحدث مع الأميرة .
وتراجع سومو خائفاً ، وبقي مارتو في مكانه ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابع هاديم قائلاً : سأسحقك ، أيها البدوي ، إذا رأيتك تقترب منها مرة أخرى .
وهنا أقبل المسؤول عن إدارة مباراة المصارعة ، وأمسك بيد هاديم ، وسحبه معه ، وهو يقول : تعال معي ، ستبدأ المباراة الآن ، هيا .
وسار هاديم مع المدير ، لكنه قبل أن يبتعد ، التفت إلى مارتو ، وقال من بين أسنانه البشعة : لقد حذرتك ، أيها البدويّ ، إياك أن تقترب من الأميرة .

" 9 "
ـــــــــــــــ
بدأت مباراة المصارعة الكبرى ، ونزل أربعة من المتبارين إلى الساحة ، وراحوا يدورون فيها ، مستعرضين ضخامتهم وعضلاتهم المفتولة ، وجمهور المتفرجين المتزاحمين ، يضجون بالصياح والهتاف ، كلّ يشجع المصارع الذي يفضله .
ووقف المشرف على المباراة ، في وسط الساحة ، ورفع يده حتى هدأ الصياح والهتاف قليلاً ، فهتف بأعلى صوته : ستبدأ المباراة الآن ، وسيشارك فيها لأول مرة ، بطل جديد ، قادم من الأهوار ، إنه .. البطل هاديم .
ودخل هاديم ، بجسمه الضخم ، وملامحه الوحشية البشعة ، وتوقف المتصارعون مترددين ، وقد بدا عليهم القلق ، إذ لم يتوقعوا مثل هذا الوحش ، الذي يبدو بحجم دب ضخم ، وبوحشيته ، وشراسته .
وأشار الأمير ، الذي كان يجلس بين زوجته الساطعة الجمال ، وابنته الأميرة الشابة ، للبدء بالمباراة ، فالتفت المدير إلى المتصارعين ، وصاح بأعلى صوته : باسم الأمير العظيم ، فلتبدأ المباراة .
وعلى الفور ، انقض هاديم على أقرب مصارع منه ، فأمسكه بقوة ، وألقاه على الأرض ، وانهال عليه بالضرب الوحشي الشديد .
ونظر المصارعون الآخرون إلى ما جرى ، واعتراهم الكثير من الرعب والإحباط ، وقبل أن يقرروا ماذا يفعلون ، انقض هاديم عليهم ، الواحد بعد الأخر ، وجندلهم على الأرض ، مضرجين بدمائهم .
وضج الجمهور بالتصفيق والهتاف للبطل الجديد ، الذي سحق بسرعة خاطفة ، جميع مصارعي مدينة نيناب المقدسة ، المعروفة بأبطالها الأقوياء .
ونهض الأمير ، محيياً الجماهير ، وعندئذ اقترب منه هاديم ، مزهواّ بانتصاره ، وإلى جانبه تقدم مدير المباراة ، وتطلع الأمير إلى هاديم ، دون أن يبتسم ، وقال : منذ سنوات طويلة ، لم أرَ مصارعاً مثلك .
وقال هاديم مزهواً : إنني من الأهوار .
ومال مدير المباراة على الأمير ، وقال : أنا اكتشفته ، يا مولاي ، كنت في زيارة للأهوار ، ورأيته هناك ، فجئت به إلى نيناب ، ودربته ، وقدمته للوزير .
وهزّ الأمير رأسه ، دون أن يعلق بكلمة ، فتابع المدير قائلاً : هاديم هذا مصارع قويّ للغاية ، ويمكننا إذا أمرت يا مولاي ، أن نشارك به في مباريات المصارعة ، مع الممالك الأخرى ، وسنحقق الانتصار الساحق .
وقال الأمير موافقاً المدير : هذا أكيد ، وخاصة إذا واصلت رعايته وتدريبه .
وقال المدير متحمساً : وهذا ما سأفعله ، يا مولاي ، وسنرفع اسم مدينتنا المقدسة نيناب عالياً .
وحدق الأمير في هاديم ، الذي كانت عيناه الوحشيتان تفترسان وجه الأميرة الشابة ، وقال له : والآن ، أيها البطل .. هاديم ..
وبدل هاديم ، الذي كانت عيناه مازالتا مشغولتان بافتراس وجه الأميرة الشابة ، قال المدير : نعم ، يا مولاي .
ثم لكز هاديم بكوعه ، وهمس له : هاديم ، اصغ ِ ، الأمير العظيم يتحدث إليكَ .
وانتبه هاديم ، والتفت إلى الأمير ، وقال بصوته البشع : نعم ، مولاي .
وعرف الأمير ، أن هاديم وحش الأهوار ، كان ينظر إلى الأميرة ، لكنه تمالك نفسه ، وقال له : أنت الفائز في المباراة ، قل ماذا تريد ؟
وعادت عينا هاديم المتوحشتان ، تحطان على وجه الأميرة ، دون أن يردّ بكلمة على الأمير ، فلكزه المدير مرة أخرى ، وقال له : هاديم ، انتبه ، الأمير يتحدث إليك ، وقد سألك ماذا تريد ؟
وحدق هاديم في الأمي بعينيه الوحشيتين ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقال الأمير : تريد فضة ..
هزّ هاديم رأسه ، فقال الأمير : ذهباً ..
وثانية هزّ هاديم رأسه ، فقال الأمير : ربما تريد أحجاراً كريمة ..
وهزّ هاديم رأسه مرة أخرى ، فتساءل الأمير : ماذا تريد إذن ، يا هاديم .
واقترب هاديم من الأميرة ، ومال عليها بأسه الضخم ، الشبيه برأس الدب ، وقال : أريد هذه .
هبت الأميرة الشابة من مكانها ، غاضبة ، مشمئزة ، ومضت مبتعدة بخطى سريعة ، فلحقت بها أمها ممتعضة ، وتبعهما هاديم بعينيه الشرهتين الوحشيتين ، وهو يقول : أريد الأميرة ، أريدها .
واستدار الأمير غاضباً ، ولحق بزوجته والأميرة الشابة ، فالتفت المدير منزعجاً إلى هاديم ، وقال له مستنكراً : تريد الأميرة ! أنت مجنون .
ونظر هاديم بعينيه الوحشيتين إلى الأميرة ، وهي تسير مبتعدة ، وقال من بين أسنانه البشعة : أريد هذه الأميرة ، وسآخذها ، مهما كلفني الأمر .

" 10 "
ــــــــــــــــــ
في ساعة من الساعات الأولى لليل ، والقمر يطل بدراً من بين الأشجار ، خرجت الأميرة ادنيجكيدو من غرفتها ، فقد تعذر عليها النوم ، رغم طول رقادها في فراشها الوثير ، إذ لم يفارق مخيلتها ، ولو للحظة واحدة ، وجه وحش الأهوار هاديم .
وقبل أن تخرج إلى حديقة القصر ، لحقت بها وصيفتها ، وكأنها كانت تراقبها ، وقالت لها بصوت هامس : مولاتي ، الوقت ليل ، و ..
وقاطعتها الأميرة ، دون أن تتوقف ، وقالت : لم أستطع أن أنام ، سأذهب إلى الحديقة ، وأبقى فيها بعض الوقت ، ثم أعود إلى غرفتي .
ولحقت الوصيفة بها ، وقالت : مولاتي ، دعيني أرافقك ، وسأقف عن بعد ..
وواصلت الأميرة سيرها ، خارج القصر ، وهي تقول للوصيفة : كلا ، أريد أن أبقى في الحديقة وحدي ، عودي أنت إلى غرفتك .
وتوقفت الوصيفة ، وهي تتابع الأميرة بعينيها الحريصتين المحبتين ، حتى رأتها تنزل إلى الحديقة ، التي لم يكن يضيئها غير نور القمر ، المطل من بين الأشجار الكثيفة الأغصان .
وتوقفت الأميرة وسط الحديقة ، قرب شجرة ضخمة ، ورفعت رأسها المكلل بشعرها الكثيف ، وراحت تنظر إلى القمر ، الذي كان يسطع أعلى السماء .
ويبدو أن حرص الوصيفة ، وحبها الشديد للأميرة الشابة ، جعلها تتسلل خلسة ، وتختبئ وراء شجرة قريبة ، وتراقبها خفية من هناك .
وفوجئت الوصيفة ، على حين غرة ، وهي تقف وراء الشجرة ، بخروج ما يشبه الوحش من الظلام ، ورأته بأم عينيها ينقض على الأميرة ، التي راحت تصرخ وتولول ، ويحملها على كتفه ، ويعود بها بسرعة من حيث أتى ، ويختفي في الظلام .
وأقبل بعض الحراس المدججين بالسلاح ، على ولولة الأميرة وصياحها ، وقال أحدهم للوصيفة : سمعنا صياحاً وولولة ، ماذا يجري ؟
وقالت الوصيفة ، وهي تركض نحو المكان ، الذي هرب منه الوحش بالأميرة : تعالوا ، أسرعوا ، الوحش أختطف الأميرة ، وهرب بها من هنا .
وعلى الأثر ، أقبل الأمير وزوجته ، وعدد أكبر من الحراس المدججين بالسلاح ، وتساءل الأمير قلقاً : ماذا يجري ؟ لمَ هذه الضجة والصياح ؟
وتوقفت الوصيفة باكية أمام الأمير ، وقالت من بين دموعها :الأميرة .. الأميرة .. يا مولاي ..
وصاحت الأميرة الأم مولولة : يا ويلي ، ابنتي ..
وقالت الوصيفة لها ، وهي تشهق بالبكاء : وحش ، وحش ضخم ، يا مولاتي ، خرج من الظلام ، واختطفها ، وأسرع بها من هنا .
وتساءل الأمير مذهولاً : وحش !
وردت الوصيفة ، وهي مازالت تبكي : وحش ضخم ، كأنه الدب ، بدا لي أنه الوحش ، الذي دخل القصر البارحة مع الوزير ، وشارك في المصارعة .
وخفق قلب الأمير غيظاً وغضباً ، وتمتم : الويل له ، إنه وحش الأهوار ، هاديم .
والتفت الأمير إلى الحراس المدججين بالسلاح ، والذين التفوا حوله ، وصاح بهم : انتشروا في أرجاء الحديقة ، وفي محيط القصر ، وجيئوني بهذا الوحش الغادر ، حتى لو كان في العالم السفلي .
وعلى الفور انتشر الحرس المدججون بالسلاح ، في الحديقة الواسعة الأرجاء ، وكذلك في محيط القصر ، والمشاعل في أيديهم ، وراحوا يبحثون عن الأميرة والوحش هاديم ، لكن دون جدوى .

" 11 "
ــــــــــــــــــ
حوالي منتصف الليل ، وقد عرف ما جرى للأميرة ادنيجكيدو ، أسرع سومو إلى بيت مارتو ، ومضى راكضاً عبر الشوارع ، التي كانت تضج بالناس ، الذين عرفوا باختطاف الأميرة الشابة .
ووصل سومو إلى بيت مارتو ، وطرق بابه على عجل ، وسرعان ما فتحت الأم الباب ، وما إن رأته ، يقف متململاً في الظلام ، حتى قالت مذهولة : سومو ! نحن في منتصف الليل ، يا بنيّ .
واندفع سومو نحو الداخل ، وهو يقول لاهثاً : أرجو أن يكون مارتو مستيقظاً .
وقبل أن تجيب الأم بشيء ، خرج مارتو من الغرفة ، والنعاس في عينيه ، وقال : سومو ! ما الذي جاء بك الآن ؟ ماذا جرى ؟ تكلم .
وقال سومو ، وهو مازال يلهث : لقد أختطف أحدهم الأميرة ادنيجكيدو قبل قليل ، يا مارتو .
وبدا الذهول والغضب على مارتو ، وقال وكأنما يحدث نفسه : أي مجنون يجرؤ على اختطافها ، آه ..
وصمت مارتو ، فحدق سومو فيه مذهولاً ، وقال : مارتو ، لعلك محق ..
ومضى مارتو مسرعاً إلى الخارج ، فلحق سومو به ، وهو يقول : مارتو ، لحظة ، إلى أين ؟
وخرج مارتو من البيت ، وانطلق مسرعاً في الظلام ، وفي أثره انطلق سومو مسرعاً ، ووقفت الأم بالباب تنظر إليهما ، وشبحاهما يغيبان في الظلام ، وهي تقول : يا ويلي ، أخشى أن يتهور ابني المجنون مارتو ، هذه الأميرة الشابة لها من يحميها .
ولحق سومو بمارتو ، وأمسك به برفق ، وقال له : مهلاً ، يا مارتو ، أنت لا تعرف أين هو .
وأفلت مارتو منه ، وقال : أعرف صديقه دادو ، وأعرف بيته ، هيا معي إليه .
وفي أحد الأزقة الفقيرة الضيقة ، انقض مارتو على أحد الأبواب ، ورفسه بقوة وغضب ، فتداعى الباب وقد تحطم تماماً ، وما إن اندفع إلى داخل البيت ، حتى رأى
دادو يخرج مذعوراً من الغرفة ، فمدّ مارتو يده الضخمة ، وأطبق بها على عنقه ، وهو يقول : أيها اللعين ، سأخنق في الحال ، إذا لم تخبرني ، أين يمكن أن أجد الآن صديقك الوحش هاديم .
وجاهد دادو يائساً لالتقاط أنفاسه ، من خلال أصابع مارتو ، التي كانت تطبق بقوة على عنقه ، وهو يقول : لا أعرف أين هو ، دعني ، أنت تخنقني .
وشدّ مارتو بأصابعه أكثر على عنق دادو ، وهو يقول له : سأخنقك فعلاً ، دلني على بيته ، هيا .
واقترب سومو من دادو ، وقال له : أنت تعرف بيته في الأهوار ، لا تكن أحمق ، دلّ مارتو عليه .
وأجاب دادو ، وهو يكاد يختنق بين أصابع مارتو ، التي كانت تطبق بشدة على عنقه : سيقتلني هاديم ، إذا عرف أنني دللتك على بيته .
وشدّ مارتو على عنقه أكثر وأكثر ، وهو يقول له : وأنا سأقتلك حالاً ، إذا لم تدلني على بيته .
وصاح دادو ، وهو يكاد يلفظ أنفاسه : اتركني ، آآآه ، سأدلك ، سأدلك على بيته .
وأرخى مارتو أصابعه قليلاً عن عنقه ، وقال : حسن ، تكلم ، والويل لك إن لم تصدق .
وحاول دادو أن يلتقط أنفاسه ، وقال بصوت متشنج خائف : سيقتلني هاديم ، لن أفلت من بين يديه ، إنني أعرفه ، إنه وحش كاسر .
وصمت لحظة ، ثم قال : حسن ، اسمعا ..
ودلهما على كوخ هاديم ، الذي يقع في طرف الهور ، فهزّ مارتو رأسه ، وقال : عرفته ، الويل لهاديم ، والويل لك أيضاً ، إذا كنت تكذب .

" 12 "
ــــــــــــــــــ
دُفع باب الكوخ ، ودخل هاديم بجسمه الضخم كجسم الدب ، ووجهه الشائه البشع ، وتقدم من الأميرة ادنجكيدو ، التي كانت متكومة في إحدى الزوايا ، وقد أطبق عليها الحزن والغضب .
ومدّ لها يده المشعرة بطبق قذر ، فيه سمكة مشوية ، وقال لها بصوته البشع : كلي ، لابد أنكِ جائعة ، فأنت لم تأكلي أي شيء منذ مساء البارحة .
لكن الأميرة لم تمدّ يدها إلى الطبق ، فهزّ هاديم رأسه الضخم ، لعله كان يفكر ، ما عليه أن يفعله بهذا الطبق ، الذي فيه سمكة مشوية ، وأخيراً وضعه أمام الأميرة الشابة ، وقال لها : كلي ، إنها سمكة لذيذة ، من لا يأكل يموت من الجوع ، وأنا لا أريدك أن تموتي .
وظلت الأميرة معتصمة بالصمت ، ورفضت أن تمد يدها إلى الطعام ، فنظر هاديم إليها ، وقال : اصطدت لك هذه السمكة ، في هذا الوقت المبكر ، ونظفتها جيداً ، فأنت أميرة ، وقد تعودت على الطعام النظيف جداً ، ثمّ شويتها لك جيداً ، لتتمتعي بأكلها ، هيا كليها ، كلي هذه السمكة ، قبل أن تبرد ، فالسمك البارد غير لذيذ ، وأنا لا أريد أن تأكلي سمكة غير لذيذة .
وصمت هاديم لحظة ، ثم استأنف كلامه قائلاً : قد لا يكون الطبق نظيفاً ، كالأطباق التي كنت تأكلين بها في القصر ، ولكن عليك أن تتعودي على مثل هذا الطبق ، فأنت منذ الآن لن تعيشي في القصور ، وإنما في الأهوار ، وللأهوار مصاعبها ، ولكن لا أجمل منها ، وسترين ذلك بنفسك ، وتقتنعين به يوماً بعد يوم .
وصمت هاديم مرة أخرى ، ونظر إلى الطبق والسمكة المشوية التي فيه ، ثم حدق في الأميرة وقال بصوته البشع : ربما لن تأكلي هذه السمكة الآن ، لكنك ستأكلينها ، حتى إذا بردت ، حين يشتدّ بكِ الجوع .
ونظرت الأميرة إليه بكره ، وقالت له : لن آكل الآن ، ولا في أي وقت ، مادمتُ معك .
وحدق هاديم فيها ، ثم قال : ادنيجيكيدو ، انسي أنك أميرة ، وأن أمك أميرة ، وأبوك أمير ، أنت الآن معي ، مع هاديم ، وستبقين معي ، وعند الضحى سآخذك في مشحوفي ، ونتوغل في أعماق هذا الهور ، ولن يعثر علينا أحد ، مهما كان خبيراً بالأهوار .
ومن خارج الكوخ ، تناهى وقع أقدام قوية ، فرفع هاديم رأسه الضخم ، وأنصت ملياً ، وقد تقادحت عيناه البشعتان غضباً ، وتساءل محدثاً نفسه : ترى أي أحمق ، يمكن أن يأتي إلى هنا الآن ؟
وكأنما رداً عليه ، ارتفع صوت قويّ من الخارج ، يصيح : هاديم ، أيها القذر ، اخرج إليّ ، أعرف أنك موجود في داخل الكوخ .
والتفت هاديم صوب مصدر الصوت ، وصاح بصوته البشع المتميز غضباً : من أنتَ ؟
وعلى الفور ، جاءه الردّ مستفزاً : اخرج من مخبئك ، أيها الجبان ، وسترى من أكون .
والتمعت عينا الأميرة ادنيجكيدو ، وتمتمت فرحة وقلقة في آن واحد : آه هذا مارتو ، إنني أعرف صوته جيداً ، ولا يمكن أن أنساه .
وجنّ جنون هاديم ، واندفع كالدب الهائج إلى الخارج ، وهو يصيح بصوته البشع الغاضب : أيها اللعين ، جئت إلى موتك بقدميك ، سأمزقك .
وارتفعت في الخرج ، أصوات عراك وحشي ، وصياح غاضب وصراخ مدمى ، وأنصتت الأميرة ادنيجكيدو إلى ما يدور خارج الكوخ ، وقلبها يخفق بشدة ورعب ، خشية أن يصاب مارتو بأذى ، وهو الذي جاء بنية إنقاذها من هذا الوحش هاديم .
وسرعان ما هدأت الأصوات ، لا صياح غاضب ، ولا صراخ متوجع يقطر دماً ، ولم يعد يتناهى إلى الأميرة الشابة غير لهاث متوجع ، يا للويل ، يبدو أن الوحش هاديم قد هزم مارتو ، وربما أجهز عليه ، يا لآرتو المسكين ، ويا لحظ أمه التعس .
ودُفع باب الكوخ بهدوء ، وتعلقت عينا الأميرة الملهوفة الخائفة بالباب ، وخفق قلبها بفرح شديد ، فبدل الوحش هاديم ، دخل مارتو ، وقد تمزقت ثيابه ، وتضرج جسمه بالدماء ، وخطا نحوها ، وهو يكاد يتهاوى على الأرض ، فهبت من مكانها ، وفتحت ذراعيها المحبين ، وتلقته بحنان ، وضمته إلى صدرها .



" 13 "
ــــــــــــــــــ
تقدم مارتو بصعوبة بالغة ، ويده في يد الأميرة ادنيجكيدو ، إلى الأمير نوموشدا والأميرة الساطعة نامرات ، اللذين كانا يقفان أمام القصر ، ومن حولهما حشود متزاحمة من أهالي نيناب .
وأسرعت الأميرة الأم ، إلى ابنتها الأميرة ، وضمتها بشوق ولهفة إلى صدرها ، وقالت : بنيتي ، حمدا للآلهة ، التي أعادتك سالمة إليّ .
ونظرت الأميرة إلى مارتو ، الذي يكاد يتهاوى على الأرض ، وقالت : الف شكر لمارتو ، يا ماما ، فلولاه لما رأيتني على قيد الحياة مرة أخرى .
وتقدم الأمير ، وقد بدا متأثراً ، وشدّ بقوة على يد مارتو ، وقال له : أشكرك ، يا مارتو ، قل ما تريده ، وسأقدمه لك في الحال ، مهما كان .
فنظر مارتو إلى الأميرة ادنيجكيدو ، وقال بصوت واهن : مولاي .. لا أريد غير .. أن تكون الأميرة سالمة .. وآمنة .. وسعيدة .
وقبل أن يستدير ببطء ، ويمضي مبتعداً ، انحنى للأمير ، وقال بصوت أشد وهناً : عن إذنك ، يا مولاي ، إنني متعب جداً ، ولابد لي أن أذهب إلى البيت .
ومضى مارتو متعباً ، يكاد يتهاوى ، إلى البيت ، وأخذ الأمير والأميرة ابنتهما ادنيجكيدو ، ودخلا بها إلى القصر ، وسط هتاف الناس وتهليلهم .
وعند المساء ، والشمس تشتعل عند الأفق ، طُرق الباب ، وفتحته الأم ، وتوقفت مذهولة ، فقد فوجئت بما لا يمكن أن تتوقعه ، نعم ، كانت الأميرة ادنيجكيدو تقف قريباً منها ، فهتفت مذهولة : مولاتي !
وقالت الأميرة بصوت هادىء : أريد مارتو .
وتنحت الأم ، وهي أشد ذهولاً من قبل ، وقالت بصوت مندى بالفرح : تفضلي مولاتي ، إنه هنا ، جالس في الفناء تحت الشجرة .
ودخلت الأميرة إلى الفناء ، وأغلقت الأم الباب على عجل ، وما أن رأى مارتو الأميرة تتقدم نحوه ، وعيناها الجميلتان متعلقتان بعينيه ، حتى نهض مذهولاً ، وهو يتمتم : مولاتي !
وتوقفت الأميرة أمامه ، وعيناها الجميلتان مازالتا متعلقتين بعينيه ، وقالت : مارتو ..
فقال مارتو : مولاتي .
وقالت الأميرة : قلت أنك تريد لي السلامة والأمان والسعادة ..
فهزّ مارتو رأسه ، وقال : نعم يا مولاتي ، هذا ما أريده لكِ في حياتك .
فمدت الأميرة يديها ، واحتضنت يديه ، وقالت : أنت سلامتي وأماني وسعادتي .
وهتفت الأم ، وعيناها الأموميتان المحبتان غارقتان بدموع الفرح : مارتو ..
فقال مارتو بصوت متهدج يشوبه الفرح ، وكفاه القويتان تحضنان بقوة كفي الأميرة الشابة ادنيجكيدو : أمي ، انظري ، لقد حصلت على .. القمر .

8 / 7 / 2019



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روايةللفتيان الزنبقة ...
- رواية للفتيان عينان في الماء طلال ...
- رواية للفتيان يوهيرو الأمل ...
- رواية للفتيان التاج طلال حسن
- رواية للفتيان شترا و ريشيا ...
- رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
- رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت ...
- رواية للفتيان كهف الدب الأسود ...
- رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا ...
- رواية للفتيان ابني الديسم ميشا ...
- رواية للفتيان جبل الوعول ...
- حكايات للفتيان حكايات عربية
- حكايتان طلال حسن الهارب
- رواية للفتيان ذئب الأهوار
- رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
- رواية للفتيان خزامى الصحراء
- رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
- رواية للفتيان الصحن الطائر
- رواية للفتيان اشوميا الز ...
- رواية للفتيان نداء الانوناكي


المزيد.....




- حضور لافت للسينما العراقية في مهرجان عمان السينمائي
- إستذكار الفنان طالب مكي ..تجربة فنية فريدة تتجاوز كل التحديا ...
- براد بيت اختبر شعورا جديدا خلال تصويره فيلم -F1-
- السويد.. هجوم جديد بطائرة مسيرة يستهدف الممثلية التجارية الر ...
- -البحث عن جلادي الأسد-.. فيلم استقصائي يتحول إلى دليل إدانة ...
- تقرير رويترز 2025: الجمهور يفضل الفيديو والصحافة البشرية وهك ...
- هكذا تصوّرت السينما نهاية العالم.. 7 أفلام تناولت الحرب النو ...
- بعد أسابيع من طرح الفيلم ونجاحه.. وفاة نجم -ليلو وستيتش- عن ...
- ابتكار ثوري.. طلاء -يعرق- ليُبرّد المباني!
- كيف يساهم تعليم العربية بكوريا الجنوبية في جسر الفجوة الثقاف ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان قمر من سماء عالية طلال حسن