أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - حكايتان طلال حسن الهارب















المزيد.....

حكايتان طلال حسن الهارب


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7532 - 2023 / 2 / 24 - 14:08
المحور: الادب والفن
    


حكايتان

طلال حسن




الهارب













" 1 "
ــــــــــــــــــــــ
بعد حوالي الشهر ، من الهروب والتخفي ، وصل الأمير عبد الرحمن على حصانه متعبا ، إلى هذه المدينة الصغيرة ، التي تقع على حافة الصحراء .
ومضى على حصانه ، يبحث عن خان متواضع يبات فيه ليلته ، قبل أن ينطلق في الصحراء ، ويذوب في آفاقها الرحبة ، فلا يصل إليه أعداؤه ، الذين يبحثون عنه، وقد رصدوا جائزة لمن يدلهم عليه .
وعثر على خان ، في أبعد طرف من المدينة ، وترجل عن حصانه أمام بوابته ، وجاءه صاحب الخان ، يسبقه كرشه الضخم ، ومعه خادم عجوز ، فقال له : أريد غرفة صغيرة .
وقال صاحب الخان : يبدو أنك وحدك .
وقال الأمير : كما ترى ، وسأبقى هنا ليلة واحدة ، وربما أكثر .
والتفت صاحب الخان إلى الخادم العجوز ، وقال له : خذ الحصان إلى الإسطبل ، وقدم له الماء والعلف ، فهو أيضاً متعب وجائع .
ومدّ الخادم العجوز يده ، وأخذ زمام الحصان من الأمير، ومضى به إلى الإسطبل القريب من الخان ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة .
ومشى صاحب الخان أمام الأمير ، واجتاز به البوابة إلى الداخل ، وهو يقول له : تعال أريك الغرفة ، التي ستبيت فيها هذه الليلة .
وقاده إلى غرفة صغيرة ، في آخر الخان ، وأراه الغرفة، وقال له : هذه الغرفة تناسبك .
وتطلع الأمير إلى أطراف الغرفة ، وقال : نعم إنها صغيرة ونظيفة ، أشكرك .
ونظر صاحب الخان إليه ، وقال : لدينا طعام في الخان، سآتيك بما تحب إذا أردت .
وقال الأمير : نعم ، إنني بحاجة إلى الطعام فعلاً ، أرسل لي رغيفاً من الخبز ، مع قليل من اللبن .
واتجه صاحب الخان إلى خارج الغرفة ، وهو يقول : سأرسل لك الطعام قبل المساء .
وقبيل المساء ، جاءه خادم برغيف من الخبز ، وقعباً مليئاً باللين ، فانكب الأمير على الطعام ، والتهمه كله ، فهو لم يأكل شيئاً منذ أكثر من يوم .
وأوى إلى فراشه ، بعد أن أحكم إغلاق باب الغرفة ، وتأكد مما يحمله خفية ، والذي شده كحزام داخلي حول بطنه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .

" 2 "
ـــــــــــــــــ
أفاق الأمير صباح اليوم التالي ، لكنه لم ينهض من فراشه ، إنه مازال يشعر بالتعب ، صحيح أن حاله أفضل من البارحة ، لكن جسمه ما زال بحاجة إلى المزيد من الراحة ، خاصة وأنه مقبل على سفر شاق ، لا يعرف بالضبط نهايته .
ونهض الأمير ، وأنصت إلى ما يدور خارج الغرفة ، وحين اطمأن إلى أنه ليس هناك ما يريب ، فتح الباب بهدوء ، وأطل إلى الخارج ، نعم كلّ شيء على ما يرام، فخرج من الغرفة ، وأغلق بابها ، ومضى إلى السوق ، ليتأكد من أن الأوضاع مطمئنة في المدينة .
ومشى في شارع المدينة الوحيد ، بدكاكينه الفقيرة المتواضعة ، دون أن يتلفت حوله ، لكن عينيه الحذرتين المرتابتين ، كانتا ترصدان ما حوله ، وشعر ببعض الارتياح للناس العاديين ، الذين كانوا يسيرون في الشارع ، أو يتوقفون عند الدكاكين .
وبينه وبين نفسه ، قرر أن يبقى في هذه المدينة ، يوماً أو يومين آخرين ، حتى يرتاح تماماً ، مما عاناه من الهرب والتخفي في هذه الفترة ، ثم يواصل هربه إلى خارج البلاد عبر الصحراء .
وتباطأ الأمير ، واضطربت خطواته ، عندما لمح عينين سوداوين ثابتتين تتطلعان إليه ، عبر الناس المتزاحمة وسط الشارع ، ورمقه بنظرة سريعة ، ثم أشاح عنه ، كان رجلاً ربما تجاوز الأربعين ، غامق البشرة ، مفتول العضل ، أهو عبد ؟ من يدري .
ورغم أنه لم يتذكره ، وربما كان لا يعرفه ، إلا أنه لم يرتح لعينيه السوداوين الثابتتين ، لعل هذا اللعين يعرفه، وتعرف عليه هنا ، و .. وتوقف برهة ، ثم تراجع خطوات ، ثم انسلّ عائداً إلى الخان .
ومرّ بصاحب الخان ، فتوقف عنده لحظة ، وقال له : أرجوك ، مرِ الخادم أن يُعدّ لي حصاني .
فقال صاحب الخان : كما تشاء .
وأسرع إلى غرفته ، ولملم على عجل حاجياته البسيطة منها ، ثم عاد إلى صاحب الخان ، وأعطاه أجرة الغرفة، فقال له صاحب الخان : حصانك جاهز .
وأسرع الأمير إلى خارج الخان ، وهو يقول له : أشكرك .. أشكرك جداً .
وفي الخارج ، قدم الخادم العجوز للأمير حصانه ، وقد أعده له ، فمنحه مبلغاً من المال ، ثم امتطى حصانه ، وانطلق به مبتعداً عن الخان .
وما إن ابتعد الأمير ، وهو على حصانه ، عن المدينة الصغيرة ، وعن العينين السوداوين الثابتتين والبشرة الغامقة ، حتى تنفس الصعداء ، وتطلع إلى الأمام بشيء من الارتياح ، حيث الصحراء تمتد بعيداً ، لا تحدها إلا السماء ، البعيدة الصافية الزرقاء .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
أبطأ الأمير قليلاً ، وهو على صهوة حصانه ، حين غابت المدينة في الأفق ، ولم يعد حوله وأمامه غير الصحراء المترامية ، وها هو ، بعد هذه المعاناة ، قاب قوسين أو أدنى من النجاة .
آه ما أقسى حياة الهرب ، ومواجهة الصعاب ، وخاصة لأمير مثله ، عاش حياته كلها في القصور الآمنة ، لم يصدق أنه يمكن أن ينجو ، هو الذي لم يعانِ في حياته ، من مثل هذه الصعاب والمشقات ، التي واجهها خلال أيام هربه ، والتي تربو على الشهر .
وحين سقطت المدينة في يد الأعداء ، وقتلت زوجته وولداه ، استطاع هو وحده ، وبشق الأنفس ، أن يفلت من القتلة ، ويهرب من القصر ، ولم يستطع أن يأخذ معه غير بعض الذهب ، وجوهرة نادرة ، كان قد اشتراها لزوجته بمائة ألف دينار .
ولاحت له من بعيد ، نخلة باسقة منعزلة ، لا يعرف كيف نمت في هذا المكان من الصحراء ، وما إن وصل إليها ، حتى برز له رجل أربعيني ، غامق البشرة ، ومدّ يده ، وأمسك بقوة زمام حصانه .
وحدق الأمير في الرجل ، وقلبه يخفق بشدة ، آه إنه نفس الرجل ، الذي حدق فيه في السوق ، بعينية السوداوين الثابتتين ، فقال له بصوت مضطرب : أيها الرجل ، اترك زمام حصاني .
وابتسم الرجل ، وقال : هذا الحصان يحمل كنزاً .
ونظر الأمير إليه ، وقال متلجلجاً : أنا .. أنا لا أعرفك .
واتسعت ابتسامة الرجل ، وقال : أنا أعرفك .
ولاذ الأمير بالصمت ، وهو يكاد ينهار ، فقال الرجل : أنت الأمير عبد الرحمن .
وردّ الأمير متلجلجاً : كلا ، لست الأمير عبد الرحمن ، أنت واهم ، إنني رجل عابر .
وشدّ الرجل زمام الحصان بقوة ، وقال : بل أنت هو الأمير ، وقد رصدت عشرة آلاف دينار ، لمن يقبض عليك ، ويسلمك لمن تهرب منهم .
وجمد الأمير فوق صهوة حصانه ، ولاذ بصمت مطبق، فتابع الرجل قائلاً : تعرف ، أيها الأمير ، إنني عبد ، وبمثل هذا المبلغ ، أشتري حريتي ، وأعيش بسعة حياتي كلها .
ومدّ الأمير يده إلى حزامه ، وأخرج الجوهرة ، وأراها للرجل ، وقال له : هذه الجوهرة اشتريتها بمائة ألف دينار ، خذها ، واترك زمام حصاني .
ونظر الرجل إلى الأمير ، الذي كانت عيناه اليائستان متعلقتين به ، تنتظران ما سيقوله ، والسحب المضطربة تتجمع فيهما ، ثمّ قال بصوت هادئ : أيها الأمير ، أنا أعرفك ، أنت رجل كريم ، وأريد أن تعرف ، أن بيننا نحن العبيد من هو كريم أيضاً .
ورفع يده عن زمام الحصان ، وتراجع عنه عدة خطوات ، وقال : أنت هارب ، احتفظ بجوهرتك ، لعلك تحتاج إليها ، اذهب يا سيدي ، ولترافقك السلامة .

25 / 4 / 2020



















سعدى












" 1 "
ــــــــــــــــ
قبل أن أنام ، وعلى عادتها كلّ يوم ، راحت أمي التي أصابها المرض ، تتحدث عن الماضي ، وهذا اليوم كان حديثها عن موضوعها الأثير ، عن أبي .
وقالت أمي بصوتها الشائخ المتعب ، وربما كانت تحدث نفسها ، أكثر مما كانت تتحدث إليّ : كان أبوك صياداً ماهرً ، لا يجاريه في ذلك أحد من القرية .
وصمتت أمي ، ثمّ التفتت إليّ ، وقالت : عمرو ..
أجبتها مبتسماً : نعم أمي .
فقالت : كان أبوك يعرف ، أنني أحبّ لحم الغزلان ، فكان يخرج إلى الصحراء ، ولا يعود إلي البيت إلا ومعه غزالة لي .
فقلتُ لها : سأخرج غداً إلى الصحراء ، يا أمي ، وآتيك بغزالة ، كما كان يفعل أبي .
واعتدلت أمي في فراشها ، وقالت لي : لا يا بنيّ ، لا يا عزيزي ، لا أريدكَ أن تذهب إلى الصحراء ، إنها خطرة للغاية ، ابقّ إلى جانبي
ومع الأيام ، اشتدّ المرض على أمي ، وعبثاً حاولتُ أن أعالجها ، وكأنما كانت مشتاقة إلى أبي ، وتستعجل اللقاء به ، فانطفأت كما ينطفئ القنديل ، وتركتني في عتمة ، ليس فيها بصيص من الضوء .

" 2 "
ـــــــــــــــ
لم أطق البقاء طويلاً في البيت ، الذي خلا من أمي ، وبقيتُ فيه وحدي ، فامتطيتُ حصاني ذات صباح ، وقد تمنطقتُ بسيفي ، وانطلقتُ لأتوغل في الصحراء ، حيث الفضاء الواسع ، الذي لا تحده حدود .
وصادفني جاري عبد الله ، وأنا أخرج من القرية ، وحاولتُ أن أتحاشاه ، وأمضي في طريقي ، دون أن أوجه له كلمة ، لكنه ناداني قائلاً : عمرو ..
وتوقفت عن السير بحصاني ، وأجبته باقتضاب قائلاً : أهلاً عبد الله .
ونظر إليّ عبد الله متسائلاً ، وقال مبتسما : خيراً يا أخي، أراك على حصانك في هذا الصباح ، وقد تمنطقت بالسيف ، إلى أين أنت ذاهب ؟
فأجبته ، وأنا فوق حصاني : إلى الصحراء ، أريد أن أصطاد غزالة .
وابتسم عبد الله ، وقال مازحاً : هناك غزلان كثيرة ، قرب وادي السعالى ، أنصحك أن لا تقترب منه ، فهو شديد الخطورة .
فلكزت حصاني ، ومضيتُ مبتعداً ، وأنا أردّ عليه قائلاً: جدتي كانت تتحدث عن السعالى في الصحراء ، مثلما تتحدث عنها أنت الآن ، وعندما سأشيخ مثلها ، ربما تحدثتُ مثلما كانت تتحدث .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
بعد منتصف النهار ، وقد تقدمت في عمق الصحراء، واقتربتُ من وادي السعالى ، الذي حذرني منه جاري عبد الله ، لمحت غزالة من بعيد .
لم تهرب الغزالة مني ، حين توجهتُ إليها بحصاني ، وإنما ظلت في مكانها ، وبدا لي أنها كانت تتشاغل عني، دون أن يبدو عليها الخوف .
وأعددتُ القوس والنشاب ، وما إن صارت على مرمى مني ، حتى وثبت برشاقة ، وأطلقت سيقانها للريح ، وحثثتُ حصاني للحاق بها ، لكنها سرعان ما غابت عني ، وكأن الرمال انشقت وابتلعتها .
وأبطأتُ قليلاً ، وأنا أتلفتُ حولي ، وأدقق في الصحراء المترامية ، وخفق قلبي بشدة ، حين جاءني صوت فتاة من ورائي يهتف بي : عمرو .
وشددتُ زمام حصاني ، حتى توقف متململاً ، وكأنه يحس بتوتري واستغرابي ، لكني لم ألتفتْ ، وأصغيتُ ملياً ، لعلها الريح ، لكن الصوت نفسه جاءني ثانية : إنني أناديك ، يا عمرو .
والتفتُ نحو مصدر الصوت ، وهالني أن أرى فتاة شابة ، تقف متطلعة إليّ ، من أين انبثقت هذه الفتاة فجأة ؟ أيعقل أنني مررتُ بها ، دون أن أراها ؟
واستدرتُ بحصاني ، وسرتُ به نحوها ، وقبل أن أصل إليها ، حدقتْ فيّ ، وقالت : ستسألني ، وهذا من حقكَ ، من أين أنتِ ؟
وتطلعتُ إليها ، وقلتُ : لقد ناديتني باسمي ، عمرو .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : لأن اسمك عمرو .
وصمتت لحظة ، ثم أشارت إلى حيث تشرق الشمس ، وقالت : إنني من هناك .
ونظرتُ حيث أشارت ، ثم تطلعت إليها ، وقلتُ : لقد حذرني صديق من التوغل في هذه المنطقة .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : وها أنت قد توغلت .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : رأيتك منذ أن دخلت المنطقة ، وأعجبتني هيأتك ، وشجاعتك ، وتعاملك مع حصانك القويّ الجموح .
ولذتُ بالصمت لحظة ، ثم قلتُ : المساء يقترب ، وستغيب الشمس ، لدي طعام جئتُ به من قريتي ، لنأكل معاً ، ثم نتبادل الحديث إذا أردتِ .
وصمت للحظة ، ثم سألتها : ما اسمكِ .
أجابت بصوت هادئ : سعدى .

" 4 "
ــــــــــــــــــ
يبدو أنّ لليل هنا سحره ، ليل كأن شاعراً ، من هذه الصحراء ، نقشه بكلماته ، صمت عميق ، نجوم بعيدة ، قمر معلق في الأفق ، وسعدى إلى جواري .
تبادلنا الحديث طويلاً ، والأحرى أني تحدثتُ كثيراً ، لا أدري لماذا ، حدثتها عن أبي ، بعيني أمي ، وحدثتها عن حبّها العميق له ، وقد ظلّ إلى جانبها ، حتى بعد رحيله ، وظلت تتحدث إليه ، وتناجيه ، إلى أن رحلت هي الأخرى .
صمتُ ، وكانت هي صامتة ، وملتُ عليها ، والقمر ينظر إلينا من بعيد ، وهمست لها : سعدى ..
ابتسمت فرحة ، وكأنها تعرف ما سأقول ، فتابعت الهمس : لنتزوج ، يا سعدى .
قالت سعدى ، وهي مازالت تبتسم : أنا لا أطيق الحياة إلا هنا ، يا عمرو ..
هززتُ رأسي موافقاً ، فتابعت قائلة : سأبقى إلى جانبك، مادمتَ تريدني ..
وقلتُ لها : سأريدكِ دائماً .
ونظرت إلى حيث تشرق الشمس ، وتابعت قائلة : وعليك أن تحميني من البرق ، يا عمرو .
ثم أشارت إلى حيث تشرق الشمس ، وقالت وقد انطفأت ابتسامتها : إذا أبرقت هناك ، ولم تحمني ، ومسني شعاع من ذلك البرق ، أطير من هنا ، ولن تجد لي أثر في أي مكان .
مددتُ يديّ ، وأطبقت على كفها ، وأنا أقول لها : سأحميكِ بحياتي ، يا سعدى .

" 5 "
ــــــــــــــــ
مرت الأيام والأسابيع والشهور ، وأنا أعيش هانئاً مع سعدى ، في خيمة صغيرة ، وسط هذه الصحراء القفر ، وكنتُ أخرج للصيد أحياناً ، وغالباً ما أعود إلى الخيمة، دون أن أصيد أي شيء .
لكني ـ ويا للعجب ـ أجد سعدى ، قد أعدت سفرة شهية من الطعام ، وقد سألتها مرة : سعدى ، من أين هذا الطعام اللذيذ ؟
فتضحك سعدى ، وتجيب مازحة : أنا صيادة ماهرة ، يا عمرو .
وتنظر إليّ بعينيها الجميلتين ، وتتابع قائلة : لقد علمني أبي الصيد ، وأنا طفلة صغيرة .
وألوذ بالصمت ، وفي داخلي تتردد أسئلة عديدة ، لكني كنت أكتمها ، فلم أسألها من هو أبوها ، ومن هي أمها ، ومن أي الأقوام هم ، وحتى لو سألتها ، لأجابتني بمزحة أبعدتني عما سألتها عنه .
وذات يوم ، سألتها ، والقمر يطل علينا ساطعاً : سعدى، أتحنين إلى أهلك ؟
وقطبت سعدى ، وبدل أن تردّ على سؤالي ، قالت : يبدو أنك أنت تحنّ إلى حياتك السابقة .
لذت بالصمت ، وقد رأيت عينيها تغيمان بالحزن والتأثر، وسرعان ما نهضت ، ومضت صامتة متكدرة ، إلى داخل الخيمة .

" 6 "
ــــــــــــــــ
وقفتُ بباب الخيمة ، في اليوم التالي ، وسعدى ترتب الفراش في الداخل ، ونظرتُ إلى السماء ، وقلتُ كأنما أحدث نفسي : في السماء اليوم ، غيوم ثقيلة سوداء ، وبوادر عاصفة تلوح في الأفق .
ولاذت سعدى بالصمت ، إنها مازالت متأثرة ، مما دار بيننا ليلة البارحة ، والقمر يطل علينا ، لعله الحنين إلى أهلها ، أو .. من يدري .
وخرجت سعدى من الخيمة ، دون أن توجه إليّ كلمة واحدة ، وألقتْ نظرة سريعة إلى الغيوم القاتمة في السماء ، وقالت : قد تمطر بعد قليل ، من الأفضل أن لا نبتعد اليوم عن الخيمة .
وعادت سعدى إلى الخيمة ، دون أن تنظر إليّ ، وبدل أن أتبعها إلى الداخل ، مضيتُ أتفقد الحصان ، الذي ربطته إلى وتد خلف الخيمة .
وتوقفت قرب الحصان ، الذي راح يحمحم حين رآني ، ومددتُ يدي ، وأخذت أمسد على رأسه ورقبته ، وهو مستسلم ومرتاح للمساتي له .
وهطل المطر مدراراً ، وتناهت إليّ دمدمة العاصفة من بعيد ، وهممتُ أن أعود إلى الخيمة ، حين خرجت سعدى ، ووقفت تحت شآبيب المطر المنهمر .
وهتفت بها : سعدى ، المطر شديد ، عودي إلى الخيمة ، أخشى أن تبرق في أية لحظة .
وبدل أن تعود سعدى إلى الخيمة ، رفعت يديها إلى السماء ، والمطر ينهمر بشدة ، وفجأة التمع البرق ، وأعشى نوره الشديد عينيّ ، حتى لم أعد أرى شيئاً ، ثم انفجر الرعد ، كأنه بركان .
وما إن هدأ البرق والرعد ، وصار بإمكاني أن أبصر ، حتى أسرعت إلى حيث كانت تقف سعدى ، لكني لم أجدها ، وتلفت حولي كالمجنون ، وصحتُ بأعلى صوتي ، والمطر ينهمر فوقي كالشلال : سعدى ..
لم ترد سعدى عليّ ، ودرت حول الخيمة ، وركضت تحت المطر يميناً ويساراً ، وأنا أصيح بأعلى صوتي كالمجنون : سعدى .. سعدى .. سعدى .
وتوقف المطر ، وتناهى إليّ صوت حصاني ، كأنه يناديني ، فتوجهت إلى الخيمة ، بخطى ثقيلة ، وأنا أكاد أتهاوى على الأرض ، ورأيت حصاني في مكانه ، ينظر إليّ مشفقاً ، وتوقفت مصعوقاً ، إذ لم يكن هناك أي أثر للخيمة ، التي عشت فيها مع سعدى .

" 7 "
ــــــــــــــــ
امتطيتُ حصاني ، وحثثته على السير ، وقد انقشعت معظم الغيوم من السماء ، وأطلت الشمس ، وغمرت بضوئها ودفئها أرجاء الصحراء .
وسرعان ما مضى حصاني خبباً ، متجهاً إلى قريتي ، التي خرجت منها ، وعشتُ بعيداً عنها مع سعدى ، في خيمة على مشارف وادي السعالي .
وعند مشارف القرية ، تناهى إليّ صوت ما زلتُ أذكره، وإن بدا لي أنني لم أسمعه منذ مدة ليست قصيرة ، إنه جاري عبد الله ، يخاطبني ضاحكاً : أهلاً عمرو .
وتوقفت بحصاني ، والتفتُ إليه ، حقاً لقد اشتقتُ إليه ، رغم أنني غالباً ما أستثقله ، وقلتُ له بصوت هادئ : أشكرك ، يا عبد الله ، أرجو أن تكون بخير ، أنت وأولادك ، وأهل القرية جميعاً .
وحدق عبد الله فيّ مندهشاً ، ثم ضحك ، وقال : حسبت أنك ستعود من الصيد بغزال ضخم ، عندما رأيتك تذهب للصيد في الصحراء ، صباح اليوم .
ولذتُ بالصمت ، وقد اتسعت عيناي ، صباح اليوم ! ماذا جرى ؟ ونظرتُ إلى عبد الله ، وأردت أن أتأكد منه حقيقة الأمر ، لكني تذكرت تحذيره لي ، من وادي السعالى والجن ، فلكزت حصاني ، ومضيت إلى البيت، دون أن أردّ على عبد الله بكلمة واحدة .

9 / 5 /



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان ذئب الأهوار
- رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
- رواية للفتيان خزامى الصحراء
- رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
- رواية للفتيان الصحن الطائر
- رواية للفتيان اشوميا الز ...
- رواية للفتيان نداء الانوناكي
- رواية للفتيان نانوك
- شبح غابة اتوري رواية للفتيان
- رواية للفتيان فتى من كوكب نيبيرو
- زهرة الأنوناكي
- رواية للفتيان الحداد
- رواية للفتيان من قتل شمر ؟
- رواية للفتيان طفل من خرق
- رواية للفتيان البجعة
- رواية للفتيان جبل الوعول
- جزيرة كالوبيوك
- رواية للفتيان هوفاك
- رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
- رواية للفتيان الجاغوار سيلو


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - حكايتان طلال حسن الهارب