أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - حكايات للفتيان حكايات عربية















المزيد.....



حكايات للفتيان حكايات عربية


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7535 - 2023 / 2 / 27 - 21:34
المحور: الادب والفن
    


حكايات للفتيان









حكايات عربية






طلال حسن














الهارب











" 1 "
ــــــــــــــــــــــ
بعد حوالي الشهر ، من الهروب والتخفي ، وصل الأمير عبد الرحمن على حصانه متعبا ، إلى هذه المدينة الصغيرة ، التي تقع على حافة الصحراء .
ومضى على حصانه ، يبحث عن خان متواضع يبات فيه ليلته ، قبل أن ينطلق في الصحراء ، ويذوب في آفاقها الرحبة ، فلا يصل إليه أعداؤه ، الذين يبحثون عنه، وقد رصدوا جائزة لمن يدلهم عليه .
وعثر على خان ، في أبعد طرف من المدينة ، وترجل عن حصانه أمام بوابته ، وجاءه صاحب الخان ، يسبقه كرشه الضخم ، ومعه خادم عجوز ، فقال له : أريد غرفة صغيرة .
وقال صاحب الخان : يبدو أنك وحدك .
وقال الأمير : كما ترى ، وسأبقى هنا ليلة واحدة ، وربما أكثر .
والتفت صاحب الخان إلى الخادم العجوز ، وقال له : خذ الحصان إلى الإسطبل ، وقدم له الماء والعلف ، فهو أيضاً متعب وجائع .
ومدّ الخادم العجوز يده ، وأخذ زمام الحصان من الأمير، ومضى به إلى الإسطبل القريب من الخان ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة .
ومشى صاحب الخان أمام الأمير ، واجتاز به البوابة إلى الداخل ، وهو يقول له : تعال أريك الغرفة ، التي ستبيت فيها هذه الليلة .
وقاده إلى غرفة صغيرة ، في آخر الخان ، وأراه الغرفة، وقال له : هذه الغرفة تناسبك .
وتطلع الأمير إلى أطراف الغرفة ، وقال : نعم إنها صغيرة ونظيفة ، أشكرك .
ونظر صاحب الخان إليه ، وقال : لدينا طعام في الخان، سآتيك بما تحب إذا أردت .
وقال الأمير : نعم ، إنني بحاجة إلى الطعام فعلاً ، أرسل لي رغيفاً من الخبز ، مع قليل من اللبن .
واتجه صاحب الخان إلى خارج الغرفة ، وهو يقول : سأرسل لك الطعام قبل المساء .
وقبيل المساء ، جاءه خادم برغيف من الخبز ، وقعباً مليئاً باللين ، فانكب الأمير على الطعام ، والتهمه كله ، فهو لم يأكل شيئاً منذ أكثر من يوم .
وأوى إلى فراشه ، بعد أن أحكم إغلاق باب الغرفة ، وتأكد مما يحمله خفية ، والذي شده كحزام داخلي حول بطنه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .

" 2 "
ـــــــــــــــــ
أفاق الأمير صباح اليوم التالي ، لكنه لم ينهض من فراشه ، إنه مازال يشعر بالتعب ، صحيح أن حاله أفضل من البارحة ، لكن جسمه ما زال بحاجة إلى المزيد من الراحة ، خاصة وأنه مقبل على سفر شاق ، لا يعرف بالضبط نهايته .
ونهض الأمير ، وأنصت إلى ما يدور خارج الغرفة ، وحين اطمأن إلى أنه ليس هناك ما يريب ، فتح الباب بهدوء ، وأطل إلى الخارج ، نعم كلّ شيء على ما يرام، فخرج من الغرفة ، وأغلق بابها ، ومضى إلى السوق ، ليتأكد من أن الأوضاع مطمئنة في المدينة .
ومشى في شارع المدينة الوحيد ، بدكاكينه الفقيرة المتواضعة ، دون أن يتلفت حوله ، لكن عينيه الحذرتين المرتابتين ، كانتا ترصدان ما حوله ، وشعر ببعض الارتياح للناس العاديين ، الذين كانوا يسيرون في الشارع ، أو يتوقفون عند الدكاكين .
وبينه وبين نفسه ، قرر أن يبقى في هذه المدينة ، يوماً أو يومين آخرين ، حتى يرتاح تماماً ، مما عاناه من الهرب والتخفي في هذه الفترة ، ثم يواصل هربه إلى خارج البلاد عبر الصحراء .
وتباطأ الأمير ، واضطربت خطواته ، عندما لمح عينين سوداوين ثابتتين تتطلعان إليه ، عبر الناس المتزاحمة وسط الشارع ، ورمقه بنظرة سريعة ، ثم أشاح عنه ، كان رجلاً ربما تجاوز الأربعين ، غامق البشرة ، مفتول العضل ، أهو عبد ؟ من يدري .
ورغم أنه لم يتذكره ، وربما كان لا يعرفه ، إلا أنه لم يرتح لعينيه السوداوين الثابتتين ، لعل هذا اللعين يعرفه، وتعرف عليه هنا ، و .. وتوقف برهة ، ثم تراجع خطوات ، ثم انسلّ عائداً إلى الخان .
ومرّ بصاحب الخان ، فتوقف عنده لحظة ، وقال له : أرجوك ، مرِ الخادم أن يُعدّ لي حصاني .
فقال صاحب الخان : كما تشاء .
وأسرع إلى غرفته ، ولملم على عجل حاجياته البسيطة منها ، ثم عاد إلى صاحب الخان ، وأعطاه أجرة الغرفة، فقال له صاحب الخان : حصانك جاهز .
وأسرع الأمير إلى خارج الخان ، وهو يقول له : أشكرك .. أشكرك جداً .
وفي الخارج ، قدم الخادم العجوز للأمير حصانه ، وقد أعده له ، فمنحه مبلغاً من المال ، ثم امتطى حصانه ، وانطلق به مبتعداً عن الخان .
وما إن ابتعد الأمير ، وهو على حصانه ، عن المدينة الصغيرة ، وعن العينين السوداوين الثابتتين والبشرة الغامقة ، حتى تنفس الصعداء ، وتطلع إلى الأمام بشيء من الارتياح ، حيث الصحراء تمتد بعيداً ، لا تحدها إلا السماء ، البعيدة الصافية الزرقاء .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
أبطأ الأمير قليلاً ، وهو على صهوة حصانه ، حين غابت المدينة في الأفق ، ولم يعد حوله وأمامه غير الصحراء المترامية ، وها هو ، بعد هذه المعاناة ، قاب قوسين أو أدنى من النجاة .
آه ما أقسى حياة الهرب ، ومواجهة الصعاب ، وخاصة لأمير مثله ، عاش حياته كلها في القصور الآمنة ، لم يصدق أنه يمكن أن ينجو ، هو الذي لم يعانِ في حياته ، من مثل هذه الصعاب والمشقات ، التي واجهها خلال أيام هربه ، والتي تربو على الشهر .
وحين سقطت المدينة في يد الأعداء ، وقتلت زوجته وولداه ، استطاع هو وحده ، وبشق الأنفس ، أن يفلت من القتلة ، ويهرب من القصر ، ولم يستطع أن يأخذ معه غير بعض الذهب ، وجوهرة نادرة ، كان قد اشتراها لزوجته بمائة ألف دينار .
ولاحت له من بعيد ، نخلة باسقة منعزلة ، لا يعرف كيف نمت في هذا المكان من الصحراء ، وما إن وصل إليها ، حتى برز له رجل أربعيني ، غامق البشرة ، ومدّ يده ، وأمسك بقوة زمام حصانه .
وحدق الأمير في الرجل ، وقلبه يخفق بشدة ، آه إنه نفس الرجل ، الذي حدق فيه في السوق ، بعينية السوداوين الثابتتين ، فقال له بصوت مضطرب : أيها الرجل ، اترك زمام حصاني .
وابتسم الرجل ، وقال : هذا الحصان يحمل كنزاً .
ونظر الأمير إليه ، وقال متلجلجاً : أنا .. أنا لا أعرفك .
واتسعت ابتسامة الرجل ، وقال : أنا أعرفك .
ولاذ الأمير بالصمت ، وهو يكاد ينهار ، فقال الرجل : أنت الأمير عبد الرحمن .
وردّ الأمير متلجلجاً : كلا ، لست الأمير عبد الرحمن ، أنت واهم ، إنني رجل عابر .
وشدّ الرجل زمام الحصان بقوة ، وقال : بل أنت هو الأمير ، وقد رصدت عشرة آلاف دينار ، لمن يقبض عليك ، ويسلمك لمن تهرب منهم .
وجمد الأمير فوق صهوة حصانه ، ولاذ بصمت مطبق، فتابع الرجل قائلاً : تعرف ، أيها الأمير ، إنني عبد ، وبمثل هذا المبلغ ، أشتري حريتي ، وأعيش بسعة حياتي كلها .
ومدّ الأمير يده إلى حزامه ، وأخرج الجوهرة ، وأراها للرجل ، وقال له : هذه الجوهرة اشتريتها بمائة ألف دينار ، خذها ، واترك زمام حصاني .
ونظر الرجل إلى الأمير ، الذي كانت عيناه اليائستان متعلقتين به ، تنتظران ما سيقوله ، والسحب المضطربة تتجمع فيهما ، ثمّ قال بصوت هادئ : أيها الأمير ، أنا أعرفك ، أنت رجل كريم ، وأريد أن تعرف ، أن بيننا نحن العبيد من هو كريم أيضاً .
ورفع يده عن زمام الحصان ، وتراجع عنه عدة خطوات ، وقال : أنت هارب ، احتفظ بجوهرتك ، لعلك تحتاج إليها ، اذهب يا سيدي ، ولترافقك السلامة .

25 / 4 / 2020



















سعدى












" 1 "
ــــــــــــــــ
قبل أن أنام ، وعلى عادتها كلّ يوم ، راحت أمي التي أصابها المرض ، تتحدث عن الماضي ، وهذا اليوم كان حديثها عن موضوعها الأثير ، عن أبي .
وقالت أمي بصوتها الشائخ المتعب ، وربما كانت تحدث نفسها ، أكثر مما كانت تتحدث إليّ : كان أبوك صياداً ماهرً ، لا يجاريه في ذلك أحد من القرية .
وصمتت أمي ، ثمّ التفتت إليّ ، وقالت : عمرو ..
أجبتها مبتسماً : نعم أمي .
فقالت : كان أبوك يعرف ، أنني أحبّ لحم الغزلان ، فكان يخرج إلى الصحراء ، ولا يعود إلي البيت إلا ومعه غزالة لي .
فقلتُ لها : سأخرج غداً إلى الصحراء ، يا أمي ، وآتيك بغزالة ، كما كان يفعل أبي .
واعتدلت أمي في فراشها ، وقالت لي : لا يا بنيّ ، لا يا عزيزي ، لا أريدكَ أن تذهب إلى الصحراء ، إنها خطرة للغاية ، ابقّ إلى جانبي
ومع الأيام ، اشتدّ المرض على أمي ، وعبثاً حاولتُ أن أعالجها ، وكأنما كانت مشتاقة إلى أبي ، وتستعجل اللقاء به ، فانطفأت كما ينطفئ القنديل ، وتركتني في عتمة ، ليس فيها بصيص من الضوء .

" 2 "
ـــــــــــــــ
لم أطق البقاء طويلاً في البيت ، الذي خلا من أمي ، وبقيتُ فيه وحدي ، فامتطيتُ حصاني ذات صباح ، وقد تمنطقتُ بسيفي ، وانطلقتُ لأتوغل في الصحراء ، حيث الفضاء الواسع ، الذي لا تحده حدود .
وصادفني جاري عبد الله ، وأنا أخرج من القرية ، وحاولتُ أن أتحاشاه ، وأمضي في طريقي ، دون أن أوجه له كلمة ، لكنه ناداني قائلاً : عمرو ..
وتوقفت عن السير بحصاني ، وأجبته باقتضاب قائلاً : أهلاً عبد الله .
ونظر إليّ عبد الله متسائلاً ، وقال مبتسما : خيراً يا أخي، أراك على حصانك في هذا الصباح ، وقد تمنطقت بالسيف ، إلى أين أنت ذاهب ؟
فأجبته ، وأنا فوق حصاني : إلى الصحراء ، أريد أن أصطاد غزالة .
وابتسم عبد الله ، وقال مازحاً : هناك غزلان كثيرة ، قرب وادي السعالى ، أنصحك أن لا تقترب منه ، فهو شديد الخطورة .
فلكزت حصاني ، ومضيتُ مبتعداً ، وأنا أردّ عليه قائلاً: جدتي كانت تتحدث عن السعالى في الصحراء ، مثلما تتحدث عنها أنت الآن ، وعندما سأشيخ مثلها ، ربما تحدثتُ مثلما كانت تتحدث .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
بعد منتصف النهار ، وقد تقدمت في عمق الصحراء، واقتربتُ من وادي السعالى ، الذي حذرني منه جاري عبد الله ، لمحت غزالة من بعيد .
لم تهرب الغزالة مني ، حين توجهتُ إليها بحصاني ، وإنما ظلت في مكانها ، وبدا لي أنها كانت تتشاغل عني، دون أن يبدو عليها الخوف .
وأعددتُ القوس والنشاب ، وما إن صارت على مرمى مني ، حتى وثبت برشاقة ، وأطلقت سيقانها للريح ، وحثثتُ حصاني للحاق بها ، لكنها سرعان ما غابت عني ، وكأن الرمال انشقت وابتلعتها .
وأبطأتُ قليلاً ، وأنا أتلفتُ حولي ، وأدقق في الصحراء المترامية ، وخفق قلبي بشدة ، حين جاءني صوت فتاة من ورائي يهتف بي : عمرو .
وشددتُ زمام حصاني ، حتى توقف متململاً ، وكأنه يحس بتوتري واستغرابي ، لكني لم ألتفتْ ، وأصغيتُ ملياً ، لعلها الريح ، لكن الصوت نفسه جاءني ثانية : إنني أناديك ، يا عمرو .
والتفتُ نحو مصدر الصوت ، وهالني أن أرى فتاة شابة ، تقف متطلعة إليّ ، من أين انبثقت هذه الفتاة فجأة ؟ أيعقل أنني مررتُ بها ، دون أن أراها ؟
واستدرتُ بحصاني ، وسرتُ به نحوها ، وقبل أن أصل إليها ، حدقتْ فيّ ، وقالت : ستسألني ، وهذا من حقكَ ، من أين أنتِ ؟
وتطلعتُ إليها ، وقلتُ : لقد ناديتني باسمي ، عمرو .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : لأن اسمك عمرو .
وصمتت لحظة ، ثم أشارت إلى حيث تشرق الشمس ، وقالت : إنني من هناك .
ونظرتُ حيث أشارت ، ثم تطلعت إليها ، وقلتُ : لقد حذرني صديق من التوغل في هذه المنطقة .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : وها أنت قد توغلت .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : رأيتك منذ أن دخلت المنطقة ، وأعجبتني هيأتك ، وشجاعتك ، وتعاملك مع حصانك القويّ الجموح .
ولذتُ بالصمت لحظة ، ثم قلتُ : المساء يقترب ، وستغيب الشمس ، لدي طعام جئتُ به من قريتي ، لنأكل معاً ، ثم نتبادل الحديث إذا أردتِ .
وصمت للحظة ، ثم سألتها : ما اسمكِ .
أجابت بصوت هادئ : سعدى .

" 4 "
ــــــــــــــــــ
يبدو أنّ لليل هنا سحره ، ليل كأن شاعراً ، من هذه الصحراء ، نقشه بكلماته ، صمت عميق ، نجوم بعيدة ، قمر معلق في الأفق ، وسعدى إلى جواري .
تبادلنا الحديث طويلاً ، والأحرى أني تحدثتُ كثيراً ، لا أدري لماذا ، حدثتها عن أبي ، بعيني أمي ، وحدثتها عن حبّها العميق له ، وقد ظلّ إلى جانبها ، حتى بعد رحيله ، وظلت تتحدث إليه ، وتناجيه ، إلى أن رحلت هي الأخرى .
صمتُ ، وكانت هي صامتة ، وملتُ عليها ، والقمر ينظر إلينا من بعيد ، وهمست لها : سعدى ..
ابتسمت فرحة ، وكأنها تعرف ما سأقول ، فتابعت الهمس : لنتزوج ، يا سعدى .
قالت سعدى ، وهي مازالت تبتسم : أنا لا أطيق الحياة إلا هنا ، يا عمرو ..
هززتُ رأسي موافقاً ، فتابعت قائلة : سأبقى إلى جانبك، مادمتَ تريدني ..
وقلتُ لها : سأريدكِ دائماً .
ونظرت إلى حيث تشرق الشمس ، وتابعت قائلة : وعليك أن تحميني من البرق ، يا عمرو .
ثم أشارت إلى حيث تشرق الشمس ، وقالت وقد انطفأت ابتسامتها : إذا أبرقت هناك ، ولم تحمني ، ومسني شعاع من ذلك البرق ، أطير من هنا ، ولن تجد لي أثر في أي مكان .
مددتُ يديّ ، وأطبقت على كفها ، وأنا أقول لها : سأحميكِ بحياتي ، يا سعدى .

" 5 "
ــــــــــــــــ
مرت الأيام والأسابيع والشهور ، وأنا أعيش هانئاً مع سعدى ، في خيمة صغيرة ، وسط هذه الصحراء القفر ، وكنتُ أخرج للصيد أحياناً ، وغالباً ما أعود إلى الخيمة، دون أن أصيد أي شيء .
لكني ـ ويا للعجب ـ أجد سعدى ، قد أعدت سفرة شهية من الطعام ، وقد سألتها مرة : سعدى ، من أين هذا الطعام اللذيذ ؟
فتضحك سعدى ، وتجيب مازحة : أنا صيادة ماهرة ، يا عمرو .
وتنظر إليّ بعينيها الجميلتين ، وتتابع قائلة : لقد علمني أبي الصيد ، وأنا طفلة صغيرة .
وألوذ بالصمت ، وفي داخلي تتردد أسئلة عديدة ، لكني كنت أكتمها ، فلم أسألها من هو أبوها ، ومن هي أمها ، ومن أي الأقوام هم ، وحتى لو سألتها ، لأجابتني بمزحة أبعدتني عما سألتها عنه .
وذات يوم ، سألتها ، والقمر يطل علينا ساطعاً : سعدى، أتحنين إلى أهلك ؟
وقطبت سعدى ، وبدل أن تردّ على سؤالي ، قالت : يبدو أنك أنت تحنّ إلى حياتك السابقة .
لذت بالصمت ، وقد رأيت عينيها تغيمان بالحزن والتأثر، وسرعان ما نهضت ، ومضت صامتة متكدرة ، إلى داخل الخيمة .

" 6 "
ــــــــــــــــ
وقفتُ بباب الخيمة ، في اليوم التالي ، وسعدى ترتب الفراش في الداخل ، ونظرتُ إلى السماء ، وقلتُ كأنما أحدث نفسي : في السماء اليوم ، غيوم ثقيلة سوداء ، وبوادر عاصفة تلوح في الأفق .
ولاذت سعدى بالصمت ، إنها مازالت متأثرة ، مما دار بيننا ليلة البارحة ، والقمر يطل علينا ، لعله الحنين إلى أهلها ، أو .. من يدري .
وخرجت سعدى من الخيمة ، دون أن توجه إليّ كلمة واحدة ، وألقتْ نظرة سريعة إلى الغيوم القاتمة في السماء ، وقالت : قد تمطر بعد قليل ، من الأفضل أن لا نبتعد اليوم عن الخيمة .
وعادت سعدى إلى الخيمة ، دون أن تنظر إليّ ، وبدل أن أتبعها إلى الداخل ، مضيتُ أتفقد الحصان ، الذي ربطته إلى وتد خلف الخيمة .
وتوقفت قرب الحصان ، الذي راح يحمحم حين رآني ، ومددتُ يدي ، وأخذت أمسد على رأسه ورقبته ، وهو مستسلم ومرتاح للمساتي له .
وهطل المطر مدراراً ، وتناهت إليّ دمدمة العاصفة من بعيد ، وهممتُ أن أعود إلى الخيمة ، حين خرجت سعدى ، ووقفت تحت شآبيب المطر المنهمر .
وهتفت بها : سعدى ، المطر شديد ، عودي إلى الخيمة ، أخشى أن تبرق في أية لحظة .
وبدل أن تعود سعدى إلى الخيمة ، رفعت يديها إلى السماء ، والمطر ينهمر بشدة ، وفجأة التمع البرق ، وأعشى نوره الشديد عينيّ ، حتى لم أعد أرى شيئاً ، ثم انفجر الرعد ، كأنه بركان .
وما إن هدأ البرق والرعد ، وصار بإمكاني أن أبصر ، حتى أسرعت إلى حيث كانت تقف سعدى ، لكني لم أجدها ، وتلفت حولي كالمجنون ، وصحتُ بأعلى صوتي ، والمطر ينهمر فوقي كالشلال : سعدى ..
لم ترد سعدى عليّ ، ودرت حول الخيمة ، وركضت تحت المطر يميناً ويساراً ، وأنا أصيح بأعلى صوتي كالمجنون : سعدى .. سعدى .. سعدى .
وتوقف المطر ، وتناهى إليّ صوت حصاني ، كأنه يناديني ، فتوجهت إلى الخيمة ، بخطى ثقيلة ، وأنا أكاد أتهاوى على الأرض ، ورأيت حصاني في مكانه ، ينظر إليّ مشفقاً ، وتوقفت مصعوقاً ، إذ لم يكن هناك أي أثر للخيمة ، التي عشت فيها مع سعدى .

" 7 "
ــــــــــــــــ
امتطيتُ حصاني ، وحثثته على السير ، وقد انقشعت معظم الغيوم من السماء ، وأطلت الشمس ، وغمرت بضوئها ودفئها أرجاء الصحراء .
وسرعان ما مضى حصاني خبباً ، متجهاً إلى قريتي ، التي خرجت منها ، وعشتُ بعيداً عنها مع سعدى ، في خيمة على مشارف وادي السعالي .
وعند مشارف القرية ، تناهى إليّ صوت ما زلتُ أذكره، وإن بدا لي أنني لم أسمعه منذ مدة ليست قصيرة ، إنه جاري عبد الله ، يخاطبني ضاحكاً : أهلاً عمرو .
وتوقفت بحصاني ، والتفتُ إليه ، حقاً لقد اشتقتُ إليه ، رغم أنني غالباً ما أستثقله ، وقلتُ له بصوت هادئ : أشكرك ، يا عبد الله ، أرجو أن تكون بخير ، أنت وأولادك ، وأهل القرية جميعاً .
وحدق عبد الله فيّ مندهشاً ، ثم ضحك ، وقال : حسبت أنك ستعود من الصيد بغزال ضخم ، عندما رأيتك تذهب للصيد في الصحراء ، صباح اليوم .
ولذتُ بالصمت ، وقد اتسعت عيناي ، صباح اليوم ! ماذا جرى ؟ ونظرتُ إلى عبد الله ، وأردت أن أتأكد منه حقيقة الأمر ، لكني تذكرت تحذيره لي ، من وادي السعالى والجن ، فلكزت حصاني ، ومضيت إلى البيت، دون أن أردّ على عبد الله بكلمة واحدة .

9 / 5 / 2020


















الثأر











" 1 "
ـــــــــــــــــ
كدتُ أغفو ، عند الفجر ، عندما دخلتْ عليّ المرأة العجوز ، صاحبة المنزل الأشبه بالخربة ، الذي استأجرت غرفة فيه ، وقالت لي : انهض ..
واعتدلتُ في فراشي ، وتساءلتُ : ما الأمر .
ونظرت المرأة العجوز من الكوة الصغيرة للغرفة ، وقالت لي : تعال انظر .
ونهضتُ من فراشي ، ونظرت من الكوة ، وإذا عدد من الفرسان ، يزيدون عن العشر ، على خيولهم ، وفي أيديهم رايات سوداء .
وتراجعتُ بسرعة عن الكوة الصغيرة ، فنظرت العجوز إليّ ، وقالت بصوتها الشائخ : إنهم فرسان السفاح ، خرجوا من الكوفة ، يريدون البصرة .
وهربتُ بعينيّ المتعبتين الخائفتين من المرأة العجوز ، دون أن أتفوه بكلمة ، فتابعت قائلة : إنهم منذ أيام عديدة، يطوفون الكوفة ومحيطها ، لابدّ أنهم يبحثون عن رجل ما ، والويل له إذا قبضوا عليه .
وعدتُ إلى فراشي ، وتمددتُ فيه ، وقلت وكأنما أحدث نفسي : الوقت مبكر ، والشمس لمّا تشرق بعد ، فلأنم بعض الوقت ، أريد أن أرتاح .
واتجهت العجوز إلى الخارج ، وهي تدمدم : لابد أنّ هؤلاء الفرسان ، براياتهم السوداء ، يبحثون عن الهاربين من بني أمية .
وتوقفت عند الباب ، والتفتتْ إليّ ، وقالت : يُقال إنهم يبحثون عن رجل بعينه ، وقد رصدوا جائزة ثمينة لمن يدل عليه ، ليتني أعرف مكانه .
وأضافت المرأة العجوز بصوتها الشائخ ، وهي تخرج ، وتصفق الباب وراءها : يُقال أن اسمه .. إبراهيم بن سليمان .. نعم هذا هو اسمه .. إبراهيم ابن سليمان .
وأغمضتُ عينيّ المتعبتين ، وحاولت أن أنام ، لعلي أرتاح قليلاً ، لكن دون جدوى ، آه لو تعرف هذه العجوز ، التي لن تشبع عيناها الجشعتين إلا من حفنة من التراب ، أن إبراهيم بن سليمان ، حبيس إحدى غرفتي بيتها المتهدم ، لطارت إلى الفرسان ، وسلمتني لهم ، لتحظى بالجائزة الكبرى .
ونهضتُ من فراشي ، ونظرتُ عبر الكوة الصغيرة ، لا فرسان ، ولا رايات سوداء ، ليس هناك غير رمال صحراء جرداء تمتد حتى الأفق .
وابتعدتُ عن الكوة الصغيرة ، لكني لم أعد إلى فراشي ، إن الآفاق المتباعدة ، التي جبتها شبراً شبراً ، منذ أن بدأت الهرب ، بعد انتصار الرايات السوداء ، بدأت تضيق شيئاً فشيئاً ، وسأقع بين أيديهم عاجلاً أو آجلاً ، هروب .. هروب .. هروب .. إلى أين ؟ وإلى متى ؟ لكن هذا لابد منه ، وإلا .. آه إذا أمسكوا بي .. إن سيوفهم لن ترحمني .
ولملمت بعض حاجياتي وما أقلها ، وكمنت خلف باب غرفتي ، ورحت أراقب المرأة العجوز من شق في الباب ، وعند شروق الشمس ، رأيتها تحمل جرتها ، وتخرج من البيت ، لابدّ أنها ستذهب إلى البئر ، وتأتي بما تحتاجه من الماء .
وانتهزتُ هذه الفرصة ، وتسللتُ من البيت ، الذي يقع في طرف القرية ، فمضيتُ مسرعاً ، لا ألوي على شيء، ورحتُ أتوغل في عمق الصحراء .

" 2 "
ــــــــــــــــــ
خلال أيام وأيام وأيام ، تنقلتُ من مكان إلى مكان ، من هذه الصحراء الموات ، أتجنب ما فيها من واحات وخيام وحتى عابرين ، أنام في العراء ، ملتحفاً بسماء حية تنبض بالنجوم المضيئة .
ومن بعيد ، ربما من داخلي ، يتناهى إليّ عواء ذئب متوحد جائع ، يبحث في هذا الموات عن فريسة ، يُسكت بها جوعه الأبديّ ، وأكثر من مرة ، تمنيتُ لو يأتي هذا الذئب ، ويسكت جوعه بجوعي لعلي أرتاح .
وعند الفجر ، في أحد الأيام ، وأنا متمدد تحت نخلة عجفاء ، بعيدة عن إحدى الواحات الضائعة وسط الصحراء ، أفقت على وقع حوافر حصان ، وكلّ ظني أنني أحلم ، وحين فتحتُ عينيّ ، رأيت رجلاً ملثماً ، يحدق فيّ من على حصانه .
سألني الرجل الملثم : من أنت ؟
ولذت بالصمت برهة ، ثم قلتُ : كما ترى ، رجل عابر في هذه الصحراء .
وحدق الرجل الملثم فيّ ملياً ، ثم قال بصوت محايد : يوم أمس ، رأيت فرساناً يحملون الرايات السوداء ، يجوبون هذه الأصقاع .
وصمت الرجل الملثم برهة ، لذت خلالها بالصمت ، فتابع الرجل الملثم قائلاً : أهلي يقيمون حالياً في واحة قريبة ، سآخذك معي إلى هناك ، إذا كنت بحاجة إلى مأوى ، ولو لأيام .
ونظرتُ إليه ، وقلتُ : أشكرك جزيل الشكر ، إنني قاصد أهلي ، وسأواصل السير إليهم غداً ، مع شروق الشمس .
وتلفت الرجل الملثم حوله ، ونظر إليّ ، وقال : رافقتك السلامة حيثما ستذهب .
ولكز حصانه ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : لا تبقَ هنا، فهذا المكان خطر .
ولم يكد الرجل الملثم يغيب ، على حصانه في الرمال ، حتى نهضتُ من مكاني تحت النخلة العجفاء ، ولملمتُ أغراضي ، لابدّ أن أمضي مبتعداً عن هذا المكان الخطر، كما قال الرجل الملثم ، لكن إلى أين ؟
واستبدّ بي الوهن واليأس ، إنني منذ فترة طويلة ، أهرب من مكان إلى مكان ، وسط هذه المتاهات الموات القاتلة ، وخيل إليّ أول الأمر ، أن الصحراء يمكن أن تكون ملاذاً آمناً ، لكن هيهات ، لا أمان لي في أي مكان، ما دمتُ على قيد الحياة .
وتوغلت في أعماق الصحراء ، تأخذني رمال لتسلمني إلى رمال ، فتسلمني هي الأخرى إلى رمال ، آه لقد عشتُ طوال حياتي ، في فيء القصور والبساتين والمياه الآمنة العذبة ، والآن ليس حولي ، على مدّ البصر ، غير رمال .. رمال .. رمال .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
دخلت مدينة الكوفة ، رغم أنني حاولتُ دائماً أن أتجنبها ، وعند ظاهر المدينة ، لاح لي قصر يمتدّ على مساحة كبيرة ، تحيط به حديقة واسعة غنّاء .
وتوقفتُ تحت نخلة قريبة من القصر ، ومرتْ بي امرأة طيبة الملامح ، وتوقفت بعد أن تجاوزتني ، وحدقتْ فيّ، وقالت : أيها الرجل ، يبدو أنك غريب .
ورمقتها بنظرة سريعة ، ثم غضضتُ نظري عنها ، وقلتُ بصوتي المتعب : نعم ، أيتها المرأة ، إنني لستُ من هذه المدينة .
واقتربت المرأة مني ، وهي تدقق النظر فيّ ، وقالت : رغم ثيابك ، والغبار الذي يعلوك ، لا يبدو أنك من أهالي البوادي والصحراء .
لذتُ بالصمت ، وعيناي بعيدتان عن المرأة ، يا إلهي ، ما العمل ، كلما أردتُ أن أتخفى ، جاءني من يريد أن يعرفني ، عامداً أو عن غير عمد .
ومالتْ عليّ المرأة ، وقالت وهي تشير إلى القصر الكبير : إنني من هذا القصر ، سآتيك ببعض الطعام ، إذا كنتَ جائعاً .
ونظرت إليها بعينيّ المتعبتين ، وقلتُ لها بصوت فيه شيء من اللوم : أشكركِ ، يا سيدتي ، لا حاجة بي إلى الطعام ، إنني لستُ متسولاً .
وبدل أن تنصرف المرأة عني ، قالتْ بصوت يشي بهدوئها وطيبتها : ليس المتسول وحده بحاجة إلى الطعام، يا رجل ، أنت غريب عن هذه المدينة ، وتبدو متعباً جداً ، وربما أنتَ جائع أيضاً .
وقلت لها بهيئة من يريد أن ينهي الاستمرار في الكلام : أشكركِ ، وقفت هنا ، تحت هذه النخلة الوارفة ، لأرتاح قليلاً ، ثم أواصل طريقي .
ورمقتني المرأة بنظرة متعاطفة ، ثم مضت مبتعدة ، وهي تقول : رافقتك السلامة حيثما تذهب ، وإذا احتجت إلى شيء ، فاطرق باب القصر .
وتابعت المرأة بعيني المتعبتين ، وقد اشتدّ وهني ، حتى غدوت لا أكاد أقوى على الوقوف ، وبدا لي وكأنني سأتهاوى على الأرض ، ورأيتها تدفع باب القصر ، وتدلف إلى الداخل .
وهممتُ أن أواصل طريقي ، وإن كنتُ أشعر ، بأنّ قدميّ لم تعودا تقويان على حملي ، لكني كنتُ مصمما على الابتعاد عن هذا المكان .
وتوقفتُ ، وقلبي يخفق بشدة ، حين سمعت وقع حوافر خيل تقترب مني ، وتوقف قربي حصان ، يعتلي صهوته فارس صارم السحنة ، وإن كان على ما يبدو متعباً ، فحدق فيّ ، وقال : السلام عليكم .
وأجبته ، وقلبي يزداد خفقانه : وعليكم السلام .
وقال الفارس : تبدو متعباً وخائفاً ..
وقبل أن يسترسل في كلامه ، قلتُ له : جئتُ من مكان بعيد ، وأنا متعب فعلاً ، و ..
وصمتُ لاهث الأنفاس ، فقال لي الفارس ، وهو ما زال يحدق فيّ : ألكَ حاجة ؟
ماذا أقول له ؟ هل أقول له إنني مطارد ، لا يقرّ لي قرار ، لا في الليل ولا في النهار ، لكني هززتُ رأسي، فقال الرجل : تبدو خائفاً ، ولعلك هارب من أمر ما ، هذا شأنك ، لكن تعال وارتح عندي آمناً مكرماً .
والتفت إلى من معه ، قبل أن يلكز حصانه : أحضروه إلى القصر هيا ، أحضروه .
وترجل أحدهم عن حصانه ، وقال : أمرك مولاي .
اتسعت عيناي ، مولاي !
وأردتُ أن أعتذر من الرجل ـ الأمير ، لكن الفارس الذي ترجل ، أخذ بيدي ، وقال لي : ستكون ضيفاً معززاً عند الأمير ، تعال معي إلى داخل القصر .
وحين دخلنا باحة القصر ، ترجل الأمير متعباً مقطباً عن حصانه ، والتفت إليّ ، ثم قال لأحد أتباعه : لتخصص غرفة الحديقة لهذا الرجل ، ولتكن إحدى الجواري في خدمته .
وانحنى الرجل له ، وقال : أمر سيدي .
وأخذني الرجل إلى غرفة واسعة ، في طرف الحديقة الواسعة ، مؤثثة أجمل تأثيث ، وقال لي : هذه غرفتك ، وسيقدم لك فيها كلّ ما تحتاج إليه .
وخرج الرجل ، وتركني وحيداً في الغرفة ، ولأول مرة، منذ فترة بدت لي دهراً ، صرت في مكان نظيف مرتب، يذكرني بالعالم الذي فقدته إلى الأبد ، لكن أهذه الغرفة جنة أم .. فخ ؟

" 4 "
ـــــــــــــــــ
جاءني خادم مُسنّ بالطعام ، عند المساء ، وقال لي بنبرة أبوية طيبة : بنيّ ، كلْ هذا الطعام كله ، فأنت على ما يبدو بحاجة إلى الطعام والراحة .
وجلست إلى الطعام ، ورحت آكل ببطء ، وقلت للخادم العجوز : أشكرك ، يا عم ، إنني بحاجة إلى الطعام فعلاً، لكني بحاجة إلى الراحة أكثر .
وأكلتُ بضعة لقيمات ، لكني سرعان ما سحبتُ يدي ، فقد شعرتُ بالغثيان ، رغم أن الطعام كان شهياً ولذيذاً جداً ، وتمددتُ في فراشي لعلي أرتاح ، وحين جاء الخادم العجوز ، نظر إلى صحاف الطعام ، وقال لي متعجباً : أنت لم تأكل شيئاً .
فرفعت نظري إليه ، وقلتُ بصوت واهن : أكلتُ ما يكفيني ، أشكرك .
ومدّ الخادم المسنّ يده ، وتحسس جبهتي ، ثم قال : حرارتكَ مرتفعة ، يبدو أنك مريض .
وأشحت عنه بعينيّ ، وقلتُ له : كلا ، إنني متعب بعض الشيء ، وسأرتاح إذا نمتُ .
لكني لم أرتح ، رغم أنني نمت تلك الليلة ، وإن كان نوماً مضطرباً ومتقطعاً ، ويبدو أنني كنتُ مريضاً فعلاً، فقد تراءى لي ، وكأنّ ذلك في المنام ، أن رجلاً ، ربما كان طبيباً ، عاينني معاينة دقيقة ، ومعه امرأة وأكثر من خادم ، وربما معهم أيضاً .. الأمير نفسه ، ترى ماذا يجري ؟ آه من يدري .
وفتحتُ عينيّ المتعبتين ، ذات ليلة ، وإذا امرأة قد مالت عليّ ، وهي تحدق فيّ ، من هذه المرأة ؟ وتفرستُ فيها ملياً ، إنها تشبه المرأة ، التي تحدثت إليّ أمس ، تحت تلك النخلة ، القريبة من القصر .
وقبل أن أتبينها جيداً ، جاءني صوتها ، تقول : حمداً لله، الطبيب نفسه لم يصدق أنك ستنجو ، وها أنت قد نجوت، إنك الآن بخير .
عندئذ عرفت أنها المرأة نفسها ، وحاولتُ أن أعتدل ، فمدت يدها ، وأبقتني في مكاني ، وهي تقول : ابقَ في فراشكَ ، ما زلت متعباً ، إنني أرعاك منذ أيام ، بأمر من الأمير نفسه ، وبإشراف الطبيب .
ونظرتُ إليها ممتناً ، وقلتُ لها : أشكركِ ، لا أعرف كيف أجازيك ، على معروفك الطيب هذا .
فابتسمت لي ، وقالت : تماثل للشفاء ، وعد إلى صحتك وعافيتك ، وهذا أفضل جزاء لي .
وتماثلتُ للشفاء ، والمرأة حولي لا تفارقني ، إلا في الليل ، عندما أستغرق في النوم ، وذات يوم ، وقد انتهيتُ من تناول طعام الغداء ، الذي جاءتني به على عادتها كلّ يوم ، قلت لها : أشكركِ يا ..
وسكتّ ، ثم قلت : عفواً ، أنتِ ترعيني منذ أيام وأيام ، وأنا لم أعرف اسمكِ .
وابتسمت المرأة ، وقالت : اسمي جوهرة .
فقلتُ لها : أنتِ جوهرة بحق .
وابتسمت فرحة ، وقالت : أشكرك .
وتابعت قائلاً لها : الحقيقة ، يا جوهرة ، أنني لولاك ، ولولا رعايتك لي ، لربما هلكت .
ونظرت جوهرة إليّ ، وقالت : كل ما قدمته لك ، كان بأمر من سيدي الأمير نفسه .
وأطرقت رأسي لحظة ، وقلتُ بصوتي الواهن : الأمير على ما يبدو ، رجل طيب للغاية ، فليوفقه الله ، ويحقق له ما يسعى إليه ويتمناه .
ونظرت جوهرة إليّ ، وقالت : ما يسعى إليه سيدي الأمير ، يشكل جوهر حياته ، ولن يهدأ له بال ، ولن يرتاح ، إذا لم يحققه .
وصمتت جوهرة ، ثم قالت : سيدي لم يسألك ، ولن يسألك ، من أنت ، وكذلك أنا ، هذا سرك ، وليس من حق أحد ، أن يحاول معرفته ، ولكن يبدو لي ، أنك من عائلة كريمة و ..
وربما أرادت جوهرة أن تسترسل ، لكنها أحجمت ، وتوقفت عن الكلام ، فنظرت إليها ، وقلت لها : ألاحظ أن الأمير ، هذا الإنسان الطيب ، وفضله عليّ لا يُنسى، حزين مهموم آسف ، يخرج كلّ يوم ، على رأس عدد من الفرسان ، ويغيب النهار كله ، ويعود عند المساء متعباً ، وقد ازداد حزنه وأسفه .
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : إنني متأثر جداً لحاله ، ويبدو لي أنه يبحث عن شيء ، له خطره وأهميته الكبيرة عنده، لكنه لا يجده له أثراً .
ونظرت جوهرة إليّ ، وقالت : نعم ، إنه يبحث عن مهمة عمره ، عن ضالته ، ولن يتوقف أو يهدأ له بال ، حتى يجد ضالته ، وينجز تلك المهمة .
وخفق قلبي بشدة ، لا أدري لماذا ، فحدقت فيها بعيني القلقتين ، وسألتها : عمن يبحث بالضبط ؟
وحدقت جوهرة فيّ صامتة ، فتابعت قائلاً بصوت بدا لي مضطرباً بعض الشيء : عسى أن أخفف عنه ، أو أدله على بغيته ، من يدري .
وقالت جوهرة ما زلزل كياني : إنه يبحث عن قاتل أبيه، ولن يرتاح حتى يجده .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إنه لم يرَ قاتل أبيه ، لكنه يعرف اسمه ، .. القاتل هو .. إبراهيم سليمان .

" 5 "
ــــــــــــــــ
تناهى إليّ وقع حوافر الخيل ، قبيل مساء ذلك اليوم ، فنهضت إلى النافذة الصغيرة ، المطلة على حديقة القصر ، ورأيت الباب الخارجي قد فتح على سعته ، والأمير وثلة فرسانه ، يدخلون على خيولهم .
ونظرتُ إلى الأمير ، عبر النافذة الصغيرة ، وهو يترجل عن حصانه ، ها هو كما يعود ، كلما خرج مع فرسانه ، متعباً آسفاً ومحبطاً ، وسرعان ما خفّ سائس إليه ، وأخذ بزمام حصانه ، وبخطوات متعبة سار الأمير ، ودلف إلى القصر .
وبعد صلاة العشاء بقليل ، خرجتُ من غرفتي ، في أقصى حديقة القصر ، وقد عقدتُ العزم على وضع حدٍ للقضية ، واتجهت قدماً نحو مدخل القصر ، وهناك اعترضني حارس ، وقال لي بحزم : توقف .
فتوقفت ، وقلتُ له : أريد أن أرى الأمير .
وسألني الحارس : هل استدعاك الأمير ؟
أجبته : لا ، لم يستدعني ، وإنما لي حاجة عنده .
وحدق الحارس ملياً فيّ ، ثم قال : ابقَ هنا ، سأطلب لك الإذن من الأمير أولاً .
ودخل الحارس القصر ، وأغلق الباب وراءه ، وسرعان ما عاد من الداخل ، وقال لي بصوت أقلّ حزماً : الأمير سيقابلك الآن ، تعال معي .
وسار الحارس أمامي ، في أحد ممرات القصر ، ووقف أمام أحد الأبواب ، وطرقه برفق ، وعلى الفور ، جاءنا صوت الأمير : ادخل .
ودفع الحارس الباب ، وهمس لي : تفضل .
ودخلتُ إلى الغرفة ، وقلبي يخفق بشدة ، وسمعت الحارس يغلق الباب ورائي ، ونهض الأمير حين رآني، وقال : أهلاً ومرحباً .
وتوقفتُ أمامه ، وقلتُ : أهلاً بك أيها الأمير .
وحدق الأمير فيّ ، وقال : طلبت أن تراني ، وقلتَ أن لك حاجة ، تفضل ، قل حاجتك .
وبدل أن أتكلم ، رحت أنظر إليه ، ولما طال صمتي ، قال : لقد تعافيت الآن ، وربما تريد أن تغادرنا إلى أهلك، مهما يكن ، البيت بيتك ، ابقّ هنا ما تشاء ، ولن تلقى عندنا إلا ما يسرك .
قلت بصوت متحشرج : أشكرك ، أيها الأمير ..
وصمت ، فحدق الأمير فيّ ، وقال : يبدو أن لديك ما تريد أن تقوله لي ، تفضل ، قل ما تشاء .
وتابعتُ كلامي قائلاً بنفس الصوت المتحشرج : أراك تركب كلّ يوم ، مع ثلة من الفرسان ، وتعود آخر النهار، متعبً آسفاً ، كأنك تطلب شيئاً فاتك .
وقطب الأمير حاجبيه ، وهو يحدق فيّ ، وقال بصوت مفعم بالغيظ والغضب : أحدهم قتل أبي ، منذ سنين ، وبلغني أنه متخفٍ في محيط الكوفة ، وأنا أطلبه حتى أجده ، واثأر لأبي منه بسيفي هذا .
فنظرتُ إليه ، وقلتُ : علمت من المرأة التي ترعاني ، أن اسم قاتل أبيك هو.. إبراهيم بن سليمان .
وتقادحت عينا الأمير غضباً ، وقال : نعم ، هذا اسمه ، لكني لا أعرفه ، ولم أره من قبل .
وتقدمت خطوة من الأمير ، وقلتُ له : أيها الأمير ، لقد رعيتني ، وأنقذت حياتي ، ومن حقك عليّ أن أدلك على قاتل أبيك مهما كان ، إنني .. أعرفه .. أعرف قاتل أبيك.. وأعرف أين هو الآن .
ولاذ الأمير بالصمت ، وقد اشتعلت عيناه بالغضب ، فمددتُ يدي ، وأخذت سيفه ، وكان على منضدة قريبة مني ، وقدمته للأمير ، وقلت له : قلت لي ، أنك ستثأر لأبيك بهذا السيف ..
وأمسك الأمير بالسيف مذهولا ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فتابعت قائلاً ، وأنا أشير إلى نفسي : أنا أيها الأمير .. إبراهيم بن سليمان .
وتمتم الأمير مصدوماً ، وكفه تقبض على السيف بقوة : أنتَ ! أنت إبراهيم بن سليمان ؟
فأجبته : نعم أنا .
ولبث الأمير يحدق فيّ ، والسيف في يده ، وبدل أن يطعنني بالسيف ، راحت النيران تتراجع في عينيه ، حتى كادت تخبو ، ثم أطرق رأسه ، وقال وهو يغالب ما في نفسه : يا ويلي ..
وألقى الأمير السيف من يده ، ونظر إليّ ، وقال : لن أقتلك ، وإن كانت هذه منية حياتي ، فأنت في بيتي ، ضيفي ، في حماي ..
وصمت لحظة ، ثم أشاح بوجهه عني ، وقال : امضِ .. امضِ بعيداً .. لا أريد أن تقع عيناي عليك يوماً .. لا هنا ولا في أي مكان .. أنا لا آمن عليك من نفسي .. امضِ
امضِ بسرعة دون توقف .
ومضيتُ ، مضيتُ بسرعة ، وقد تخلصت من موت محقق ، لأواجه حياة أشبه بالموت البطيء ، في متاهات الصحارى الخالية حتى من السراب .

19 / 4 / 2020










سعاد











" 1 "
ــــــــــــــــ
عرفها منذ ولادتها ، فهي ليست غريبة عنه ، إنها ابنة عمته سلمى ، وهي مثل أمها جميلة ، هادئة ، طيبة ، قلما تتكلم ، لكنها كانت تبتسم دوماَ .
وعلى العكس من أمها سلمى ، كان أبوها عبد الله ، عبوساً ، متشدداً ، لم يرتح لولادتها ، كرهها ، وكره حتى اسمها ، سعاد ، الذي اختارته لها أمها ، فهو لم يحب ، ولن يحب ، غير المال .
لكن ، لا عجب ، كان كلما كبرت سعاد ، وازداد جمالها، ويا له من جمال نادر ، تغيرت عواطفه تجاهها، ونسي كرهه لها ، وصار يحبها ، ولماذا لا ، والفتاة تتزوج ، وهو لن يزوجها لفقير ، حتى لو كان من أحبّ الناس وأتقاهم ، وإنما سيزوجها لأمير ، أو رجل غنيّ ، أو .. وفي هذه الحالة سيغتني هو الآخر ، ويودع ضيق العيش إلى الأبد .
ومع الأيام ، وككل بنات الحكايات ، راحت سعاد تنمو ، وتكبر ، وتتفتح أنوثتها ، وقد تمناها ، تمنى هذه الزهرة منذ البداية ، ثم إنها ابنة عمته ، عمته سلوى ، وله حق فيها ، لكن أباها هو عبد الله ، وما أدراك ما عبد الله ، الرجل عنده هو .. الذهب .
واندفع إبراهيم إلى العمل ، إنه يجد .. ومن جدّ وجد ، وجدّ .. جدّ في التجارة ، وصار تاجراً واعداً يُشار له بالبنان ، لكنه يعرف أنه مهما جدّ ، فلن يجدَ " سعاد " إذا لم يُرضِ أباها عبد الله .
وذات يوم ، زار إبراهيم عمته سلمى ، وقد تفتحت سعاد، وأشرفت على الخامسة عشرة من عمرها ، فرحبت به عمته ، إنها عمته ، ورحبت به سعاد أيضاً ، فهي ابنة عمته ، ثمّ إن عبد الله ، لم يكن ساعتها في البيت ، وإنما كان في السوق .
وخرجت عمته سلمى ، ذهبت لتعد طعام الغداء في المطبخ ، وظلّ إبراهيم وحده مع سعاد ، وابتسامتها الطيبة قنديل على شفتيها الورديتين ، ونهض إبراهيم ، وجلس إلى جانبها ، وهمس لها : سعاد ..
ونظرت إليه سعاد ، وقنديل ابتسامتها ما يزال يضيء فوق شفتيها الورديتين ، وقالت : نعم .
تابع إبراهيم قائلاً بصوت خافت : أريدكِ يا سعاد .
لم ينطفئ القنديل فوق شفتيها ، ولم تتغير إضاءته ، وقالت بصوتها الهادئ : إنني مِلكُ أبي .
وقال لها إبراهيم : سأفاتح أباك عبد الله ، لكني أريد رأيكِ أنتِ أولاً ، يا سعاد .
فقالت سعاد ، والقنديل ما زال يضيء فوق شفتيها الورديتين : إبراهيم ، أنت ابن عمي ، لكن ما أريده ، هو ما يريده لي أبي .
فرح إبراهيم ، إنه يعرف سعاد ، وما قالته كان في حدود ما توقعه منها ، المهم إنها لا ترفضه ، وإنما تريده بشرط ، وهو يعرف أيضاً شرط أبيها ..عبد الله ، وماذا يريد هذا العبد الله غير .. الذهب .
ودعاه بعد أيام إلى غداء دسم ، كباب ، فهو يعرفه جيداً، إنه يحب الكباب ، وأخذه إلى أشهر محل لتقديم الكباب في المدينة ، وطلب أن تعد لهما مائدة عامرة .
وفي أوج معركة عبد الله الممتعة مع الكباب ، أراد إبراهيم أن يفاتحه في الأمر ، فقال : عمي .
وهمهم عبد الله ، وعيناه تجوسان بين أطباق الكباب والخضر والفواكه ، فتابع إبراهيم قائلاً : أنت تعرف تجارتي ، وهي بفضل الله تنمو سريعاً جداً .
وهمهم عبد الله ثانية ، وهو يدس لقمة كبيرة في فمه ، هم م م ، أنت شاب ناجح ، ليوفقك الله .
ومال إبراهيم عليه ، وقال : سأعطيك ألف دينار .
وتوقف فكا عبد الله عن طحن الكباب ، وقد برقت عيناه، وقال : ألف دينار !
وهزّ إبراهيم رأسه ، ثمّ قال : أريد سعاد .
واستأنف عبد الله التهام الطعام ، وما إن أتى على الكباب، حتى مسح يديه وشفته ، وأطرق رأسه ، فقال إبراهيم : لم تردّ عليّ ، يا عمي .
ورفع عبد الله رأسه ، وحدق في إبراهيم ، ثم قال : أنت تعرف ، يا إبراهيم ، أن سعاد هي كلّ ما أملك في هذه الدنيا ، وأريد أن تسعدها ، وتوفر لها كلّ ما تريده وتتمناه ، وإذا قصّرت في حقها ، في أي وقت ، سحبتها منك ، وأعدتها إلى حيث عاشت معززة مكرمة .
ونهض إبراهيم ، وانكبّ على عبد الله ، وقبل رأسه ، وقال ممتناً : أشكرك ، يا عمي ، سأضع سعاد في عينيّ، غداً أقدم لك .. الألف دينار .

" 2 "
ـــــــــــــــــ
تزوج إبراهيم من سعاد ، بعد أن دفع لأبيها عبد الله ألف دينار ذهباً ، آه سعاد .. سعاد الذهب ، التي لا تعادل بالذهب ، انتزعها إبراهيم من أبيها ، وزين بها حياته ، بحفنة من الذهب .
وحالما حاز على سعاد ، وابتسامتها القنديل ، راحت تضيء حياته ، ابتسمت له الدنيا ، وازدهرت أعماله وتجارته ، كما ازدهرت علاقته بأبي سعاد ، عبد الله الذي لم يكن سابقاً يطيق النظر إليه .
أما سعاد ، فقد تألق قنديل ابتسامتها أكثر وأكثر ، ولم يبخل عليها إبراهيم بزيت محبته ورعايته ، فقد أغرقها بعواطفه ورعايته وبأجمل الثياب والحلي .
وكما أن السماء الصافية الزرقاء ، لا تبقى دوماّ صافية زرقاء ، وأنسام الربيع ، المفعمة بالعطور ، لا تبقى دوماّ أنسام معطرة ، فالسماء الصافية الزرقاء ، قد تشوهها بعض الغيوم ، والأنسام الربيعية ، قد تنقلب بين عشية وضحاها ، وتتحول إلى عواصف وزوابع وأعاصير ، لا تبقي ولا تذر .
كذلك سماء حياة إبراهيم ، فقد تلطخت بقطع كبيرة من الغيوم القاتمة ، وعصفت بأعماله وتجارته العواصف والزوابع والأعاصير ، وحولت حدائق حياته ، إلى صحراء جرداء لا نبت فيها ولا ماء .
حزن إبراهيم ، وحزنت معه زوجته سعاد ، وبدأ قنديل ابتسامتها ، ولأول مرة في حياتها ، يخفت ضياؤه شيئاّ فشيئاً ، بل إن عينيها الجميلتين ، بدأتا تغيمان ، وسرعان ما راحتا تسحان الدموع بغزارة ، فقال إبراهيم لها : لا عليكِ ، يا سعاد ، التجارة هكذا ، فيها الربح وفيها الخسارة أيضاً ، المهم أنتِ معي ، وسنجتاز هذه المحنة معاً ، إن عاجلاً أو آجلاً .
ومنذ بدء المحنة ، خشي إبراهيم من عبد الله ، خشي أن يتغير موقفه ، ويكون إلى جانب العواصف والزوابع والأعاصير ، وحدث ما كان يخشاه ، فقد انقلب عبد الله عليه ، وطعنه في أعز ما يملك .
فقد عاد ذات مساء إلى البيت ، حزيناً مهموماً محبطاً ، لكنه كان يمني نفسه بلقاء زوجته سعاد ، التي تضيء حياته بقنديل ابتسامتها ، رغم أنها لم تعد متألقة كما في السابق ، لكنه وجد البيت فارغاً معتماً كئيباً ، وكيف لا وسعاد لم تعد فيه ؟
وخمن أنها عند أهلها ، لابدّ أن سعاد ذهبت إلى أمها الطيبة الحنونة ، وستواسيها أمها وتربت عليها ، وتطيب خاطرها ، لكن الشمس غربت ، وخيم الظلام ، وسعاد لم تعد إلى البيت ، هل ينتظر إبراهيم إلى صباح اليوم التالي ؟ كلا ، لن يقدر على ذلك .
وعلى الفور ، خرج من البيت ، وأسرع إلى بيت أهل زوجته سعاد ، الذي لم يكن يبعد كثيراً عن بيته ، وطرق الباب ، وفوجىء بأبيها عبد الله ، يخرج إليه عابساً ، مقطباً ، يتقادح الشرر من عينيه ، وسدّ عليه الباب ، وزجره قائلاً : خيراً .
وتراجع إبراهيم خطوتين مصدوماً ، وردّ قائلاً : عدتُ إلى البيت مساء ، ولم أجد سعاد ..
وقاطعه عبد الله غاضباً : سعاد في بيتها ..
وتمتم خليل مذهولاً : ماذا !
وتابع عبد الله قائلاً : ذهبتُ صباح اليوم إليها ، وأعدتها إلى بيتها ، حيث أبوها وأمها وكرامتها .
وهمّ إبراهيم أن يردّ عليه ، وقد دمعت عيناه ، فاعترضه عبد الله ، وقال : هذا شرطي منذ البداية ، أن تسعدها ، ولا تدعها بحاجة إلى شيء ، سعاد إذا بقيت عندك ستذل، وأنا لن أدعها تذل .
واقترب إبراهيم منه ، وقال متوسلاً : أرجوك عمي ، هذه تجارة ، وسأستعيد ما فقدته ، أعد إليّ زوجتي سعاد، ولك مني أن أبقيها معززة مكرمة .
وبغضب شديد ، دفعه عبد الله ، فتهاوى إبراهيم ، وسقط على الأرض ، ولم يكتفِ عبد الله بذلك ، وإنما ركله بقدمه بقوة ، وهدده قائلاً : اذهب أيها المعدم الفاشل ، سأقتلك إذا طرقت بابي ثانية .
وتحامل إبراهيم على نفسه ، ونهض عن الأرض بصعوبة ، وقد تلوثت ثيابه بالتراب ، وقال بنبرة شبه باكية : لي الوالي العادل ، سأذهب غداً ، وأشكوك إليه ، ويعيد لي زوجتي .

" 3 "
ــــــــــــــــ
أوى إبراهيم إلى فراشه ، في ساعة متأخرة من ذلك اليوم ، دون أن يتناول لقمة واحدة ساعة العشاء ، لقد تعود ، في سني جنته مع سعاد ، أن يأكل الطعام من صنع يديها ، ويأكل وقنديل ابتسامتها يضيء أمامه ، فكيف يمكن أن يأكل ، وهي بعيدة عنه ، حتى لو كان مشرفاً على الموت جوعاً ؟
وأغمض عينيه المتعبتين ، لعله يرتاح بعض الشيء ، خاصة وأن أمامه في الغد ، مهمة لابدّ منها ، لن يسكت على اختطاف حياته سعاد منه ، ولو ليوم واحد ، سيذهب غداً إلى والي المدينة ، المعرف بالعدل ورفع الظلم عن المظلومين ، وهل من ظلم يمكن أن يقع عليه، أكثر من إبعاد حياته سعاد عنه ؟
وفزّ إبراهيم مع شروق الشمس ، يبدو أنه نام ، ربما ساعة أو بعض ساعة ، وتملكه العجب ، واستنكر ذلك على نفسه ، كيف يمكن أن ينام ، وسعاد ليست إلى جانبه ؟ وهبّ من فراشه ، وانطلق إلى الوالي العادل ، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم .
وفي مقر الوالي ، الذي يجلس فيه للناس ، قال إبراهيم للحاجب : أريد أن أرى الوالي .
وحدق الحاجب فيه مستفسراً ، فتابع إبراهيم قائلاً : قضية حياة أو موت ، قضية عاجلة .
وقبيل منتصف النهار ، دخل إبراهيم على الوالي ، وكان جالساً على كرسيه ، فحدق فيه بعينين طيبتين هادئتين ، وقال له : أبسط قضيتك ، وأوجز .
فقال إبراهيم ، وهو يغالب دموعه : أنا تاجر ، يا مولاي، تزوجت ابنة عمتي ، وأعطيت لوالدها ألف دينار ، لكني خسرت تجارتي كلها ، فجاء والد زوجتي ، وأخذ ابنته مني ، وهو يرفض أن يعيدها لي .
فقال الوالي : أبلغ والد زوجتك ، أن يأتي غداً مع ابنته ، وتعال أنت معهما ، وامثلوا غداً أمامي .
انحنى إبراهيم للوالي ، وقال بشيء من الارتياح : ليوفقك الله ، يا مولاي .
وفي اليوم التالي ، ذهب إبراهيم إلى مقرّ الوالي ، وما إن رآه الحاجب ، حتى قال له : ادخل بسرعة ، زوجتك ووالدها عند الوالي .
جاء الفرج ، سعاد حياته ستعود عاجلاً إليه ، يحيا العدل، ودخل إبراهيم على الوالي ، نعم سعاد موجودة ، ولو أن قنديلها منطفئ ، وعبد الله أيضاً موجود ، والارتياح باد عليه ، والوالي .. وخفق قلب إبراهيم ، فقد حدق الوالي فيه بعينين غاضبتين ، وقال له معنفاً : أيها الكاذب ، جئتني البارحة متظلماً ، وافتريت على الرجل الطيب ، وكلّ ما فعله أنه حمى ابنته من رعونتك وطيشك ، وإذلالك لها ..
وقال إبراهيم : مولاي ، لقد ضربني ، وأوقعني على الأرض ، وركلني بقدمه ، و ..
وصاح الوالي به : كفى ، اسكت .
وسكت إبراهيم ، فتابع الوالي قائلاً : ذهبتَ إلى بيته ، وتهجمت عليه ، وهددته ، هذا هو الظلم ، وهذا ما لا أقبله في المدينة التي أنا والٍ عليها .
وقال إبراهيم بنبرة باكية : مولاي ..
فصاح به الوالي : اسكت أيها المجرم ..
وسكت إبراهيم مغلوباً على أمره ، فصاح الوالي بأعلى صوته : أيها الحارس .
وأقبل الحارس على الفور ، وانحنى للوالي ، وقال : مولاي .
فأشار الوالي إلى إبراهيم ، وقال : خذ هذا الكاذب اللعين إلى السجن .
وأمسك الحارس إبراهيم ، وهو يقول : أمر مولاي .
ثم دفعه أمامه ، وخرج به من القاعة ، وذهب به إلى السجن ، وألقاه في غرفة صغيرة عارية .

" 4 "
ـــــــــــــــــ
طرق الباب مساء ذلك اليوم نفسه ، ونظرت الأم قلقة إلى سعاد ، ثم تطلعت إلى زوجها عبد الله ، وتمتمت : لعله .. إبراهيم ؟
فنهض عبد الله ، وقال منزعجاً : إبراهيم في السجن ، ولن يخرج بهذه السرعة .
واتجه إلى الخارج ، وهو يقول : سأفتح أنا الباب .
وفتح عبد الله الباب ، وفوجئ بحاجب الوالي يقول له : عبد الله ..
وقال عبد الله بقلب واجف : نعم .
فقال الحاجب : الوالي يريدك غداً .
فأحنى عبد الله رأسه ، وقال : سمعاً وطاعة .
وتهيأ الحاجب للابتعاد ، وقال : تعال وحدك .
فأجاب عبد الله : حاضر .
ومضى الحاجب مبتعداً ، وظل عبد الله في مكانه يفكر ، ترى ماذا يمكن أن يريد الوالي منه ؟ مهما يكن ، والمهم أن إبراهيم بعيد عنه ، وعن ابنته .. سعاد .
وفي اليوم التالي ، عند الضحى ، كان عبد الله بباب الوالي ، فنظر الحاجب إليه ، وقال له : أنت دقيق في المواعيد ، يا عبد الله .
وردّ عبد الله : إنه الوالي ، يا سيدي .
وقال الحاجب : نعم ، إنه الوالي .
ودخل الحاجب على الوالي ، وقال له : مولاي ، حضر عبد الله .
فقال الوالي : فليدخل .
وخرج الحاجب ، وقال لعبد الله : الوالي ينتظرك ، تفضل ، أدخل .
ودخل عبد الله القاعة متوجساً ، ونظر إلى الوالي ، الذي بدا وكأنه كان ينتظره ، وقال محيياً بصوت مضطرب : طاب صباحك يا مولاي .
ونظر الوالي إليه ، وقال : أهلاً عبد الله ..
وصمت لحظة ، وهو ما زال ينظر إلى عبد الله ، ثم قال: أرسلتُ إليك في أمر هام ، يا عبد الله .
وتساءل عبد الله : زوج ابنتي سعاد ؟
وردّ الوالي قائلاً : لا ، سعاد نفسها .
ووقف عبد الله متحيراً ، لا يدري ماذا يقول ، فقال الوالي : زوجني سعاد ..
ورد عبد الله : لكن سعاد متزوجة ، يا مولاي .
وتابع الوالي قائلاً : سأعطيك ألفي دينار .
وفغر عبد الله فاه مذهول ، وتابع الوالي ثانية : وأخصص لك دخلاً سنويا مجزياً .
ورقص قلب عبد الله ، ليس " مذبوحاً من الألم " وإنما فرحاً ، وتساءل : وزوجها إبراهيم ؟
وابتسم الوالي ، لقد اقترب من بغيته ، وقال : دع أمره لي ، أنا والي المدينة .
فقال عبد الله : الأمر لك ، يا مولاي .
وما إن غادر عبد الله ، حتى نادى الوالي الحاجب الذي يقف بالباب : أيها الحاجب .
وأقبل الحاجب على الفور ، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة ، قال له الوالي : جئني بالسجين .. إبراهيم .
فقال الحاجب : أمر مولاي .
وخرج الحاجب ، وسرعان ما عاد ، ومعه إبراهيم ، وقال للوالي : مولاي ، السجين إبراهيم .
وحدق الأمير في إبراهيم ، وقال للحاجب : أخرج أنت ، وأغلق الباب .
وخرج الحاجب بسرعة ، وأغلق الباب وراءه ، فقال الوالي ، وهو ما زال ينظر إلى إبراهيم : هل تريد أن تخرج من السجن ؟
وهزّ إبراهيم رأسه ، وقال : نعم ، يا مولاي .
وتابع الوالي قائلاً : وتتابع حياتك بحرية ، وتعود إلى عملك في التجارة ؟
وثانية هزّ إبراهيم رأسه ، وقال : نعم .. يا مولاي .
فقال الوالي : حسناً ، سأطلق سراحك الآن ..
ونظر إبراهيم إليه صامتاً ، ينتظر ، فتابع الولي قائلاً : بشرط . . شرط واحد لا غير ..
وانتظر إبراهيم ، وأنفاسه تكاد تتوقف ، فقال الولي : طلق سعاد ..
وشهق إبراهيم ، وتمتم : ماذا !
وقال الوالي بحزم : طلقها .. الآن .
وتزاحمت الدموع في عيني إبراهيم ، وقال بصوت متحشرج : أطلقها ! إنها حياتي .
ومدّ الوالي يديه ، وأمسك بتلابيب إبراهيم ، وجره إليه ، وقال له : ستندم .
ثم دفعه بقوة ، حتى كاد أن يتهاوى على الأرض ، وصاح الوالي : أيها الحاجب .
وأقبل الحاجب بسرعة ، وقال : نعم مولاي .
وأشاح الوالي عن إبراهيم ، وقال : أعده إلى حيث سيبقى ويتعفن ، أعده إلى السجن .
وأمسك الحاجب بإبراهيم ، وقال : أمر مولاي .
وأعيد إبراهيم إلى السجن ، وطوال ساعات تلك الليلة ، راح أعوان الوالي ، بأمر من الوالي طبعاً ، يقنعون إبراهيم بقبضاتهم وركلاتهم وهراواتهم و .. و .. بأن لا سبيل للتخلص مما هو فيه ، إلا بأن يتخلص من سعاد نفسها .. بأن يطلقها .. وقد طلقها .

" 5 "
ـــــــــــــــــ
لم يُطلقْ سراح إبراهيم من السجن ، حتى بعد أن طلق سعاد ، وظل حبيس زنزانته الصغيرة العارية ، وكان كلما سأل سجانه : ألم يحن أوان إطلاق سراحي من هذا السجن القاتل ؟
فيجيبه سجانه مبتسماً بخبث : لا تستعجل ، يا إبراهيم ، سيطلق سراحك ..
ويصمت ، ثم يضيف مدمدماً : بعد انتهاء العدة .
وذات يوم ، وقد يئس إبراهيم ، من الخروج من السجن، جاءه السجان ، وقال له مبتسماً : أبشر ، يا إبراهيم ، لقد انتهت العدة .
ونظر إبراهيم إلى السجان ، ولم يكن قد عرف ، ما يعنيه السجان بالعدة ، حتى ذلك الوقت ، لكنه لم يتفوه بكلمة ، فقال السجان : عدة سعاد ، تفضل ، أنت حرّ ، اذهب حيث تشاء .
وخرج إبراهيم من الزنزانة ، وقدماه لا تكادان تحملانه، وسار السجان بجانبه إلى الخارج ، وقال له : عليك أن تشكر سعاد ، لإطلاق سراحك من السجن .
ونظر إبراهيم إليه مذهولاً ، فقال السجان ، وهو يغالب ابتسامته : لقد تزوجت من الوالي .
وشهق إبراهيم ، وكاد يتهاوى على الأرض ، فأسنده السجان ، وقال له مبتسماً : افرح لها ، يا إبراهيم ، ولك أن تفخر ، فزوجة والي المدينة نفسه ، كانت زوجتك لسنوات عديدة .
وعلى غير هدى ، سار إبراهيم مترنحاً ، مبتعداً عن السجن والسجان ، لكن المدينة بل الحياة كلها ، صارت له سجناً ، بعد اختفاء سعاد من حياته .
وتوقف إبراهيم وسط المدينة منهاراً ، يائساً ، وتلفت حوله ، إلى أين ؟ وأين الخلاص ؟ وفي النهاية ، وجد قدميه المتعبتين ، تحملانه إلى بيته .
ودخل بيته ، وعيناه غائمتان بالدموع ، وركضت عيناه في أرجاء البيت ، وكاد ينادي ، على عادته كلما عاد من السوق : سعاد .
لكن لا حياة لمن سينادي ، وأخبره البيت نفسه ببرودته ، وصمته ، ووحشته ، بأن لا سعاد .. لا حياة ، ودخل إلى غرفته ، التي كانت تضمه وحياته سعاد ، لكن لا سعاد ، وارتمى فوق فراشه البارد ، واستغرق في نوم عميق مضطرب ، دون أن يستبدل ثيابه .
ما العمل ؟
صرخ في أعماقه ، حتى وهو مستغرق في النوم ، تتقاذفه غيوم كأمواج البحر الهائج ، وحين أفاق ، وفتح عينيه ، صاح : ما العمل ؟
واعتدل في فراشه ، سيفقد عقله ، سيجن ، إذا بقي على هذه الحال ، إن بيته ، بل حياته نفسها ، بدون سعى ، موت ما بعده موت .
وقبيل غروب الشمس ، نهض من فراشه ، ووجد نفسه يخرج من البيت ، وقادته قدماه ، ربما رغماً عنه ، إلى بيت عمته ، أم سعاد .
وطرق الباب ، وبدل عبد الله ، خرجت عمته أم سعاد ، وما إن رأته حتى اغرورقت عيناها بالدموع ، وقالت بصوت متحشرج : إبراهيم !
وتشبث إبراهيم بيدي عمته ، وقال بصوت تغرقه الدموع : عمتي ، أريد سعاد .
ولم تستطع أم سعاد أن تكبح دموعها ، التي سالت على وجنتيها ، وقالت بصوتها الباكي : إبراهيم ، بنيّ ، أنت رجل ، عليك أن تنسى سعاد .
وشهق إبراهيم ، وقال بصوت باكٍ : سعاد حياتي ، يا عمتي ، كيف يمكن أن أنساها ؟
وتابعت عمته قائلة من بين دموعها : سعاد تزوجت ، يا إبراهيم ، تزوجت الوالي نفسه ، ولن يرحمك إذا اقتربت منها ، انسها ، لك الله .
وصمتت لحظة ، ثم أغلقت الباب ، بعد أن قالت : إبراهيم ، لا تأتِ إلى هنا ثانية ، إذا رآك عبد الله ، سيأخذك إلى الوالي ، ولن تنجو هذه المرة .
وظلّ إبراهيم واقفاً أمام الباب المسدود ، متمتماً بصوت تغرقه الدموع : سعاد .. سعاد .. سعاد .
وترددت في أعماقه كلمات عمته الباكية .. لك الله ، ورفع عينيه إلى السماء .. وتمتم قائلاً : يا الله .. أريد سعاد .. دلني على الطريق .



" 6 "
ـــــــــــــــــ
في يوم تموزي شديد الحر ، لا نسيم فيه ، بعد منتصف النهار ، مشى إبراهيم إلى الموضع ، الذي يجلس فيه الخليفة ، وقد وصل من المدينة ، إلى عاصمة الخلافة والعدل .
ونظر الخليفة من مجلسه إلى إبراهيم ، ثم التفت إلى من حوله ، قال : لا أظن أن من يخرج في هذه الهجيرة إلا مضطراً ، أو لديه أمر هام .
وقال أحد جلسائه : لابد أنه يقصدك ، يا مولاي ، بأمر هام فعلاً ، يرى أنه لا يمكن تأجيله .
ونظر إليه الخليفة ، وبدا له وكأنه يتلظى في سعير الظهيرة ، فقال : مهما كان طلبه ، فلن أرده .
والتفت إلى غلامه ، وقال له : أيها الغلام ، إذا طلبني هذا الأعرابي ، فأدخله عليّ .
وانحنى الغلام للخليفة ، وقال : أمر مولاي .
ثم مضى لاستقبال الأعرابي " إبراهيم " ، وسرعان ما جاء به إلى الخليفة ، وقال : مولاي ، هذا الأعرابي جاء من المدينة ، ويريد مقابلتك .
فحدق الخليفة في إبراهيم ، وقال : أهلاً ومرحباً .
وانحنى إبراهيم للخليفة ن وقال : مولاي ، جئت مشتكياً من واليك على المدينة .
ورمقه الخليفة بنظرة سريعة ، وقال : ما أعرفه عن والي المدينة ، إنه رجل عادل .
وصمت الخليفة لحظة ، ثم قال لإبراهيم : اذكر قصتك ، وسننظر فيها .
وقصّ إبراهيم للخليفة كلّ ما جرى له مع سعاد ووالدها عبد الله ، ومن ثم مع والي المدينة ، وأنصت الخليفة إليه باهتمام ، حتى انتهى من قصته ، فقال متأثراً ومنزعجاً : هذا حديث لم أسمع بمثله من قبل ، ولا يليق بالوالي أن يقوم به ، سأكتب له الآن كتاباً ، فيطلِق زوجتك ، ويرسلها لي ، لأنظر في أمرها .
وأمر الخليفة بدواة وقرطاس ، وكتب رسالة إلى والي المدينة ، حملها إليه اثنان من رجاله ، وقال لهما : تذهبان اليوم ، وتقدما الرسالة لوالي المدينة ، ثم تأتياني منه بالمرأة على جناح السرعة .
وذهب الرجلان على جناح السرعة إلى المدينة ، وسلما الرسالة للوالي ، وتسلما منه المرأة " سعاد " ، ومعها رسالة اعتذار إلى الخليفة .
وسرعان ما عاد الرجلان ، ودخلا على الخليفة ، ومعهما رسالة الوالي والمرأة " سعاد " ، وقدم الأول الرسالة للخليفة ، وقال له : مولاي ، هذه الرسالة لكم ، من والي المدينة .
ثم أشار إلى سعاد ، التي كانت تقف خلفه ، وقال : وهذه هي المرأة .
وأخذ الخليفة الرسالة ، وهو يحدق مذهولاً في سعاد ، وقال للرجلين : اذهبا أنتما ، وأغلقا الباب .
وذهب الرجلان ، وأغلقا الباب ، وقال الخليفة ، وهو مازال يحدق في سعاد : ما اسمكِ ، يا امرأة ؟
ورفعت سعاد عينها الجميلتين إليه ، وقالت بصوتها الهادىء : اسمي .. سعاد .
وتمتم الخليفة بكلمات لم تفهمها سعاد ، آه يا للأعرابي ، هذه المرأة كنز ، وأي كنز ، ثم رفع نظره ، وصاح : أيها الحاجب .
وأقبل الحاجب ، وانحنى للخليفة ، وقال : مولاي .
قال الخليفة : جيئوني بالأعرابي .. إبراهيم .
وقال الحاجب : أمر مولاي .
وخرج الحاجب على عجل ، فقال الخليفة لسعاد ، وهو يتأملها : اجلسي ، يا سعاد ، وحدثيني عن حياتك ، ريثما يأتي .. إبراهيم .
وسرعان ما جاء إبراهيم ، جاء به الحاجب على جناح السرعة ، وما إن دخل على الخليفة ، ورأى سعاد .. سعاد حياته ، حتى ردت إليه الروح ، ولولا تحرجه من الخليفة ، لأندفع إليها وعانقها ، و .. وثاب إلى رشده عندما سمع الخليفة ، يقول له : تعال ، يا إبراهيم .
والتفت إبراهيم إلى الخليفة ، وقال : مولاي ..
ونظر الخليفة إليه ، وقال : هذه سعاد ..
وقال إبراهيم بلهفة : بل هذه حياتي .
وقال الخليفة : اسمعني ، اسمعني جيداً ، يا إبراهيم .
وقال إبراهيم : مولاي ، قل لي متْ ، وسأموت .
فقال الخليفة : كلا ، لن أقول لك متْ ، يا إبراهيم ، بل سأقول لك عشْ ..
والتمعت عينا إبراهيم ، وقال : ولهذا لجأتُ إليك ، وليس إلى غيرك ، يا مولاي .
ونظر الخليفة إليه ، وقال : لقد فقدت ثروتك كلها ، ولم يعد لك أي شيء ، سأعوضك ما فقدته ، بل سأعطيك أكثر مما كان عندك .
ولاذ إبراهيم بالصمت ، ونظر إلى سعاد متوجساً ، فتابع الخليفة قائلاً : ومعها ثلاث جواري حسان ، رومية ، وفارسية ، وعراقية .
وتمتم إبراهيم خائفاً : مولاي ..
ونظر الخليفة إلى سعاد ، وقال لإبراهيم : تنازل لي عن.. سعاد ، يا إبراهيم .
وكاد إبراهيم يتهاوى على الأرض ، لكنه تماسك ، وقال للخليفة : مولاي استجرت بك من أجل سعاد ، خذها ، خذ سعاد ، لكن خذ حياتي أولاً .
واقترب الخليفة منه ، وقال : لكن سعاد ليست زوجتك الآن ، لقد طلقتها ، يا إبراهيم ..
وقال إبراهيم : طلقتها بلساني ، تحت تعذيب لا يحتمله بشر ، وأنا من البشر ، يا مولاي .
وتابع الخليفة قائلاً : طلقتها ، فتزوجها والي المدينة ، وطلقها هو الآخر ..
وصمت الخليفة ، ثم قال : إنها حرة الآن ، فلتختر بحريتها ، ومن تختاره ستكون له .
ولاذ إبراهيم بالصمت ، فتقدم الخليفة من سعاد ، وقال لها : سعاد ، انهضي .
ونهضت سعاد ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، فقال الخليفة لها : إذا اخترتني ، اخترت العز والشرف والغنى ، ولك أن تعودي إلى زوجك والي المدينة ..
وأشار الخليفة إلى إبراهيم ، وقال : أم تريدين هذا الأعرابي .. إبراهيم ؟
ونظرت سعاد إلى إبراهيم ، وقالت : هذا الأعرابي ، يا مولاي ، زوجي ، أحبني وأحببته ، وعشت معه أجمل ساعات عمري ، وهو زوجي في السراء والضراء ، ولن أستبدله بكنوز الدنيا .
ولاذ الخليفة بالصمت برهة ، ثم تقدم من إبراهيم ، وربت بلطف على كتفه ، وقال له : خذ كنزك ، يا إبراهيم ، واذهب ، وسأكون إلى جانبك دوماً .

22 / 4 / 2020



























من قتل شمر ؟











الشخصيات
ــــــــــــــــــــــــــ

الغساسنة ..
1 ـ الحارث ملك الغساسنة
2 ـ حليمة ابنة الحارث
3 ـ شمر حارس
4 ـ أم شمر
5 ـ قيس حارس
6 ـ عامر حارس

المناذرة
1 ـ المنذر بن ماء السماء ملك المناذرة
2 ـ المستشار العجوز
3 ـ سلمى خادمة




" 1 "
ــــــــــــــــــــــ
فزّت أم شمر من غفوتها ، لا تدري لماذا ، لعلها رأت حلماً .. كابوساً .. في نومها ، ولماذا تراه في نومها ؟ إن حياتها نفسها كابوس .
واعتدلت في فراشها متنهدة بحرقة ، فمنذ أن ذهب ابنها شمر إلى معركته الأخيرة ، وقتل فيها ، وهي تعيش هذا الكابوس ، الذي لا ينتهي .
وتحاملت على نفسها ، ونهضت من فراشها متلفتة ، أين عكازها اللعين ؟ وخطت مترنحة بضع خطوات ، وكادت تتهاوى على الأرض ، فتوقفت لاهثة ، وتطلعت عبر النافذة إلى البعيد .
آه البيت فارغ ، وبصرى فارغة ، العالم كله فارغ ، أعماقها نفسها ، التي كانت تضج بالفرح والحياة فارغة تماماً ، نعم ، حياة ليس فيها شمر .. فارغة ، ولا تستحق أن تُعاش يوماً واحداً .
وصاحت في أعماقها ، حيث يقبع كلّ العالم ، من قتل ابني شمر ؟ الذي لم ترَ بُصرى ، ولا الشام كلها ، من هو أرجل منه ، قوة وشجاعة وذكاء ..
من قتله ؟
المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ؟
أم الحارث ، ملكنا ، ملك الغساسنة ؟
أم رئيس الحرس ..
لا .. لا .. لا .
هذا سرّ لا يعرفه أحد غيري ، وسيأتي اليوم ، الذي أعلنه فيه ، وعندها فقط ، يمكن أن أرتاح بعض الشيء، وإلا لن يفارقني الكابوس ، حتى أفارق الحياة .
وتوقفت أم شمر ، حين سمعت طرقاً على الباب ، لكنها لم تتحرك من مكانها ، وطرق الباب ثانية ، فأخذت عكازها ، ومضت نحو الباب ، وفتحته ، وإذا جارية شابة تميل عليها مبتسمة ، وتحييها قائلة : طاب صباحك، يا جدتي ، أم شمر .
فردت أم شمر عابسة : أهلاً ومرحباً .
فقالت الجارية : مولاتي ، الأميرة حليمة ، تقرئكِ السلام، و ..
وتنهدت أم شمر متضايقة ، فصمتت الجارية لحظة ، ثم قالت : الأميرة تريد أن تراكِ غداً ، قبل منتصف النهار، وسترسل من يأخذك إلى القصر .
فقالت أم شمر ، وهي تصفق الباب : لا أريد أحداً ، سأحضر غداً بنفسي .
وسارت أم شمر إلى غرفتها ، متعكزة على شيخوختها وعكازها الخشبي ، وتوقفت وسط الفناء ، ورفعت رأسها ، وصاحت بحرقة : شمر .. شمر .. شمر .

" 2 "
ـــــــــــــــــــــ
تمددتْ أم شمر في فراشها ، وأغمضت عينيها اللتين أتعبتهما مسيرة حياتها ، وخاصة بعد أن ذهب شمر إلى معركته الأخيرة ، ولم يعد منها ، وقيل لها أنه قتل ، ودفن في أرض المعركة .
وحياتها ، كما تراها حقيقة ، بدأت بعد ولادة شمر ، خاصة وأن أباه ، شمعة حياتها ، كان قد انطفأ ، في معركة من المعارك المستمرة ، بين الحارث ملك الغساسنة في الشام ، وملك المناذرة في العراق ، المنذر بن ماء السماء .
ومنذ البداية ، بدا للأم وللآخرين أيضاً ، أن شمر سيكون مثل أبيه قوة وشجاعة ، لكنه لم يكن وسيماً كأبيه ، لا سيما أن الجدري ، الذي أصيب به في طفولته ، وكاد أن يقضي عليه ، ترك حفراً قبيحة على صفحة وجهه ، التي لم تكن مقبولة من الأساس .
ووسط هذه الحفر ، والقبح الظاهر ، تطل من صفحة وجهه عيناه الواسعتان ، السوداوان ، اللتان أخذهما عن أمه ، واللتان تضيئان قويتين ثابتتين ، تنمان عن أعماقه الحقيقية القوية المرهفة الأحاسيس .
ولعل قوته وجرأته الفائقة ، عوضتاه عن قبحه ، وحفر الجدري التي تشوه وجهه ، عند الكثير من أصدقائه ، بل وحتى بعض الفتيات أيضاً ، ممن عرفنه عن قرب ، واللواتي يعشقن القوة والشجاعة الفائقة .
وتذكر أم شمر ، أنه في مقتبل شبابه ، تصدى لذئب شرس في الريف وقتله ، حدث هذا عندما كان في زيارة لجده ، الذي كان يحبه ومعجباً به للغاية .
فقد خرج ذات يوم يتجول في أحد الحقول ، التي ترعى فيها عدة قطعان من الأغنام ، وهاجم ذئب شرس الأغنام، وبدل أن يصده الرعاة ، ويقضوا عليه ، أو يجبروه على الهرب ، لاذوا هم أنفسهم بالفرار ، فتصدى شمر للذئب الشرس ، ووجه إليه طعنات عديدة من بخنجره ، الذي لا يفارقه أبداً ، وأجهز عليه .
وكمعظم فتيان عشيرته ، كان شمر يحلم أن يكون جندياً من جنود الملك الحارث ، يقاتل في صفوفه جند المناذرة، وملكهم المنذر بن ماء السماء .
وتحقق حلمه ، عندما انخرط في جيش الحارث ، وراح يتدرب على فنون القتال ، حتى صار واحداً من أفضل الجنود ، قوة وشجاعة ومطاولة على القتال .





" 3 "
ـــــــــــــــــــــــــ
مست شمر ، ذات يوم ، شرارة برق ، أشعلت في قلبه الغض شعلة ، لم يخفت أوارها يوماً ، ولم تنطفىء حتى اللحظات الأخيرة من عمره .
وشرارة البرق ، كانت حليمة ، ابنة الملك الحارث ، ولم يكن قد رآها من قبل ، لكنه حين رآها ، لم تغب عنه لحظة واحدة ، إلى أن غاب هو نفسه .
جاءتهم حليمة إلى الميدان ، الذي يتدربون فيه على الفروسية ، ممتطية حصاناً جامحاً ، لا تكاد أقدامه تثبت على الأرض لحظة واحدة ، وتوقفت على مقربة ، وراحت تتطلع إليهم الواحد بعد الآخر ، دون أن تتوقف عيناها البنيتان عند واحد منهم .
ثم غمزت حصانها بكعب قدمها غمزة رفيقة ، وراحت تدور به حولهم ، وهي تقول : تدربوا جيداً ، وكونوا أبطالاً ، فأنتم ، أيها الفرسان ، غساسنة ، والغساسنة أبطال ، لقد قاتل آباؤكم دفاعاً عن أرض الوطن ، ضد أعدائنا المناذرة الطامعين ، فكونوا مثل آبائكم أبطالاً ، إن الوطن ينتظر دوركم البطولي ، فالمناذرة على الأبواب من جديد .
وتوقفت حلية ثانية بحصانها الجامح ، ثم استدارت به ، وقالت : استمروا على التدريب .
وانطلقت حليمة بحصانها الجامح ، وكأنه حصان طائر من أحصنة الأساطير ، مبتعدة عن ساحة التدريب ، لكنها لم تبتعد مطلقاً عن شمر ، فقد بقيت أيقونة جميلة في عينيه ، وشعلة لا تنطفئ في قلبه الغض .
وسرعان ما اشتعل القتال مجدداً ، بين الحارث ملك الغساسنة في الشام ، والمنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة في الشام ، واستمر القتال بينهما مدة طويلة ، دون أن ينتصر أحدهما على الآخر ، ويحسم الحرب لصالحه ، حتى توقف القتال ، وانسحب كلّ فريق إلى مواقعه ، انتظاراً للجولة القادمة .

" 4 "
ــــــــــــــــــــــ
تطلعت الأميرة حليمة إلى وجهها في المرآة ، وابتسمت فرحة : آه قمر ..
هذا ما تقوله أمها ، عينان بنيتان بلون القهوة اليمنية ، أخذتهما من جدتها لأمها ، وخداها تفاحتان من تفاح الجبال ، نعم ، هذا ما تقوله أمها ، لكن أمها مهما كان .. أمها ، وهي امرأة .
وأبعدت الأميرة المرآة عنها ، حين تناهى إليها وقع أقدام خفيفة ، لابدّ أنها أمها ، نعم إنها هي ، فقد جاءها صوتها الأمومي يهمس : حليمة .
واستدارت الأميرة ، وقالت : نعم ماما .
وتوقفت الأم أمام حليمة ، وقالت : رأيتك من بعيد كالعادة تتمرين .
وألقت الأميرة المرآة جانباً ، وقالت : سأبعد كلّ المرايا عن غرفتي .
وابتسمت الأم قائلة : المرأة والمرآة رفيقتان ، لا ينبغي أن تفترقا أبداً .
ونظرت الأميرة إلى أمها ، وقالت : أنا لا أريد أن أكون امرأة فقط .
ومدت الأم يدها ، وداعبت برفق وجنة الأميرة ، وقالت: تفاحة ، تفاحة من تفاح الجبال .
وأبعدت الأميرة خدها عن أنامل أمها ، فقالت الأم مبتسمة : عندما كنت في عمرك ، كانت المرآة لا تفارقني ، وكنتُ لا أرى وجهي وحده فيها ، فقد كان إلى جانبه وجه فارس شاب .
وحملقت الأميرة في أمها ، فتابعت الأم قائلة : أبوك الملك طبعاً ، كان هو الفارس الشاب ، وحين التقيت به أشعلتُ في أعماقه البطولة والشجاعة والرجولة .
وصمتت الأم لحظة ، ووقف عند النافذة ، وراحت تتطلع إلى البعيد ، ثم قالت : الرجل بركان خامد ، لا تثيره ، وتشعله إلا شرارة امرأة .
ونظرت الأميرة إلى أمها ، وقالت في نفسها : أنا الشرارة ، وسأشعل البراكين ، التي لن تخمد ، إلا بتحقيق .. النصر .

" 5 "
ــــــــــــــــــــ
لم تنم الأميرة حليمة تلك الليلة ، في موعدها الذي اعتادت عليه ، وعند منتصف الليل تقريباً ، خرجت من غرفتها ، ولاحظت أن قاعة العرش مضاءة ، ويقف ببابها حارس مدجج بالسلاح .
واقتربت الأميرة من الحارس ، وقالت : أرى قاعة العرش مضاءة ، الليل يكاد ينتصف .
فأحنى الحارس رأسه ، وقال بصوت خافت : مولاي الملك في الداخل ، يا مولاتي .
ومدت الأميرة يدها ، ودفعت الباب برفق ، ودخلت القاعة بخطى هادئة ، وإذا أبوها الملك يقف قرب النافذة، محدقا في الظلام .
والتفت الملك ، حين تناهى إليه وقع خطواتها في صمت القاعة ، وقال مندهشاً : بنيتي ، حليمة !
وبنفس الدهشة ، قالت الأميرة : أبي !
وابتسم الملك ، فتابعت الأميرة قائلة : نحن في منتصف الليل ، يا أبي .
قال الملك : أنتِ لم تنامي .
وقالت الأميرة : وأنت أيضاً لم تنم .
وسار الملك نحو العرش ، وجلس على الكرسي ، وقال: أنا الملك .
وفي أثره سارت الأميرة ، وقالت : وأنا ابنة الملك .
وصمت الملك لحظة ، ثم غزت عينيه ابتسامة ، راحت تتسع ، حتى كاد يضحك ، فنظر إلى الأميرة ، وقال : قالت لي جدتي مرة ، وجدتي كانت امرأة حصيفة ، الرجل عضلات ، والمرأة هي العقل .
وصمت الملك لحظة ، ثم قال : ضحكتُ وقتها ، وقلت لها ، أنتِ تقولين هذا ، يا جدتي ، لأنكِ امرأة .
ومالت الأميرة على أبيها الملك ، وقالت : نعم ، قالت هذا لأنها امرأة ، لأنها العقل .
وقال الملك : حليمة ، أنتِ مثل جدتك .
فقالت الأميرة : أنا امرأة .
ولاذ الملك بالصمت ، فقالت الأميرة : ما لم يؤخذ بقوة العضلات ، يمكن أن يؤخذ بقوة العقل .
وحدق الملك فيها صامتاً ، فقالت : الأفعى إذا قطعنا ذنبها ، لا تموت ، لكنها تموت إذا قطعنا رأسها .
وتساءل الملك : وهذا الرأس ، كيف نقطعه ؟
فردت الأميرة : هذا ما علينا أن نفكر فيه ملياً ، وسنصل إلى حلّ ، ونقطع الرأس .

" 6 "
ــــــــــــــــــــ
وخلال الأيام التالية ، التقت الأميرة حليمة ، مع أبيها الملك الحارث ، وكان حديثهما دائماً ، يدور حول الأفعى المنذر بن ماء السماء ، والطريق للوصول إليه ، والإجهاز عليه ، في عقر ملكه .
وفي عصر أحد الأيام ، خرج الملك يتمشى في حدائق القصر ، وبعد حين شعر بالتعب ، وكيف لا وقد تجاوز الستين ، وهموم الأفعى ، وأنيابها السامة القاتلة ، لا تفارقه ، لا في الليل ، ولا في النهار .
وتوقف عند إحدى النوافير ، ثم جلس على مصطبة هناك ، لعله يسترد أنفاسه ، ويرتاح بعض الشيء ، ومن ثم يقفل عائداً إلى داخل القصر .
وانتبه الملك إلى وقع أقدام تقترب منه ، إنها ابنته الأميرة حليمة ، هذه خطواتها ، وبالفعل جاءه صوت الأميرة ، تقول : أبي ، ماذا يشغلكَ ؟
فرفع الملك عينيه المتعبتين إليها ، وقال بصوت واهن : ما يشغلكِ أنتِ أيضاً ، يا بنيتي .
وجلست الأميرة إلى جانبه ، وقالت : رأس الأفعى ..
وقال الملك : ابنتي حليمة ..
فتابعت الأميرة قائلة : سيقطع ، يا أبي .
ونظر الملك إليها صامتاً ، فقالت الأميرة : اختر العضلات ، وسترَ .
وابتسم الملك ، وقال : أيتها العقل ..
وقالت الأميرة : كلما كان العدد أقل كان أفضل .
ونهض الملك ، وقال : حددي العدد ، وسأعهد إلى من هو جدير بمثل هذا الاختيار .
ونهضت الأميرة بدورها ، وقالت : ثلاثة ، لا أكثر .
ولاذ الملك بالصمت لحظة ، ثم قال : ليكن ، ثلاثة ، وسنختارهم ، وندربهم ، في أسرع وقت ممكن .

" 7 "
ــــــــــــــــــ
في أول الليل ، دخل رئيس الحرس ، قصر الملك الحارث ، واتجه مباشرة إلى قاعة العرش ، إنه على موعد مع الملك ، لابد أن الأمر غاية في الأهمية ، ترى ماذا يكون الأمر ؟ هذا ما فكر فيه ، منذ أن بلغه به حاجب الملك نفسه .
وفتح الحاجب له باب قاعة العرش ، وهمس له : الملك ينتظرك ، يا سيدي .
ودخل رئيس الحرس قاعة العرش ، وإذا الملك يقف وسط القاعة ، وما إن رآه حتى قال : تعال ، تعال واجلس هنا .
وجلس الملك فوق كرسيّ العرش ، وجلس رئيس الحرس على مقعد قريب منه ، ونظر الملك إليه ، وقال: لديّ لك مهمة خاصة وسرية للغاية ، ويمكن أن تغير مصير دولتنا برمتها .
وقال رئيس الحرس ، وقد بدا عليه الاهتمام الشديد : أنتَ تأمر ، يا مولاي ، وعليّ الطاعة .
وحدق الملك فيه ، وقال : هناك عقبة كأداء أمامنا ، ولكي نبقى كمملكة ، ونتطور ، ونأخذ مدانا ، علينا أن نزيل هذه العقبة .
وتطلع رئيس الحرس إلى الملك صامتاً ، متوجساً ، فقال الملك : المنذر بن ماء السماء .
وتساءل رئيس الحرس : ما له ، المنذر ، يا مولاي ؟
فقال الملك : إنه هو العقبة الكأداء ..
وصمت لحظة ، ثم قال : وعلينا أن نزيل هذه العقبة .
ولاذ رئيس الحرس بالصمت ، وقد ضجت عيناه المذهولتان بشتى الأسئلة ، فقال الملك ، كأنما يجيب على أسئلته : نقتله .
وتعكرت عينا رئيس الحرس ، وقد اختفت منها الأسئلة، وحلّ محلها الذهول والدهشة ، فهو لم يستطع أن يستوعب بعد ، كيفية قتل المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ، الذي لم تستطع جيوش الغساسنة الجرارة الوصول إليه ، وقهره .
وصمت الملك برهة ، ثم قال : إنها مغامرة جسورة ، خطرة للغاية ، ومن سيقوم بها ، يجب أن يتحلى بالقوة والجرأة والذكاء .
وتساءل رئس الحرس : أنا جندي من جنودك ، لكن ما هو دوري في هذه العملية ، يا مولاي .
فقال الملك : بسرية تامة ، اختر ثلاثة أشخاص ، وقم بتدريبهم تدريباً عنيفاً ، لكن لا تخبرهم بطبيعة مهمتهم ، واترك هذا الأمر لي ، وسأخبرهم أنا بطريقتي في الوقت المناسب .

" 8 "
ـــــــــــــــــــــ
منذ أن غادر رئيس الحرس قاعة العرش ، بعد أن التقى بالملك الحارث ، وعرف طبيعة المهمة الموكلة إليه ، وهو يستعرض في مخيلته حرس القصر الملكي ، الذين سبق وأن اختارهم بنفسه ، من بين آلاف الفرسان المقاتلين الأشداء .
المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ، الفارس ، المقاتل ، الجريء ، هو المهمة ، ويا لها من مهمة ، إن الوصول إليه وحده عمل يكاد يكون مستحيلاً ، فكيف والمطلوب هو رأس المنذر نفسه ؟
ترى من يصلح لهذه المهمة ؟
وتوقف رئيس الحرس ، بدون إرادة منه ، عند باب القصر من الداخل ، وهو مازال يتساءل في داخله ، هذه المهمة المستحيلة ، من يصلح لها ؟ من يمكنه أن يحاول انجازها ، ناهيكَ عن النجاح في تنفيذها ، والإجهاز على المنذر بن ماء السماء ؟
وأفاق رئيس الحرس ، على حارس مدجج بالسلاح يقترب منه ، ويتوقف متردداً على مقربة منه ، ويقول : سيدي .
والتفت رئيس الحرس إليه ، وقال : ماذا ؟
فتراجع الحارس قليلاً ، وقال : عفواً سيدي ، رأيتك تتوقف هنا ، منذ فترة طويلة ، وخشيت أن تكون بحاجة إلى شيء ، و .. .
وقاطعه رئيس الحرس بحزم : عد إلى مكانك ، هيا .
وعلى الفور ، مضى الحارس مبتعداً ، فواصل رئيس الحرس سيره ، فاجتاز بوابة القصر ، مواصلاً تفكيره وتساؤلاته ، وتراءى له وجه مجدور ، ثابت النظرات ، فتوقف متمتماً : شمر .
واصل رئيس الحرس سيره ، وعادت التساؤلات تلح عليه ، ولاح له هذه المرة ، وجه على عكس وجه شمر المجدور ، وجه فتيّ ، وسيم ، مشرق ، لا تغيب الابتسامة عنه ، وتوقف ثانية ، وصاح : قيس .
وتلفت حوله ، خشية أن يكون قد سمعه أحد ، فيظن به الظنون ، وواصل سيره ، وهو يقول في نفسه : إنني بحاجة إلى فارس ثالث ، ذكي ، مخطط ، واسع الحيلة ، ترى من يكون هذا الفارس ؟ مهما يكن ، سأجده ، لابدّ أن أجده ، وسيضطلع بهذه المهمة مع شمر وقيس .

" 9 "
ــــــــــــــــــــ
في نفس الوقت الذي حُدد له ، وصل شمر إلى مقرّ قيادة الحرس الملكي ، وسار في ممرات المقر ، دون أن يعترضه أحد ، ودخل الغرفة المحددة للقاء ، وتوقف وسط الغرفة متسائلاً : سبع أم ضبع ؟
وغمز بعينيه ، اللتان كانتا تلمعان ، وسط وجهه الكالح المجدور ، وقال : سبع ، أسد ، ولابدّ أن تكون المهمة مهمة أسود ، وليس ضباعاً .
وفتح الباب ، وأطلّ قيس بوجهه الصبوح ، المبتسم ، فنظر شمر إليه ، وقال : أهلاً بصائد الغزلان .
ودخل قيس مبتسماً ، وقال : أهلاً بكَ شمر .
واقترب شمر منه ، وقال : ما آخر غزال صدته ؟
فردّ قيس : لا يشبهك بالتأكيد .
وهنا فتح الباب ، ودخل عامر ، وما إن وقع نظره على شمر وقيس ، حتى راح يحدق فيهما مفكراً ، مهمهماً : هم م م م .
وقال شمر : جاء الثعلب .
وقال عامر : أنتما قمر .
وبدا التفكير على قيس ، فقال شمر ، دعكَ منه ، هذا الثعلب اللعين ، فأنت الوجه المضيء من القمر ، وأنا الوجه الآخر .
وهمّ عامر أن يتكلم ، حين أطل الحارس من الباب ، وقال : انتبهوا ، جاء رئيس الحرس .
وعلى الفور ، دخل رئيس الحرس ، وجلس في مكانه ، وراح يحدق في شمر وقيس وعامر ، ثم قال : اخترتكم لمهمة خاصة ، صعبة ، تكاد تكون مستحيلة ، قد تدفعون فيها رؤوسكم نفسها ..
وتبادل شمر وقيس وعامر نظرات متسائلة حائرة ، فأضاف رئيس الحرس قائلاً : هذه المهمة تقتضي أولاً السرية التامة ، ومن يفشي منكم سراً من أسرارها ، سيقطع رأسه فوراً ..
وصمت رئيس الحرس ، ثم قال : من يرد الانسحاب منكم فلينسحب الآن ، ولا جناح عليه ، وبعدها لا انسحاب ، فإما النصر أو الموت .

" 10 "
ــــــــــــــــــــــ
أوكل رئيس الحراس ، الضابط الشاب فارس ، لتدريب الفرسان الثلاثة ، شمر وقيس وعامر ، وعمل الضابط فارس على تدريبهم ، كما وجهه رئيس الحرس، دون أن يعرف هو نفسه ، المهمة الخطيرة ، التي يدربهم من أجلها .
وما إن انتهى من تدريبهم ، الذي استغرق عدة أشهر ، حتى أخبرهم ، بأن رئيس الحرس ، يريد أن يراهم يوم غد ، في نفس المكان ، الذي التقى بهم سابقاً .
وتوقع الفرسان الثلاثة ، أن رئيس الحرس ، سيوضح لهم غداً ، وبعد أن أنهوا تدريباتهم ، المهمة الخطيرة ، التي سيوكل لهم تنفيذها .
لكنهم فوجئوا ، حين حضروا في اليوم التالي ، إلى مقر الحرس الملكي ، برئيس الحرس ، الذي كان ينتظرهم في غرفته ، يقول لهم : تهيأوا ، سيأتي الحرس إليكم اليوم ليلاً ، ويأخذكم إلى السجن ؟
وصاح الفرسان الثلاثة مذهولين : السجن ؟
وعبس رئيس الحرس ، وقال : لقد خنتم الوطن ، وعملتم سراً مع المناذرة .
وصاحوا ثلاثتهم بنفس الذهول : نحن !
وقال عامر : سيدي ، هناك أمر لا نفهمه .
وابتسم رئيس الحرس ، وقال : أنت محق .
وتبادل الفرسان الثلاثة نظرات سريعة مندهشة ، فقال رئيس الحرس : ستهربون بعد أيام من السجن ، وتلجؤون إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء .
وهمهم عامر : هم م م م .
فقال رئيس الحرس : وعندها تعدون العدة لتنفيذ المهمة، التي دربناكم من أجل انجازها ..
وصمت رئيس الحرس لحظة ، ثم قال : تصلون إلى المنذر بن ماء السماء ، وتجهزون عليه .
وصمت رئيس الحرس ثانية ، وراح يتأمل الفرسان الثلاثة الواحد بعد الآخر ، ثم قال لهم : قبل أن يأتيكم الحرس عند منتصف الليل ، ليأخذكم إلى السجن ، سيأتي إليكم الملك الحارث نفسه سراً ، ليتحدث إليكم .

" 11 "
ــــــــــــــــــــــــ
في ساعة متـأخرة من الليل ، اندفعت مجموعة من حرس الملك ، يتقدمهم الضابط المدرب ، إلى مأوى الفرسان الثلاثة ، فهبّ الفرسان الثلاثة من أماكنهم ، وقد أدركوا أن موعد لقائهم بالملك قد حان .
وتوقف الضابط المدرب أمامهم ، وقال : قفوا بانتظام ، سيأتي الملك حالاً .
ووقف الفرسان الثلاثة ، الواحد إلى جانب الآخر ، فقال الضابط المدرب : لا ينطق أحدكم بكلمة واحدة ، إلا إذا طلب الملك منكم ذلك .
ووقفوا صامتين جامدين ، وأقبل الملك الحارث ، ومعه فتاة تضع خماراً على وجهها ، وتوقف الملك في مواجهتهم ، وتوقفت الفتاة إلى جانبه ، وراح الملك يتمعن في الفرسان الثلاثة ، ومن وراء نقابها ، راحت الفتاة أيضاً تتمعن فيهم الواحد بعد الآخر .
والتفت الملك إلى الضابط المدرب ، وقال : أيها الضابط، إنهم الآن يعرفون مهمتهم .
فقال الضابط : نعم ، يا مولاي .
ونظر الملك إلى الفرسان الثلاثة ، وقال : نحن ، في مملكتكم العظيمة ، مملكة الغساسنة ، نتطلع إليكم ، ونضع كلّ آمالنا فيكم ، فلا تخيبوا آمالنا .
وكما أوصاهم الضابط المدرب ، لاذوا بالصمت ، ولم ينبس أحدهم بكلمة ، وإن بدا عليهم التأثر ، وأشار الملك الحارث إلى الفتاة ، وقال : ابنتي .. حليمة .
وران صمت عميق ، ولم يند من الفرسان الثلاثة ، ولا من الضابط المدرب ، نأمة واحدة ، وتابع الملك قائلاً : جاءت معي لتودعكم ، وتتمنى لكم النجاح في مهمتكم ، التي ستقرر مصير مملكتنا .
ورفعت الأميرة النقاب عن وجهها ، ووقفت تنظر إليهم مبتسمة مشرقة ، وقالت وهي تلوح بقنينة طيب : هذا طيب خاص لكم ، أنتم فرسان الحيرة ، وسأطيبكم به بنفسي ، فأنتم من ستأتون لنا بالنصر .
ووقف الفرسان الثلاثة فرحين مزهوين ، فمال الملك عليهم ، وقال : لكم بشرى عظيمة عندي ، بعد أن تطيبكم ابنتي الأميرة حليمة بنفسها .
وتقدمت الأميرة حليمة منهم ، وطيبتهم مبتسمة الواحد بعد الآخر ، وحين وصلت شمر ، توقفت تنظر إليه ، وقد اختفت ابتسامتها ، وسرعان ما استدارت ، وتوقفت صامتة إلى جانب أبيها الملك .
ولاحظ الملك ما جرى من ابنته الأميرة ، لكنه تجاهل الأمر ، ومال على الفرسان الثلاثة باشاً ، وقال : لتعلموا جميعا ، أن من يقتل المنذر بن ملك السماء ، ملك المناذرة ، ستكون الأميرة زوجة له .

" 12 "
ـــــــــــــــــــــــ
قبل أن يصل الملك الحارث ، وابنته الأميرة حليمة ، إلى القصر الملكي ، انقض مجموعة من الحرس يتقدمهم الضابط المدرب ، على الفرسان الثلاثة ، واقتادوهم مخفورين إلى السجن .
لم يفاجأ الفرسان الثلاثة بما جرى لهم ، فهم يعرفون أن هذا الأمر ، هو جزء من الخطة ، التي رسمها الملك الحارث لهم ، لعلها توصلهم إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، والإجهاز عليه .
وجاءهم الضابط المدرب ، تحيط به ثلة من الحراس ، وراح يُؤنبهم ، ويتوعدهم قائلاً : هذا البلد الذي أنبتكم ورعاكم ، تخونونه ، ومع من ؟ مع المنذر ملك أعدائنا ، الويل لكم ، لن يسامحكم الملك الحارث ، وسينزل بكم أشد العقاب ، عاجلاً وليس آجلاً .
وفي هذه الحالة ، لم يكن أمامهم ـ وهذا ما خطط لهم ـ إلا الهرب ، واللجوء إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، وهذا ما فعلوه ، وبغفلة من الحراس ـ وهذا أيضاً خطط لهم ـ تسللوا من السجن ، ولاذوا بالفرار .
وحين علم الملك الحارث ، بهروب السجناء الثلاثة من السجن ، استشاط غضباً ، وأمر أن يُحقق في الأمر فوراً، هذا ما رآه الحرس ، والخدم ، والجواري ، ورووه للآخرين خارج القصر .
وبأمر من رئيس الحرس ، انطلق الضابط المدرب ، على رأس ثلة من الحرس المدججين بالسلاح ، وطوال ساعات الليل ، ظلوا يبحثون عن الفرسان الثلاثة ، الذين هربوا من السجن ، دون جدوى .
وفي اليوم التالي ، كان جميع من في مدينة الحيرة ، قد علموا ، أن السجناء الثلاثة ، الذين هربوا من السجن ، كانوا من عملاء ملك الأعداء ، المنذر بن ماء السماء ، وأنهم ربما سيلوذون به .

" 13 "
ـــــــــــــــــــــــ
حتى قبل أن يقع الفرسان الثلاثة ، وهم في أسوأ حال، بيد المناذرة ، بدأت أنباء متواترة ، تصل إليهم ، حتى وصلت الملك نفسه ، بأن ثلاثة فرسان متهمون بالتعاون مع ملك المناذرة ، فروا من السجن ، وجُند ملك الغساسنة ، يجدون في أثرهم ، دون جدوى .
وأمر ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، بعض فرسانه بالانتشار قريباً من حدود الغساسنة ، والبحث عن هؤلاء الفرسان الثلاثة ، والإتيان بهم مباشرة ، إذا وقعوا في أيديهم .
وذات مساء ، والملك المنذر بن ماء السماء ، يجلس في قاعة العرش ، ومعه مستشاره العجوز ، دخل عليه الحاجب ، وقال : مولاي ، فارس جاء بخبر هام .
فقال الملك : أدخله .
وعلى الفور ، أدخل الفارس ، فانحنى للملك ، وقال : مولاي ، سجناء الملك الحارث ، وقعوا في أيدينا ، وهم الآن في السجن .
ونظر الملك إلى مستشاره العجوز ، وقال : هؤلاء السجناء الثلاثة ، سيكونون عوناً لنا ، في حربنا المستمرة مع المناذرة .
وعلى عادته المعروفة ، لاذ المستشار العجوز بالصمت ملياً ، ثم قال بصوته الشائخ : هذا ممكن ، يا مولاي ، لكن الأفضل أن نتروى .
وتطلع الملك إليه متسائلاً ، فتابع المستشار العجوز بصوته الشائخ : ليبقوا في السجن معززين مكرمين ، يا مولاي ، ولنحقق معهم ، ونقف على حقيقتهم .
فقال الملك : هؤلاء السجناء هربوا من سجن الحارث ، وأنت تعرف الحارث .
فقال المستشار العجوز : أعرفه ، يا مولاي ، ولا بأس أن نعرف هؤلاء السجناء الثلاثة على حقيقتهم ، ثم نتعاون معهم بما يخدم حربنا مع الحارث .
وصمت لحظة ، ثم قال : لن نخسر شيئاً ، يا مولاي ، إذا استضفناهم في السجن عدة أيام ، ثم نطلق سراحهم معززين مكرمين ، ونضعهم في المكان الذي يستحقونه، بعد التأكد من حقيقتهم .

" 14 "
ـــــــــــــــــــــــ
أجريت تحقيقات مع الفرسان الثلاثة ، وهم في السجن، وأعيدت التحقيقات أكثر من مرة ، بصورة مباشرة وغير مباشرة ، حتى اطمأن الجميع إليهم ، عدا المستشار العجوز ، الذي لم تزايله الشكوك تماماً .
وأبلغ الملك المنذر بن ماء السماء بنتائج التحقيقات ، بحضور المستشار العجوز ، فابتسم الملك ، وتطلع إلى المستشار العجوز ، وقال : حتى العمر لم يؤثر في حذرك ، وشكوكك المعهودة .
وقال المستشار العجوز : الشكوك ، يا مولاي ، يجب أن تزداد مع الزمن ، لا أن تقلّ ، إنّ عدونا الحارث غدّار ، وعلينا أن نحذره تماماً .
وقال الملك المنذر بن ماء السماء : أنت محقّ ، لكن هؤلاء الفرسان الثلاثة ، خرجوا على ملكهم ، ولجأوا إلينا ، وعلينا أن لا نخذلهم .
فقال المستشار العجوز : نعم ، ولكن علينا أن لا نغمض عيوننا ، مهما كان السبب .
وأخرج الفرسان الثلاثة من السجن ، وأسكنوا مؤقتاً في بيت قريب من القصر ، يقع بين بيوت بعض العاملين في قصر الملك المنذر بن ماء السماء .
والتقى الملك المنذر ، أكثر من مرة ، بالفرسان الثلاثة ، بحضور المستشار العجوز ، ووجود حراس مدججين بالسلاح خارج القصر .
وخلال هذه المدة ، راح الفرسان الثلاثة ، وعلى رأسهم شمر ، يدرسون ما يحيط بهم ، من بيوت ، وشوارع ، وحدائق ، وعاملين في القصر .
وعند استقبالهم من قبل الملك والمستشار العجوز ، في قصر الملك ،حاولوا أن يعرفوا غرف القصر ، وقاعاته، وممراته ، ومخدع الملك نفسه .
وذات مرة ، همس عامر لقيس ، وقد رأى عينيه تطاردان خلسة إحدى جواري القصر : يا صائد الغزلان، اصطد هذه الغزالة .
وعن طريق هذه الغزالة ، عرف الفرسان الثلاثة ، الكثير من عادات الملك المنذر بن ماء السماء داخل القصر ، ومنها أنه يلجأ وحده ليلاً إلى قاعة العرش ، ويبقى فيها ، حتى ساعة متأخرة من الليل .

" 15 "
ــــــــــــــــــــــــ
تلك الغزالة ، التي اصطادها قيس في القصر ، والتي عرف من خلالها الكثير ، كان اسمها سلوى ، ووقتها حذره شمر قائلاً : حذار من غزلان القصر .
فقال قيس : لا تخف عليّ ، إنني حذر .
وقال شمر : لا تنسَ ، يا قيس ، ليس هدفنا قلب امرأة ، وإنما رأس المنذر .
وغمز قيس لعامر ، وقال : عامر يعرف ، أنك إذا أردت أن تصل إلى رأس رجل ، فتسلل إليه عن طريق قلب امرأة ، وهذا ما أفعله .
وابتسم عامر ، وقال : شمر ، لا تخف على قيس ، إنه يتسلل في الطريق الصحيح .
وذات يوم ، اختلى قيس بسلوى ، وقال لها مازحاً : غزالتي .. سلوى ..
ونظرت سلوى إليه مبتسمة ، وقالت : شبيك لبيك .. سلوى بين يديك .
وقال قيس : أريد أن أجلس على العرش .
وفغرت سلوى فاها ، وقالت : ماذا !
وقال قيس : ما سمعته .
فقالت سلوى : العرش نار .
وقال قيس : ليكن مادمت معي .
وقالت سلوى : عندئذ سنحترق معاً .
وصمت قيس لحظة ، وعيناه متعلقتان بعينيها ، ثم قال : حسن ، بدل أن أحترق ، حدثيني كلّ يوم عن قاعة العرش ، أريد أن أدخلها في خيالي .
وتساءلت سلوى : وحتى والملك فيها ليلاً .
فتظاهر قيس بالخوف ، وقال : لا ، يا سلوى ، حذريني، قولي لي ، الملك المنذر بن ماء السماء اليوم في قاعة العرش ، حتى لا أدخل فيها ، في خيالي .
وصمت قيس برهة طويلة ، ثمّ تنهد ، وقال : سلوى ..
ردت سلوى : نعم .
وقال قيس : حدثيني عن هذه القاعة ، حتى لا أضل فيها، وأنا أدخلها ليلاً في خيالي .
ولاذت سلوى بالصمت لحظة ، ثم قالت : هذه القاعة ، هي قاعة العرش ، ولا يدخلها بغياب الملك أحد ، لا ليلاً ولا نهاراً ، عداي طبعاً .
وتساءل قيس مازحاً : وتجلسين على العرش ؟
فردت سلوى : لا ، أنظفه فقط .
وقال قيس : ليتني أستطيع أن أرى الملك ، ولو في خيالي ، وهو يجلس على العرش .
وتلفتت سلوى حولها ، ثم قالت : عندما يأتي الملك إلى قاعة العرش مرة في الليل ، سأخبرك .
وتهلل وجه قيس ، وقال لها ، وهو يعانقها : ستكون ليلة العمر ، سلوى .
وانسحبت سلوى من بين ذراعيه ، وقد احمرّت وجنتاها، فقال قيس : لن أدخل قاعة العرش في خيالي ، إلا وأنتِ معي ، يا سلوى .

" 16 "
ــــــــــــــــــــــــ
عادت سلوى ليلاً إلى بيتها ، القريب من بيت الفرسان الثلاثة ، وقبل أن تصل إلى بيتها ، توقف برهة ، ثم استدارت واتجهت إلى بيت الفرسان الثلاثة .
ودارت حول البيت ، وطرقت الشباك ثلاث طرقات ، ولأن قيس يعرف طرقاتها ، هبّ من مكانه ، وفتح الشباك ، إنها سلوى فعلاً ، فمال عليها ، وقال بوله : غزالتي ، غزالتي الحبيبة .
وابتسمت سلوى ، وقد غمرها الفرح ، وقالت : أردتك أن تحلم الليلة ..
فقاطعها قيس قائلاً : إنني أحلم بكِ دائما ً .
فقالت سلوى ضاحكة : ليس بي دائماً ، وإنما ..
وتساءل قيس مفكراً : وإنما .. ؟
وكفت سلوى عن الضحك ، وقالت : العرش .
وفغر قيس فاه ، فمالت سلوى عليه ، وقالت : أرجو أن تكتفي اليوم بغزالتك .. سلوى .
واتسعت عينا قيس ، وقال : أتعنين .. ؟
فقالت سلوى ، وهي تبتعد مسرعة : نعم ، الملك في قاعة العرش الآن .
وأغلق قيس الشباك ، وأسرع إلى غرفة شمر ، ودفع الباب دون أن يطرق الباب ، وإذا شمر متمدد في فراشه، وقد أغمض عينيه المتعبتين ، فصاح قيس بصوت خافت : شمر .
وفتح شمر عينيه الناعستين ، وقال : خيراً ؟
فقال قيس ، والكلمات تتدفق من بين شفتيه منفعلة : مرت غزالتي سلوى بي الآن ، وأخبرتني أنّ الغراب في القفص .
وهبّ شمر من مكانه ، وقد طار النعاس من عينيه ، وهو يقول : حانت ساعة العمر ، أسرع إلى الثعلب عامر ، وقل له أن يتهيأ .
وعلى جناح السرعة ، تهيأ الفرسان الثلاثة ، وتسللوا كأشباح الليل تحت جنح الظلام ، إلى قصر ملك المناذرة، المنذر بن ماء السماء .

" 17 "
ـــــــــــــــــــــــ
تسلل الفرسان الثلاثة ، كما لو كانوا أشباح الليل ، إلى حدائق القصر الملكي ، ويبدو أن القمر كان متحالفاً معهم ، فقد توارى وراء الغيوم الثقيلة السوداء ، التي راحت العواصف تتقاذفها في أعالي السماء .
ودون أن يلمحهم أحد من حراس القصر ، ووسط جنون الطبيعة ، من رياح عاصفة وبروق وتفجر رعود مجنونة كتفجر حمم البراكين ، توغلوا في أعماق الحدائق الممتدة على مساحة واسعة من الأرض ، حتى بلغوا أشجاراً كثيفة ، تقع وراء القصر .
وتوقف أشباح الليل ، الفرسان الثلاثة ، وسط الظلام التام ، وتشاوروا فيما بينهم ، وسرعان ما توارى قيس وعامر بين الأشجار الكثيفة ، وانسل شمر بخفة قط أسود ، وخنجره القاتل في وسطه ، وعالج شباكاً صغيرا حتى فتحه ، ومضى عبره إلى داخل القصر .
وأسرع كالشبح في ممرات القصر ، لا يُرى وكأنه يضع طاقية الإخفاء على رأسه ، حتى وصل قاعة العرش ، وتوقف أمام أحد الشبابيك ، ثم عالجه بخفة ودراية ، دون أن يصدر عنه أي صوت ملفت ، حتى فتحه .
وعبر هذا الشباك ، انسلّ شمر إلى داخل قاعة العرش ، وعلى ضوء قناديل القاعة ، رأى بغيته ، المنذر بن ماء السماء ، وتراءت له ، عبر الظلام ، الأميرة حليمة ، تمدّ يديها الملكيتين له ، فاستلّ خنجره ، وتقدم بخطوات سريعة ، وثابتة : نحو الملكِ .
وأحسّ الملك المنذر بن ماء السماء به ، فالتفت إليه بسرعة ، وهمّ بمواجهته ، لكن شمر وثب عليه كالوحش الكاسر ، وأطبق على فمه بكفه الصلبة كالصخر ، وعاجله بطعنة من خنجره في صدره .
وترنح الملك ، وتهاوى متوجعاً ، وتمتم بصوت تخنقه الدماء : شمر ! أيها اللعين .. الغادر .
وبنفس قوة الطعنة الأولى ، طعنه شمر ثانية ، وهو يقول : هذه ليست يدي فقط ، وإنما أيضاً يد الحارث .
وتهاوى المنذر بن ماء السماء على الأرض ، مضرجاً بدمائه ، وتمتم بصوت يحتضر : الويل لك .. يا شمر .. لن تفلت .. حتى لو ذهبت .. إلى آخر الدنيا .

" 18 "
ـــــــــــــــــــــــ
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي ، دخلت سلوى كالعادة إلى قاعة العرش ، لتتأكد من نظافتها ، وحسن ترتيب آثاثها ، وفوجئت بالملك المنذر بن ماء السماء ، ملقى على الأرض ، مضرجاً بدمائه .
وعلى الفور ، أسرعت إلى رئيس الحرس ، وأخبرته بالأمر ، فأسرع ، هو وثلة من حرس القصر ، ودخلوا قاعة العرش ، وكما أبلغته سلوى ، رأى رئيس الحرس الملك على الأرض ، جثة هامدة .
وسرعان ما انتشر خبر مصرع المنذر بن ماء السماء في القصر ، وفي دائرة المقربين منه في خارج القصر أيضاً ، ومنهم المستشار العجوز ، والتفوا حول الجثة المدماة ، وراحوا يتشاورون في الأمر .
وتساءل أحد الأمراء : ترى من القاتل ؟
وتطلع المستشار العجوز إليه ، وقال : ما أخشاه أن يكون هؤلاء الفرسان الثلاثة ، الذين لجأوا إلينا ، هم من اقترف هذه الجريمة .
فقال رئيس الحراس : فلنتأكد من الأمر .
وقال المستشار العجوز : اذهبوا إلى بيتهم الآن .
وعلى الفور ، أسرع رئيس الحرس ، على رأس ثلة من الحرس المدججين بالسلاح ، إلى بيت الفرسان الثلاثة ، وسرعان ما عاد إلى قاعة العرش ، وقال للمستشار العجوز : تخمينك كان في محله ، لقد هرب الفرسان الثلاثة من البيت .
وهزّ المستشار العجوز رأسه ، وقال : هذا ما حذرت منه ، العدو عدو ، ولن يكون صديقاً .
ونظر إلى رئيس الحرس ، وقال : الجريمة وقعت ، وخسرنا ما لن يتم تعويضه ، والمهم الآن أن لا يفلت الجناة من أيدينا .
ورفع رأسه ، وأضاف قائلاً : بل لن يفلت من كان وراءهم ، وسننزل بهم العقاب ، الذي يستحقونه .

" 19 "
ــــــــــــــــــــــــ
على الطرف الآخر ، أقام الملك الحارث ، ملك الغساسنة ، وليمة كبيرة على شرف الفرسان الثلاثة ، الذين حققوا ما عجزت الجيوش الجرارة عن تحقيقه ، وأجهزوا على رأس أعدائهم ، ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء .
وفي صدر الوليمة الباذخة ، جلس الحارث فرحاً مزهواً، وجلس على مقربة منه الفرسان الثلاثة ، فرحين بما حققوه ، يختالون بالملابس الفاخرة الجميلة ، التي خلعها عليهم الملك الحارث .
وقبل البدء بالوليمة ، وقف الملك الحارث ، وحوله وقف الفرسان الثلاثة ، شمر وقيس وعامر ، وتطلع إلى الحاضرين ، وقد غمره الفرح ، وقال : انظروا ، هؤلاء الفرسان الثلاثة ، هم نحن الغساسنة ، وباسمنا جميعاً ، وبأذرعنا القوية ، أجهزوا على ملك الأعداء ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء .
وصمت لحظة ، ثم قال : لقد أنزل هؤلاء الثلاثة ، ضربة قاصمة بالمناذرة ، حتى لن يقووا ، لا الآن ولا في المستقبل ، على مواجهتنا ، صحيح أنهم بعد مقتل المنذر ، جيشوا جيشاً ، وجهوه للانتقام لملكهم ، لكننا بدورنا أعددنا قوة ، ستتصدى لهم قريباً ، وتسحقهم .
ثم التفت إلى الفرسان الثلاثة ، وقال : أنتم أديتم واجبكم، وقد حان لأن يتم رفاقكم ما بدأتموه .
والتفت الملك إلى الضيوف ، وأشار إلى موائد الوليمة ، المثقلة بالطعام والشراب ، وقال : تفضلوا ، واشكروا الأبطال الثلاثة ، فهذه الوليمة تقام على شرفهم ، لما حققوه من انجاز عظيم .
وانهمك الجميع في الطعام والشراب ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، وعندئذ نهض الملك ، متهيئاً للانصراف ، ومعه نهض الجميع ، والتفت الملك إلى شمر ، وقال : تعال يا شمر .
وعلى الفور ، اقترب شمر منه ، وقال : مولاي .
فمال عليه الملك ، وقال بصوت هامس : الأميرة حليمة، تنتظرك صباح الغد ، ستراك أنت وحدكَ .
وانحنى شمر ، وقد غمره الفرح ، وقال : أشكرك ، يا مولاي ، أشكرك .

" 20 "
ــــــــــــــــــــــــ
قبيل منتصف النهار ، كانت أم شمر تسير متوكئة على عكازها ، مقتربة من قصر الملك ، قصر الحارث، ملك الغساسنة .
ورآها الحراس مقبلة ببطء ، فأسرع أحدهم إلى الداخل ، وأخبر الوصيفة ، التي جاءت أمس إلى البيت ، وطلبت منها أن تأتي للقاء الأميرة في القصر .
وأقبلت الوصيفة مسرعة ، واستقبلت أم شمر عند مدخل القصر ، وقالت باشة : أهلاً ومرحباً أم شمر ، تفضلي ، إلى الداخل ، تفضلي .
وتوقفت أم شمر لاهثة ، وقالت : أهلاً بكِ .
وخطت الوصيفة تتقدمها ، إلى مدخل القصر ، وهي تقول : تفضلي ، الأميرة في غرفتها ، تنتظركِ .
ودخلت الوصيفة بأم شمر ، إلى داخل القصر ، وسارت بها ببطء حتى وصلت غرفة ، ذات باب كبير مرتفع ، يقف على جانبيه حارسان مدججان بالسلاح ، وتوقفت الوصيفة ، وقالت : هذه هي غرفة الأميرة ، إنها تنتظركِ في الداخل ، تفضلي ادخلي .
ودفع أحد الحارسين الباب برفق ، ودخلت الوصيفة ، وفي أثرها دخلت أم شمر ، ونهضت الأميرة باشة ، فقالت الوصيفة : مولاتي ، أم شمر .
فقالت الأميرة : اخرجي أنتِ ، وأغلقي الباب .
وتراجعت الوصيفة ، ثم خرجت وقالت وهي تغلق الباب: أمر مولاتي .
والتفتت الأميرة إلى أم شمر ، وقالت : أهلاً أم شمر ، أهلاً بأم بطلنا الخالد .. شمر .
ولاذت أم شمر بالصمت ، فقالت الأميرة ، وهي تشير إلى مقعد قريب : تفضلي اجلسي ، يا أم شمر .
وردت أم شمر بصوتها الواهن الشائخ : أشكركِ ، إنني أفضل البقاء واقفة .
وقالت الأميرة ، وهي تجلس في مكانها : أردتكِ أن ترتاحي ، لكن .. كما تشائين .
وحدقت فيها لحظة ، ثم قالت : أرسلتُ إليكِ ، لتتفضلي إلى القصر ، فأقول لكِ ، إن الملك ، إكراماً لشمر ، وتضحياته العظيمة ، خصص لكِ بيتاً مناسباً ، يليق بكِ وبابنك البطل شمر ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : كما خصص لكِ راتباً شهرياً مجزياً ، فأنت أم البطل .
ولاذت أم شمر بالصمت برهة ، ثم قالت بصوتها الواهن الشائخ : شكراً للملك الحارث ، على التفاتته الكريمة ، لكني أفضل البقاء في بيتي الصغير ، القديم ، الذي ولد فيه ابني شمر ، وعاش فيه عمره .. القصير .
ونهضت الأميرة ، واقتربت من أم شمر ، وقالت : ابنك شمر ، هو واحد من أبناء هذا الشعب ، ابن الوطن الغالي ، افتدى بحياته شعبه ووطنه ومليكه ، وقتل من أجل هذا كله ، على أيدي أعدائنا المناذرة ، وملكهم الهالك المنذر بن ماء السماء .
ورفعت أم شمر عينيها ، اللتين دبت فيهما شعلة غريبة متوهجة ، وقالت : مولاتي ، لا تغضبي مني ، إنني أم ، شمر ابني ..
وحدقت الأميرة فيها صامتة ، فقالت أم شمر : صحيح أن ابني شمر .. مات بسيوف المناذرة .. لكن .. في الحقيقة .. أنتِ قتلته .
وشهقت الأميرة مستنكرة : أنا !
فتابعت أم شمر قائلة : أنتِ دفعته إلى الموتِ ..
وصمتت أم شمر لحظة ، ثم قالت : عندما عاد من لقائه معكِ ، كان محبطاً ، ممروراً ، يائساً ، فقرر أن لا يبقى، ويعود إلى ساحة القتال .
وبصوت متردد ، غير واثق ، قالت الأميرة : عاد ليقاتل حتى النصر النهائي .
فقالت أم شمر : بل عاد ليموت ، وقد مات فعلاً .
وتهاوت الأميرة جالسة في مكانها ، دون أن تنبس بكلمة واحدة ، وقد اربدّ وجهها ، فاستدارت أم شمر ، واتجهت إلى الخارج بخطواتها البطيئة ، متوكئة على عكازها وشيخوختها الواهنة .


20 / 3 / 2018





إشارات
ــــــــــــــــــــــــــ

المناذرة : سلالة عربية ، حكموا العراق قبل الإسلام ، وكانوا حلفاء الرومان أول الأمر ، ثم تحالفوا مع الفرس .

الغساسنة : سلالة عربية ، أسست مملكة في الشام ، ضمن حدود الإمبراطورية البيزنطية ، قبل الإسلام ، هاجروا في أوائل القرن الثالث من اليمن ، بعد انهيار سد مأرب .














بدر البدور












" 1 "
ـــــــــــــــــــ

بعد يوم طويل متعب ، قضّاه الملك في إدارة شؤون المملكة ، مع الوزير وقائد الجند وقاضي القضاة ، عاد متعباً إلى القصر .
وعلى غير العادة ، لم يرَ الملكة تسرع لاستقباله خارج جناحهما ، وخفق قلبه خشية أن تكون متعبة أو مريضة ، فهي منذ بضعة أيام ليست على ما يرام ، وكلما سألها: ما الأمر ، يا عزيزتي ؟
تقول مُحاولة أن تطمئنه : لا شيء ، يا مولاي .
وأقبلت عليه وصيفة الملكة ، عند باب الجناح ، وانحنت له ، وقالت : مولاي ..
وتوقف الملك متسائلاً : أين الملكة ؟
فردت الوصيفة بصوت خافت : جلالة الملكة في جناحها، يا مولاي .
وحدق الملك فيها ملياً ، ثم قال : أنتِ وصيفتها ، وعادة تكونين معها.
فقالت الوصيفة بصوتها الخافت : جلالة الملكة صرفتني منذ قليل ، يا مولاي ، وطلبت مني أن أبقى خارج الجناح ، فقد أرادت أن تكون وحدها .
وقبل أن تنتهي الوصيفة من كلامها ، مضى الملك عنها مسرعاً ، ودخل إلى الجناح ، واتجه مباشرة إلى غرفة الملكة .
وفوجئ الملك بالملكة تقف جامدة قرب النافذة ، تتطلع إلى حديقة القصر ، فأسرع إليها ، وهو يقول : لن أسألك ما الأمر ؟ لأني أعرف الردّ .
والتفتت الملكة إليه متنهدة ، دون أن تتفوه بكلم ، فقال الملك : من عادتك أن تستقبليني بباب القصر ، فتزيلي بحفاوتك وابتسامتك تعبي وهمومي .
وبدل أن تعتذر مازحة ، وتبتسم على عادتها ، قالت بصوت تخنقه الدموع : مولاي .
وسكتت مغالبة دموعها ، فأخذها بين ذراعيه ، وقال : حبيبتي ، أنت وحدك كلّ حياتي .
وانسلت برفق من بين ذراعيه ، وقالت : لن يكون لك مني .. ولياّ للعهد .
ومال الملك عليها ، وقال : ولمَ العجلة ..؟
وقاطعته الملكة بصوت باكٍ : لقد مرّ على زواجنا حوالي خمس سنوات .
وقال الملك بصوت هادئ : لننتظر ، نحن مازلنا في مقتبل العمر .
وهزت الملكة رأسها ، وقالت : لقد حاولت كثيراً ، لكن لا فائدة ، مولاي ، لا خيار ..
وقاطعها الملك قائلاً : هذا مستحيل .
وقالت الملكة من بين دموعها : لا ، يجب أن يكون لك ولي عهد ، وما دمت قد عجزت عن ..
ومرة أخرى ، أخذها الملك بين ذراعيه مربّتاً على ظهرها ، فقالت الملكة بصوت تبلله الدموع : يجب أن .. تتزوج .

" 2 "
ــــــــــــــــــــ

في صباح اليوم التالي ، وبعد انصراف الملك إلى شؤون المملكة ، أرسلت الملكة الوصيفة إلى أختها ، لتذهبا معاً إلى الساحرة العجوز ، التي تعيش وحيدة ، في كوخ منعزل ، وسط الغابة .
وعادت الوصيفة وحدها بعد قليل ، وقبل أن تنطق بكلمة، قالت الملكة متضايقة : يبدو أن أختي لا تريد أن تأتي معنا إلى الساحرة العجوز .
فقالت الوصيفة : مولاتي نور الزمان تعتذر ، وتقول إنها متعبة جداً .
واتجهت الملكة إلى الخارج ، وهي تقول : هذا شأنها ، تعالي نذهب أنا وأنت ، هيا .
وسارت الوصيفة في أثر الملكة ، وقالت : لقد أعدّ السائس لنا حصانين قويين ، وهو يقف الآن بانتظارنا بباب القصر .
وما إن رأى السائس الملكة مقبلة ، ومن ورائها الوصيفة، تقدم بالحصانين ، وقال مخاطباً الملكة : مولاتي ، سأرافقكما إذا أردت .
وامتطت الملكة الحصان ، وقالت : لا ، أشكرك ، سترافقني وصيفتي .
وانطلقت الملكة على حصانها ، والوصيفة على حصانها تنطلق في أثرها ، حتى عبرتا بوابة المدينة ، ومضتا بشيء من السرعة نحو الغابة .
وتباطأتا على حصانيها ، حين دخلتا الغابة ، وتوغلتا بين الأشجار المتكاثفة ، وأخيراً لاح كوخ الساحرة العجوز ، يربض وسط أجمة كثيفة الأشجار .
وتوقفت الملكة أمام باب الكوخ ، وترجلت عن الحصان، وقالت لوصيفتها : أطرقي الباب .
وترجلت الوصيفة عن حصانها مسرعة ، وهي تقول : أمر مولاتي .
وتقدمت من الكوخ ، وطرقت الباب ، و وقفت جانبا ، وهي تنصت ، ثم قالت : إنها قادمة .
وفتح باب الكوخ بهدوء ، وأطلت الساحرة العجوز ، أشبه بهيكل عظمي ، محنية الظهر ، تتوكأ على عكاز غريب الشكل ، فمالت عليها الوصيفة ، وقالت : أيتها الجدة ..
وأشارت لها الساحرة العجوز أن تسكت ، دون أن تنظر إليها ، فسكتت على الفور ، وتطلعت الساحرة العجوز إلى الملكة ، وقالت : عرفت أنك ستأتين .
وتنحت قليلاً ، وقالت : تفضلي ، يا جلالة الملكة .
ودخلت الملكة الكوخ متخوفة ، وهي تقول : أردتُ أن تأتيَ أختي معي ، لكنها ..
وقاطعتها الساحرة العجوز : أختك مثلك ، لكنها ليست مثلك ..
ونظرت الملكة إليها ، فقالت : إنها لا تؤمن بقدراتي ، ولا تصدق ما أتنبأ به .
ودخلت الوصيفة في أثر الملكة ، فأغلقت الساحرة العجوز الباب ، وقالت : الكوخ مظلم ، وهذا لا يهمني كثيراً ، فأنا لا أكاد أرى .
ونظرت الملكة إلى الساحرة العجوز ، وقالت : أيتها الجدة ، جئتك لأمر هام ، وأتمنى ..
وقاطعتها الساحرة العجوز ، وهي تغمض عينيها الكليلتين ، وقالت : أعرف لماذا جئتِ ..
ورفعت رأسها ، دون أن تفتح عينيها ، وأضافت بصوت مرتعش : أختك .. التي لم تأتِ ..
وقالت الملكة : إنها مثلي .
وتابعت الساحرة العجوز قائلة بنفس الصوت المرتعش : سيكون لها طفل .
وقالت الملكة بصوت مضطرب : وأنا ؟
وأطرقت الساحرة العجوز رأسها ، وقالت : صبراً .. أيتها الملكة .. صبراً .. صبراً .. لن تبقي محرومة من الطفل .
وصاحت الملكة بنفاد صبر : متى .. متى ؟
وارتعشت الساحرة العجوز ، كأنه شجرة شائخة ، تضربها عاصفة ثلجية عنيفة ، ثم تراجعت ، وارتمت فوق سريرها ، كأنها جثة هامدة .
وانحت الملكة عليها ، وقالت : أيتها الجدة .
وردت الساحرة العجوز بصوت شبه ميت ، دون أن تتحرك : أيتها الملكة .. قلتُ ما عندي ..
وتنهدت بصوت كالأنين ، ثم أضافت قائلة : إنني متعبة.. اذهبي .. أريد أن أنام .

" 3 "
ـــــــــــــــــــ

في أعماقها ، شعرت الملكة ببذرة صغيرة تتخلق ، لكن في أعمق أعماقها ، التي جففها اليأس ، لم تشعر بتلك البذرة بتاتاً .
أما أختها ، الأميرة نور الزمان ، ورغم فتور مشاعرها تجاه الساحرة العجوز ، وما تتنبأ به ، شعرت بفرحة تدغدغ قلبها ، وتمنت من كلّ قلبها ، أن تتحقق نبوءة الساحرة العجوز .
ومرت أيام وأسابيع وشهور ، وكاد اليأس يغلب الملكة وأختها نور الزمان ، وإذا بالأمل ينبثق فجأة ، فقد أفاقت الأميرة نور الزمان مبكرة ، ذات صباح ، وقالت لزوجها الأمير : إنني حامل .
وقهقه الأمير ضاحكاً من لهجتها ، وقال : يبدو أنك رأيتِ هذا في المنام .
فقالت الأميرة نور الزمان : نعم ، لقد جاءتني في المنام.. الساحرة العجوز .
وكفّ الأمير عن الضحك ، وقال : أنتِ لم تري هذه الساحرة من قبل .
وردت الأميرة نور الزمان قائلة : هذا صحيح ، لكن حين جاءتني في المنام عرفتها على الفور .
ثم نظرت إلى الأمير ، وقالت : إنني حامل ، يا عزيزي، وسترى .
وقد رأى الأمير ذلك ، وتأكد منه ، خلال أيام قلائل ، بعد أن زارت نساء خبيرات بالحمل والولادة ، الأميرة نور الزمان وأكدن لها ، بأنها حامل فعلاً .
وبقدر ما فرحت الأميرة نور الزمان وزوجها الأمير بهذا الأمر ، فرح الملك والملكة ، فقد راود الملكة الأمل في أن تتحقق نبوءة الساحرة العجوز ، وتحمل هي أيضاً، كما حملت أختها نور الزمان .
ومرت الأيام والأسابيع والأشهر ، رخاء هذه المرة ، والنفوس مفعمة بالأمل ، وفي الموعد المحدد ، عمت الفرحة الجميع ، وفي مقدمتهم الملك والملكة ، فقد وضعت الأميرة نور الزمان طفلاً جميلاً ، أسموه .. مهران .
ولم تدم الفرحة طويلاً ، فقد ذهب الأمير ، على رأس جيش من الفرسان الشجعان ، لصد عدوان قام به الأعداء على أحد الثغور ، ودحرهم وألحق بهم شرّ هزيمة ، لكن يد الغدر والانتقام طالته بسهم مسموم ، لم يمهله طويلاً ، فرحل دون أن يهنأ بطفله الصغير .. مهران .
وعمّ الحزن المملكة هذه المرة ، رغم ما تحقق من انتصار ساحق على الأعداء ، فقد كان ثمن هذا الانتصار غالياً جداً .
وانكب الملك والملكة على الأميرة نور الزمان وابنها الأمير الصغير .. مهران ، وراحا يرعيانه كما لو كان ابنهما فعلاً ، مما خفف من هموم وأحزان الأميرة نور الزمان .
" 4 "
ـــــــــــــــــــ

لم يكد عُمر الأمير الصغير مهران ، يقترب من السنوات الثلاث بشهر أو شهرين ، حتى شعرت الملكة بحياة جديدة تتخلق في أعماقها .
ورغم فرحها الغامر ، لم تخبر الملك بشعورها ذاك ، حتى أرسلت سراً ، إلى العديد من النساء الخبيرات المجربات ، فأكدن لها جميعاً أن شعورها له ما يبرره ، وأن طفلها المنتظر لن يتأخر طويلاً .
وغمر الفرح الجميع ، وفي مقدمتهم الملك ، وكذلك أختها الأميرة نور الزمان ، وطالما همست لأختها الملكة: أريد ابن عم لابني الأمير مهران .
فكانت الملكة تجيبها فرحة : هذا ما أريده أنا أيضاً .
لكن بدل ابن العم ، جاء للأمير مهران ، بعد أشهر تسعة، ابنة عم ، ففي ليلة ربيع دافئة ، القمر فيها سطع بدراً وسط السماء ، ولدت الملكة طفلة جميلة ، وما إن رأتها الأميرة نور الزمان ، حتى هتفت فرحة : يا لله ، إنها كالبدر .
وأقبل الملك فرحاً ، وأخذ الطفلة بين يديه ، وراح يتأملها، وقال : آه إنها كالبدر .
فقالت الملكة : لنسمها إذن .. بدر البدور .
وضحك الملك فرحاً وقال : بدر البدور ، اسم جميل يليق بها ، ليكن اسمها إذن بدر البدور .
وبمجيء بدر البدور ، راحت الأيام والأسابيع والأشهر تمر رخاء ، لا يكاد أحد يشعر بمرورها ، وكما الزهرة، أخذت بدر البدور تنمو ، وتتفتح ، وتنشر عطرها وجمالها على من حولها .
وبقدر تعلقها بأمها الملكة ، وأبيها الملك ، تعلقت بخالتها الأميرة نور الزمان ، وكذلك بابن عمها ، الأمير مهران، الذي غدت مع الأيام لا تكاد تفارقه .
وكبر الأمير مهران ، وإلى جانبه كبرت الأميرة بدر البدور ، وبدل أن تنصرف الأميرة إلى اللعب مع الفتيات اللواتي في عمرها ، راحت تلعب مع ابن عمها وحده ، الأمير مهران .
وحين كان الأمير مهران ، يتدرب وحده ، أو تحت إشراف مدرب متمرس ، على ركوب الخيل ، أو استعمال السيف أو القوس والسهام ، كانت الأميرة بدر البدور ترافقه ، بل وأحياناً تتدرب معه ، حتى تعلمت بعض ما كان يتدرب عليه .
بل ، وعلى سبيل المزاح ، كانت تتحداه ، فيبارزها ضاحكاً ، أو يسابقها باستخدام القوس والسهم ، أو ركوب الخيل ، داخل المدينة ، وأحياناً قليلة ، كانا يتجاوزان الأسوار ، عبر إحدى البوابات ، لكنهما كانا دائماً يتوقفان عند حد معين ، ولا يمضيان بعيداً عن أسوار المدينة .
وذات يوم ، خرجا بحصانيهما بعيداً عن أسوار المدينة ، حتى لاحت الغابة من بعيد ، وبدت للأمير مهران ، عالماً غامضاً مخيفاً ، وخاصة لأن الأميرة بدر البدور كانت معه ، فتوقف بحصانه ، وقال : بدر البدور .
وتوقفت بدر البدور ، وعيناها متعلقتان بالغابة ، وقالت : مهران ، لنذهب إلى الغابة .
وردّ الأمير مهران قائلاً : لا يا بدر البدور ، لقد تأخر الوقت ، لنعد إلى المدينة .
ونظرت الأميرة بدر البدور إلى الأمير مهران ، وقالت: عدني أن تأخذني مرة إلى الغابة .
ولاذ الأمير مهران بالصمت ، فقالت الأميرة بدر البدور: لم نعد صغيرين ، يا مهران .
واستدار الأمير مهران بحصان ، وسار به نحو المدينة ، وهو يقول : أنا لم أعد صغيراً .
واستدارت الأميرة بحصانها أيضاً ، ولحقت بالأمير مهران ، وقالت : أنا أيضاً لم أعد صغيرة ، لقد تجاوزت الرابعة عشرة من عمري .



" 5 "
ـــــــــــــــــــ

تحير الأمير مهران ..
ما العمل ؟
الأميرة بدر البدور تريده أن يأخذها إلى الغابة ، ويتجول بها في شتى أرجائها ، لكنه يخاف عليها من مجاهل تلك الغابة ووحوشها الخطرة .
ولم يمر عليهما يوم ، خرجا يلعبان فيه ، أو يمتطيان حصانيهما ، وينطلقان بهما متضاحكين ، داخل المدينة أو خارجها ، إلا وذكرته برغبتها في الذهاب إلى الغابة، والتجول فيها ، والتعرف على مجاهلها .
وذات يوم ، اجتازا بوابة المدينة بحصانيهما ، وانطلقت الأميرة بدر البدور بحصانها ، وكأنها تريد أن تصل إلى الغابة ، فانطلق الأمير مهران في أثرها ، حتى أدركها ، وقال لها ، وهو يحاول أن يعترض حصانها بحصانه : كفى ، يا بدر البدور ، توقفي .
وتوقفت الأميرة بدر البدور بحصانها ، وعيناها المسحورتان مازالتا متعلقتين بالغابة البعيدة ، وقالت : مهران ، خذني إلى الغابة .
فتوقف الأمير مهران بحصانه قرب حصانها ، وقال : لم أجنّ بعد .
فقالت الأميرة بدر البدور بنبرة تهديد مازحة : مهران .
واستدار الأمير مهران بحصانه ، وقال : هيا نعد من حيث أتينا .
واستدارت الأميرة بدر البدور بحصانها ، وسارت به إلى جانب حصانه ، وقالت : عِدني .
وانطلق الأمير مهران خبباً ، وهو يقول : سأجن ، ولكن ليس اليوم .
ولحقت الأميرة بدر البدور به ، وقالت : مهران ، لا تنسَ ، هذا وعد .
ويبدو أن الأمير مهران ، لم " يجن " بالسرعة التي تمنتها الأميرة بدر البدور ، فقالت له بعد أيام عديدة ، وهي تقف معه خارج المدينة ، وعيناها متسمرتان بالغابة البعيدة : مهران ، لقد وعدتني .
ونظر إليها الأمير مهران صامتاً ، فقالت : إذا لم تأخذني إلى الغابة ، سأذهب إليها وحدي .
وفكر الأمير مهران ، أن بدر البدور هذه قد تقدِم على ما تصرّ عليه ، وتمضي وحدها فعلاً إلى الغابة ، وقد يحدث ما لا تحمد عقباه ، فقرر أن يذهب هو أولاً إلى الغابة ، ويتجول فيها ، ويطمئن إلى خلوها من أي خطر، قبل أن يأخذ بدر البدور ، ويحقق رغبتها في دخول الغابة ، والتجول فيها .
وذات أمسية ، وكانت الأميرة بدر البدور تتمشى كالعادة مع الأمير مهران ، في حديقة القصر ، توقفت في مواجهته فجأة ، وقالت : إنذار أخير .
وتوقف الأمير مهران ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت الأميرة بدر البدور : حسن ، سأذهب وحدي .
ونظر إليها الأمير مهران ، وقال : حذار ، يا بدر البدور، ستراك الدامية أو الديو أو ..
فقاطعته الأميرة بدر البدور قائلة : ليكن ..
وقال الأمير مهران : بدر البدور ..
وقالت بدر البدور : لن يخسرني أحد غيرك .
وصمت الأمير مهران ، فأضافت الأميرة بدر البدور : وهذا ما لن تتحمله .
فقال الأمير مهران : أمهليني يوماً واحداً فقط .
ونظرت الأميرة بدر البدور إليه مفكرة ، دون أن ترد عليه بكلمة واحدة .

" 6 "
ـــــــــــــــــــ

قبل شروق شمس اليوم التالي ، تسلل الأمير مهران من غرفته ، ثم اجتاز ممرات القصر ، على رؤوس أصابعه ، ومضى مسرعاً إلى الإسطبل .
وبهدوء هيأ حصانه ، وقاده إلى خارج الإسطبل ، وهو يربت برفق على عنقه ، ويداعب معرفته الجميلة ، ثم امتطاه ، وانطلق به نحو بوابة المدينة ، دون أن ينتبه ، إلى أن السائس العجوز ، كان يراقبه خفية .
واجتاز الأمير مهران شوارع المدينة ، شبه الخالية على حصانه ، ثم عبر بوابة المدينة ، وانطلق مسرعاً نحو الغابة ، وقد بدأت الشمس تطل بأشعتها الذهبية الدافئة ، من فوق أشجار الغابة .
وتوقف الأمير مهران بحصانه ، عند مشارف الغابة ، وتلفت حوله متيقظاً ، وكأنما يتوقع فعلاً أن يرى الدامية أو الديو أو الغول ، أو أي وحش آخر ، يمكن أن يشكل خطراً على بدر البدور .
وتقدم الأمير مهران بحذر شديد ، متوغلاً شيئاً فشيئاً في أعماق الغابة ، وتوقف بين الأشجار الكثيفة الأغصان ، فقد خيل إليه أنه سمع ما يشبه وقع أقدام حصان ، أم أنه غزال أو .. من يدري .
وتلفت حوله منصتاً ، لا شيء ، لعل حواسه خدعته ، نعم ، فهو متوتر الأعصاب بعض الشيء ، أم أنه خائف؟ وهزّ رأسه ، إنه حذر ، وهذا أمر طبيعي ، لكنه ليس خائفاً ، فهو .. الأمير مهران .
وفكر الأمير مهران أن يعود من حيث أتى ، لكنه بدل أن يستدير بحصانه ، مضى به قدماً ، وراح يسير ببطء وحذر ، وعيناه اليقظتان تركضان أمامه ، مستطلعة الطريق ، متهيئة لكل طارئ .
وتوقف بحصانه فجأة ، حين وقعت عيناه على كوخ صغير ، بدا وكأنه مختبئ ، بين أجمة كثيفة من الأشجار ، وقبل أن يقرر ما ينبغي أن يفعله ، فتح باب الكوخ ببطء ، وأطلت منه الساحرة العجوز .
لم تبدر حركة من الأمير مهران ، فتطلعت الساحرة العجوز إليه ، ثم قالت : أهلاً بالأمير مهران .
وردّ الأمير مهران ، دون أن يتحرك بحصانه خطوة واحدة : أنت على ما يبدو تعرفينني .
فقالت الساحرة العجوز : وأعرف أمك نور الزمان ، وخالتك الملكة .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : وأنا من تنبأ بمولدك ومولد ابنة عمك بدر البدور ..
وهزت رأسها ، وقالت بصوت متعب متشنج : آه من .. بدر البدور .
ومن بعيد ، من أعماق الغابة ، ارتفع صت مختنق ، خائف ، مستغيث ، يصيح : مهران .
واشتعلت أعماق الأمير مهران ، وتدفقت نيراناً كحمم البركان ، وقال : إنها بدر البدور .
واستدار بحصانه ، وانطلق بأقصى سرعته ، صوب مصدر الصوت ، وهو يصيح بأعلى صوته : بدر البدور.. بدر البدور .
لكن لا من مجيب ، وتوقف منهكاً منهاراً ، وسط أشجار الغابة ، أهي بدر البدور من صاحت باسمه ؟ عجباً ، وما الذي يمكن أن يأتي بها إلى الغابة ؟
وعند غروب الشمس ، عاد الأمير مهران إلى القصر في المدينة ، وكله أمل أن يكون ما سمعه في الغابة مجرد وهم ، أضلته به تلك المرأة العجوز .

" 7 "
ـــــــــــــــــــ

عرف الأمير مهران ، حين عاد إلى القصر ، بعد غروب الشمس ، بأن الأميرة بدر البدور ، ليست في القصر ، وهذا ما أفقده رشده .
وسرعان ما عرف ، من أمه هذه المرة ، أن السائس العجوز ، اعترف للملك بأن الأميرة بدر البدور ، قد امتطت حصانها ، قبل شروق الشمس بقليل ، وانطلقت خارج القصر .
وعلى الفور ، انطلق الأمير مهران ، نحو الإسطبل ، وأمه تركض في أثره قائلة : بنيّ مهران ، إلى أين ؟ تمهل ، وأخبرني بما تريد أن تفعله .
لم يتمهل الأمير مهران ، ولم يخبرها عما يريد أن يفعله، ودخل الإسطبل ، وأمه الأميرة نور الزمان وراءه، وصاح : أيها السائس .
وأقبل السائس العجوز لاهثاً ، وانحنى للأمير مهران ، وقال : مولاي .
وقال الأمير مهران للسائس العجوز : علمت أن الأميرة خرجت ممتطية حصانها .
فقال السائس العجوز : نعم ، يا مولاي ..
وسكت لحظة ، وقال بصوت مرتعش مذنب : بعد خروجك ، يا مولاي ، بنصف ساعة تقريباً .
وحدق الأمير مهران فيه مفكراً منفعلاً ، لكنه قبل أن يقول له أي شيء ، أقبل الملك والملكة مسرعين ، وقد استبد بهما الخوف والقلق .
والتفتت الأميرة نور الزمان ، وقالت : بنيّ ، جاء الملك والملكة .
وقال الملك منفعلاً : أين بدر البدور ؟
ونظر الأمير مهران إليه متحيراً ، وقال : مولاي ، لم أرَ الأميرة اليوم ، ولا أعرف أين هي .
وقال الملك : لكنك ذهبت إلى الغابة .
وقال الأمير مهران : ذهبت وحدي ، يا مولاي .
وقالت الملكة بصوت تبلله الدموع : إنها معك دائماً ، طوال الوقت .
ونظر الأمير مهران إليها ، وقال : لم تأتِ معي إلى الغابة ، والسائس يشهد بذلك .
ونظرت الملكة إلى السائس العجوز ، فتململ الأخير محرجاً ، ثم قال : نعم ، مولاتي بدر البدور لم تذهب مع الأمير مهران ، لكنها على ما يبدو لحقت به ، بعد خروجه بحوالي نصف ساعة .
ونظرت الملكة والملك إلى الأمير مهران ، فلاذ بالصمت برهة ، ورمق أمه نور الزمان بنظرة سريعة ، ثم قال : لم أرَ بدر البدور في الغابة ، لكن ..
وصمت الأمير مهران ، فقال الملك : لكن .. لكن ماذا ؟
فقال الأمير مهران ، وهو يقلب النظر بين الملك والملكة وأمه : عندما كنت أقف مع الساحرة العجوز ، بباب كوخها ، تناهى إليّ صوت من أعمق الغابة ، كأنه صوت الأميرة بدر البدور ..
وصمت لحظة ، وعيون الجميع متعلقة به ، فقال بصوت مرتعش : تصيح .. كأنها تستغيث .. مهران .
وعلى الفور ، استدار الملك ، ومضى خارج الإسطبل ، والجميع يسرعون وراءه ، وصاح : ادعوا قائد الحرس، وجميع الحرس ، لنذهب إلى الغابة ، ونبحث عن بدر البدور .. الآن .

" 8 "
ــــــــــــــــــ

حلّ الليل في الغابة ككل يوم ، وككل يوم خيم السكون عليها ، وعلى كلّ ما فيها من نباتات وحيوانات وهوام ، حتى الساحرة العجوز ، أوت إلى كوخها الصغير ككل يوم ، وأغلقت بابه ، وتمددت في فراشها ، انتظاراً لزائر قلما كان يأتيها في هذا العمر ، ألا وهو .. النوم .
لكن سرعان ما راحت تخترق هذا الليل ، صفوف طويلة من المشاعل ، قادمة من المدينة ، مهددة الظلام والسكون ، في سابقة غريبة ، لم تحدث من قبل .
وعند مدخل الغابة ، توقفت المشاعل الأولى ، يتقدمها الملك ، وإلى جانبه الأمير مهران على حصانه ، وأسرع قائد الحرس إلى الملك ، وقال : مولاي .
والتفت الملك إلى الأمير مهران ، وقال : دلهم على المكان الذي صدر منه الصوت .
وردّ الأمير مهران : مولاي ، الصوت صدر من عمق الغابة ، هذا ما خيل إليّ .
والتفت الملك إلى قائد الحرس ، وقال : مهما يكن ، ابحثوا في كلّ مكان من الغابة .
وانحنى قائد الحرس للملك ، وقال : أمر مولاي .
واستدار قائد الحرس بحصانه ، وانطلق به متوغلاً في أعماق الغابة ، وأشار لحملة المشاعل من الحرس ، هاتفاً : أيها الحرس اتبعوني .
وعلى الفور ، انطلقت المشاعل صفاً بعد صفٍ ، وقد سارت في أثر القائد مسافة ، ثم بدأت تنتشر تباعاً ، تنقب بضيائها عن بدر البدور .
وتململ الأمير مهران فوق حصانه ، وقد نفد صبره ، ثم قال للملك : مولاي ، أريد أن أمضي أنا أيضاً ، وأبحث عن الأميرة بدر البدور .
لم يلتفت الملك إليه ، بل ولم ينبس بكلمة واحدة ، فهمز الأمير مهران حصانه بشيء من الانفعال ، وانطلق به يسابق الريح ، متوغلاً في أعماق الغابة .
وطوال الليل ، ظلت المشاعل تبحث في أرجاء الغابة ، عن أثر للأميرة بدر البدور ، مهما كان بسيطاً ، لكن لا جدوى ، وكأنها كما يقال " فص ملح وذابت " .
وعند الفجر تقريباً ، قفل قائد الحرس عائداً إلى الملك ، الذي ظل طوال الليل ينتظر على حصانه ، عسى أن يأتيه أحدهم بخبر عن الأميرة .. بدر البدور .
وتقدم من الملك مطأطئ الرأس ، وهزّ رأسه آسفاً ، وتمتم بصوت مختنق : مولاي .
ونظر الملك إليه ، وقال : لا أثر لبدر البدور .
ثم أطرق رأسه ، وقال بصوت باك وكأنما يحدث نفسه : ضاعت ابنتي .. ضاعت بدر البدور .
ونظر القائد إليه ، وقال : مولاي ، أنت متعب للغاية الآن ، ولم تنم طوال الليل ، وها هي الشمس تكاد تشرق، لنرافقك إلى القصر ، ثم ننطلق للبحث عن الأميرة ، في كلّ مكان ، منذ الغد .

" 9 "
ــــــــــــــــــــ

لم يزر النوم ، طوال تلك الليلة ، ولو لحظة واحدة ، عيني الساحرة العجوز ، ورغم مشاعرها ، التي حجّرتها العزلة والسنين ، شعرت بشيء من التعاطف مع الملك والملكة .
وقبيل شروق الشمس بقليل ، وبعد أن عاد الجميع إلى المدينة ، دون أن يقعوا على أثر للأميرة بدر البدور ، سمعت طرقاً على الباب ، وفتحت عينيها ، ثم تنهدت قائلة : آه ..
وطرق الباب ثانية ، فاعتدلت الساحرة العجوز قليلاً في فراشها ، ثم هتفت : مهران ، تعال ، ادخل .
وفتح الباب بهدوء ، وبدا الأمير مهران عند المدخل ، متعباً ، شاحب الوجه ، وتقدم بضع خطوات ، وقال : عفواً ، أيتها الجدة ، أخشى أن يكون الوقت غير مناسب، فأنت تبدين متعبة .
وقالت الساحرة العجوز : أنت متعب أكثر مني ، رغم أنك في مقتبل العمر .
واقترب الأمير مهران منها ، وقال : أيتها الجدة ، أنت تعرفين لماذا جئتُ إليك .
وهزت الساحرة رأسها ، فقال الأمير مهران : نعم إنها بدر البدور .
وقالت الساحرة العجوز : لا ذنب لك ، يا مهران ، بما حدث لها .
وقال الأمير مهران : إنها ابنة عمي .
وهزت الساحرة العجوز رأسها ثانية ، وقالت : ليس هذا فقط ، إنها .. إنها بدر البدور .
واقترب الأمير مهران منها ، وقال : لقد اختطِفت ، وأنت تعرفين من اختطفها .
ورفعت الساحرة العجوز رأسها ، ونظرت إلى الأمير مهران ، وقالت : وأعرف أيضاً أين هي .
وبحماس قال الأمير مهران : هذا ما جئت أعرفه منك ، أرجوك أيتها الجدة ، أخبريني أين هي .
وقالت الساحرة العجوز : ليس الأمر سهلاً ، كما قد تتصور ، يا مهران .
وقال الأمير مهران : مهما يكن ، وحيثما تكون ، سأذهب إليها ، وأنقذها .
وصمتت الساحرة العجوز لحظة ، ثم نظرت إلى الأمير مهران ، وقالت : الذي اختطف بدر البدور ، من وسط الغابة ، هو .. الغول .
وقال الأمير مهران مذهولاً : الغول !
وتابعت الساحرة العجوز قائلة : وأخذها بعيداً .. بعيداً .. إلى قصره .
وتساءل الأمير مهران : وأين يكون هذا القصر ؟
وردت الساحرة العجوز قائلة : أنا لا أعرف ، لكني أعرف من يعرف ذلك .
وتساءل الأمير مهران ثانية : من ؟ أخبريني .
وقالت الساحرة العجوز : الدامية .
واتسعت عينا الأمير مهران قلقاً وذهولاً ، لكنه لم ينبس بكلمة ، فقالت الساحرة العجوز : نعم الدامية ، وبيتها عند مدخل الجبل الأجرد ، وأنصحك يا مهران ، أن لا تحاول الاقتراب منها .
ومن غير أن يتفوه الأمير محمد بكلمة ، استدار ، وغادر الكوخ ، فهزت الساحرة العجوز رأسها ، وقالت : أعرف هذا .. أعرفه .

" 10 "
ــــــــــــــــــــــ

على حصانه الفتيّ ، انطلق الأمير مهران ، عبر الغابة الكثيفة الأشجار ، التي تمتد لمسافات بعيدة ، متجهاً نحو الجبل الأجرد .
ومرت الساعات بعد الساعات ، وهو يسابق الريح ، دون أن يتساءل ، حتى بينه وبين نفسه ، عن ماهية هذه الدامية ، وكيف يمكن أن يتعامل معها .
لم يكن في ذهنه إلا الأميرة بدر البدور ، وكل همه أن يصل إليها ، بأي ثمن ، ويسعى من أجل إنقاذها من براثن الغول ، مهما كلفه الأمر .
وتراءت له الأميرة بدر البدور ، وهي تحدثه عن رغبتها في رؤية الغابة ، والتجول في أرجائها ، لكنه لم يفهم كيف حضرت إلى الغابة ، أثناء وجوده عند الساحرة العجوز ، وأين كانت متواجدة ، حين اختطفها ذلك الغول اللعين .
وقبيل الغروب ، لاح الجبل الأجرد من بعيد ، فراح الأمير مهران يتباطأ بحصانه كلما اقترب من البوابة ، حتى توقف تماماً .
وتلفت حوله بحذر ، أين الدامية ؟ وهل هي حقاً ـ كما وصفتها أمه الأميرة نور الزمان ـ تشبه الغوريلا ، ولكن بهيئة امرأة ضخمة الجثة .
ومن وراء الباب ، برزت الدامية ، إنها حقاً كما وصفتها أمه الأميرة نور الزمان ، وكأنها فعلاً رأتها عن كثب ، أكثر من مرة .
وجفل الحصان ، وراح يتقهقر محمحماً ، لكن الأمير مهران ، تماسك فوقه ، وشد أعنته بقوة وحزم ، حتى سيطر عليه ، وأوقفه .
ونظرت الدامية إليه ، وقالت : آه آدمي .
وخاطبها الأمير مهران قائلاً : عمتِ مساء ، يا سيدتي .
وابتسمت الدامية ، وقالت : جئت في وقتك ، فأنا لم أتعشَ بآدميّ منذ فترة طويلة .
لم يتراجع الأمير مهران ، وقال : أيتها الدامية ، قصدتك من مكان بعيد لأمر هام .
وتقدمت الدامية منه خطوة ، وقالت : إنني جائعة الآن ، لنرجىء ذلك بعد أن أشبع .
وعلى عجل ، استل الأمير مهران سهماً من جعبته ، وثبته في وتر القوس ، فتوقفت الدامية غاضبة ، وقالت : لن يفيدك هذا في شيء ، قد تجرحني بهذا السهم ، لكني سأمزقك في النهاية ، وألتهمك .
وسحب الأمير مهران السهم ، فصاحت به الدامية : حذار ، سأقتلك ، وأقتل حصانك أيضاً .
وأطلق الأمير مهران السهم ، فتوقفت الدامية لحظة ، ثم قالت : آه .. أنت حتى لم تصبني .
فقال الأمير مهران : أنظري عن يمينك .
وتوقفت الدامية مترددة ، ثم نظرت إلى يمينها ، وإذا السهم الذي أطلقه الأمير مهران ، قد اخترق عنق أفعوان ضخم ، وأرداه قتيلاً .
والتفتت الدامية إلى الأمير مهران ، وقالت : لن أوذيك ، لقد أنقذتني ، أيها الآدمي ، انزل ، فأنت ضيفي الليلة ، وسأقدم لك ما تريده .

" 12 "
ــــــــــــــــــــ
منذ الفجر ، ركب الأمير مهران حصانه ، وعبر بوابة الجبل الأجرد ، ووقفت الدامية عند البوابة ، ولوحت له ، وقالت : مهران ، كن حذراً ، واعمل ما قلته لك ، ولن تخيب .
وابتعد الأمير مهران بحصانه ، حتى غاب وراء صخور الجبل ، فقفلت الدامية عائدة إلى كهفها ، وهي تقول : ليت لي ولداً مثل مهران هذا .
وكما قالت له الدامية ، انطلق مهران على حصانه ، في طريق متعرج ، محاذ للجبل الأجرد ، متفادياً الوديان العميقة ، وملتفاً حول الصخور الهائلة .
نعم سيعمل بما أوصته به الدامية ، التي أحبته ، وقدرت إنقاذه لها من الأفعوان ، الذي كاد يلدغها ، ويفتك بها بسمه الزعاف القاتل .
وأطلت الشمس من فوق قمم الجبل الأجرد ، والأمير مهران على حصانه ، وعيناه تركضان أمامه ، لعلهما تسبقانه إلى قصر الغول ، الذي قالت عنه الدامية : إنه قصر كبير ، عال ، موحش ، لا باب له ، ولا نوافذ ، وهي لا تعرف ، ولا أحد غيرها يعرف ، كيف يدخل الغول إليه ، وكيف يخرج منه .
وعند منتصف النهار ، توقف الأمير مهران ، عند نبع ينبثق ماؤه عذباً صافياً من بين الصخور ، وترجل عن حصانه ، وانحنى على النبع ، وشرب من مائه حتى ارتوى ، وكذلك فعل حصانه .
واستأنف الأمير مهران مسيرته على حصانه ، بعد أن ارتاح هو وحصانه بعض الشيء ، وبين فترة وأخرى ، يتوقف عند نبع أو جدول ، فيرتاح قليلاً ، ويشرب هو وحصانه ، حتى يرتويان .
وعند المغرب تقريباً ، لاح من بعيد قصر الغول ، تحيط به أجمات كثيفة الأشجار ، إنه حقاً كما وصفته الدامية ، ضخم ، عال ، ويبدو وكأنه بلا باب أو نوافذ ، لكن هذا مستحيل ، وإلا فكيف يدخل الغول ويخرج ؟
وحث الأمير مهران حصانه ، فانطلق رغم تعبه ، يسابق الريح صوب القصر ، واجتاز أجمات عديدة متقاربة وكأنها أجمة واحدة ، وقبل أن يصل سور القصر ، ترجل عن حصانه ، وتركه في إحدى الأجمات، وتسلل بحذر شديد نحو القصر .
وتوقف عند أجمة ، قريبة من القصر ، وتلفت حوله منصتاً ، لا شيء ، السكون الموحش يلف المكان كله ، وتسلل من بين الأشجار ، وراح يدور حول القصر الضخم ، العالي الجدران ، لعله يرى نافذة ، أو ما يوحي بوجود باب ، أو منفذ يقود إلى الداخل ، ولكن دون جدوى .
وتوقف الأمير مهران ، بعد غروب الشمس ، وحلول عتمة الليل شيئاً فشيئاً ، وهمّ أن يعود إلى حصانه ، ليقضّي الليل في تلك الأجمة ، حين تناهى إليه وقع أقدام ثقيلة على الطريق ، فأسرع متسللاً إلى أقرب شجرة ، واختبأ وراءها .
وأطل الأمير مهران بحذر من وراء الشجرة ، وإذا كائن ضخم ، بشع ، لا هو إنسان ، ولا هو ديو ، أهذا هو الغول إذن ؟ وفارت دماء الأمير مهران ، لكنه تمالك نفسه ، وراح يراقب الغول .
وتوقف الغول عند جدار القصر ، وصاح بصوت أجش: افتح ، أنا الغول .
وفجأة ظهر باب صغير في أسفل الجدار ، فدخل الغول منه ، وسرعان ما انغلق الباب ، ثم اختفى ، وعاد الجدار كما كان ، لا باب فيه ولا منفذ .
لم يترك الأمير مهران مكانه ، وظلّ يترقب وراء الشجرة ، ينتظر ما قد يجري خلال الليل ، ورغم شعوره بالتعب الشديد ، لم يغفّ إلا سويعات قليلة ، زارته فيها مرات ، وبشكل خاطف ، ابنة عمه ، الأميرة بدر البدور .

" 13 "
ـــــــــــــــــــــ
انقبض قلب الأميرة بدر البدور ، ككل يوم منذ أن أسكنها الغول هذا القصر ـ السجن ، وحلت العتمة فيه ، حتى قبل أن تغرب الشمس ، وراء القمم العالية السوداء للجبل الأجرد .
وتراءى لها ، مرة أخرى ، كيف أرادت أن تلحق بالأمير مهران ، وتتجول معه في أطراف الغابة ، وتتعرف على أجوائها وكائناتها المختلفة ، لكنها ضلت الطريق ، وحين أرادت أن تعود من حيث أتت ، فاجأها الغول مزمجراً ، وحملها بين ذراعيه الوحشيتين ، فصاحت بأعلى صوتها : مهران .
لم تسمع مهران يردّ عليها ، وأخذها الغول ، ووضعها في هذا القصر ـ السجن ، الذي بدا لها أنه خال من أي مخلوق ، مهما كان نوعه .
وحلّ ليلها الرهيب بعد غروب الشمس ، فقد تناهى إليها صوت الغول الأجش ، يصيح من خارج السور : افتح ، أنا الغول .
وسرعان ما ارتفع وقع خطواته الثقيلة ، في ممرات القصر ـ السجن الموحش ، وفتح باب جناحها ، وأطل الغول بهيئته الضخمة البشعة ، وبدل أن يحييها ككل يوم، توقف وسط الجناح ، وقال : لا أدري ، ربما هناك أمر غريب في مكان ما .
ونظرت الأميرة بدر البدور إليه ، وتساءلت مندهشة : هنا !
وحدق الغول فيها ، ثم قال : لا ، ليس هنا ، ربما خارج سور القصر .
وأشاحت بدر البدور عنه ، وقالت : لا أظن أن مجنوناً ما يمكن أن يغامر ، ويأتي إلى هذا المكان .
وقال الغول من بين أسنانه : وحتى لو أتى كائن ، إلى محيط القصر ، وليس إلى داخله ، فلن ينجو مني ، سأفتك به ، وآكله .
ونظرت إليه الأميرة بدر البدور ، وقالت : لا أدري لماذا وفرتني حتى الآن .
وانفرجت أسارير الغول قليلاً ، وقال : أنت بدر البدور ، وقد وفرتك لأمر أهم .
وردت الأميرة بدر البدور : أفضّلُ أن تأكلني .
وتعكرت ملامح الغول ، وقال : سآكلك إذا أصررتِ على موقفك ، ولم ترضخي لرغبتي .
ولاذت الأميرة بدر البدور بالصمت ، فقال الغول : سأمهلك ، ولآخر مرة ، حتى بعد غد .
وأطرقت الأميرة بدر البدور ، وراحت دموعها تتطافر من عينيها ، منسابة بصمت على خديها ، لكنها لم تنبس بكلمة واحدة .
واستدار الغول ، واتجه إلى خارج الجناح ، بخطواته الثقيلة الكريهة ، وهو يقول بصوته الأجش : سأنام الليلة أيضاً في جناحي .
وصمت لحظة ، وقال وهو يخرج : فكري ملياً ، بعد غد هو اليوم الفصل .
ورقدت الأميرة بدر البدور في فراشها ، وحاولت أن تغمض عينيها ، لعلها تغفو ، وظلت خطوات الغول الثقيلة ، تتناهى إليها من إحدى جنبات القصر ، وتساءلت في سرها : ترى ماذا رأي هذا الوحش خارج القصر ؟ وعمّ يبحث هنا في الداخل ؟

" 14 "
ــــــــــــــــــــــ
فزّ الأمير مهران من إغفاءته ، حين سمع باب القصر يُفتح ، فهبّ من مكانه ، وأطلّ بحذر من وراء الشجرة ، وإذا الغول يخرج من القصر ، ويقف أمام الباب المفتوح، ثم يصيح : أغلق ، أنا الغول .
وعلى الفور ، انغلق الباب ، وعاد الجدار كما كان ، لا منفذ فيه ولا باب ، وتلفت الغول حوله ، ثم انحدر نحو الطريق ، ومضى مبتعداً بخطواته الثقيلة .
وخرج الأمير مهران من وراء الشجرة ، التي قضّى الليل كله وراءها ، واقترب من جدار القصر ، وهو يتلفت حوله بحذر شديد .
وتوقف أمام الجدار ، وبحث دون جدوى عن أثر يدل على وجود الباب ، الذي دخل الغول منه مساء البارحة ، وخرج منه قبل قليل .
ورفع الأمير مهران رأسه ، وقال بصوت متردد : أيها الباب ، افتح .
وانتظر أن يبرز الباب من الجدار ، وينفتح له كما انفتح للغول ، لكن دون جدوى ، وفكر ملياً ، ثم قال بصوت أجش ، محاكياً صوت الغول : افتح ، أنا الغول .
وتراجع الأمير مهران مذهولاً ، عندما رأى الجدار ينشق فجأة ، ويبرز الباب الصغير في أسفله ، ثم ينفتح ، كما انفتح من قبل للغول .
وعلى الفور ، أسرع الأمير مهران بعبور الباب ، وكأنه يخشى أن يُغلق مرة ثانية ، وما إن صار في الداخل ، حتى سمع الباب من ورائه ينغلق ببطء .
واعتدلت الأميرة بدر البدور في فراشها ، فقد خيل إليها أنها سمعت الباب الخارجي يُفتح ، وأنصتت ملياً ، ثم هزت رأسها ، لقد ذهب الغول قبل قليل ، وليس من عادته أن يعود بهذه السرعة .
وسرعان ما خفق قلبها بشدة ، بعد أن سمعت وقع أقدام في ممر من ممرات القصر ، أهو الغول ؟ لكنها تعرف وقع أقدام الغول الثقيلة ، وهذه ليست وقع أقدامه ، ترى وقع أقدام من إذن ؟
وتوقف الأمير مهران ، وسط ممر قريب من جناح الأميرة بدر البدور ، وهتف قائلاً : بدر البدور .
وانتفض قلب بدر البدور ، هذا ليس صوت الغول ، بل صوت .. وارتفع الصوت ثانية من مكان أكثر قرباً : بدر البدور .. بدر البدور .
وانطلقت بدر البدور إلى خارج الجناح ، وهي تهتف : مهران .. مهران .
وإذا هي وجهاً لوجه مع الأمير مهران ، وقبل أن يتفوه الأمير مهران بكلمة ، ارتمت الأميرة بدر البدور بين ذراعيه ، وهي تقول : مهران ..
وتوقف الأمير مهران مذهولاً ، لا يدري ماذا يقول أو يفعل ، وشدت الأميرة بدر البدور يديها حوله ، وهي تقول بلهفة : أيها المجنون ، عانقني ، عانقني .
وشدها الأمير مهران بقوة بين ذراعيه ، ثم قال : لنهرب من هذا القصر ، ونعد بسرعة إلى المملكة ، فالجميع ينتظرون قدومك على أحرّ من الجمر .
وأخذت الأميرة بدر البدور يده ، وقالت : تعال ننتظر بعض الوقت في جناحي ، حتى يبتعد الغول ، لنخرج من هنا ، ونهرب بسلام .





" 15 "
ــــــــــــــــــــــ

لم تكد الأميرة بدر البدور ، تأخذ الأمير مهران ، إلى جناحها الخاص ، حتى سمعت الباب الخارجي يفتح ، وسرعان ما ارتفع وقع أقدام ثقيلة وسريعة ، في ممرات القصر .
وتلفت الأمير مهران حوله قلقاً ، وقال : ما الأمر ؟
وتشبثت الأميرة بدر البدور به ، وقالت : يا ويلي ، عاد الغول .
ثم دفعته نحو خزانة كبيرة في طرف الجناح ، وهي تقول : تعال ، اختبئ هنا .
وفتحت باب الخزانة ، ودفعت الأمير مهران إلى داخلها، وقالت : ابقَ هنا ، حتى يذهب الغول .
وما إن أغلقت الأميرة باب الخزانة ، حتى فُتح باب الجناح ، ودخل الغول مسرعا ً ، وتوقف متلفتاً حوله ، ثم همهم : هم م م م .
وابتعدت الأميرة بدر البدور عن الخزانة ، وقالت : ليس من عادتك أن تعود سريعاً هكذا .
ونظر الغول إليها ، وقال : لاحظت آثار أقدام غريبة خارج القصر .
وأشاحت الأميرة بدر البدور عنه ، وقالت : لعلك واهم ، فلا يمكن أن يقترب أحد من هذا القصر .
واقترب الغول منها ، وقال : ما لا يمكن هذا ، يبدو أنه قد حدث ، ربما البارحة أو اليوم .
وسكت لحظة ، ثم قال : من جرؤ على هذا لن يفلت مني، وسأنزل به أشد العقاب .
وتراجع خطوات ، متلفتاً حوله ، وتشمم ملياً ، ثم قال : يا للعجب ، أشم رائحة آدمي في جناحي .
ولاذت الأميرة بدر البدور بالصمت ، فاقترب الغول منها ، وهو يقول : أنت تعرفين الحقيقة ، وستخبرينني بها ، وإلا .. الويل لكِ .
وتراجعت الأميرة بدر البدور قليلاً ، وهي تقول : لا أعرف أي شيء .
وانقض الغول عليها ، وأطبق على عنقها بكفيه الغاضبتين المتوحشتين ، وقال من بين أسنانه : قولي الحقيقة ، وإلا فتكت بك ، وافترستكِ .
وصاحت بدر البدور بصوت متوجع مختنق : مهران ..
وعلى الفور ، صفق باب الخزانة ، وبرز منها الأمير مهران ، وسيفه يبرق في يده ، وصاح بأعلى صوته : أيها الوحش القذر ، دع بدر البدور .
وألقى الغول الأميرة بدر البدور جانباً ، واستدار إلى الأمير مهران ، وقال : آه ، أنت الأمير مهران إذن ؟ جئت إلى نهايتك بقدميك ، تعال .
وتقدم الأمير مهران منه على حذر ، وسيفه البتار يبرق في يده ، وجنّ جنون الغول ، فانقض عليه مكشراً عن أنيابه القاتلة ، لكن الأمير مهران ، رفع السيف ، وأهوى به بسرعة البرق على هامة الغول ، الذي وقف مصعوقا، كما لو أن البرق قد ضربه ، ثمّ تهاوى على الأرض ، وهو يقول بصوت متحشرج : ثني .. يا مهران .
ورفع الأمير مهران سيفه ، وهمّ أن يضرب الغول ثانية، لكن الأميرة بدر البدور ، أسرعت إليه ، وأمسكت يده قائلة : لا ، لا تضربه ثانية .
وقال الغول ، وهو يحتضر مضرجاً بدمائه على الأرض: هيا ، يا مهران ، اضربني ثانية .
فقالت الأميرة بدر البدور : دعه يمت ، فلو ضربته ثانية، لعاد إلى الحياة ، وربما قتلنا كلانا .
وتنهد الغول محبطاً ، ثم أغمض عينيه ، وسرعان ما غدا جثة هامدة ، فالتفتت الأميرة بدر البدور إلى الأمير مهران ، وقالت : الآن نستطيع ، يا مهران ، أن نعود إلى المملكة .

" 16 "
ـــــــــــــــــــــ
خرجت الأميرة بدر البدور من الجناح ، يرافقها الأمير مهران ، وتوقفت في الممر حائرة ، لا تعرف من أين تمضي ، وأي الممرات يقود إلى الخارج ، فهذه هي المرة الأولى ، التي تخرج فيها من جناحها ، منذ أن جاء يها الغول إلى هذا القصر ـ السجن .
وتوقف الأمير مهران إلى جانبها ، وقال : هيا يا بدر البدور ، أمامنا طريق طويل .
فقالت بدر البدور : هذا القصر واسع ، ومتاهاته كثيرة ومعقدة ، وأنا لا أعرف الطريق إلى الخارج .
وعلى الفور ، أمسك الأمير مهران يدها ، وسار بها مسرعاً ، وهو يقول : تعالي ، فأنا دخلت القصر منذ ساعة تقريباً ، وأظن أنني أعرف الطريق .
وقادها صامتاً من ممرّ إلى ممر ، حتى وجدا نفسيهما أخيراً ، أمام باب القصر الداخلي ، وما إن عبراه بسرعة ، حتى وجدا الجدار الأصمّ مواجهاً لهما .
وتوقفا أمام الجدار ، وتلفتت الأميرة بدر البدور حولها حائرة ، وقالت بصوت مضطرب : لا باب هنا ، كيف سنخرج ، يا مهران ؟
وأجاب الأمير مهران قائلاً : لا عليك ، أعرف السرّ ، لقد تعلمته من الغول ، دون أن يدري .
وصمت لحظة ، ثم رفع رأسه قليلاً ، وهتف بصوت أجش ، محاكياً صوت الغول : أنا الغول ، افتح .
وأمام عيني الأميرة بدر البدور المذهولتين ، برز باب صغير أسفل الجدار ، سرعان ما انفتح ، وبدت الأجمات زاهية متمايلة ، تحت أشعة الشمس .
وهتفت الأميرة بدر البدور بصوت مفعم بالفرح : مهران، هيا ، نحن أحرار الآن .
وأمسك الأمير مهران يدها ، وهتف فرحاً لفرحها وهو ينطلق بها خارج الأسوار : نعم ، نحن أحرار ، هيا لابد أنهم ينتظروننا الآن .
وتوقفت الأميرة بدر البدور ، بعد أن ركضت إلى جابه على الطرق الوعر الخشن ، وقالت : مهران .
وتوقف مهران إلى جانبها ، وقال : نعم .
ونظرت الأميرة بدر البدور إليه ، وقالت : الطريق طويل ، يا مهران ، وأنا لا أستطيع أن أمشيه .
فقال الأمير مهران : لن تمشيه .
ونظرت الأميرة بدر البدور إليه متسائلة ، فقال : سأحملكِ .
وتساءلت بدر البدور : أنت !
فردّ قائلاً : نعم ، أنا ..
وسارت الأميرة بدر البدور ، دون أن تتفوه بكلمة ، فلحق الأمير مهران بها ، وهو يقول : هذا إن لم يحملك حصاني .
وتوقفت الأميرة بدر البدور ، وقالت : حصانك !
وأشار الأمير مهران إلى حصانه ، الذي لا يكاد يظهر بين أشجار الأجمة ، حيث تركه مساء البارحة ، وقال : أنظري .
ونظرت الأميرة بدر البدور إلى حيث أشار الأمير مهران ، وقبل أن يقع نظرها على الحصان ، وجدت نفسها بين ذراعي الأمير مهران الشابتين القويتين ، فصاحت ضاحكة : ماذا تفعل أيها المجنون ؟ أنزلني .
فقال الأمير مهران ، وهو يسير بها نحو الأجمة : قلتُ لك سأحملك ، وها إني أحملك ، ولن أنزلك إلا فوق حصاني العزيز .

"17 "
ــــــــــــــــــــــ
بعد يوم طويل متعب وممل ، قضاه الملك في إدارة شؤون المملكة ، مع الوزير وقائد الجند وقاضي القضاة، عاد متعباً متجهماً إلى القصر .
وهذه المرة ، ككل المرات ، منذ أن اختفت الأميرة بدر البدور ، لم يتوقع الملك ، أن يرى الملكة ، تسرع إلى استقباله خارج جناحهما .
لكنه ما إن دخل حديقة القصر ، حتى فوجىء بالملكة ، تقف في الممر ، وكأنها تنتظره ، ووصيفتها تقف قلقة محرجة ، على مسافة منها .
وحين رأته الملكة يدخل الحديقة ، أسرعت إليه بادية الانفعال ، فبادرها قائلاً بلوم رفيق : أنت متعبة ، وليس لك أن تغادري فراشك .
وقالت الملكة بصوت دامع يشي بقلقها وفرحها : ستعود ابنتنا .. ستعود بدر البدور .
وأمسك الملك بيدها ، واتجه بها برفق نحو الداخل ، وهو يقول : طبعاً يا عزيزتي ، ستعود ابنتنا ، ستعود حتماً ، ما علينا إلا أن نصبر قليلاً .
وتوقفت الملكة ، وقالت : لم أرَ هذا في المنام ككل مرة ، لم أره في المنام ، بل ..
وشدّ الملك بيده على يدها برفق ، وسار بها ثانية ، حتى عبرا البوابة الداخلية للقصر ، وهو يقول : تعالي إلى الداخل ، يا عزيزتي ، تعالي وحدثيني ..
وتوقفت الملكة ثانية ، وقالت بصوت متحشرج : الساحرة العجوز .. قالت ذلك ..
ومرة أخرى ، سار الملك بها بنفس الصبر والرفق ، حتى دخلا جناحهما ، وعندئذ سحبت الملكة يدها من يده، وقالت : أنت لا تصدقني .
ونظر الملك إليها صامتاً ، فقالت الملكة من بين دموعها: أختي نور الزمان ، وهي كما تعرف ، لا تعتقد بما يقوله السحرة ، ذهبت بنفسها ، ودون علمي ، إلى الساحرة العجوز ..
ومن بعيد تناهت أصوت أناس كثيرون ، راحت ترتفع شيئاً فشيئاً ، فرفع الملك رأسه ، وراح ينصت ، ويبدو أن الملكة لم تنتبه إلى ذلك ، فواصلت كلامها قائلة : وقالت لها .. الساحرة العجوز .. قالت لنور الزمان .. أبشري .. سيعود مهران.. ومعه بدر البدور ..
اقتربت الأصوات ، حتى بدا أنها في الشارع المؤدي إلى القصر ، فقال الملك : أنصتي .
وأنصتت الملكة ، أنصتت ملياً ، وعيناها غارقتان بالدموع ، ثم قالت بصوت مرتعش ، لا يكاد يُفهم : الساحرة العجوز .. الساحرة العجوز .
وهنا أقبلت الوصيفة راكضة تطير من الفرح ، وهي تصيح بأعلى صوتها : مولاتي .. تعالي .. جاءت الأميرة بدر البدور ومعها الأمير مهران .
وعلى الفور ، أسرعت الملكة والملك ، ومن مدخل القصر ، شاهدوا جموعاً غفيرة من الناس ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، يتقدمهم الأمير مهران والأميرة بدر البدور والأميرة نور الزمان .


18 / 12 / 2012
























سراب















شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ عامر

2 ـ أروى

3 ـ ريم " 1 "

4 ـ الجدة

5 ـ ريم " 2 "

6 ـ أبو ريم

7 ـ ابن عم ريم






" 1 "
ـــــــــــــــــــ
تعبتُ ، تعبتُ جداً ، لكن ناقتي الفتية ، على ما يبدو ، لم تتعب ، لا بأس أن نتوقف قليلاً ، لا لأرتاح فقط أنا وناقتي ، وإنما لأعرف .. أين أنا ؟
وتلفتُ حولي ، كثبان من الرمال ، لا شيء غير كثبان الرمال ، ماذا دهاني ؟ لعلي سهوت كالعادة ، وتوغلت بعيداً عن الطريق ، فهذه الكثبان ، على ما يخيل إليّ ، لم تمرَ عليّ من قبل .
ورغم تعبي ، وشعوري بالجوع والعطش ، ابتسمتُ مشفقاً ، إذ تراءت لي أروى ، ابنة عمي ، نخلتي ، فقد قالت لي مرة : أنت تتوه أحياناً ، لا أعرف أين ، حتى وأنت جالس إلى جانبي .
وضحكتُ وقتها ، فقالت لي : آه كم أخشى أن تتوه مرة ، وأنت على ناقتك ، في الصحراء .
وها أنا على ناقتي ، ويبدو أنني تهتُ ، وتلفت حولي ثانية ، كثبان .. كثبان ، هل أعود أدراجي ، أم أواصل طريقي ، أم .. آه ..
فلأواصل السير ، لعل الواحة التي على الطريق ، تظهر لي من بين الكثبان ، و .. وسرتُ .. سرتُ بناقتي .. والشمس ورائي تسير .. أريد أن تشرق الواحة .. والشمس تريد أن تغرب .. آه أين الواحة ؟ إنني متعب .. جائع .. عطش .. والشمس تريد أن تغرب وترتاح .. أنا تهت .. يا أروى .. لكن الشمس لم ولن تتيه .
وقبل أن تغرب الشمس ورائي ، وترتاح من عناء السير طوال ساعات النهار ، بدا لعيني المتعبتين ، عند التقاء أفق الرمال ببحر السماء ، واحة تتماوج مع الريح والمساء ، ولمعت عيناي ، الماء قريب ، وقريب الطعام ، والراحة ، هيا يا ناقتي ، هيا إلى الواحة .
ولكزتُ ناقتي الفتية ، أحثها على السير نحو الواحة ـ الحلم ، فالأفق البعيد ليس بعيداً ، وعليّ أن أصل إليه ، بأسرع وقت ممكن ، ومهما كلفني الأمر .
وحثتْ ناقتي الفتية خطاها ، لابدّ أنها هي أيضاً تتوق للماء والطعام والراحة ، لكن ويا للعجب ، كلما أسرعت ناقتي ، وانحدرت الشمس ورائي ، أسرعت الواحة أمام عينيّ ، كأنما تفرّ مني ، ولا تريدني أن أصل إليها ، وغارت الشمس ورائي خلف الأفق ، وأمامي غارت الواحة ـ الحلم في الرمال .
وتوقفت بناقتي الفتية ، وسط كثبان الرمل ، والليل يرخي سدوله ، وتراءت لي أروى .. آه أروى ، أين ابتسامتك ؟ إنني عطش إليها الآن ، و .. وأصخت السمع ، وقلبي يخفق حنيناً إليها ، وابتسمتُ كأني أسمعها تقول لي : كم أخشى من قلبك هذا ..
قلتُ لها : قلبي كبير .. واسع ..
قالت : نعم ، واسع ، وهذا ما أخشاه ..
ضحكتُ ، فقالت : أخشى أن يتسع لغيري أيضاً .
ملتُ عليها ، وقلت : أنتِ مِلأه .
قالت : أنت شاعر ..
قلتُ :أنا لا أقول الشعر .
قالت : أنت تعيشه ، وهذا أخطر .
وسكتت أروى ، لكنها لم تسكت في أعماقي ، أروى ، لا تتركيني ، إنني تائه حقيقة هذه المرة ، تائه وسط هذا الليل والكثبان الرملية ، آه أروى .
ولكزت ناقتي الفتية ، فسارت على مهل ، لنسر بعض الوقت ، يا ناقتي ، فالليل في أوله ، وسيظهر القمر بعد حين ، صحيح إنه ليس بدراً الليلة ، وإنما طفل في اليوم الخامس أو السادس ، لكنه قمر ، والقمر مهما كان قمراً ، وليس سراباً في أفق الكثبان ، و ..
ولاح شعاع من بعيد ، يلمع بين أفق الكثبان وبحر السماء المعتم ، فسرتْ الحياة في أعماقي ، وحثثتُ الناقة الفتية ، هيا .. يا ناقتي ، عسى أن لا يكون هذا الشعاع ، الذي يلمع في الأفق ، سراباً كما الواحة الكاذبة .
وحثتْ ناقتي الفتية خطاها نحو الشعاع ، الذي بدل أن يهرب ، ويغور في الرمال ، راح يكبر ويكبر ، ومعه أطل القمر من الأفق ، يا للمعجزة ، يبدو أن هذا القمر يقترب من يومه العاشر ، من أجلي .
وعلى ضوء القمر الشاحب ، رحت أقترب بناقتي الفتية ، من مصدر الإشعاع ، حتى لاحت نخلة وحيدة ، وإلى جانبها خيمة وحيدة ، مهما يكن ، فهذا حقيقة ، وليس سراباً ، هيا يا ناقتي ، لقد لاح الطعام والشاب و ..
وتوقفت بناقتي الفتية ، على مقربة من الخيمة ، وهممتُ أن أقرأ السلام من في داخلها ، حين أطلت فتاة في رشاقة النخلة ، ربما لم تبلغ العشرين ، ورحبت بي قائلة : أهلاً بالضيف ، أهلاً ومرحباً .
قلتُ ، وكلي دهشة : أهلاً بك .
وابتسمت الفتاة لي ، وقالت بصوت هادىء : يبدو أنك جئت من مكان بعيد .
فهززتُ رأسي ، وقلتُ : نعم .
فقالت لي : أهلاً بك من حيث ما تكون ، كلنا أبناء هذه الصحراء الطيبة .
وسكتت برهة ، ثمّ خاطبتني قائلة : تفضل انزل ، وارتح ، نحن أهلك .
ونزلتُ عن ناقتي الفتية ، وأنا أقول : أشكرك .
فقالت لي ، وهي تدخل الخيمة : اربط ناقتك إلى النخلة ، وتعال إلى داخل الخيمة .
وأخذتُ ناقتي الفتية ، وربطتها إلى النخلة القريبة ، ثمّ عدتُ ودخلتُ الخيمة ، فابتسمت الفتاة لي ، وقالت : تفضل اجلس ، لابدّ أنك جائع ومتعب أيضاً .
وجلستُ على حشية داخل الخيمة ، ورمقت ما حولي بنظرة خاطفة ، يا للعجب ، نخلة واحدة ، وخيمة واحدة ، وفتاة لم تبلغ العشرين ، أهذا معقول ؟
ووضعت الفتاة أمامي ، في صحاف صغيرة ، خبزاً وتمراً ولبن ، وخاطبتني قائلة : أعرف أنك جائع ، تفضل ، كلْ حتى تشبع .
وشربت في البداية ، قليلاً من اللبن ، والغريب أنني شعرت ، بأن هذا القليل أطفأ عطشي ، ورفعت عينيّ إليها ، وقلت : تفضلي نأكل معاً .
فابتسمت الفتاة ، وردت قائلة : هذا الطعام لك ، ربما أنت لم تأكل منذ أيام ، فكل حتى تشبع .
فأكلتُ ، وأنا أتساءل في نفسي ، عمّ يدور حولي ، وحين شبعت ، قالت لي الفتاة : بعد أن أكلت وشربت ، لك أن تنام وترتاح ، فأنت متعب جداً .
وأشارت إلى فراش في جانب الخيمة ، وقالت : هذا فراشك ، فنم فيه ، وارتح .
وامتثلت لما قالته لي الفتاة ، فنهضت من مكاني ، وتمددت في الفراش ، وتدثرت بغطاء جديد ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق .

" 2 "
ــــــــــــــــــــ
أفقتُ ، فتحتُ عينيّ ، وقد طار النعاس منهما ، يبدو أنني نمتُ ، ربما ليس لفترة طويلة ، وتلفتُ حولي ، القنديل يُضيء الخيمة ، لكن لا وجود للفتاة ، وهل هي موجودة أصلاً ؟
نهضتُ ، وخرجت إلى الليل والصحراء ، ناقتي مربوطة إلى النخلة ، والقمر المعجزة يطل من السماء ، ترى أين الفتاة ؟ وجاءني صوتها من مكان قريب ، تقول لي بصوتها الهادىء : نمت ساعات .
التفتُ إلى مصدر الصوت ، الفتاة موجودة ، وها هي تجلس خارج الخيمة ، تنظر إليّ مبتسمة ، فقلتُ لها : عفواً ، أخذت فراشك ، ولم أدعك تنامي .
تململت في مكانها ، وهي تقول : لا عليك ، يبدو أنك كنت متعباً جداً .
ابتسمت ، وقلت : نعم ، وقد أرحتني أنت كثيراً .
تنحت قليلاٍ ، وقالت لي : تعال اجلس إلى جانبي ، جو الصحراء مريح الآن .
جلست إلى جانبها ، ورمقتها بنظرة سريعة ، ثمّ قلت : لا أظن أنك وحدك هنا .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : نعم ، لست وحدي الآن .
وتلفتُ حولي ، ثم حدقت فيها ، وقلت : لا أرى أحداً معك في هذا المكان .
وابتسمت ثانية ، وقالت : أنت معي .
لم أقتنع بما قالته ، ولذت بالصمت لحظة ، ثم قلت : سأرحل مع الصباح ، إن لديّ مهمة ، وعليّ أن أوديها ، في الوقت المناسب .
ورمقتني الفتاة بنظرة خاطفة ، وقالت : مهما يكن ، أظن أنني سأبقى معك ، وأنك ستبقى معي .
وحدقتُ فيها ، دون أن أتكلم ، لم أفهم ما تعنيه ، ولكي لا أبقى صامتاً ، قلت كأنما أحدث نفسي : كنت أعتقد أن ثمة واحة في الجوار .
فنظرت الفتاة إليّ ، وقالت : ظنك في محله ، نعم هناك واحة في الجوار ، ربما على مسافة أقلّ من يوم ، وهي واحة كبيرة وجميلة ، وآهلة بالسكان .
وابتسمتُ ، لم ابتسم للفتاة هذه المرة ، وتمتمتُ بصوت تسكنه الذكرى : هذا أمر مفرح ، لقد وعدت أروى ، أن أصحبها مرة ، إلى واحة كهذه .
ونظرت الفتاة إليّ ، وقالت متسائلة : أروى !
ابتسمت للفتاة وللذكرى معاً ، ثم قلت : ابنة عمي .
ابتسمت الفتاة ، وقالت : جميلة ؟
ولذت بالصمت لحظة ، فلأعترف ، هذه الفتاة أجمل ، لكني قلت : إنها ابنة عمي .
انطفأت ابتسامتها لسبب لا أعرفه ، فتابعت قائلاً بصوت هادئ : إنها لي مذ ولدتْ ، أهدتها لي عمتي ، كانت تحبني ، وكان عمري حوالي خمس سنوات .
ولاذت الفتاة بالصمت لحظة ، ثم قالت دون أن تبتسم : من الأفضل أن لا تحدثها عني .
ونظرت إليها متسائلاً ، فقالت : أنا فتاة ، والفتاة تريد أن تكون الوحيدة في قلب فتاها .
نظرتُ إليها ، ويبدو أنها لم ترتح لنظرتي ، فنهضت من مكانها ، وقالت : الوقت متأخر جداً ، عليك أن تأوي إلى فراشك ، فأنت ستستيقظ مبكراً ، لتواصل رحلتك .
نهضتُ بدوري ، ووقفت على مقربة منها ، وخاطبتها قائلاً : لديّ ما هو أهمّ من النوم ، دعينا نبقى هنا بعض الوقت ، ونتبادل الحديث .
وابتعدت عني قليلاً ، فخطوت نحوها ، وأنا أقول بشيء من الإلحاح : في الحقيقة ، لم أعرفك ، وأريد أن أعرف عنك بعض الشيء .
ولاذت الفتاة بالصمت لحظة ، ثم حدقت فيّ ، وقالت: اذهب ، ونم ، الفجر يكاد يبزغ ، تصبح على خير .
أجبتها بصوت متردد : وأنت من أهله .
واستدرت عنها ، ورحت أتأمل الليل ، والقمر المعجزة ، والنخلة ، وناقتي الفتية ، ثمّ تنهدت ، واتجهت إلى الخيمة ، وأنا أتمتم ، وكأني أتمتم لنفسي : من يدري ، أخشى أنني لن أراك ثانية ، بعد أن أرحل .
ولاذت الفتاة بالصمت ، وهي مازالت جامدة في مكانها ، فدخلتُ الخيمة ، وأويت إلى فراشي ، وسرعان ما غلبني النعاس ونمتُ ، لكن تفكيري فيها لم ينم ، فقد كانت التساؤلات الملحة ، تتدافع في داخلي ، وتبحث عن إجابات واضحة لا لبس فيها ..
من هي هذه الفتاة ؟
وهل هي وحدها فعلاً ، في هذا المكان المنقطع ، الموحش ، من الصحراء ؟
ثم ماذا تفعل هنا ؟
و .. واستغرقتُ في النوم ، وأنا أتمتم في نفسي : إنني لم أعرف حتى اسمها .
أروى ، ترى من ناداها ، أم أنها هي التي تنادي ، في النوم ، من الصعب أن تعرف الحقيقة ، وتناهى إليّ صوتها من بعيد : أيها الشاعر ..
وابتسمت ، إنها أروى ، تأتيني في المنام ، وهي على ما يبدو حزينة ، تخنق صوتها العبرات ، اعتدلت في جلستي ، وهتفت بها : أروى .. أنا هنا .
ووقفتْ بالباب ، وعيناها غارقتان بالدموع ، فابتسمتُ لها ، وقلت : أراك حزينة ، والدموع في عينيك ، أخبريني ، ما الأمر ؟
ولاذت أروى بالصمت لحظة ، ثم قالت بصوت تغرقه الدموع : قلبك ..
ضحكتُ ، فتابعت قائلة : قلتُ لك مرة ، إن ما أخشاه هو قلبك الواسع ..
وابتسمت لها ، وخاطبتها قائلاً : وأنا قلتُ لك وقتها ، وأقول لك الآن ، أنت من تملئينه .
وهزت رأسها ، والدموع تترقرق في عينيها : لا ، أرى أخرى فيه ، وأخشى أن تتمدد فيه ، وتطردني منه ، ولا تبقي لي فيه أثراً .
وصمتت أروى ، فقلتُ لها : لا تخشي شيئاً يا أروى ، أنتِ .. ابنة عمي و ..
وارتفع في الخارج ، وقع أخفاف جمال قوية هائجة ، واختفت أروى ، ولاح رجل ملثم على جمل ، وسرعان ما ترجل الرجل ، وصاح بي : انهض ..

" 3 "
ـــــــــــــــــــ
فتحتُ عينيّ ، والألم ينهش جنبي ، وإذا بي أرى رجلاً ضخماً ملثماً ، يقف منتصباً قريباً مني ، يحف به ثلاثة رجال مدججين بالسيوف والخناجر ، وعلى مقربة منهم تقف جمال قوية .
واعتدلتُ جالساً ، وتلفت حولي ، يا للعجب ، لا وجود للخيمة ، ولا للفتاة ، ولا حتى للنخلة ، لم أجد غير ناقتي تقف جانباً ، وقد بدا عليها القلق .
وصاح بي الرجل الضخم الملثم ، ويبدو أنه رئيسهم : انهض ، هيا انهض .
ونهضتُ واقفاً ، ونفضت الرمال عن ثيابي ، وأنا أرمق الرجال الثلاثة بنظرة سريعة ، ثم حملقت في الرجل الضخم الملثم ، الذي يقف في مواجهتي ، وقلتُ له : أنتم جئتم لي نجدة ، نجدة من السماء .
وقهقه الرجال الثلاثة ، يبدو أنهم يسخرون مني ، ولماذا السخرية ؟ هذا ما لم أعرفه ، ونهرهم الرجل الضخم الملثم ، دون أن يلتفت إليهم : كفى ..
وكفّ الرجال الثلاثة عن الضحك ، لكنهم على ما يبدو ، لم يكفوا عن السخرية ، فقال لي واحد منهم بنبرة واضحة السخرية : يقول إننا جئنا نجدة ..
وأضاف الثاني بنفس النبرة الساخرة : من السماء ..
وضحك الثالث ، وقال : أرجو أن لا نكون قد جئنا قبل فوات الأوان .
وحدق الرجل الضخم الملثم فيّ ، ثم قال : يبدو أنك لا تعرف بالضبط من نحن .
فقلتُ له : أنتم رحمة من السماء .
وضحك واحد من الرجال الثلاثة ، وقال : لنرحمه ، ونبقِ عليه ثيابه .
وقال الثاني : إنه لا يحمل حتى سيفاً .
وقال الثالث : وما حاجته إلى السيف ، وليس في الصحراء غير رجال من السماء ؟
وحدقت في الرجل الضخم الملثم ، فقال لي بصوت هادئ : دعك منهم ..
وصمت لحظة ، ثم قال : رأيناك من بعيد ، في هذا المكان المنقطع ، الذي لا يطرقه غير القتلة وقطاع الطرق ، وتعجبنا من وجودك في هذا المكان .
وتلفت حولي مرة أخرى ، وكأني أريد أن أتأكد ، بأن المكان منقطع فعلاً ، رغم أنني البارحة فقط ، رأيت فيه نخلة .. وخيمة .. وفتاة .. و .. وخاطبني الرجل الضخم الملثم قائلاً : أراك تتلفت .
فنظرتُ إليه ملياً ، ثم قلتُ : قد لا تصدقوني ، أنت والرجال الذين معك ، إذا قلت ..
وصمتُ ، فقال الرجل الضخم الملثم : قل ، وسنصدقك ، هيا قل ، ولا تخف .
ورمقت الرجال الثلاثة بنظرة سريعة ، ثم حدقت في الرجل الضخم الملثم ، كلا ، لن يصدقوني ، وقد يظنون أنني مجنون ، فتنهدت ، وقلت بصوت واهن : في الحقيقة .. إنني جائع وعطشان .
وعلى العكس مما توقعتُ ، لم يضحك الرجال الثلاثة ، وقال الرجل الضخم الملثم بصوته الهادئ : قل أولاً ما أردت أن تقوله ، ثم نقدم لك ما تحتاجه من الطعام والشراب والأمان .
وتلفتُ حولي مرة أخرى ، ربما لأتأكد من عدم وجود الخيمة والنخلة والفتاة ، ثم حدقت في الرجل الضخم الملثم ، وقلت : أعرف من أنتم .
وتساءل رجل من الرجال الثلاثة : من نحن ؟
وهزّ الرجل الضخم الملثم رأسه ، فقلت مخاطباً الجميع : أنتم رجال ، رجال من الصحراء ، وقد رأيتموني من بعيد ، وربما ظننتم أنني تائه ، فجئتم لنجدتي .
وغالب الرجال الثلاثة ضحكهم ، وقال لي الرجل الضخم الملثم : نعم ، رأيناك ، وجئنا إليك ، هذا صحيح ، لكنك أردت أن تقول لنا غير هذا ، قله .
ولذت بالصمت لحظات ، ثم قلتُ : لا أدري متى سهوت ، وابتعدت عن الطريق ، ووجدتني في هذا المكان المنقطع ، وعرفت أنني تهتُ ..
وحدقتُ في الرجل الضخم الملثم ، ثم تابعت قائلاً : رأيت من بعيد شعاعاً ، فأسرعت إلى مصدر الشعاع ، وإذا نخلة .. وخيمة .. وقنديل .. وخرجت إليّ من الخيمة فتاة دون العشرين ، فسقتني وأطعمتني وآوتني ..
وصمتُ ، فقال الرجل الضخم الملثم بصوته الهادئ : لكن الماء الذي سقتك إياه تلك الفتاة لم يروك ، والطعام الذي قدمته لك لم يشبعك ، وحين رأيناك كنت بين الموت والحياة ، ملقى على الرمال .
وسكت الرجل الضخم الملثم ، ثم التفت إلى الرجال الثلاثة ، وخاطبهم قائلاً : أعدوا السفرة سريعاً ، سنتناول كلنا معاُ ، طعام الإفطار .
وعلى الفور ، أعدّ الرجال الثلاثة السفرة ، وأقبل أحدهم عليّ ، وقدم لي قربة ماء ، وقال لي : تفضل ، إنه ماء من السماء .
وعلق آخر ، وهو يعد السفرة مع الرجل الآخر : وهذا الطعام من السماء أيضاً .
وأزاح الرجل الضخم ، اللثام عن وجهه الملتحي ، ثم قال لي بصوته الهادئ : بعد أن ارتويت حقيقة ، تعال تناول معنا الطعام حتى تشبع .
وجلسنا حول السفرة ، نأكل خبزاً ولبناً وتمراً ، ونظر إليّ أحد الثلاثة ، وخاطبني قائلاً ، وهو يبتسم : أيها الضيف ، أتعرف حقيقة من نحن ؟
وقبل أن أردّ ، ردّ آخر ضاحكاً : رجال من السماء ، ننجد الجائعين والتائهين في الصحراء .
ونظرت إلى الرجل الضخم ، الذي لم يعد ملثماً ، فقال لي ، وهو يأكل : لا تصدقهم ، لسنا من السماء ، إننا من هذه الصحراء ، نحن قطاع طرق .
ودس أحد الثلاثة لقمة في فمه ، وقال : لديه ناقة فتية .
وابتسم آخر ، وقال : هذا ثمن عادل ، لقد أنقذناه من موت محقق في هذه الصحراء .
لم أنطق بكلمة ، فنهض الرجل الضخم ، وقال : نحن قطاع طرق ، لكننا رجال صحراء ، وهذا الرجل ، الذي أنقذناه من الموت ، ضيفنا .
ولاذ الرجال الثلاثة بالصمت ، فتابع الرجل الضخم قائلاً : سنأخذه معنا إلى أقرب واحة آمنة ، ونودعه هناك معززاً مكرماً .

" 4 "
ـــــــــــــــــــ
بعد أن فرغنا من تناول طعام الإفطار ، ورفع الثلاثة ما تبقى على السفرة ، خاطب الرجل الضخم الجميع قائلاً : لقد تأخرنا ، فلنذهب .
وأسرع الجميع إلى جمالهم ، وقبل أن يعتلي الرجل الضخم جمله ، قال لي : هيا يا صاحبي ، اركب ناقتك ، سنأخذك إلى أقرب واحة .
وركبتُ ناقتي ، وكان الرجل الضخم قد ركب جمله ، وانطلق به ، فأسرع الرجال الثلاثة في أثره ، والتفت أحدهم إليّ ، وهتف بي قائلاً : هيا يا رجل ، حثّ ناقتك ، والحق بنا ، وإلا تهت ثانية في الصحراء .
ولكزتُ ناقتي برفق ، ولحقت بهم ، وسرت إلى جانبهم ، ونظر إليّ واحد منهم ، وقال لي مازحاً : أنت رجل شجاع ، تعال واعمل معنا .
وكتم الثاني ضحكته ، فخاطبني الثالث قائلاً : نحن نعيل الكثير من الأيتام والأرامل والمحتاجين ، فهذا حقهم في أموال التجار والأثرياء وأصحاب العبيد .
وضحك الأول ، وقال : تعال معنا ، وكن ضد الباطل ، ونصيراً للحق .
لذت بالصمت ، وقبل أن يواصل الثلاثة مزاحهم معي ، خاطبني الرجل الضخم ، دون أن يلتفت إلى أحد منهم : دعك منهم ، تعال إلى جانبي .
فلكزت ناقتي ، وحثثتها على السير ، فأسرعت قليلاً ، حتى حاذت جمل الرجل الضخم ، الذي التفت إليّ ، وقال : لم تردّ على ما قالوه .
ورمقت الرجل الضخم بنظرة سريعة ، ثمّ نظرت إلى البعيد ، حيث تلتقي الرمال بالسماء ، وقلت : لي أمي وابنة عمي ، وكذلك حياتي بين قومي .
ولاذ الرجل الضخم بالصمت ، وتنهد من أعماقه ، ثم قال : هذا ما يتمنى كلّ منّا أن يعيشه ، لكن معظمنا لا مكان له في قومه ، فخرجنا محتجين إلى الصحراء ، نقطع الطريق على المستغلين ، ونعيش مما نغنم .
ورمقته بنظرة سريعة ، وقلت له : أنتم الآن شباب ، لكن السنين تمرّ ، وستكبرون ..
وهزّ الرجل الضخم رأسه ، ثمّ قال : معظمنا يُقتل قبل أن يكبر ، وتصيبه الشيخوخة والعجز ..
وسكت لحظة ، ثم تابع قائلاً : مهما يكن ، نحن نعيش يومنا ، يومنا فقط ، ولا نفكر فيما يمكن أن يأتي به الغد ، نحن رجال هذه الصحراء ، أمنا القاسية الظالمة الجميلة ، ماضينا وغدنا هو اليوم الذي نعيشه .
وحوالي العصر ، لاحت في الأفق البعيد ، شعفات نخيل تتمايل في السماء الزرقاء ، فأشار الرجل الضخم بيده إليها ، وقال : انظر ..
ونظرت حيث يشير ، وبدا لي أنني أرى ما رأيته قبل يومين ، واحة خضراء حية ، كلما طاردتها ، وحاولت الوصول إليها ، هربت مني ، ثم غاصت في الرمال ، والتفتُ إليه ، وقلت : لعلها سراب .
فقال الرجل الضخم : لا ، ليست سراباً .
ونظرت إلى البعيد ثانية ، حيث الواحة المزعومة ، وقلت للرجل الضخم : هذا ما رأيته قبل يومين ، ولم يكن حقيقة ، وإنما سراب من ألاعيب الصحراء .
وابتسم الرجل الضخم ، وقال بصوته الهادئ : ما رأيته قبل يومين كان سراباً ، أما ما تراه الآن ، وتظن أنه سراب ، إنما هو حقيقة ، هذه واحة ، ومن أجمل الواحات في الصحراء .
وتطلعت ثانية إلى ما قال الرجل الضخم إنها واحة ، وأنا أظن حقيقة أنها ليست واحة ، وإنما سراب كسراب أول أمس ، وخاطبني الرجل الضخم قائلاً : انطلق بناقتك إليها ، وستعرف بنفسك أنها واحة .
والتفت إلى الرجل الضخم ، ونظرت إليه متردداً ، وقلت له : أخشى أن أذهب ، ولا أجد واحة ، وتكونوا أنتم قد ذهبتم ، فأعود إلى التيه ثانية .
وضحك أحد الرجال الثلاثة ، وقال : لا عليك ، فرجال السماء ليسوا قلة .
وضحك آخر ، وقال : دع ناقتك تقودك ، فهي تعرف الحقيقة ، إنها ابنة الصحراء .
لم أرد عليهما ، فخاطبني الرجل الضخم قائلاً : لا عليك ، اذهب إلى الواحة ، وسننتظرك هنا ، حتى تتأكد من أنها حقيقة ، وليست سراباً .
فقلت للرجل الضخم : أشكرك ..
ثم التفتُ إلى الرجال الثلاثة ، وقلت لهم : أشكركم أيها الإخوة ، أتمنى لكم التوفيق .
فردّ أحدهم ، وهو يلوح له : اذهب يا صاحبي ، وعش حياتك كما تتمنى .
ولوح لي آخر ، وقال بنبرة مازحة : إياك أن تتيه ثانية ، وإلا ستفقد ناقتك وثيابك أيضاً .
وضحك الآخر ، وقال : هيا أسرع ، قبل أن نغير رأينا ، ونتذكر أننا قطاع طرق .
وابتسمت لهم ، ولوحت للرجل الضخم ، وانطلقت بناقتي نحو ما قال الرجل الضخم إنها واحة ، ورحت ألتفت إليهم بين حين وآخر ، لأتأكد بأنهم ظلوا في أماكنهم ، وأنهم لم يذهبوا ، ويتركوني لمصيري .
وكلما تقدمت بي ناقتي على الطريق ، تقلصت مخاوفي من أن يكون ما أراه أمامي مجرد سراب ، وراح ينمو في أعماق شيئاً فشيئاً يقين بأنها حقيقة ، وليس سراباً ، نعم ، إنها واحة ، واحة حقيقية .
وأخيراً ها هي الواحة أمامي ، بأشجارها ومياهها وطيورها وأنعامها ، لقد انتهى التيه ، وبدأت الحقيقة ، فلأنعم بالأمان والاطمئنان .
والتفت إلى الوراء ، ذلك هو الرجل الضخم ، ورجاله الثلاثة ، قطاع الطرق ، الذين أعادوا لي الحياة ، وأوصلوني إلى الواحة ـ الحياة ، فرفعت يديّ إليهم ، وأنا فوق ناقتي الفتية ، ولوحتُ لهم بحرارة ، فلوحوا لي جميعا ، ثم أشرت لهم أن يمضوا في طريقهم ، مصحوبين بالسلامة والتوفيق .
وعلى الفور ، استدار الرجل الضخم بجمله القوي ، وانطلق به نحو عمق الصحراء ، وسرعان ما استدار الرجال الثلاثة بجمالهم ، وانطلقوا في إثره .

" 5 "
ــــــــــــــــــ
توقفت ناقتي الفتية ، عند مشارف الواحة ، بعد أن سحبت زمامها برفق ، وبدا لي من تململها ، وهزها لرأسها ، أنها لم تكن تريد أن تتوقف ، فعلى بعد خطوات منها الماء والكلأ والجو العذب .
نزلتُ عن ناقتي ، وسرت أمامها ، وزمامها في يدي ، وتوقفتُ قرب ساقية ، يجري فيها ماء زلال ، فمدت الناقة عنقها الطويل ، وراحت تعب الماء عباً ، آه هذا عطش الصحراء ، وأخيراً رفعت رأسها ، ورمقتني بنظرة رقيقة ، كأنها تقول لي : أشكرك .
وربتُ على عنقها الطويل ، بكف حانية رقيقة ، وقلتُ لها ، وكأنها تدرك ما أقول : فلنبحث عن كلأ ، تملئين منه معدتك ، وما أكبرها من معدة .
وحانت مني نظرة إلى النبع القريب ، ويبدو أنه أحد مصادر الماء العذب في الواحة ، الذي تخلقت منه هذه الواحة ، وجذبت إحدى القبائل إليها ، فوقع نظري على امرأة تجاوزت السبعين ، تحاول بصعوبة بالغة ، أن ترفع جرتها المليئة بالماء ، لتضعها على كتفها .
وعلى الفور ، سحبت ناقتي الفتية ، واقتربت من المرأة المسنة ، وحييتها قائلاً بصوت هادئ : طاب يومك أيتها الجدة الطيبة .
وتوقفت الجدة عن محاولة رفع الجرة ، ورفعت عينيها الشائختين إليّ ، وقالت : أهلاً ومرحباً بك ، يا بنيّ ، طاب يومك .
فملتُ عليها ، وزمام الناقة الفتية في يدي ، وقلت بنبرة مزاح : يبدو أن ابنك ليس في البيت ، فأنت تملئين الجرة بنفسك ، من هذا النبع ، وتحملينها إلى البيت .
وهزت الجدة رأسها ، وقالت بنبرة حزينة : ليس لي ابن ولا بنت ، وهذا قدري .
واعتدلتُ قليلاً ، وأنا أربت على كتفها ، وقلت لها : لا عليكِ ، أنا ابنك ، دعيني أحمل الجرة عنك .
فحدقت الجدة فيّ ، بعينيها الشائختين ، وقالت بنفس نبرتي المازحة : أدعك ، لكن بشرط ..
فقلتُ لها : أقبل شرطك .
فتابعت الجدة قائلة ، وهي مازالت تحدق فيّ : أن تتناول طعام الغداء معي في خيمتي .
ومددت يدي إلى الجرة ، ووضعتها على كتفي ، وأنا أقول : قبلت ، تقدميني إلى الخيمة .
وبخطواتها الثقيلة البطيئة ، سارت الجدة أمامي ، فتبعتها مجارياً خطواتها العجوز ، والجرة المليئة بالماء على كتفي ، فأدارت رأسها نحوي ، دون أن تتوقف ، وقالت : يبدو لي أنك غريب عن هذه الواحة ، وربما جئت إليها من مكان بعيد .
ولذت بالصمت لحظة ، ماذا أقول لها ؟ لا أدري ، لكني جمعت أشتاتي ، وقلت لها : نعم ، لست من هذه الواحة ، والحقيق إنني جئتها الآن فقط .
وابتسمت الجدة ، وقالت دون أن تتوقف : لابد أنك جئت لزيارة صديق أو قريب .
ونظرت إليها حائراً ، وقلت لها بصوت مضطرب : عفواً ، الحقيقة ، لا قريب لي هذه الدوحة ، ولا حتى صديق ، إنني مررت على مقربة منها ، وأعجبتني مناظرها ، فرأيت أن أرتاح فيها قليلاً ، ثم أواصل رحلتي حيث أريد .
واقتربت الجدة من خيمة متواضعة ، أمامه نخلة عجوز ، فأشارت إليها بيدها ، وقالت ضاحكة : هذا قصري المنيف ، الذي تركه لي زوجي ، بعد أن رحل .
وابتسمت لها ، وقلت ، وقد تمالكت نفسي : السعادة ، يا جدتي ، ليست بالقصور وكثرة المال .
وتوقفت الجدة أمام مدخل الخيمة ، ثم التفت إليّ ، وقالت : أنت ضيفي إذن ، ما دمت في هذه الواحة .
فقلت لها : هذا كرم منك ، أشكرك .
وقبل أن تمضي إلى داخل الخيمة ، قالت لي : اربط ناقتك بالنخلة ، وتعال إلى الداخل .
وربطت ناقتي الفتية بالنخلة العجوز ، ودخلت بالجرة إلى داخل الخيمة ، فأشارت الجدة إلى إحدى الزوايا ، وقالت لي : ضع الجرة هناك .
ووضعتُ الجرة حيث أشارت الجدة ، وحين التفت إليها ، قالت لي مبتسمة : لقد أتعبتك ، وأنت ضيفي ، أرجو أن تكون قد ربطت ناقتك .
فهززت رأسي ، وقلت لها : نعد ، ربطتها إلى النخلة ، القريبة من المدخل .
والتمعت عيناها الشائختان ، وكأنما مسها حلم دافئ ، وقالت بصوت دامع : تلك النخلة ، التي تبدو عجوزاً الآن ، زرعها لي زوجي الراحل ، في الأسبوع الأول من زواجنا ، وقال لي ، فلنعتنِ بهذه النخلة المباركة ، وستثمر يوماً ، وسنأكل منها نحن وأولادنا .
وسكتت الجدة ، وقد تبللت عيناها بالدموع ، وبدا لي بأنها ستنخرط بالبكاء ، فقلت لها : النخلة شجرة مباركة ، ولابد أنها غمرتكم بخيرها الحلو .
ولاذت الجدة بالصمت لحظة ، ثم قالت ، وهي تغالب أحزانها : نعم ، أكلنا منها أنا وزوجي ، وأسعدنا بخيرها الكثير من الأهل والأصدقاء ..
وصمتت لحظة ، ثم أضافت بصوت حزين : لكن أولادنا لم يأكلوا منها ، وهذا ما سبب لزوجي الراحل ألماً كبيرا ، إذ لم يصر لنا أولاد .
ونظرت الجدة إليّ بعينيها الدامعتين ، وأضافت قائلة : قلت له تزوج ، فقد يكون لك أطفال ، تُسعد بهم ، فقال لي ، لن أسعد ، فهذا إذا تحقق قد يحزنك .
وتنهدت الجدة ، وتابعت قائلة : وقد حزنت جداً ، وسأحزن العمر كله ، لقد فقدته حين شارك في إحدى الغزوات ، وسقط فيها قتيلاً .
ولاذت بالصمت لحظة ، ثم راحت تكفكف دموعها ، وهي تبتسم ، وقالت : يا لي من حمقاء ، بدل أن أشغلك بالأحاديث الحزينة ، كان عليّ أن أعدّ طعام العشاء ، فلابدّ أنك جائع جداً ، بعد هذا السفر في الصحراء .
فربت على كتفها برفق ، وقلتُ لها مواسياً : لا عليك ، لكل منا أحزانه ، هذه هي الحياة .
وأشارت الجدة إلى حشية على الأرض ، وقالت : اجلس ، وارتح ، يا بنيّ ، ريثما أعد العشاء .
فتطلعت إلى الخارج ، وقلت لها : الشمس لم تغرب بعد ، سأخرج ، وأتجول قليلاً في الواحة ، لن أتأخر ، سأعود قبل حلول الليل .
فقالت الجدة : اذهب ، يا بنيّ ، وتجول حيث شئت ، فالواحة واسعة وجميلة ، وأهلها طيبون .

" 6 "
ـــــــــــــــــــ
بعد العشاء ، جلسنا أنا والجدة ، نتجاذب أطراف الحديث ، على ضوء قنديل قديم ، شحيح الضوء ، يكاد لا يضيء إلا ما حوله .
ورفعت الجدة عينيها الشائختين ، وتطلعت إليّ ، وقالت بصوتها الواهن : تجولت في الواحة ، فترة ليست قصيرة ، قبل العشاء ، أرجو أن تكون قد أعجبتك ، وأنت تراها لأول مرة .
ونظرتُ إليها مبتسماً ، وقلت لها : أنتم تعيشون في الجنة ، خضرة وماء ووجوه حسنة .
وضحكت الجدة بصوتها الشائخ ، وقالت بصوتها الواهن : وآه من الوجوه الحسنة .
وجاريتها في الضحك ، وقلت : وأي وجوه .
وتوقفت الجدة عن الضحك ، لكنها قالت مبتسمة بصوتها الشائخ : هذا ما يقول زوار واحتنا ، رجالاً ونساء ، وما أكثرهم ، وخاصة في فصل الربيع .
وسكتت الجدة ، وسكتُ معها ، حين ارتفع من الخارج ، صوت فتاة تبدو شابة ، تهتف بصوت ، خيل لي أنني سمعته في مكان ما : أيتها الجدة .
ونهضتْ الجدة متحاملة على نفسها ، واتجهت إلى المدخل بخطواتها البطيئة الثقيلة ، وهي ترد بصوتها الشائخ قائلة : ريم ؟ تعالي ، يا بنيتي ، ادخلي .
وخفق قلبي بشدة ، حين سمعت اسم ريم ، وتذكرت على الفور ، أين سمعت ذلك الصوت ، نعم إنه في الخيمة الوحيدة ، قرب النخلة الوحيدة ، و .. وفتحت الجدة المدخل ، وراحت ترحب بالقادمة بصوتها الشائخ : أهلاً ومرحباً بعزيزتي ريم ، تفضل ، ادخلي .
ودخلت ريم ، فانتفضتُ واقفاً ، وقلبي يزداد خفقانه ، إنها ريم نفسها ، ريم الخيمة ، نفس الوجه والشعر والهيئة ، لا يختلف فيها غير الثياب .
وخاطبت ريم الجدة بنفس صوت ريم الخيمة قائلة : جئتُ أزورك ، يا جدة ، وأتمتع بحكاياتك ، ونوادرك ، وأحاديثك العذبة ..
آه إنها ريم ، ريم الخيمة نفسها ، لكن أهذه حقيقة ؟ كلا ، لا وقت الآن للبحث عن الحقيقة ، ثم ها هي أمامي ، فلا داعي للتردد ، والتساؤل .
وعلى حين غرة ، اقتربت من ريم ، وهتفت بها ، وعيناي ترتشفانها : ريم ..
وتوقف ريم ، حين سمعتني أهتف باسمها ، وما إن نظرت إليّ ، ووجدتني أحدق فيها متلهفاً ، حتى التفتت إلى الجدة ، وقالت لها بصوتها العذب : عفواً أيتها الجدة ، لم أعرف أن لديك ضيفاً .
وتحيرت الجدة بماذا تجيب ، وأخيراً قالت بصوت متحشرج شائخ : إنه شاب غريب ، يا ريم ، يزور الواحة لأول مرة ، وقد استضفته عندي .
ونظرت ريم إليّ ، إنها ريم ، لا يمكن أن لا تكون ريم ، لكن كيف ؟ وقالت بصوتها العذب : أهلاً ومرحباً ، أنت لست ضيف الجدة فقط ، وإنما ضيفنا جميعاً .
فابتسمت ممتناً ، وعيناي المتلهفتان لا تفارقان وجهها الريم ، وقلت لها : أشكرك .
وصمتُ لحظة ، ثم أضفتُ قائلاً : ريم ، أكاد لا أصدق عينيّ ، يبدو أنك جئت إلى الواحة ، بعد أن استغرقتُ في النوم في الخيمة ، التي قرب النخلة ..
وسكتُ ، حين رأيت ريم تنظر مذهولة إلى الجدة ، التي وقفت محرجة حائرة ، ثم قالت ريم بحيرة : لا أعرف عما يتحدث الضيف ..
ورغم هذا تقدمتُ منها خطوة ، وأنا أقول لها : على ضوء ذلك القنديل ، الشحيح الضوء ، جلسنا معاً ، يا ريم ، لا يمكن أن لا تكوني تتذكرين هذا ، لقد حدث ذلك في الأمس فقط .
وتراجعت ريم ، وهي تنظر إليّ بعينيها السوداوين ، وقالت بصوت لا أثر فيه للخوف أو القلق : عفواً ، يبدو أنك تتحدث عن ريم أخرى ، ربما عرفتها في ظروف أخرى ، غريبة غامضة .
واقتربتُ منها ، وحدقت فيها ، وأنا أتحدث إليها بشيء من الحماس : ريم ، إنها أنت ، أنت نفسك ، رغم أن ملابسك تختلف بعض الشيء عن ملابسها .
ووصلت ريم في تراجعها ، قريباً من الباب ، وبدل أن تخاطبني ، راحت تخاطب الجدة قائلة : أيتها الجدة ، عليّ أن أعود إلى البيت ، ارع الضيف ، إنه ضيفنا جميعاً ، وليتك تقنعينه أن يخلد إلى النوم .
وخفت الجدة إليها ، وقالت لها بصوتها الشائخ : اذهبي ، يا بنيتي ، رافقتك السلامة .
وخرجت ريم مسرعة ، وهي ترمق عامر بنظرة سريعة ، وتخاطب الجدة قائلة : لا تخرجي من البيت ، يا جدة ، ابقي معه ، قد أزوركم في أقرب فرصة .
وبقيت الجدة بالباب ، حتى غابت ريم ، ماذا يجري ؟ أيعقل أنها لم تتذكرني ؟ من يدري ، لعلها تتظاهر بأنها لا تعرفني ، لأنها لا تريد للجدة أن تعرف سرنا .
وعادت الجدة مضطربة ، وقد أغلقت المدخل ، وراحت تحدق فيّ ، وخاطبتني قائلة بصوتها الشائخ المرتعش : بنيّ ، ما خطبك ؟ لقد أخفت ريم .
فاقتربت منها ، وقلت لها بحماس : لم أشأ أن أخيفها ، وإنما أردت أن أذكرها ، بموقفها الطيب مني ، عندما استقبلتني في خيمتها ، وسط الصحراء ، و ..
وقاطعتني الجدة قائلة : ريم ابنة عائلة معروفة في هذه الواحة ، يبدو أنك تتحدث فعلاً عن ريم أخرى .
فقلت لها : بل إنها هي ، رغم اختلاف الملابس .
ونظرت الجدة إليّ نظرة مشفقة ، فتابعت قائلاً : صدقيني ، كنت تائهاً في الصحراء ، ورأيتها في خيم قرب نخلة ، وسط الصحراء ..
وسكتُ أمام نظراتها المشفقة ، وقلت لها : أنت لا تصدقينني .
فاقتربت مني ، وأمسكت بيدي ، وخاطبتني بصوت أمومي قائلة : تعال تمدد في فراشك ، يا بني ، وحاول أن تنام ، أنت متعب ، متعب جداً .
وأغمضت عيني المتعبتين ، لكني لم أنم ، وكيف أنام ، وريم الخيمة .. وريم الواحة .. لا تفارقان فضائي المضطرب ؟ وقبل أن يغلبني النوم ، في ساعة متأخرة من الليل ، قررت بيني وبين نفسي ، أن اذهب إلى ريم ، مهما كلفني الأمر ، وأذكرها بكل ما جرى لنا ، في تلك الخيمة الوحيدة ، قرب النخلة الوحيدة ، وسط الصحراء .

" 7 "
ــــــــــــــــــ
أفقتُ وقد تقدم النهار ، والنعاس مازال في عينيّ ، لقد نمت في ساعة متأخرة من الليل ، وتناهت إليّ خطوات الجدة ، آه كم أخشى أن أكون قد أغضبتها البارحة ، وحين دخلت ، رفعتُ عينيّ إليها ، فخاطبتني قائلة بصوتها الشائخ : طاب صباحك .
يا للجدة الطيبة ، إنها ليست غاضبة مني إذن ، كما كنت أخشى ، فرددتّ عليها بصوت ، حرصت أن يكون هادئاً : وصباحك أطيب ، يا جدة .
وتطلعت الجدة إليّ ، وأنا ما زلت في فراشي ، وقالت لي : أعددت لك الفطور ، في وقت مبكر ، أرجو أن يعجبك ، انهض ، ولنتناول الطعام معاً .
ونهضتُ من فراشي ، متظاهراً بالنشاط ، وجلستُ قبالتها ، ورحتُ أتناول الطعام صامتاً ، وأنا أرمق الجدة بنظرات خاطفة ، وخاطبتني الجدة ، دون أن تنظر إليّ : أرجو أن نومك البارحة كان مريحاً .
هززتُ رأسي ، دون أن أتفوه بشيء ، فتابعت الجدة قائلة بصوتها الشائخ : الجو مريح في الواحة ليلاً ونهاراً ، وكأنها لا تقع وسط صحراء مترامية الأطراف .
ولذت بالصمت لحظات ، لا أنطق بكلمة واحدة ، ثم رفعت رأسي إلى الجدة ، ونظرتُ إليها ، ثم خاطبتها قائلاً : أيتها الجدة ..
وتوقفت الجدة عن تناول الطعام ، ويبدو أنها أحست بخطورة ، ما أريد أن أقوله لها ، وقالت بصوتها الواهن الشائخ : نعم ، يا بنيّ .
وتابعتُ قائلاً : بخصوص ريم ..
وقاطعتني الجدة قائلة بصوتها الشائخ ، الذي بدا فيه بعض الانفعال : بنيّ ، انسَ ريم ، وآمل أن تكون هي ، قد نسيت من جانبها ، ما قلته البارحة لها ، فهي إنسانة طيبة ، متفهمة ، ومتسامحة .
أصغيتُ إلى الجدة متوتراً ، وما إن انتهت من كلامها ، حتى قلت لها : لن أنساها ، ولا أستطيع أن أنساها ، بل أريد أن أراها ، مهما كلف الأمر .
وقطبت الجدة وجهها المتغضن ، وقالت بصوتها الشائخ ، وقد شابه بعض الانفعال : لا ، لا يا بنيّ ، أنصحك أن لا تحاول أن تراها ، فأسرتها من أكبر الأسر ، وأبوها واحد ما أهم الرجال في الواحة ، وابن عمها ..
وقاطعتها قائلاً : إذا كنت قد أخطأت في حقها ، كما تقولين ، فيجب أن أراها ، وأعتذر منها .
ونهضت الجدة ، ثم نظرت إليّ ، وقالت بصوتها الشائخ : لا عليك ، سأذهب إليها بنفسي ، وأنقل لها اعتذارك عما بدر منك .
ونهضت بدوري ، وقلتُ لها : لا ، أيتها الجدة ، أريد أن أراها ، وأعتذر منها بنفسي .
وردت الجدة قائلة بشيء من نفاد الصبر : كلا ، هذا غير ممكن ، الأفضل أن أذهب أنا إليها ، وأنقل لها ما تريد أن تقوله ، وهذا ينهي الأمر .
ولذتُ بالصمت محبطاً ، لا خيار ، لن أستطيع الآن أن أراها ، وأتحدث إليها ، لكن عليّ أن لا أقنط ، فنظرتُ إلى الجدة ، وقلتُ لها : حسناً ، اذهبي أنت إليها ، وقولي لها ، إنني .. نعم ..إنني ..
وصمت لحظة ، ثم قلتُ : الحقيقة .. إنني .. أتطلع إلى أن أراها .. في وقت قريب ..
وهمت الجدة بالخروج ، لكنها توقفت عند الباب ، والتفتت إليّ ، ثم قالت : لعلي أحدثها عن رغبتك في لقائها ، وتعتذر منها ، إذا كان الجو مناسباً .
ومضت الجدة للقاء ريم ، وتقدم لها الاعتذار باسمي ، أخشى أنها قد لا تتفهم موقفي ، من خلال ما ستقوله الجدة ، وتمنيت أن تنجح الجدة في إقناعها ، فتتيح لي المجال للقائها ، وهذا سيتيح لي الفرصة لتذكيرها بلقائنا العجائبي في الخيمة ، واختفائها الأكثر عجائبية .
وقبيل منتصف النهار ، عادت الجدة متعبة ، لكنها لم تجيء وحدها ، وإنما جاء معها ـ ويا للعجب ـ أبو ريم ، وهو رجل قد تجاوز الخمسين ، وسيم ، يبدو هادئاً ، قوي الشخصية ، ذا عينين ذكيتين .
عرفته ، بعد أن قدمتني الجدة إليه قائلة : هذا هو ضيفي ، يا أبا ريم ، وستتأكد بنفسك ، إذ تعرفه ، أنه إنسان طيب ، جدير بالثقة .
ونظرت إليه متفاجئاً ، وقلبي يخفق بشدة ، فخاطبني بصوت هادىء ، وهو يشد على يدي : أهلاً ومرحباً بك في واحتنا ، أنت ضيفنا جميعاً .
وأشارت الجدة إلى حشية قريبة ، وقالت لأبي ريم : تفضل اجلس ، يا أبا ريم ، واجلس أنت أيضاً ، يا بني ، وتبادلا الحديث على راحتكما .
وابتسم أبو ريم للجدة ، وهو يرمقني بنظرة سريعة ، ثم قال : نشكرك ، أيتها الجدة ، الجو في الخارج لطيف ، أفضل أن نخرج معاً ، ونتمشى في الجوار .
والتفت إليّ مبتسماً ثم قال : أظن أنك توافقني .
فهززتُ رأسي ، وقلت ، وقد تمالكت نفسي بعض الشيء : نعم ، فلنتمشّ في الخارج .
وخرجنا من الخيمة ، وشعرت بالجدة تلحق بنا حتى المدخل ، وسمعتها تقول : بنيّ ، سأعد لك طعام الغداء ، ريثما تعود من جولتك مع أبي ريم .
حقاً كان الجو لطيفاً ، أشجار .. وماء .. وهواء عذب ، و .. وأنا وأبو ريم ، نسير صامتين جنباً إلى جنب ، ورمقني أبو ريم بنظرة سريعة ، ثم قال دون أن يتوقف أو يُبطىء : ابنتي ريم ، حدثتني عن لقائكما ، أنت وهي ، صدفة ، في خيمة الجدة ، يوم أمس ..
وهززتُ رأسي ، وقلت : من يدري ، ربما ليس صدفة ، للقدر ألاعيبه ..
وطفت ابتسامة غريبة على شفتي أبي ريم ، وقال : ما قالته ريم ، عما دار بينكما ، ومن جهتك خاصة ، أمر لا يكاد يصدقه عقل .
فقلت له بشيء من الحماس : ما قلته لها ، كان هو الحقيقة ، كما عشتها لحظة بلحظة .
وتوقف أبو ريم ، والتفت إليّ ، ثم قال : أنت كما قالت الجدة ، وكذلك ابنتي ريم ، إنسان طيب ، جدير بالثقة ، وأنا صراحة ارتحت إليك .
وتمتمت قائلاً : أشكرك .
فتابع قائلاً : أدعوك مساء اليوم على العشاء ، وأرجو أن تشرفني في خيمتي ، أنت والجدة العجوز .

" 8 "
ـــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، وقبيل منتصف النهار ، نظرت الجدة إليّ ، وخاطبتني بصوتها الشائخ : بنيّ ..
فنظرت إليها ، وقلتُ : نعم .
فقالت لي بصوتها الشائخ : لقد حان الموعد ، لا أريد أن ينتظرنا أبو ريم طويلاً .
فنهضتُ عن الحشية ، وقلت لها : أنت محقة ، لابد أن ريم تنتظرنا أيضاً ، فلنذهب الآن .
وهزت الجدة رأسها ، ثم تقدمتني ووقفت عند المدخل ، وهي تقول لي : تفضل .
خرجتُ من الخيمة ، وخرجت الجدة بعدي ، فقلتُ لها بصوت هادئ : تقدميني أيتها الجدة ، أنت تعرفين الطريق إلى خيمة أبي ريم .
لكن الجدة ردت قائلة ، وهي تسير بخطواتها الثقيلة إلى جانبي : لنسر جنباً إلى جنب ، الخيمة ليست بعيدة ، وسأدلك عليها حين نصلها .
ومشينا معاً صامتين ، وحاولت أن أبطىء ، مراعاة لعمر الجدة ، وسيرها البطيء ، ولم يطل الصمت بيننا ، فقد رمقتني الجدة بنظرة خاطفة ، وقالت : بنيّ ، نحن نقترب من خيمة أبي ريم .
وتطلعتُ حولي ، وكأني أحاول أن أخمن خيمة أبي ريم ، من بين خيام عديدة جميلة ، تحيط بها الأشجار ، فتابعت الجدة قائلة بصوتها الشائخ : أبو ريم واحد من كبار رجالات الواحة ، وهو ـ كما رأيته ـ إنسان هادئ ، متفهم ، على العكس من ابن عمها ، فهو شاب طائش فائر الدم ، متسرع ، له أصحاب يشبهونه .
وتطلعت الجدة إلى خيمة قريبة ، وقالت بصوتها الشائخ : هذه هي الخيمة ، انظر ، وتلك هي ريم تقف أمام المدخل ، ولعلها تقف هنا في انتظارنا .
ونظرت إلى حيث تنظر الجدة ، وإذا ريم تقف قرب المدخل فعلاً ، وهي تسترق النظر إلينا ، فقلت للجدة : نعم ، أنت محقة ، إنها .. ريم .
وحاولت أن أحث خطاي ، لأصل إلى ريم ، وأتحدث إليها ، لكني انتبهت إلى خطوات الجدة الثقيلة البطيئة ، فتوقفت عن محاولتي ، ورحت أجاري سيرها .
وأخيراً صرنا على بعد خطوات قليلة من ريم ، التي ظلت واقفة في مكانها ، فتوقفت الجدة على مقربة منها ، وخاطبتها بصوتها اللاهث الشائخ : طاب يومك ، يا بنيتي العزيزة ريم .
ورمقتني ريم بنظرة سريعة ، ثمّ ردت على الجدة قائلة : أهلاً ومرحباً بالجدة ، طاب يومك .
وظلت عيناي المشدوهتان تحدقان في ريم ، دون أن ينطق لساني بكلمة واحدة ، فنظرت ريم إليّ بعينيها السوداوين ، وخاطبتني بصوت ريم الخيمة قائلة : أهلاً ومرحباً بك ، أهلاً بك في خيمتنا .
وملتُ عليها ، وتمتمت : ريم ..
وقاطعتني ريم قائلة : للأسف ، خرج أبي من الخيمة لأمر هام وعاجل ، وسيعود بعد قليل .
وهممتُ أن أخاطبها ، لكنها قاطعتني ، وذلك بأن التفتت إلى الجدة ، وقالت لها بصوت رقيق : تفضلي بالدخول ، أيتها الجدة ، أمي تنتظرك في الداخل ، وسأبقى هنا مع عامر ، ريثما يعود أبي من الخارج .
وأسرعت الجدة إلى الداخل ، بقدر ما تسعفها أقدامها الثقيلة الشائخة ، وهي تقول بصوتها الشائخ : كما تشائين ، أنا مشتاقة إلى أمك ، وأريد أن أسلم عليها .
وحين دخلت الجدة الخيمة ، نظرت ريم إليّ ، وقالت : نحن وحدنا الآن .. يا عامر .
وحدقت فيها ملياً ، وعيناي القلقتان تستعيدان النخلة .. والخيمة .. والقنديل الشحيح .. وريم ، وقلت لها : هذا ما كنت أريده ، يا ريم .
وحدقت ريم فيّ ، وشبح ابتسامة ترفرف على شفتيها ، وقالت بصوت ريم الخيمة : لم أنم ليلة البارحة ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، كنت أفكر فيك .
وبدل أن أردّ عليها ، ردّ قلبي بخفقانه الشديد ، فتابعت ريم قائلة : عامر ، ما قلته لي البارحة ، أثار قلقي ، وشغلني عما حولي ، آه .
فملتُ عليها ، وقلت : ما قلته ، يا ريم ، هو الحقيقة .
فرفعت عينيها السوداوين إليً ، وقالت : حقيقة ! أذاك كان حقيقة ؟ لكني أخشى أنه سراب .
وبحماس قلتُ : كلا ، بل حقيقة ..
فهزت رأسها ، وقالت : صحيح أن اسمي ريم ، وصحيح أنني أشعر بأني أعرفك ، لكن هذا محال ، أتمنى لو أنني ريم التي تتخيلها ، لكني لست هي .
ومددتُ يديّ ، وأمسكت كتفيها النابضين بالحياة ، وقلتُ لها : أنت هي ، أنت ريم ، هذا اسمها ، وهذه ملامحها ، وهذا صوتها ، أنت ريم يا ريم .
وهمت ريم أن تردّ عليّ ، لكنها توقفت ، ثم تراجعت إلى الوراء ، وقالت : لا .. لا ..
وخطوت نحوها ، وأنا أحاول أن أتمالك نفس ، وأن أقول لها : مهلاً .. يا ريم .. مهلاً ..
وتراجعت أكثر ، وهي تقول : لست ريم .. التي رأيتها .. انس الأمر .. ما رأيته .. سراب ..
وواصلت التقدم نحوها ، وأنا أقول : ريم ، أنت ريم ، لقد وجدتك ، ولن أتخلى عنك مهما كلف الأمر .
وتوقفت ريم ، وهي تتلفت حولها ، وحين اقتربت منها ، حدقت فيّ ، وقالت : من حسن الحظ ، يا عامر ، أن ابن عمي لا يرانا ، إنه مجنون .
وتقدمتُ منها ، وأنا أمدّ يدي إليها قائلاً : ريم .. اسمعيني
ونظرت ريم لما ورائي ، وقالت : توقف ..
لم أتوقف ، فتراجعت خائفة ، وهي تقول : عامر .. هذا أبي .. إنه قادم .
وتوقفت ، وأنا أحاول أن أتمالك نفسي ، وسرعان ما أقبل أبو ريم ، وتقدم مني ، وخاطبني وهو يبتسم قائلاً : عفواً ، يا بنيّ ، أخشى أن أكون قد تأخرت عليك .
حاولت أن أردّ عليه ، دون جدوى ، فسارعت ريم إلى القول : جاء عامر مع الجدة ، منذ قليل ، ورأيت أن ننتظرك هنا ، وها أنت قد أتيت .
ومدّ أبو ريم يده ، وأخذ بيدي ، وسار بي إلى داخل البيت ، وهو يقول : تعال إلى الداخل ، لابد أن أم ريم قد أعدت لنا طعاماً شهياً .
وسكت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : سنتناول طعام الغداء أولاً ، ثم نرتح قليلاً ، وبعدها نتبادل أطراف الحديث ، أهلاً ومرحباً بك .

" 9 "
ـــــــــــــــــــ
قبيل المساء بقليل ، خرجنا أنا والجدة ، من بيت أبي ريم ، وسرنا جنباً إلى جنب ، عائدين إلى الخيمة ، وفي الطريق ، خاطبتني الجدة بصوتها الشائخ ، قائلة : بنيّ عامر ، ريم امتدحتك كثيراً ..
لم أردّ عليها ، فرمقتني بنظرة سريعة ، ثم أضافت قائلة بصوتها الشائخ : قالت إنك إنسان طيب ..
وثانية لم أردّ عليها بكلمة واحدة ، لكني كنت أصغي إلى ما تقول ، ونظرت إليّ هذه المرة ، وقالت : وحدثتني عن أبيها ، وقالت إنه ارتاح كثيراً إليك ، ولهذا دعاك إلى العشاء عنده في الخيمة .
وسكتت مرة أخرى ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : إنه رجل طيب وكريم .
وهذه المرة لم أتكلم أيضاً ، فحدقت فيّ مندهشة ، ثم قالت : بنيّ عامر ، أراك مقطباً وحزيناً ، أرجو أن لا يكون قد دار بينك وبيت أبي ريم ، ما عكر مزاجك .
فرمقتها بنظرة سريعة ، وقلت لها : أبو ريم حدثني عن ريم وقال إنها امتدحتني ، وقالت ، إنني إنسان مريح جداً وطيب القلب ، لكنه حذرني من ابن عمها ، وقال إنه على ما يبدو قد سمع بلقائك معها ، ويخشى أن هذا قد يثير جنونه ، فهو عصبي المزاج ومتهور .
وتوقفت الجدة ، ونظرت إليّ ، وقالت بصوتها الشائخ : وله أصحاب أكثر تهوراً منه ، وهم يأتمرون بأوامره مهما كانت عواقبها .
وأشحتُ بعينيّ عنها ، دون أن أتفوه بكلمة ، واستأنفتُ سيري صامتاً ، وسمعتها تدب في أثري بخطواتها الثقيلة البطيئة ، وهي تلهث بصوت مسموع .
وحين اقتربنا من الخيمة ، لاحت لي ناقتي ، وهي مربوطة إلى النخلة العجوز ، فخاطبت الجدة ، دون أن ألتفت إليها : ادخلي أنت إلى الخيمة ، وارتاحي قليلاً ، إن ناقتي بحاجة إلى بعض الرعاية .
وتلفتت الجدة حولها ، ثم قالت لي بصوتها الشائخ ، وقد شابه شيء من الخوف والقلق : بني ، سأنتظرك في الخيمة ، لا تبقى طويلاً في الخارج .
وتوقفت لحظة ، ونظرت إليها دون أن أتفوه بكلمة ، فقالت لي بصوتها الخائف الشائخ : الشمس ستغيب بعد قليل ، وأريدك إلى جانبي ، عندما يخيم الظلام .
واستدرتُ دون أن أردّ بكلمة واحدة ، ، ومضيت إلى ناقتي ، بينما دخلت الجدة إلى الخيمة ، وسمعت وقع أقدامها الثقيلة ، وهي تدلف إلى الداخل .
ونظرت إليّ ناقتي ، حين اقتربت منها ، كأنها تعاتبني على إهمالي لها ، في الفترة الأخيرة ، فحللتُ وثاقها ، وقدتها إلى ترعة يجري فيها ماء رقرق ، فمدت عنقها الطويل إلى الماء ، وشربت حتى ارتوت .
ثم تجولت بها ، في مواقع عديدة ، غنية بالحشائش الريانة ، وتركتها تأكل وتأكل ، حتى غابت الشمس ، فقفلت بها عائداً ، وربطتها إلى النخلة العجوز .
واتجهت إلى الخيمة ، وقد حلّ الظلام ، ومضيت إلى الداخل ، وإذا الجدة تقف قرب المصباح ، وقد أشعلته ، وقالت لي : لقد تأخرت ، يا بنيّ .
فرمقتها بنظرة خاطفة ، وقلت لها : ناقتي كانت جائعة وعطشانة ، فأطعمتها ورويتها ، ثم أعدتها إلى مكانها قرب النخلة .
ونظرت الجدة العجوز إليّ برهة صامتة ، ثم قالت لي بصوتها الشائخ المتعب : سأعدّ لك شيئاً من الطعام ، فقد حان وقت العشاء .
وأبعدت عينيّ الغائمتين عنها ، وجلست في فراشي ، مسنداً ظهري إلى الحائط ، وقلت لها : أشكرك ، لا أشتهي أي شيء من الطعام .
وجلست هي الأخرى في فراشها ، ثم نظرت إليّ ، وقالت بصوته الشائخ المتعب : بنيّ عامر ، أريد أن أقول لك شيئاً ، وأرجو أن تتفهمني .
ونظرت إليها ، على ضوء القنديل الخافت ، وبدت لي وكأنها شاخت أكثر وأكثر ، فقلتُ لها : أنت بمثابة جدتي ، وكانت عزيزة عندي ، قولي ما تشائين .
فقالت لي الجدة بصوتها الشائخ الحنون : صدقني ، يا بني ، إنني أتمنى أن تبقى معي العمر كله ، فأنا امرأة عجوز وحيدة في هذه الحياة ، وبحاجة إلى إنسان مثلك أرعاه ويرعاني .
وهززتُ رأسي متأثراً ، وقلت لها : أنا أعرف ذلك ، وستبقين قريبة مني ، أينما كنت .
وغالبت الجدة دموعها ، وتابعت قائلة بصوتها الشائخ : لأنك ابني ، ولأني أحبك ، أقول لك ، وأرجو أن تتفهمني ، عد إلى عالمك ، هذه الواحة خطرة عليك .
ولذت بالصمت لحظات ، ثم قلتُ وكأني أحدث نفسي : ريم ترتاح إليّ ، وأنا أرتاح إليها ، لا أستطيع أن أبتعد عنها ، ولن أبتعد عنها ، مهما كلف الأمر .
ونظرت الجدة إليّ نظرة حزينة ، ثم قالت لي : لا يا بتيّ ، أنت واهم ، ريم ليست كما تتصورها ، ثم إنك لا تعرف ابن عمها ، وهو يريدها ، إنه مجنون .
لذت بالصمت ، فقالت لي الجدة : نم الآن ، يا بنيّ ، وأرجو أن تفكر فيما قلته لك ، وأتمنى أن تأخذ ناقتك غداً ، وتعود من حيث أتيت .
تمددتُ في فراشي ، وأغمضتُ عينيّ المتعبتين ، لا أريد أن أنام ، ولن أنام ، سأبقى في هذه الواحة ، سأبقى إلى جانب ريم ، مهما كلف الأمر ، لكني .. نمت .
تناهى إلى صوت ريم ، تهتف بي : عامر ..
فتحتُ عينيّ ، لعله حلم ، نحن في منتصف الليل ، لابد أن هذا الصوت من داخلي ، ونظرت إلى الجدة ، كانت تغط في نوم عميق ، وجاءني الصوت ثانية : عامر ..
إنها هي ريم ، هذا صوتها ، ونهضت من فراشي ، وتسللت إلى الخارج ، وإذا شاب يمسك بريم ، ويجرها بعيداً ، وهي تهتف بي : عامر .. اهرب .. اهرب ..
وبدل أن أهرب ، اندفعت نحو الشاب ، الذي يجر ريم ، لكني فوجئت بثلاثة رجال ملثمين ، ينقضون عليّ من الظلام ، وينهالون علي ضرباً بهراوات ثقيلة ، حتى ألقوني أرضاً ، مضرجاً بالدماء ، وسرعان ما أغمي عليّ ، ولم أعد أعي بما يدور حولي .

" 10 "
ــــــــــــــــــــــــ
فتحتُ عينيّ ، أحقيقة هذا أم خيال ؟ فبعد ما جرى لي ، ظننت أنني لن أفتح عينيّ ثانية ، ولن أرى لا ريم ، ولا أروى ، ولا حتى ناقتي الفتية .
وقبل أن أفتح عينيّ ، وأعود من الظلام ، تناهى إليّ من مكان قريب ، صوت أعرفه ، لكن بدا لي ، وكأني لا أعرفه إلا من مدة بعيدة جداً .
وفوجئت بوجه أعرفه ، يطل عليّ مبتسماً ، وربما فرحاً أيضاً ، إنها فتاة ، فتاة جميلة ، أهي ريم الخيمة ، أم ريم الواحة ، أم .. ؟ يا للحيرة .
وبصوتي المبعثر، قلت لها : من أنتِ ؟
ردت عليّ قائلة ، وقد اتسعت ابتسامتها : قدرك .
ومن أعماقي المضبّة ، قلت : آه ..
ومالت عليّ الفتاة وهي مازالت تبتسم ، وهمست في أذني : لعلك توقعت أنني .. ريم ..
وحدقت فيها ، وقلبي يخفق بشدة ، وتساءلت : ريم !
فاعتدلت الفتاة ، وهي تتغامز ، ثم قالت مبتسمة : نعم .. ريم .. لقد كررت اسمها مرات .. وأنا .. القدر .. لبثتُ أعتني بك .. حتى انتشلتك من نعيمك .. الذي كنت فيه .. وأعدتك إلى قدرك .
ولذتُ بالصمت ، وأنا أحدق في الفتاة ، التي كانت تطل عليّ ، ثم قلت متسائلاً : أروى !
وهزت رأسها ، وفالت : نعم ، أروى .
هذه أروى إذن ، ابنة عمي ، وليست ريم ، لا ريم الخيمة ، ولا ريم الواحة ، ولا .. ، وحاولت أن أبتسم لها ، رغم ضعفي وآلامي ، وقلت لها بصوتي المبعثر : لو تعرفين .. يا أروى .. كم عانيت .. طوال هذه المدة .. التي رحلت فيها .. وغبت ..
وسكتّ حين سمعت أروى تكتم ضحكها ، وتضع كفها على فمها ، فقلت لها بصوتي المبعثر : أروى .. يبدو أنك لا تصدقينني ..
فرفعت يدها عن فمها ، وقالت لي ، وهي تبتسم : أنت لم ترحل للصيد في الصحراء إلا البارحة صباحاً ، وعند المساء وجدك أحد الصيادين ، وقد سقطت لسبب ما من فوق ناقتك الفتية .
ماذا تقول هذه الأروى ، لابد أنها جنت ، وهممت أن أحدثها عن ضياعي في الصحراء ، والنخلة الوحيدة ، والخيمة الوحيدة ، وسط الصحراء ، وعن ريم ، ريم الخيمة ، وريم الواحة ، و ..
وتوقفت ، حين مالت عليّ أروى ، وقالت : لقد وعدتني أن تصطاد لي غزالة ، من غزلان الصحراء ، التي تشبهني بها ، لكنك عدت مهشماً ، وأنت في الرمق الأخير ، بعد أن سقطت عن الناقة .
حدقتُ فيها مذهولاً ، وتساءلت : ماذا تقولين !
وتابعت أروى قائلة : ومنذ أكثر من عشرة أيام ، وأنا أرممك ، لأعيدك كما كنت ، قبل أن تقوم برحلتك الأخيرة ، وأرجعك إليّ ..
ومالت عليّ ، وهمست لي : عامر ، كما أنني قدرك ، فأنت كذلك .. قدري .
ومددت يدي ، التي رممتها أروى ، وأمسكت بيدها ، وقلت بصوت دافئ : أروى ..
ابتسمت بحنان ، وقالت : نعم .
وتابعت كلامي الدافئ قائلاً : لا تدعيني أرحل إلى الصحراء ثانية .
واتسعت ابتسامتها ، وهي تقول لي مازحة : لكنك وعدتني بغزالة تشبهني .
فقتُ لها : إنني أخاف الغزلان .
وغمزتني متسائلة : تخاف الغزلان ، أم الريم ؟
والتمعت عيناي المضببتين ، وتراءت لي النخلة .. والخيمة .. وريم .. وكذلك الواحة .. وريم أيضاً آه .. ريم .. ريم .. ريم .. آه .
وحاولت أن أهرب ، فوجدتني في الواحة ، وأمامي ريم نفسها ، فتحاملت على نفسي ، واعتدلت في مكاني ، وصحت مستغيثاً مستنجداً : أروى .. أروى .
وتلقتني أروى بين ذراعيها المحبين ، وكأنها تحميني من الضياع ، وهمست لي : قالت لي أمك ، اسمعي يا أروى ، لكي لا يتيه عامر منك في الصحراء وراء الريم ، تزوجيه بسرعة ، وأغرقيه بالبنين والبنات .
وهذا ما فعلته أروى ، فتزوجتني على جناح السرعة ، وعلى جناح السرعة أغرقتني بخمسة بنين ، وبنت واحدة ، وآه منها ، إنها غزالة .
وتناهى إليّ من خارج الخيمة ، صوت غزالتي الأثيرة ، التي صارت في الثالثة عشرة من عمرها ، تناديني بصوتها العذب : أبتي ..
فخفق قلبي فرحاً ، واعتدلت في مكاني من الخيمة ، حيث أجلس دائناً ، وقد اشتعل الرأس شيباً ، وهتفت : تعالي ، أنا هنا ، يا ريم .
ودخلت ريم ، وهي تضج ريماً ، ها هي ريم الخيمة .. وريم الواحة .. وريم الريم ، آه .. يبدو .. ويا لفرحي .. أنني سأبقى .. ومعي ريمي .. حتى النهاية .
وارتمت ريم بين ذراعي ، وهي تهتف مكركرة كالأطفال : أبي .. حبيبي ..
وضحكت بدوري ، وقلت : ستراك أمك .
فقالت ، وهي تطوقني بذراعيها : تغار مني .
وجاريتها قائلاً : إنها تغار من ريم .
فقالت ريم : هي أيضاً ريم .
ولذت بالصمت مهمهماً ، فقالت ريم : أبي ..
وطبعت قبلة على خدها ، وقلت : مريني ..
فقالت : أريد غزالة من الصحراء .
ولذت بالصمت ، وقد لمعت جمرتا عيني ، اللتان غطاهما رماد السنين ، فهزتني ريم بيديها الفتيتين ، وقالت لي : أبي ، إنني أكلمك .
فابتسمت لها ، وقلت : بنيتي ، لم أعد فتياً ، لأذهب إلى الصحراء ، وآتيك بغزالة .
وبدا الحزن على ريم ، وتعكر الألق في عينيها السواداوين ، فاحتضنتها ، وقلت لها : أعرف صياداً ماهراً ، خبيراً بالصيد في الصحراء ، سأطلب منه أن يأتيك ، بأسرع وقت ممكن ، غزالة تشبهك .


8 / 9 / 2022













الزرقاء
رائية ديدان












شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مناة إلهة
2 ـ ودّ إله الحب
3 ـ ذؤابة ملك ثمود
4 ـ أسود الراعي
5 ـ عميرة زوجة الراعي
6 ـ زرقاء ابنة الراعي
7 ـ الكاهن العجوز
8 ـ قدار الفارس
9 ـ لحيان قوم زرقاء
10 ـ الحجر مدينة لحيان
11 ـ الوزير العجوز وزير الملك ذؤابة
12 ـ القائد قائد جند ذؤابة








" 1 "
ــــــــــــــــــ
وضعت الإلهة " مناة " ، لمساتها الأخيرة على مخلوقتها الجديدة الشابة ، وتراجعت قليلاً ، وراحت تتأملها ، ثم قالت بنبرة رضا : الآن انتهيت .
ونظرت الفتاة الشابة ، بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، إلى الإلهة " مناة " ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، ربما لأنها ترى العالم لأول مرة .
وابتسمت الإلهة " مناة " لها ، وهي تتأملها ، وقالت : أنتِ أجمل فتاة خلقتها حتى الآن ، بشرة بيضاء ، وعينان زرقاوان ، وشعر كأنه الذهب ، و ..أنت جديرة أن تكوني أميرة ، ابنة ملك عظيم ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : سأسميكِ .. زرقاء .
وتمتمت الفتاة مندهشة : زرقاء !
واتسعت ابتسامة الإلهة " مناة " ، وقالت كأنما تبرر ما أطلقته عليها من اسم : عيناكِ زرقاوان ..
وتمتمت زرقاء : أشكركِ .
وأطرقت الإلهة " مناة " لحظة ، ثم قالت : غداً ستولدين على الأرض ، لن تولدي لملك ، ولن تكوني أميرة ، وإنما ستولدين لراعي أغنام .
ونظرت زرقاء إليها ، وتمتمت : أغنام !
وابتسمت الإلهة " مناة " ، وقالت : الأغنام .. ، آه .. لن أحدثكِ عنها ، سترينها على الأرض ، حين تولدين ، وستحبينها ، وخاصة صغارها .. الحملان .
وصمتت الإلهة " مناة " ، ثم تنهدت وقالت : إنني متعبة ، الآلهة أيضاً يتعبون ، وخاصة بعد الخلق ، وعليّ أن أذهب إلى جناحي ، وأخلد إلى الراحة .
ولاذت الفتاة زرقاء بالصمت ، فسارت الإلهة " مناة " مبتعدة ، لكنها تباطأت في سيرها ، حين رأت الإله الشاب الوسيم " ودّ " مقبلاً ، وبادرها بالقول : أيتها الخالقة العظيمة ، جئتُ أحييكِ .
وحدقت الإلهة " مناة " فيه مبتسمة ، وقالت متسائلة : جئتَ تحييني فقط ، أم .. ؟
وتابع الإله " ودّ " ، كأنما لم يسمع تساؤلها : تناهى إليّ ، لا أدري من أين ، أنكِ خلقتِ فتاة جديدة ، جميلة ، لها عينان زرقاوان ، وبشرة بيضاء ، و ..
وقاطعته الإلهة " مناة " قائلة : أيها الإله ودّ ..
وتابع الإله " ودّ " للمرة الثانية : أسميتها .. زرقاء .
واستأنفت الإلهة " مناة " سيرها ، وهي تقول : انتبه ، يا ودّ ، إنها طفلة ، ستولد غداً على الأرض .
ونظر الإله " ودّ " إلى زرقاء ، وقد اختفت الإلهة " مناة " ، وقال : ولمَ العجلة ؟
ونظرت زرقاء إليه مذهولة ، فتقدم منها ، وحدق فيها مندهشاً ، وقال : أنتِ زرقاء .
وهزت الزرقاء زرقاء ذهب شعرها ، وقالت بصوتها الهادئ : نعم ، زرقاء ، هكذا أسمتني خالقتي ..
فقال الإله " ودّ " : الإلهة مناة ، إنها خالقة الجمال .
وراح الإله " ودّ " يتأملها ، وهو يدور حولها ببطء ، ثم توقف في مواجهتها ، وقال : من المؤسف ، يا زرقاء ، أنك مجرد إنسانة .
وحدقت زرقاء فيه مندهشة ، وتمتمت : إنسانة !
وهزّ الإله " ودّ " رأسه ، وقال : نعم ، إنسانة ..
وصمت لحظة ، ثم قال : نحن آلهة ، نقيم هنا في السماء ، وأنتِ وأمثالك من الناس ، لا تعيشون معنا في السماء ، وإنما تعيشون على الأرض ، و ..
وانتظرت زرقاء ، أن يكمل الإله " ودّ " كلامه ، لكنه ظلّ صامتاً ، فقالت : و ..
فقال الإله " ودّ " : الآلهة خالدون ، أي يعيشون إلى الأبد ، أما الإنسان ، وأنتِ إنسان ، فليس خالداً ، أي أنه لا يبقى على الأرض إلا فترة محدودة ، ثم يرحل ، أي .. يموت .. ويفنى .
وحدقت زرقاء فيه مذهولة ، ثم تساءلت : يموت !
فقال الإله " ودّ " : أي .. تنتهي حياته .. فلا يتحرك .. أو يتنفس .. أو .. ثم يُدفن في باطن الأرض ، التي عاش عليها مدة محددة من الزمن .
ولاذت زرقاء بالصمت حزينة ، فمدّ الإله " ودّ " يديه ، واحتوى يديها ، وقال لها : زرقاء ..
فتطلعت إليه ، وقالت : نعم .
فتابع الإله " ودّ " قائلاً : ابقي معي هنا في السماء ، سأجعلكِ إلهة ، وستبقين مثلنا نحن الآلهة ، خالدة إلى الأبد ، ولن يمسّ الموت شعرة منكِ .
وهزت زرقاء رأسها ، وقالت : أبي وأمي ينتظراني على الأرض ، سأولد غداً .
ولاذ الإله " ودّ " بالصمت ، ثم نظر إلى زرقاء ، وقال : أنا إله ، يا زرقاء ، وأنا أرى ما ستكونين عليه ، عندما ستولدين وتعيشين على الأرض .
وتطلعت الزرقاء إليه صامتة ، فتابع قائلاً : زرقاء .. ستكونين متنبئة ، أي أنك ستعرفين ، مثل الآلهة ، ما سيحدث في القادم من الأيام ..
وصمت الإله " ودّ " لحظة ، ثم واصل كلامه قائلاً : لكن قومك لن يصدقوا ما تتنبئين به ، رغم أنه يتعلق بحياتهم ومصيرهم في الحياة .
وصمت الإله " ودّ " ثانية ، ثم قال : وسيكون بإمكانك أن تري عن بعد ، لا يستطيع غيرك أن يراه ، مهما حاول ، سترين عن بُعد ثلاثة أيام .
وضغط الإله " ودّ " بيديه على يديها ، وهو يحدق في عينيها الزرقاوين ، وقال بصوت يشوبه الحزن : هذا هو قدرك ، يا الزرقاء .
وترك الإله " ودّ " يديها ، ثم استدار ، ومضى ببطء مبتعداً عنها ، وهو يتمتم بصوت لم تسمعه الزرقاء : يا للأسف ، مثلها مكانه الخلود .
وقبل أن يخرج ، التفت إليها ، وراح يحدق فيها ، وقد علته إمارات الحزن والتأثر ، وقال في نفسه : لقد اختارت مصيرها بنفسها ، ويا له من مصير ، لكني لن أتخلى عنها مهما كان الثمن .

" 2 "
ـــــــــــــــــــ
انحدرت الشمس نحو الغروب ، وبدا للراعي أسود ، الذي وخط الشيب رأـسه ، أن قرصها المتعب ، وقد احمرّ وجهه ، اقترب من قمة الجبل ، وأنه سيتوارى وراءه بعد قليل ، وتخيم عتمة الليل وبرده .
فتحامل على نفسه ، ونهض بشيء من الصعوبة ، من تحت الشجرة ، التي كان يجلس في ظلها ، ونظر إلى أغنامه ، التي انتشرت في سفح الجبل ، وقد توقفت عن تناول طعامها من الحشيش ، بعد أن امتلأت بطونها مما أكلته طول النهار ، كما امتلأت ضروع إناثها بالحليب الدسم ، ثم التفت إلى كلبه ، وصاح : قطمير .
وهبّ قطمير من مكانه ، وردّ نابحاً : عو عو .
وكأنه يقول له : إنني هنا ، يا سيدي ، مرني بما تشاء ، وسترى ما يرضيك .
وأمره الراعي قائلاً : لقد حان وقت العودة إلى القرية ، اجمع الأغنام ، ولنتهيأ للعودة .
وعلى الفور ، انطلق الكلب قطمير ، وهو ينبح ، وجمع الأغنام من سفح الجبل ، وقادها نحو الراعي أسود ، الذي هده التعب ، وسرعان ما انتظمت مسيرة العودة نحو القرية ، الراعي أسود في المقدمة ، والأغنام تسير وراءه ، وحولها يركض نابحاً الكلب قطمير .
ولامس قرص الشمس المتعب ، قمة الجبل التي تشمخ متحدية في أعالي السماء ، والراعي المتعب يواصل السير أمام أغنامه ، وتراءت له زوجته عميرة ، المسكينة إنها حامل ، رغم إنها لم تعد تلك الفتاة الشابة القوية ، التي عرفها منذ سنين لأول مرة .
ليتها تلد له ولداً ، هذا ما تمناه ، فهو يهرم بسرعة ، لا يدري لماذا ، وبدأت قواه تخور ، رغم أنه لم يتجاوز الخمسين بعد ، وزوجته نفسها لم تعد صغيرة ، وربما هذا حملها الأخير .
لقد حملت زوجته أكثر من مرة ، ولم تلد غير الذكور ، لكن أولادها يذبلون وينطفئون ، قبل بلوغهم السنة الأولى من العمر ، وهذه المرة ، يأمل أن يعيش مولوده ، لعله يساعده في هذه الحياة الصعبة ، خاصة وأنه يسير حثيثاً نحو الشيخوخة والعجز .
ووصل الراعي أسود كوخه ، المنعزل بعض الشيء عن أكواخ القرية ، وقرص الشمس يتهاوى مضرجاً بالحمرة وراء قمة الجبل ، فدفع أغنامه ، بمساعدة كلبه قطمير ، إلى الحظيرة ، وأغلق عليهم بابها .
واتجه الراعي إلى كوخه ، وكلبه " قطمير " يهرول وراءه ، وهو يبصبص بذيله ، ربما ممنياً نفسه ولو بقليل من الطعام ، مهما كان نوعه ، والراعي نفسه جائع ، وهذا ما تعرفه زوجته ، ولابدّ أنها الآن قد أعدت له طعاماً ساخناً يرمّ عظامه ، ويدفئها .
وعلى مقربة من باب الكوخ ، توقف أسود ، وقلبه يخفق بحنان ، هذا صوت طفل حديث الولادة ، يبكي بصوت مستغيث ، ترى لماذا يبكي الأطفال هكذا ، حين يأتون إلى الدنيا ؟ من يدري ، ربما يعرفون أنهم سيواجهون ما لم يواجهوه في جنات أرحام أمهاتهم .
وانطلق الراعي أسود راكضاً ، وقد نسي جوعه ، ودفع باب الكوخ ، واندفع إلى الداخل ، وعلى بقايا ضوء النهار الغارب ، المتسلل من كوة صغيرة ، رأى زوجته ذابلة في فراشها ، وفي حضنها وليد صغير يبكي .
ومال عليها فرحاً ، متسائلاً : ولد ؟
ورفعت عينيها إليه ، ولم يرتح لنظرتها المنكسرة ، فقال بصوت محبط : بنت !
وهزت زوجته عميرة رأسها مترددة ، كأنها تعتذر منه ، فاعتدل منقبضاً ، لكنه قال : لا عليكِ ، سواء كان ولداً أو بنتاً ، فإن أياً منهما لن يعيش أكثر من سنة واحدة .
وتمتمت زوجته قائلة بشيء من الثقة : ستعيش .
ورمقها الراعي بنظرة سريعة ، لكنه لم يردّ ، وتابعت زوجته عميرة قائلة ، وهي تتأمل الطفلة بعينين أموميتين محبتين : انظر كم هي جميلة .
لم ينظر الراعي إلى الطفلة ، وتمتم كأنما يتمتم لنفسه : كنت أتمنى أن يكون لي ابن ، وليس بنت ، لعله يكبر ، ويساعدني في رعي أغنامي .
وتهاوى جالساً على حشية ، قبالة فراش زوجته ، والطفلة في حضنها ، وقال بصوت منهك متداعي : آه .. تعبت .. تعبت .
ونظرت إليه زوجته عميرة ، وقالت كأنما تواسيه : انظر إليها .. انظر ..
لم ينظر الراعي إليها ، لكنها تابعت قائلة : انظر .. إنها بيضاء .. وعيناها زرقاوان .. وشعرها ..
وصمتت الزوجة عميرة ، ولاذ الراعي بالصمت ، فنظرت إليه ، وقالت متسائلة : ماذا تريد أن نسميها ؟
ونظر الراعي إليها صامتاً ، فتابعت الزوجة قائلة : ابنتك الجميلة هذه ، ماذا تسميها ؟
ومرة أخرى ، لم يرفع الراعي عينيه إليها ، ولم يردّ بكلمة واحدة ، فقالت زوجته : هذه الطفلة الجميلة ، التي لم أرَ طفلة في شكلها وجمالها ، هدية من السماء ..هدية من الإلهة العظيمة " مناة " ..
وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : لقد جاءتني الإلهة " مناة " في المنام ، وقالت لي ، سأهديك طفلة جميلة ، لا شبيهة لها ، أسميها .. زرقاء .
ونظر الراعي إليها مذهولاً ، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة ، فقالت الزوجة عميرة بصوت عميق كأنه آتٍ من السماء : ابنتنا .. اسمها .. يا زوجي .. زرقاء .

" 3 "
ــــــــــــــــــ
على العكس مما توقعه الراعي أسود ، وكما تمنت زوجته عميرة ، عاشت الطفلة " زرقاء " ، ونمت وترعرعت بل وتجاوز عمرها السنة ، وهو العمر الذي لم يبلغه إخوتها الذين سبقوها .
ومنذ وقت مبكر ، وربما قبل بلوغها الخامسة من العمر ، لاحظ الزوجان أسود وعميرة ، أن ابنتهما الصغيرة " زرقاء " ، تختلف عن الفتيات اللاتي في عمرها ، ليس في عينيها الزرقاوين وبشرتها الناصعة البياض وشعرها الذهب فقط ، وإنما أيضاً في أمور أخرى أذهلتهما ، وجعلتهما يقفان أمامها حائرين .
وكم خافا أن يلاحظ الآخرون ، ما لاحظاه هما أنفسهما على ابنتهما ، في حياتها اليومية ، سواء في البيت أو خارجه ، ومن جهتهما فقد حرصا على أن لا يتحدثا بما رأياه أو لمساه ، مما يبدر عن ابنتهما " زرقاء " .
ويبدو أن ما لاحظاه ، لم يقف عند حد معقول ، فذات يوم ، فقد الراعي أسود ، حملاً كان يحبه كثيراً ، ربما لأنه كان أجمل من غيره بكثير ، وقد بحث عنه في كلّ مكان ، لكن دون جدوى .
وفوجئ بابنته " زرقاء " ، تتقدم منه ، وتقف أمامه ، وتخاطبه قائلة : بابا ..
ودهش الراعي أسود لنبرة صوتها ، فحدق فيها ملياً ، وقال : نعم ، يا بنيتي .
وتابعت الطفلة " زرقاء " قائلة : حملك الجميل ..
وصمتت الطفلة " زرقاء " ، فتساءل الراعي أسود : حملي ! ما له ، يا بنيتي ؟
فردت الطفلة " زرقاء " قائلة : أعرف أين هو الآن ، وأعرف من أخذه .
واتسعت عينا الراعي أسود ، وقال : لكني بحثت عنه في كلّ مكان ، ولم أجد له أثراً .
ولاذت الطفلة " زرقاء " بالصمت لحظة ، ثم قالت : أنا أعرف أين هو ، وأعرف أيضاً أنك ستجده .
ومدّ الراعي أسود يديه ، وأطبق بهما على ذراعي ابنته الطفلة " زرقاء " ، وقال : أين هو ، يا بنيتي ؟ دليني على مكانه ، إن كنتِ تعرفين حقاً .
فردّت الطفلة " زرقاء " قائلة : عند الكاهن .
وحدق الراعي أسود فيها ، وقال : ماذا تقولين ، يا بنيتي زرقاء ؟ الكاهن رجل أمين .
ونظرت الطفلة بعيداً ، إلى بيت الكاهن ، الذي لا يراه أبوها ، وقالت : ها هو ، يا أبي ، حملك الجميل ، إنني أراه مربوطاً إلى نخلة ، في حديقة الكاهن .
وعلى الرغم من تردده ، وربما لحبه الشديد لحمله الجميل ، ذهب إلى بيت الكاهن ، وتوقف أمام الباب حائراً ، ماذا سيقول للكاهن ؟ يا للإحراج .
وهمّ أن يستدير ، ويقفل عائداً إلى بيته ، وإذا الباب يفتح ، ويطل منه الكاهن العجوز نفسه ، وحدق فيه الكاهن ، وقال : مرحباً ، يا بنيّ ، تفضل .
ووقف الراعي أسود حائراً ، ماذا يمكن أن يقول له ؟ هل يقول ، إن ابنته الطفلة زرقاء ، التي لم تتجاوز الخامسة من عمرها ، تقول ، إن حمله عند الكاهن ؟
وهنا ارتفع من داخل حديقة البيت صوت حمل يمأمئ ، بصوت يعرفه جيداً : مآآآآآع .
واتسعت عينا الراعي أسود ، وبدون إرادة منه ، أشار إلى مصدر الصوت ، وقال : هذا الحمل .. لي .
فحدق الكاهن العجوز فيه ، وقال : لكنك حتى لم تره بعد ، يا أسود .
فقال الراعي أسود : إنني أعرف صوته جيداً .
ولاذ الكاهن العجوز بالصمت لحظة ، ثم قال : الحقيقة ، أن رجلاً ورعاً رآه في الطرق ، ولم يعرف من هو صاحبه ، فجاء به إليّ ..
ثمّ تنحى قليلاً ، وقال : تفضل خذه ، مادام حملك .
وأخذ الراعي أسود الحمل ، وعاد به فرحاً إلى الكوخ ، ورأته طفلته " زرقاء " ، فنظرت إليه مبتسمة ، وقالت : نعم ، هذا هو الحمل ، الذي رأيتُه مربوطاً في حديقة بيت الكاهن العجوز ، يا بابا .
وتبادل الراعي أسود ، النظرات الحائرة القلقة ، مع زوجته عميرة ، لكن واحداً منهما ، لم ينبس بكلمة واحدة ، حول هذا الموضوع الغريب المذهل .
وفيما بعد ، وربما لحبه المتزايد لابنته " زرقاء " ، راح الراعي أسود ، يأخذها معه ، عندما يرعى غنمه عند سفح الجبل ، ومعهما طبعاً الكلب قطمير .
وذات يوم ، عند حوالي منتصف النهار ، والراعي أسود يجلس تحت الشجرة ، توقفت ابنته " زرقاء " ، وأطرقت رأسها ، ثم نظرت إلى البعيد ، وصاحت : بابا ..
واعتدل أبوها أسود في جلسته ، وردّ عليها قائلاً : نعم بنيتي ، أنا هنا معكِ ، تحت الشجرة .
فقالت الطفلة " زرقاء " كأنها تستغيث : الذئب ..
ونهض الراعي أسود ، وأسرع إليها ، وقال : لا تخافي ، يا بنيتي ، ليس هناك ذئب .
ونظرت الطفلة " زرقاء " إلى البعيد ، وقالت بصوت خائف : الذئب قادم ، يا أبي .
ومدّ الراعي أسود يده ، وأمسك بيد الطفلة " زرقاء " ، وأخذها معه بهدوء ، وأجلسها إلى جانبه تحت الشجرة الضخمة ، وهو يقول : لنجلس هنا ، ونرتح ، لا تخافي يا بنيتي ، أنا معك ، ومعنا كلبنا الشجاع قطمير .
وتجاوز النهار منتصفه ، واقترب العصر ، وفجأة هبّ الكلب قطمير من مكانه ، وراح ينبح بصوت متصاعد متوجس : عو عو عو ..
ورفع الراعي أسود رأسه متسائلاً : ما الأمر ؟
فردت الطفلة " زرقاء " قائلة : الذئب قادم ، يا بابا .
وهبّ الراعي أسود من مكانه ، ورأى كلبه قطمير ، ينبح بجنون : عو عو عو .
وسرعان ما انتفض ، وانطلق كالسهم ، يسبقه نباحه الغاضب " عو عو عو " ، وانقض على ذئب ، حاول أن يختطف أحد الحملان ، واشتبك معه في معركة دامية ، فما كان من الراعي إلا أن هجم على الذئب ، وانهال عليه بعصاه الغليظة ، وأجبره على الهرب .
وجمع الراعي أسود ، وابنته الطفلة " زرقاء " الأغنام ، التي تبعثرت خوفاً من الذئب ، وحمل الكلب المدمى ، وقفلوا عائدين إلى الكوخ ، وهنك روى الراعي أسود لزوجته عميرة ما جرى ، فتنهدت ، وقالت : آه إلهتي مناة ، أية طفلة أعطيتني .

" 4 "
ـــــــــــــــــــــــ
أوت زرقاء إلى فراشها مبكرة ، وحاولت أن تنام ، لعلها ترتاح مما جرى اليوم ، عند سفح الجبل ، وأقبلت عليها أمها عميرة ، وقالت لها : زرقاء ، حبيبتي ، يبدو أنّ ما جرى اليوم قد أتعبكِ .
ونظرت " زرقاء " إلى أمها ، وقالت بصوت مرتعش : إنني أشعر بالبرد ، يا ماما ، دثريني .
ودثرتها أمها جيداً ، ثم مدت يدها ، وتحسست جبهتها ، ثم قالت مترددة : بنيتي ، حرارتك مرتفعة بعض الشيء ، سأعدّ لك قليلاً من البيبون .
فأغمضت " زرقاء " عينيها الزرقاوين المتعبتين ، وقالت بصوت واهن : لا أريد أن أشرب البيبون ، سأنام وأرتاح ، ولابدّ أن أكون أفضل غداً .
وجاء الغد ، لكن " زرقاء " لم تصر أفضل ، بل ارتفعت حرارتها أكثر مما كانت عليه مساء البارحة ، وعندما رآها أبوها ، قال لها : لا داعي لأن تأتي اليوم معي ، ابقي في فراشك حتى تتعافي .
ورغم كرهها الشديد للبيبون ، أعدت لها أمها عميرة شيئاً منه ، وقدمته لها في قدح ، يتصاعد منه البخار ، وقالت : بنيتي ، اشربيه كله ، وستشفين .
وأمسكت " زرقاء " بقدح البيبون ، وقالت : كله !
فردت أمها عميرة قائلة : نعم ، كله .
ورفعت الكوب إلى فمها ، وتجرعت بصعوبة كلّ ما فيه من بيبون ، وأعادته إلى أمها ، وقالت بصوت مرتعش : آه من البيبون .
ونظرت أمها عميرة إلى قعر القدح ، وتأكدت أن ابنتها " زرقاء " ، قد شربت البيبون كله ، فنظرت إليها ، وقالت وهي تغالب ابتسامتها : ستشفين ، يا بنيتي ، بأسرع مما تتصورين ، وتغدو حرارتك عادية .
وأغمضت " زرقاء " عينيها الزرقاوين المتعبتين ، وانتظرت بفارغ الصبر أن تشفى ـ بأسرع مما تتصور ـ ، وقالت لأمها عند منتصف النهار : ماما ، لم يشفني البيبون بأسرع مما أتصور .
فردت عليها أمها قائلة :صبراً ، يا بنيتي ، لن ينتهي هذا اليوم إلا وأنت معافاة .
ولاذت " زرقاء " بالصمت ، وقد أطرقت رأسها ، ثم رفعت عينيها الزرقاوين ، وقد التمع فيهما بريق غريب ، وخاطبت أمها قائلة : ماما ..
وخفق قلب الأم عميرة ، فهي لم ترتح للنبرة الغامضة ، التي تتداخل وصوت ابنتها ، فاقتربت منها ، وقالت : بنيتي ، أنتِ متعبة ، ليتك تنامين .
وبدل أن تغمض " زرقاء " عينيها ، وتخلد إلى النوم ، تابعت قائلة بصوت عميق : جدتي ..
وازداد خفقان قلب الأم ، ونظرت إليها متوجسة ، وتساءلت خائفة : ما لها ؟
فردت " زرقاء " بصوت هادىء : ستأتي .
وهدأت الأم عميرة بعض الشيء ، وتنهدت وقالت : جدتك امرأة عجوز ، مريضة ، فكيف تأتي ؟ أنتِ واهمة ، نامي ، يا عزيزتي ، نامي .
ويبدو أن " زرقاء " نامت ، بعد أن خرجت أمها من غرفتها ، لا لأن أمها قالت لها نامي ، وإنما لأنها كانت متعبة من الحمى ، وكانت بحاجة إلى النوم .
وقبيل المساء ، جاء الراعي أسود من سفح الجبل ، بعد أن بقي هناك طول النهار ، فأدخل أغنامه المتعبة الشبعانة إلى الحظيرة ، وترك الكلب قطمير على مقربة منها ، ثمّ دخل هو إلى البيت .
واستقبلته زوجته عميرة ، وقد أعدت له طعام العشاء ، وقبل أن يمدّ يده إلى الطعام ، بادرها قائلاً : يبدو أن " زرقاء " نائمة الآن .
فقالت عميرة : نامت قبل قليل .
وصمتت حزينة متجهمة ، فرمقها الراعي أسود بنظرة خاطفة ، وقال لها متوجساً ، وهو يتناول طعامه : أرجو أن تكون زرقاء بخير .
فردت زوجته عميرة قائلة : اطمئن ، إنها بخير ..
وصمتت لحظة ، ونظر أسود إليها ، فقالت : قالت ما أثار خوفي وقلقي ..
وتساءل أسود : ماذا قالت ؟
فردت عميرة قائلة : قالت ستأتي جدتي ..
وتساءل أسود مندهشاً : أمكِ !
فأجابت عميرة : نعم ، أمي .
ونهض أسود ، واتجه إلى الخارج ليغتسل ، وهو يقول : لا عليكِ ، أنها محمومة ، تهذي .
لكن " زرقاء " ، ورغم أنها كانت محمومة ، لم تكن تهذي ، فبعد يومين ، وعند حوالي منصف النهار ، طرق الباب ، ونظرت الأم عميرة إلى " زرقاء " وكأنها تتساءل ، فنهضت " زرقاء " من الفراش ، وقالت : ابقي أنتِ ، يا ماما ، أنا سأفتح الباب .
وأسرعت " زرقاء " ، وفتحت الباب ، وسمعتها أمها عميرة ، وهي عند باب الغرفة ، تصيح فرحة : جدتي ! أهلاً ومرحباً بكٍ ، تفضلي إلى الداخل .
ورغم ذهول الأم عميرة ، أسرعت إلى الجدة ، وراحت تمطرها بالقبلات ، وهي ترحب بها قائلة : أمي ، أهلا بك ، لم أصدق زرقاء ، حين قالت أنك ستأتين ، فأنت على ما أعرف مريضة .
فقالت الجدة ، وهي تلتفت إلى " زرقاء " : علمت أول أمس ، أن حبيبتي زرقاء مريضة ، فنهضت من فراشي ، ولعنت المرض ، وجئت لأطمئن عليها .
وعانقتها " زرقاء " بشدة ، وقالت : جدتي ، أنا بخير ، أصبت بنزلة برد ، وسرعان ما شفيت ، وها أنا ، كما تقول ماما ، كالحصان .
وأمسكت الجدة يد " زرقاء " ، وسارت بها نحو الغرفة ، وهي تقول : تعالي ، يا بنيتي ، نجلس في هناك ، ونتبادل الحديث ، إنني مشتاقة إليك .
ودخلا الغرفة ، فتراجعت الأم عميرة ، وقالت : ابقيا في الغرفة ، ريثما أعد الطعام .
وجلست الجدة متعبة على الحشية ، وأجلست " زرقاء " إلى جانبها ، وقالت لها : زرقاء ، حبيبتي ، سمعت الكثير من الأقاويل حولك ، صارحيني ، أريد أن أعرف الحقيقة منك ، وليس من أحد غيركِ .
وارتمت " زرقاء " على صدر جدتها ، وقالت : في باطني ما ينبئني بما سيحدث ، حتى بعد ثلاثة أيام ، كما أنني أرى حتى ما يبعد عنّا ثلاثة أيام .
ولاذت الجدة بالصمت لحظة ، ثم قالت : إنني أصدقك ، لكن لا تخبري أحداً بما ترين .
قالت " زرقاء " : جدتي ..
فقاطعتها الجدة قائلة : إنني أخاف عليكِ .

" 5 "
ــــــــــــــــــــــ
واظبت " زرقاء " على الخروج مع أبيها ، لرعي الأغنام عند سفوح الجبل ، يرافقهما طبعاً كلبهم الشجاع قطمير ، بعد أن تعافى من الجروح ، التي أصابه بها ، ذلك الذئب الذي هاجمهم قبل أيام .
ومع مرور الأيام والأشهر والسنين ، ونمو " زرقاء " السريع ، وتفتحها كما لو كانت شجرة تفاح ، بدأ أبوها الراعي أسود ، ينتابه القلق بسب عينيها الزرقاوين ، وبشرتها الناصعة البياض ، وشعرها الذهب .
وما زاد من قلقه ، وتوجسه ، ما راح يُشاع عنها ، من قدرات خارقة ، في التنبؤ ، والرؤية عن بعد ، ولعل الأكاذيب والمبالغات ، فاقمت تلك الإشاعات ، حتى تحولت " زرقاء " إلى ما يشبه الأسطورة .
وحاول أسود في البداية ، أن يقنع زوجته عميرة ، بأن تبقي " زرقاء " في البيت ، وتشجعها على عدم الخروج ، بل وطلب منها ، أن لا ترافقه حتى عند رعي الأغنام عند سفح الجبل .
ولعل عميرة اقتنعت ببعض ما قاله زوجها أسود ، لكن " زرقاء " لم ترضخ لوساوس أمها وأبيها ، خاصة وأنها ترى أن أباها يشيخ يوماً بعد يوم ، وتتراجع قواه ولياقته البدنية ، حتى أنه كان يقضي معظم وقته متمدداً تحت الشجرة ، إلى أن يحين وقت العودة إلى البيت .
وكاد ذات يوم ، أن يشتبك مع فارس متوسط العمر ، لأنه ـ في رأيه ـ تعرض لابنته " زرقاء " ، وأراد أن يتحرش بها .
والحقيقة أن هذا الفارس ، المتوسط العمر ـ وهذا ما روته " زرقاء " لأمها ـ مرَ بهما ، وهو على صهوة حصانه ، وكانا يجلسان جنباً إلى جنب تحت الشجرة ، فتوقف ، وقال محيياً : طاب يومكما .
وحدجه الراعي أسود بنظرة صارمة ، ولم يردّ على تحيته ، لكن " زرقاء " نظرت إليه ، وردت قائلة " بصوت هادئ : طاب يومك .
وبدا أنّ الفارس تجاهل الراعي أسود ، وحدق في " زرقاء " ملياً ، ثم قال بصوت هادئ : أيتها الصبية ، إنني عطشان ، وأريد منك قليلاً من الماء .
والتفتت " زرقاء " إلى أبيها ، فقال لها : ماؤنا قليل ، وقد لا يكفينا حتى المساء .
ومالت " زرقاء " على أبيها ، وقالت له : الرجل عطشان ، يا أبتي ، والماء يكفينا ويزيد ، سأعطيه ما يطفئ عطشه .
ولم تنتظر " زرقاء " ردّ أبيها ، فاستدارت وملأت القدح ماء ، وقدمته للفارس ، وقالت له : تفضل .
وأخذ الفارس الكوب ، وشرب ما فيه من الماء ، وهو ينظر إلى " زرقاء " ، ثم أعاده لها ، وقال : أشكرك ، إنه ماء عذب مثلك .
وأخذت " زرقاء " القدح الفارغ ، وانتظرت أن يمضي مبتعداً مواصلاً طريقه ، لكنه بدل ذلك ، مال عليها ، وقال : ما اسمكِ ، يا حلوة .
ونهض الراعي أسود ، وعصاه الغليظة في يده ، وقال للفارس : امضِ ، هذا لا يعنيك .
ونظر الفارس إليه بهدوء ، وقال مبتسماً : لا تغضب هكذا ، يا عم ، إنما سألتها عن اسمها .
فتقدم الراعي أسود منه ، وهو يشد قبضته بقوة على العصا ، وقال بشيء من الانفعال : هذا لا يعنيك ، أردت ماء ، فأعطيناك ما أردت ، والآن امضِ .
ولكز الفارس حصانه ، وسار به مبتعداً ، وهو يقول : ها أنا ذاهب ، وشكراً على الماء ، ولتحفظ الآلهة العظيمة ابنتك النادرة الجمال .
وعلى أثر تلك الحادثة ، وربما بتأثير أبيها ، نصحتها أمها أن تجنب أباها مثل هذه المواقف ، وتبقى معها في البيت ، ولو إلى حين .
وبالفعل توقفت " زرقاء " عن الخروج مع أبيها ، والذهب إلى سفح الجبل لرعي الأغنام ، رغم أنها كانت تريد أن تمد يد المساعدة له ، فقد كان يبدو عليه التعب الشديد ، وخاصة عندما يعود مساء مع أغنامه ، بعد نهار طويل شاق عند سفح الجبل .
حتى كان يوم ، أفاق فيه الراعي أسود كعادته ، قبيل شروق الشمس ، وكعادته راح يتناول طعامه ، لكنه لاحظ أن ابنته " زرقاء " تتطلع إليه ، والقلق باد عليها ، فخاطبها قائلاً : أراكِ مقطبة ، يا بنيتي ، أرجو أن لا يكون هناك ما يقلقكِ .
فقالت " زرقاء " بصوت مرتعش : ليت الثلج يتساقط الآن ، ويسدّ كلّ الطرق .
وطفت فوق شفتي الأب أسود ابتسامة قلقة ، وقال : ماذا تقولين ، يا بنيتي ؟ نحن في أواخر الربيع .
وقبل أن ينتهي الراعي أسود من كلامه ، سارعت " زرقاء " إلى القول : حسن ، ليت السماء تمطر ، وتغرق الطرقات بالمياه .
وتلفت الراعي أسود حوله ، وقال : ما الأمر ، يا بنيتي ؟ إن السماء صاحية ، ليس فيها غيمة واحدة ، فكيف تريدينها أن تمطر ..
ونهض الراعي أسود من مكانه ، وهمّ أن يتوجه إلى الخارج ، ويمضي بغنمه إلى سفح الجبل ، فهبت " زرقاء " إلى أبيها ، وتشبثت به قائلة : بابا ، ابقَ معنا هذا اليوم في البيت .
وحدق الراعي أسود فيها مندهشاً ، وقال لها بشيء من الانفعال : قولي أيضاً ، أنك ستذهبين لرعي الأغنام ، عند سفح الجبل ، بدلاً مني .
واقتربت أمها عميرة منها ، وأمسكت يدها ، وسحبتها برفق ، وقالت : بنيتي ، دعي أباكِ وشأنه .
وقالت " زرقاء " ، وهي نغالب بكاءها : ماما ..
ولم ينتظر الراعي أسود ، ما ستقوله ابنته " زرقاء " ، ففتح الباب ، ومضى إلى الخارج ، فأخذت الأم عميرة ابنتها " زرقاء " بين يديها ، وقالت لها : بنيتي ، أخبريني ، ما الأمر ؟
وردت " زرقاء " بصوت تغرقه الدموع : ماما .. رأيت في المنام ..
وقاطعتها أمها عميرة قائلة : في المنام ؟ بنيتي ، هذه أضغاث أحلام ، لا تلتفتي إليها .
ولاذت " زرقاء " بالصمت لحظة ، وهي تنظر إلى البعيد ، من خلال دموعها ، التي تغرق عينيها الزرقاوين ، وقالت : ماما .. سيرتج الجبل .. ويغرق كلّ ما حوله بالصخور .

" 6 "
ــــــــــــــــــــ
عند مساء اليوم التالي ، والشمس تتوارى متعبة ، وراء قمة الجل المجنون ، طرق باب البيتِ ، وأشارت " زرقاء " لأمها ، وقالت بصوت مازالت تبلله الدموع : ماما ، ابقي في مكانك ، أنا سأفتح الباب .
وفتحت " زرقاء " الباب ، وإذا الجدة تقف مستندة على عكازها ، تكاد تتهاوى على الأرض ، والإرهاق الشديد بادٍ عليها ، فمدت " زرقاء " يديها إلى جدتها ، واحتضنتها بقوة ، وقادتها إلى الداخل ، وهي تقول : جدتي ! يا للآلهة ، تعالي إلى الداخل ، وارتاحي من عناء هذا الطريق ، لابدّ أنكِ متعبة جداً .
وأقبلت الأم عميرة ، وشفتاها المتيبستان ترتعشان من التأثر والانفعال ، وأخذت الجدة بين ذراعيها ، وراحت تقبلها ، وهي تبكي : أمي ، لقد كسر ظهري ، فقدت عمود بيتي ، مات أسود .
وقبلتها الجدة مرات ومرات ، وقد اختلطت دموعهما ، وقالت لها : لا تبكي ، يا ابنتي ، وإن كان ما فقدته ليس قليلاً ، لكن هذه إرادة الآلهة ، ولا راد لإرادتها .
واقتربت " زرقاء " من أمها ، وحاولت أن تخفف عنها قائلة : كفى ، يا ماما ، كفى ، جدتي متعبة ، وعلينا أن نوفر لها الراحة .
وخاطبت الأم عميرة الجدة ، وهي تحاول أن تتملص برفق من بين يدي " زرقاء " قائلة : حاولت زرقاء أن تمنعه من الخروج ، ذلك اليوم ، لرعي الأغنام عند سفح الجبل ، لكن دون جدوى .
وربتت الجدة بيدها الشائخة المرتعشة على كتف الأم عميرة ، وقالت لها بصوتها المتهدج : بنيتي ، إرادة الآلهة فوق كلّ شيء ، وهذه إرادتها .
وتابعت الأم عميرة قائلة ، من بين دموعها : وعند حوالي منتصف النهار ، جنّ الجبل ، وارتج غاضباً ، وأمطر حجارته وصخوره على من حوله ، وطمر من بين من طمره ، زوجي أسود وجميع أغنامه .
وتقدمت " زرقاء " وأخذت بيد الجدة ، وخاطبت أمها قائلة " ماما ، كفى ، جدتي متعبة جداً ، فلنأخذها إلى الغرفة ، وندعها ترتاح قليلاً .
وبعد العشاء ، وقد ارتاحت الجدة بعض الشيء ، جلسن ثلاثتهن حول موقد النار ، الجدة والأم عميرة و " زرقاء " ، يتبادلن الحديث .
ونظرت الجدة إلى الأم عميرة ، وقالت : ابنتي ..
وردت الأم عميرة ، بصوت مازالت تبلله الدموع : نعم ، يا أمي .
وتابعت الجدة قائلة بصوتها الشائخ المرتعش : لقد رحل الإنسان الطيب أسود ، ولم يعد هناك ما يربطك بهذا المكان ، لا أنت ولا ابنتك العزيزة .. زرقاء .
وصمتت لحظة ، ثم تابعت ثانية قائلة : تعاليا معي ، إلي بيت تعرفينه في قريتنا ، وقد عشتِ فيه طفولتك ، وما تركه لنا أبوكِ الراحل ، يكفينا جميعاً العمر كله ، وستعيشان فيه معي معززتين مكرمتين .
ورمقت " زرقاء " أمها بنظرة خاطفة ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، رغم أنها لم تكن من رأيي جدتها ، وشعرت " زرقاء " بشيء من الارتياح ، حين سمعت أمها تقول لجدتها : كلا ، يا أمي ، لن نترك بيتنا في هذه القرية ، إنها قريتنا .
وقالت الجدة : لكن من كان يربطك بها رحل .
فردت الأم عميرة قائلة : أسود لم يرحل ، إنه موجود تحت صخور الجبل ، ولا يمكن أن نتخلى عنه ، ونبتعد عن المكان ، الذي هو موجود فيه .
ومالت " زرقاء " على أمها ، وطبعت على خدها قبلة حارة ، ثم نظرت إلى جدتها ، وعيناها تغرقان بالدموع ، دون أن تتفوه كلمة واحدة .

وفي اليوم التالي ، عند الضحى ، جاءت طفلة ربما في التاسعة من عمرها ، وهمست " لزرقاء " بصوت خافت : زرقاء..
ورمقت " زرقاء " أمها بنظرة سريعة ، ثم همست للطفلة : نعم .
فقالت الطفلة بصوت خافت : الكاهن يريدكِ ..
وأشارت " زرقاء " إلى نفسها ، وقالت : يريدني !
فقالت الطفلة : الآن .
ونظرت " زرقاء إلى أمها ، فأشارت لها الأم بيدها ، أن اذهبي ، فأخذت " زرقاء " بيد الطفلة ، وسارت بها إلى الخارج ، وهي تقول : هيا نذهب إلى الكاهن .
واستقبلها الكاهن العجوز في الحديقة ، ويبدو أنه كان ينتظرها هناك ، وقال لها مرحباً : أهلا زرقاء .
وردت " زرقاء " قائلة : أهلاً بكَ سيدي .
والتفت الراهب العجوز إلى الطفلة الصغيرة ، وقال لها : اذهبي أنتِ ، أشكرك .
وسار الكاهن بخطواته القصيرة المهزوزة ، وهو يقول : لنجلس في الغرفة ، يا بنيتي .
وجلس الكاهن العجوز في مكانه ، وجلست " زرقاء " قبالته ، وقالت : سيدي ، أرسلت في طلبي ، مرني ، إنني رهن إشارتك .
وحدق الكاهن فيها بعينيه الشائختين ، وقال : كان في ودي ، أن أزوركِ أنت وأمكِ الطيبة في بيتكما ، لكن كما تعرفين ، إنني أكاد لا أقوى على المشي .
وحاولت " زرقاء " أن تبتسم له ، وقالت : لتعينكَ الآلهة ، وتطل في عمرك .
وتابع الكاهن العجوز قائلاً : لقد أعطيت عمري ، وكل عافيتي ، لخدمة الآلهة في المعبد ، لكنن المسؤولين غضبوا مني في النهاية ، وقالوا لي ، لقد خرفت ، اذهب وعش بقية عمرك في قريتك ، بعيداً عن المعبد .
وصمت الكاهن العجوز ، وأطرق رأسه ، ثمّ تمتم قائلاً كأنما يتمتم لنفسه : قلت لهم مرة ، وأنا أتحدث عن الإلهة " مناة " التي في المعبد ، إنّ الإلهة ليست في المعبد ، وإنما في أعماقي .
وصمت الراهب العجوز ، وهو مازال مطرقاً رأسه ، وطال إطراقه حتى ظنت " زرقاء " أنه ربما أغفى ، فمالت عليه ، وهمست له قائلة : سيدي ..
ورفع الكاهن العجوز رأسه ، وابتسم " لزرقاء " ، وكأنه يعتذر منها ، وقال : عفواً ، أردت أن أقول لكِ ، وقد رحل أبوكِ الطيب أسود ، أنكِ لست وحيدة ، أنتِ ابنتنا جميعاً ، أنت ابنة هذه القرية ، وسنضعكِ أنت وأمك الطيبة ، في عيوننا .
ونهضت " زرقاء " ، وقالت : أشكرك ، يا سيدي .

" 7 "
ـــــــــــــــــــــ
مع نهوض الشمس ، نهضت الأم عميرة ، وتسللت بهدوء من الغرفة ، خشية أن تفيق الجدة ، وعلى أثرها نهضت " زرقاء " ، وتبعتها إلى الخارج ، وراحتا معاً تعدان طعام الفطور .
ومالت الأم عميرة ، وهي تعمل ، على " زرقاء " ، وهمست لها بصوت خافت : زرقاء ..
وردت " زرقاء " بصوت خافت ، دون أن تتوقف عن العمل : نعم ، ماما .
وتابعت الأم عميرة قائلة ، بنفس الصوت الخافت : جدتك ستعود إلى بيتها بعد غدٍ .
ورمقت " زرقاء " أمها بنظرة سريعة ، وقالت : ليتها تبقى عندنا بعض الوقت .
وقالت الأم عميرة : أنتِ تعرفين جدتكِ ، قررت أن تذهب ، وستذهب .
وابتسمت " زرقاء " ، وقالت : رافقتها السلامة .
وابتسمت الأم بدورها ، ورمقت " زرقاء " بنظرة سريعة ، وقالت : إنها عنيدة .
ونظرت " زرقاء " إلى أمها ، وأشارت إلى نفسها ، فقالت الأم عميرة : مثلك طبعاً ، هذا رأيي ، ويشاركني فيه أبوكِ أسو ..
وتوقفت الأم ، فنظرت إليها " زرقاء " ، وقالت : ماما ..
وتابعت الأم عميرة عملها ، وقالت بصوت تخنقه الدموع : لن ندعها تذهب وحدها ، سنرافقها أنا وأنت ، ونبقى عندها بضعة أيام ، ثمّ نعود إلى البيت .
وتوقفت الأم عميرة عن العمل ، ومسحت الدموع من عينيها ، وأخذت أحد أطباق الطعام ، الذي أعدته مع " زرقاء " ، واتجهت به إلى الغرفة ، وهي تقول : لابدّ أن جدتك أفاقت الآن ، هيا نفطر .
وبعد الإفطار ، وقفت " زرقاء " تنظف الأطباق مع أمها ، وتتبادلان الحديث عما ستعدانه للغداء ، وصمتت " زرقاء " لحظة ، ثم قالت " ماما ..
ونظرت أمها عميرة إليها ، وقد انتبهت لنبرة صوتها الحزينة ، فتابعت " زرقاء " قائلة : قد نبقى عند جدتي عدة أيام ، سأذهب الآن بعض الوقت ، ثمّ أعود .
وأدركت الأم عميرة ، ما تعنيه ابنتها " زرقاء " ، فقالت : اذهبي ، ولا تتأخري .
واستدارت " زرقاء " ، وقالت : نعم ماما .
ثم مضت متجهة إلى الخارج ، وأكملت الأم عميرة تنظيف بقية الأطباق ، وعيناها تسحان الدموع ، ثم توقفت ، ومسحت عينيها ، ودخلت الغرفة .
وخرجت " زرقاء " من البيت ، وسارت في نفس الطريق ، الذي كانت تسلكه مع أبيها ، حين كانا يخرجان بالأغنام صباح كلّ يوم ، إلى سفح الجبل ، لترعى هناك طول اليوم حتى تشبع .
وخلال سيرها الحزين ، كان يتراءى لها أبوها ، وما كان يدور بينهما من أحاديث مختلفة ، عن أمها ، وجدتها الطيبة ، والكاهن العجوز ، وأهل القرية ، بل وحتى عن الكلب قطمير والأغنام .
وأفاقت من أيامها الماضية ، حين وصلت الشجرة الضخمة ، التي كان أبوها ، في الفترة الأخيرة ، يتمدد متعباً تحتها ، والغريب أن الجبل المجنون ، الذي طمر بصخوره الضخمة ، كلّ ما حوله ، توقف عند هذه الشجرة ، وكأنه أراد أن يبقي " لزرقاء " ، شيئاً مما يذكرها بأبيها الراعي الطيب .
وتناهى إلى " زرقاء " ، وقع حوافر حصان ، يقبل خبباً نحوها ، لكنها لم تلتفت إليه ، حتى توقف على مقربة منها ، وجاءها صوت صاحبه ، يحيها قائلاً : طاب صباحكِ ، يا زرقاء .
يا زرقاء ! إنه يعرف اسمها ، ترى من يكون صاحب الحصان هذا ؟ ورفعت عينيها الزرقاوين الجميلتين إليه ، وتذكرته على الفور ، إنه الفارس الذي طلب منها شيئاً من الماء ، فردت قائلة : طاب صباحكَ .
ورمقته بنظرة سريعة ، وقالت : يبدو لي أنك لا تمرّ الآن صدفة في هذا المكان .
وابتسم الفارس ، وقال مؤكداً : أنتِ محقة ، يا زرقاء ، إنّ مروري ليس صدفة عابرة .
وترجل عن الحصان ، واقترب منها ، وقال : الحقيقة أردت أن أراك ، ومضيت إلى بيتك ، فقالت لي أمكِ ، أنك هنا ، فجئتُ إليكِ .
ولاذت " زرقاء " بالصمت ، فتطلع الفارس إلى الصخور ، التي أسقطها الجبل المجنون ، وقال : علمت بما جرى لأبيكِ ، صحيح أنه كان غاضباً مني ، لكني أعرف أنه إنسان طيب ، ويخاف عليك .
ودمعت عينا " زرقاء " ، وقالت : إنه هنا ، تحت هذه الصخور ، هو وأغنامه التي كان يحبها .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : والآن ماذا تريد مني ؟
ونظر الفارس إليها ، وقال بصوته الهادئ : سألت عنك بعد أن أعطيتني كوباً من الماء ، وعرفت اسمك ، كما عرفت أنكِ ترين في قلبكِ ، وترين على البعد أيضاً ، ما لا يراه الآخرون .
وهزت " زرقاء " رأسه ، وقالت : هذا صحيح .
وقال الفارس : لابدّ أنكِ ، يا زرقاء ، تحبين أهلكِ ومدينتكِ ، وتفعلين أي شيء من أجلهما .
فقالت " زرقاء " : إنني أحبهما فعلاً ، وأدعو الآلهة أن تحفظهما من كلّ مكروه .
وقال الفارس : هذا لا يكفي ، يا زرقاء ، أنت ترين بقلبك كما ترين من بعيد ، وعليك أن تضعي هذا في خدمة أهلكِ ومدينتكِ .
ولاذت " زرقاء " بالصمت حائرة ، فتابع الفارس قائلاً : أعداؤنا قبيلة ثمود يتربصون بنا ، وربما سينقضون علينا في أية لحظة ، فإذا رأيتِ بقلبكِ ، أو من بعيد ، ما يبيتونه ، تعالي إلى المدينة ، وأخبريني بذلك .
وقالت " زرقاء " : لكني لا أعرف أحداً في المدينة .
فقال الفارس : اتصلي بكاهن المعبد ، وهو من أنصارنا ، وسيأخذكِ إليّ ، أنا .. الأمير قدار .
فردت " زرقاء " : الأمير قدار ، لك ما تريد .
وأمسك الفارس حصانه ، واعتلاه بقفزة واحدة ، وقبل أن ينطلق به ، قال " لزرقاء " : أستودعكِ الآلهة ، أنتظر أخباراً منكِ ، إلى اللقاء .
فردت " زرقاء " ، وهي تتابعه بعينيها الزرقاوين الجميلتين : رافقت السلامة .

" 8 "
ــــــــــــــــــــ
تركت الأم عميرة وابنتها " زرقاء " بيتهما ، في اليوم التالي ، وانتقلتا للسكن مع الجدة في قريتها ، لبضعة أيام ، لعل هذا يخفف الحزن عن " زرقاء " وأمها .
لكن هذه أل " بضعة أيام " ، امتدت وامتدت إلى غير حدود ، فقد مرضت الجدة ، ولم يكن لها من يعتني بها ، فاضطرتا للبقاء إلى جانبها ، حتى تشفى .
وخلال هذه الأيام ، التي بقيت " زرقاء " فيها إلى جانب جدتها ، بدأ يتململ ما يشبه البركان في باطنها ، وتراءى لها الأمير قدار أكثر من مرة ، ينظر إليها منتظراً فوق حصانه ، ماذا يجري ؟
وتطور الأمر إلى دمدمة ، آتية من بعيد ، كأنها دمدمة عاصفة ، تنذر بالهبوب والشر المستطير ، وصارت تفزّ من النوم ، أكثر من مرة في الليلة الواحدة ، ويتراءى لها وكأن الأمير قدار ، على حصانه الفتيّ ، يهتف بها من بعيد : زرقاء .. أفيقي .
وتفيق " زرقاء " ، وقد أفاقت هواجسها وقلقها ومخاوفها ، والدمدمة تتفاقم في باطنها ، وتتحول إلى جند .. وخيول .. وأسلحة .. من جهة ، ومن الجهة الأخرى ، رقص .. وغناء .. وولائم ، ماذا يجري ؟
ومع الأيام ، بدأت تتوضح صور الجند والخيول والأسلحة ، إنهم الأعداء يتهيأون من وراء الحدود ، للانقضاض على المدينة ، في غفلة من أميرها المغمور بالرقص والغناء والولائم .
وتراءى لها الأمير قدار ، واقترب منها هذه المرة على حصانه ، وقال لها : زرقاء ، تعالي إلى المدينة ، واتصلي بالكاهن في المعبد ، ليوصلكٍ لي .
وفي الليل ، أسرت " زرقاء " لأمها بصوت خافت : ماما ، عليّ أن أذهب إلى المدينة .
واتسعت عينا الأم قلقاً ، وتمتمت : المدينة !
وردت " زرقاء " قائلة : لابدّ أن أذهب ، يا ماما .
وتابعت الأم قائلة : المدينة ليست قرية صغيرة ، يا بنيتي ، وأنتِ لم تذهبي إلى المدينة من قبل .
وقالت " زرقاء " بصوت يوحي بالخطورة : الأمر غاية في الأهمية ، يا ماما .
وتساءلت الأم مذهولة : ما الأمر ؟
وحدقت " زرقاء " في أمها ، وقالت : الأمر يتعلق بالأمير قدار ، الذي حدثتك عنه .
وهزت الأم رأسها ، وقالت : أنتِ مجنونة ، يا زرقاء ، وأخشى أن يكلفك هذا غالياً .
ورغم هذا ، اتفقت الأم عميرة ، مع جار للجدة متوسط العمر ، كان يذهب للتسوق من المدينة بين حين وآخر ، أن يأخذ " زرقاء معه ، ويوصلها حيث تريد .
وأخذ الرجل " زرقاء " ، أردفها خلفه على حصانه ، ومضى بها إلى المدينة ، التي لم تكن تبعد كثيراً عن القرية ، ووصلا إلى المدينة حوالي منتصف النهار ، وقال " لزرقاء " : هذه هي المدينة ، يا بنيتي ، أين تريدين أن أوصلكِ ؟
وردت " زرقاء " ، وهي تتلفت مبهورة بما تراه من المدينة : أريد أن توصلني إلى المعبد .
وضحك الرجل ، وقال مازحاً : ما كان لك أن تقطعي كلّ هذه المسافة لتصلي في المعبد .
وابتسمت " زرقاء " لكنها لم تردّ عليه ، فتابع قائلاً ، وهو يتجه بحصانه نحو المعبد : الآلهة ليسوا موجودين في المعبد فقط ، إنهم موجودون في كلّ مكان .
ووصل الرجل بحصانه ، و " زرقاء " وراءه ، إلى المعبد ، وتوقف أمام بوابته الضخمة ، وقال " لزرقاء " : بنيتي ، هذا هو المعبد .
وترجلت " زرقاء " عن الحصان ، ورفعت عينيها الزرقاوين الجميلتين إلى الرجل ، وقالت له ، شكراً جزيلاً ، يا عم .
وتطلع الرجل إلى عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقال لها بصوت مفعم بالرجاء : زرقاء ..
وردت " زرقاء " قائلة : نعم ، يا عم .
فقال الرجل ، وهو مازال يتطلع إلى عينيها الزرقاوين الجميلتين : ادعي الآلهة العظيمة الطيبة ، أن تهبني ابنة في جمالكِ .
وابتسمت " زرقاء " ، وقالت : سأدعو لك .
واستدارت " زرقاء " ، ومضت مسرعة إلى داخل المعبد ، فصاح الرجل ، وهو على حصانه : لا تنسي ، يا بنيتي ، زرقاء .
ولوحت له " زرقاء " ، دون أن تتوقف ، وردت عليه قائلة : لن أنسَ ، اذهب ، رافقتك السلامة .
ودخلت " زرقاء " المعبد ، والتقت في الممر بكاهن ، ربما في حوالي الخمسين من العمر ، فاقتربت منه قليلاً ، وحيته قائلة : طاب يومك ، يا سيدي .
وتوقف الكاهن ، وردّ قائلاً ، وهو يتمعن في عينيها الزرقاوين : طاب يومكِ ، يا ابنتي ..
وصمت لحظة ، وقال وهو مازال يتمعن في عينيها الزرقاوين : أنتِ .. زرقاء .
وابتسمت " زرقاء " مترددة ، وقد تورد خداها ، وقالت : نعم ، يا سيدي ، أنا زرقاء .
وبدت مسحة من الحزن على الكاهن ، وقال : عرفتكِ من عينيكِ الزرقاوين الغريبتين ..
ومال عليها ، وقال بصوت خافت : لقد حدثني عنكِ الأمير .. قدار ، يا ابنتي ، وقال إنكِ قد تأتين إليّ ، ربما في يوم قريب .
وبشيء من الحماس ، قالت زرقاء : وها أنا قد أتيت ، خذني إليه ، يا سيدي .
وتلفت الكاهن حوله بحذر ، ثم قال لها بصوت خافت : الأمير قدار في السجن الآن ..
وشهقت " زرقاء " متمتمة : في السجن !
فتابع الكاهن قائلاً بنفس الصوت الخافت : الملك أمر بالقبض عليه ، وزجه في السجن مع بعض أتباعه ، وهرب البعض الآخر منهم إلى الغابة .
وتساءلت " زرقاء " حائرة : لماذا ؟
وأخذ الكاهن بيدها ، ومشى بها إلى داخل المعبد ، وهو يقول : سأوضح لك هذا فيما بعد ..
وصمت لحظة ، ثم قال ، وهو مازال يمشي " بزرقاء " : ابقي هنا مع الكاهنات ، الأيام حبلى ، ولا أحد يدري ماذا قد يحدث ، في الأيام القادمة .

" 9 "
ـــــــــــــــــــ
رحبت الكاهنات " بزرقاء " ، وكنّ خمس كاهنات يتوزعن في عدة غرف صغيرة ، ورعينها وكأنها واحدة منهن ، لكنهن في معظم الأحيان ، كنّ منشغلات عنها ، في إدارة شؤون المعبد .
ويبدو أنّ أصغرهن عمراً ، وربما كانت في حوالي العشرين من العمر ، قد ظنت أن زرقاء ستدخل الدير ، وتصير كاهنة مثلهن ، فتعاطفت معها ، وصارت أقربهن إليها ، ترعاها ، وتتبادل الحديث معها ، وتقدم لها أفضل ما في مطبخ المعبد من طعام .
وذات مرة ، قالت لها مبتسمة : الكاهن يرتاح إليكِ ، وسيرعاك حتى لتنسي العالم الذي جئت منه ، إنه إنسان رقيق ، وطيب للغاية .
لم تقل " زرقاء " لأيّ من الكاهنات ، ولا حتى للكاهنة الصغيرة ، التي تنام معها في الغرفة نفسها ، بأنها لم تأتِ إلى المعبد ، لتكون كاهنة فيه ، وأن وجودها معهن ربما لن يطول كثيراً ، فهي تعرف الآن أن هذا سر ، ولابد أن الكاهن لا يريدها أن تتحدث به إلى أقرب الناس إليها ، وهذا ما حرصت عليه ، ففيه خطر على حياة الأمير قدار نفسه .
وظلت " زرقاء " وحدها يومين ، تذرع غرفتها طولاً وعرضاً ، وقلما تتبادل الحديث إلا مع الكاهنة الصغيرة ، التي تشاركها غرفتها ، ولتي لا تلتقي بها على الأغلب ، إلا عندما تأويان إلى فراشيهما للنوم .
وفي اليوم الثالث ، قبيل منتصف النهار ، جاءتها الكاهنة الصغيرة ، وهمست لها : زرقاء ..
ونظرت زرقاء إليها ، وقد شعرت بأهمية ما تريد أن تقوله لها ، وردت قائلة : نعم .
فتابعت الكاهنة الصغيرة قائلة بصوت خافت : الكاهن يريد أن يراكِ الآن .
وتساءلت " زرقاء " : أين ؟
فردت الكاهنة الصغيرة قائلة : تعالي ، سآخذكِ إليه .
وخرجتا من الغرفة ، ومضتا عبر ممرات المعبد ، حتى وصلتا غرفة الكاهن ، فتوقفت الكاهنة الصغيرة ، وقالت : هذه غرفة الكاهن ، اطرقي الباب ، وادخلي .
واستدارت الكاهنة الصغيرة ، ومضت مبتعدة ، وتقدمت " زرقاء " من باب الغرفة ، وطرقته برفق ، وسرعان ما جاءها صوت الكاهن من الداخل : ادخلي .
ودخلت " زرقاء " مترددة ، وإذا الكاهن يقف وسط الغرفة ، وبدا أنه ينتظرها بفارغ الصبر ، فحيته قائلة : طاب مساءكَ ، يا سيدي .
وردّ الكاهن قائلاً : أهلاً بكِ زرقاء ..
وأشار إلى مقعد قريب ، وقال : تفضلي اجلسي هنا .
وجلست " زرقاء " حيث أشار الكاهن ، الذي بادرها قائلاً : أرجو أنك مرتاحة هنا في المعبد .
فردت " زرقاء " قائلة : أشكرك ، الكاهنات جميعهن يهتممن بي ، ويرعينني ، ويسهرن على راحتي ، وخاصة الكاهنة الصغيرة .
وابتسمت " زرقاء " ، وأضافت قائلة : يبدو أنهن جميعاً ، يعتقدن أنني دخلت المعبد لأكون كاهنة .
وابتسم الكاهن بدوره ، وقال : أن تكوني كاهنة في معبدنا ، هذا كسب كبير لنا .
وسكت لحظة ، نظر خلالها إلى " زرقاء " ، ثم قال : اتصلت بالأمير قدار في السجن ، بواسطة أحد أصدقائنا ، وأعلمته بوصولكِ إليّ ، وطلب مني أن أخبرك ، بأنه يريدك أن تراقبي الوضع في قلبكِ ، والرؤية عن بعد ، وأنتِ هنا معنا في المعبد .
وصمت الكاهن ثانية ، ثم رمقها بنظرة سريعة ، وقال : الأمير قدار حدثني ، عندما كنّا نلتقي ، عن قدراتك الخارقة ، إنه يشيد بكِ دائماً .
وقبل أن تخرج " زرقاء " ، وتعود إلى غرفتها ، التي تقيم فيها مع الكاهنة الصغيرة ، قال لها الكاهن ، وهو يشدّ على يدها : تعالي إليَ ، كلما تراءى لك ما هو مهم عن تحركات الأعداء ، وأردت أن أوصله إلى الأمير قدار ، اذهبي الآن ولتحمكِ الآلهة .
وظلت " زرقاء " تتواصل سرّ مع الفارس قدار ، عن طريق الكاهن ، وراحت توصل إليه كلّ ما تراه في باطنها ، من استعدادات ، يقوم بها أعداؤهم الثموديون في مدينتهم ، مما يدل على قرب انقضاضهم المفاجئ على المدينة ، والفتك بسكانها الآمين ، بينما ينشغل ملكهم وأعوانه باللهو والحفلات والولائم الباذخة .
وذات يوم ، وقد علمت " زرقاء " ، من الكاهنة الصغيرة ، أنّ الكاهن في غرفته ، فقصدته عند الضحى ، وطرقت عليه الباب برفق ، ويبدو أنه عرف طرقتها ، فقد جاءها صوته على الفور : ادخلي .
ودخلت " زرقاء " ، فبادرها الكاهن قائلاً ، وهو يحدق فيها : خيراً يا زرقاء .
وتقدمت " زرقاء " من حيث يجلس ، وقالت : أرجو أن لا أشغلك عن مهامكَ .
فنهض الكاهن ، وقال لها : أنتِ يا زرقاء ، وما ترينه في قلبكِ هذه الأيام ، هو أهمّ مهامي .
ومالت " زرقاء " نحوه ، وقالت بنبرة توحي بالخطورة : يبدو يا سيدي ، أنّ أعداءنا الثموديين ، قد أوشكوا أن يفرغون من استعداداتهم للانقضاض علينا ، والفتك بالأهالي الآمنين في بيوتهم .
ولاذ الكاهن بالصمت لحظة ، وقد اربدّ وجهه ، ثم قال : أيعقل أن كلّ هذا يغيب عن الملكِ ؟
وهزت " زرقاء " رأسها ، وقالت : من يدري ، لعل انشغالاته باللهو والحفلات والولائم مع من يحيط به ، وضع غشاوة على عينيه ، وجعلته لا يرى ما يحيق به وبالمدينة والناس الآمنين من أخطار .
ونظر الكاهن بعيداً ، ثمّ قال : وربما أيضاً حرص الأعداء على أن لا يتسرب إلى الملكِ وأعوانه اللاهين ، أي شيء مما يشير إلى نشاطاتهم واستعداداتهم لبدء الحرب ، والهجوم على مدينتنا .
ولاذت " زرقاء " بالصمت مفكرة ، ثم رفعت رأسها ، ونظرت إليه ، وقالت : سيدي ..
وردّ الكاهن قائلاً : نعم ، يا زرقاء ، قولي ما عندكِ .
وتابعت زرقاء قائلة : ماذا لو علمتُ باقتراب الهجوم ، أو بدئه من قبل الأعداء ؟
وحدق الكاهن فيها متحيراً ، فقالت " زرقاء " مندفعة : لا مناص ، سأذهب إلى الملك ، حتى لو كان الليل قد انتصف ، وأصارحه بالحقيقة .

" 10 "
ــــــــــــــــــــــ
فزت " زرقاء من النوم مرتعبة ، وقد غمر وجهها العرق ، وما إن اعتدلت في فراشها ، حتى أفاقت الكاهنة الصغيرة ، واعتدلت هي الأخرى ، وأسرعت إلى " زرقاء " ، وقالت لها : زرقاء ، ما الأمر ؟ أراكِ مرعوبة ، والعرق ينز من وجهكِ .
ونهضت " زرقاء " من الفراش ، واتجهت إلى الباب ، وهي تقول : يجب أن أرى الكاهن .
ولحقت بها الكاهنة الصغيرة ، وقالت لها : الكاهن مستغرق في النوم الآن ، ولا يجب أن نوقظه .
والتفتت " زرقاء " إليها ، وقالت : لديّ مهمة مصيرية في القصر ، ولابدّ أن أنجزها الليلة .
وتمتمت الكاهنة الصغيرة ، وقد اتسعت عيناها ذهولاً : ماذا ؟ القصر ! هذا ..
وقاطعتها " زرقاء " ، وهي تفتح الباب ، وتحاول الاندفاع إلى الخارج : ابتعدي عن طريقي ، دعيني أذهب ، وأنجز المهمة ، ابتعدي ، الوقت يمرّ .
وأفلتت " زرقاء " ، ومضت مسرعة ، فلحقت بها الكاهنة الصغيرة ، وحاولت أن تمسك بها ، وهي تقول بصوت خافت : زرقاء ، توقفي ، لا تكوني مجنونة ، نحن في منتصف الليل .
وحثت " زرقاء " خطاها ، وهي تردّ عليها قائلة : تعالي ، أغلقي باب المعبد ورائي ، لابدّ أن أذهب إلى القصر ، مهما كلف الأمر .
وحتى بعد أن فتحت " زرقاء " باب المعبد ، حاولت الكاهنة الصغيرة أن تثنيها عن الخروج ، لكنها قالت لها دون أن تلتفت إليها : أغلقي الباب ، وعودي أنتِ إلى فراشك ، ولا تخبري أحداً بما أقدمت عليه .
وأغلقت الكاهنة باب المعبد ، بعد أن ابتعدت " زرقاء " في الظلام ، الذي يخفف منه ضوء القمر الشاحب ، وعادت إلى الغرفة ، واندست في فراشها ، ولم تستغرق في النوم إلا في ساعة متأخرة من الليل .
ووصلت " زرقاء " إلى القصر ، الذي كانت المشاعل والقناديل تحول ليله إلى نهار ، وأصوات الآلات الموسيقية والأغاني التي تصدر عنه ، تسمع من بعيد ، وعند الباب ، استوقفها حارسان ، ونهرها أحدهما قائلاً : ابتعدي ، ممنوع الدخول إلى القصر .
فردت " زرقاء " عليه قائلة : لابد أن أقابل الملك لأمر في غاية الأهمية .
وحدق فيها الثاني ، وقال للأول : الأفضل أن تستدعي أحد الضباط ، وليتحمل هو المسؤولية .
وهزّ الأول رأسه ، وقال : رأي صائب ، سأدخل إلى القصر ، وأخبر أحد الضباط بالأمر .
وأسرع الحارس الأول إلى الداخل ، وسرعان ما عاد ، ومعه ضابط شاب ، وأشار إلى " زرقاء " ، وقال : هذه هي الفتاة ، يا سيدي .
واقترب الضابط من " زرقاء " ، وحدق فيها ملياً ، ثم قال لها : لا أحد يقابل الملك ، وخاصة في وقت كهذا ، إلا لأمر في غاية الأهمية .
فرمقته " زرقاء " بنظرة خاطفة ، وقالت له بصوت متهدج : لو لم يكن الأمر في غاية الأهمية ، يا سيدي ، لما أتيت في هذا الوقت من الليل .
وتساءل الضابط : وما هو هذا الأمر الهام ؟
وردت " زرقاء " قائلة : الأمر سريّ ، ولن أفضي به إلا للملك نفسه ..
وصمتت لحظة ، ثم نظرت إلى الضابط ، وقالت : أخشى لو اضطررت للإفضاء به إليك الآن ، أن ينزل بك الملك العقاب الذي تستحقه .
وصمت الضابط لحظة ، ثم سار إلى الداخل ، وهو يقول : الأمر خطير في الحالتين ، تعالي معي .
وقاد الضابط " زرقاء " ، عبر ممرات القصر المضاءة ، إلى قاعة واسعة جميلة ، تعج بالضيوف والجواري والخادمات ، وهمس " لزرقاء " قائلاً : توقفي هنا ، سأستأذن الملك ، ولنرَ ماذا يقرر .
وشق الضابط طريقه بصعوبة ، بين الجاريات والخادمات والضيوف المترنحين ، حتى وصل الملك ، الذي تحيط به باقة من الجواري ، ورفع الملك رأسه المترنح إلى " زرقاء " ، وهو يصغي إلى ما يقوله له الضابط ، ثم رفع يده ، وأشار لها ، أن تعالي .
وعلى الفور ، مضت " زرقاء " في هذا الخضم الغريب المترنح ، حتى وصلت إلى الملك ، وتوقفت أمامه مضطربة مبهورة ، وقالت : مولاي ..
وحدق الملك ، وهو لا يكاد يقف على قدميه ، متأملاً عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وبشرتها البيضاء الصافية ، وشعرها الذهب ، ثم قال : أنتِ جميلة ، جميلة جداً ، ولابدّ أنّ اسمك جميل مثلك ..
وقبل أن تتفوه " زرقاء " بكلمة ، سألها : ما اسمكِ ؟
لم تجب " زرقاء " على سؤاله ، وإنما قالت بصوت متهدج : المدينة في خطر ، يا مولاي ..
وضحك الملك ، وهو يتأملها بعينيه المخمورتين ، ويقول : دعكِ من المدينة ، يا جميلتي ، فالخطر الحقيقي هو في عينيك الزرقاوين الجميلتين جداً ..
وتغاضت " زرقاء " عما يقوله الملك ، وهو يترنح في مكانه ، وتابعت قائلة : الأعداء المدججون بالسلاح والحقد يتربصون بنا ..
واستمر الملك في ضحكه ، وهو يقول : إذا غسلتها الجواري جيداً ، وبدلن ملابسها ، بملابس جديدة موشاة بالذهب والأحجار الكريمة ..
وقاطعته " زرقاء " بشيء من الانفعال قائلة : كفى ، لقد أتمّ الأعداء استعداداتهم ، وسيهجمون على المدينة وأهلها عاجلاً وليس آجلاً ..
وصمت الملك لحظة ، ثم حدق في " زرقاء " ، وقال : اسمعي ، يا بنت ، ليس لنا أعداء ، وهؤلاء جيراننا لم نؤذهم ، ولن يؤذوننا ، نعم ، نحن جيران .
واندفعت الدموع إلى عيني " زرقاء " ، وأغرقت صوتها وهي ترد على الملك قائلة : مولاي ، إنني أراهم ، هؤلاء الجيران ، في قلبي ، يزحفون ..
وقاطعها الملك : آه .. أنتِ ..
وصاحت " زرقاء " من بين دموعها : نعم .. أنا .. زرقاء .. أيها الملك ..
ونظر الملك إلى الضابط غاضباً ، وقال وهو يترنح : لو لم أكن منتشياً ، أيها اللعين ، لعلقتك أنت وهذه المجنونة على شجرة من أشجار حديقة القصر .
وصمت لحظة ، ثم صاح بالضابط : خذها ، واطردها من القصر ، قبل أن أقطع رأسها .

" 11 "
ــــــــــــــــــــــ
افتقد الكاهن " زرقاء " ، وأراد أن يراها ، ويقف على ما رأته في قلبها ، فأرسل إلى الكاهنة الصغيرة ، التي تشاركها في غرفة واحدة .
وانتاب القلق الكاهنة الصغيرة ، خشية أن يكون الكاهن ، قد عرف بخروج " زرقاء " ليلاً من المعبد ، وذهابها إلى القصر ، دون علمٍ منه .
ودخلت عليه مرتبكة ، بعد أن طرقت الباب ، وتمتمت قائلة : طاب صباحكَ ، يا سيدي .
وحدق الكاهن فيها ، وارتعبت في داخلها ، لابدّ أنه عرف ، وسيحملني مسؤولية ذلك ، لكنه ردّ قائلاً : طاب صباحكِ ، أخبريني ..
وقبل أن تتفوه الكاهنة الصغيرة بكلمة ، تابع الكاهن قائلاً : لم أرَ زرقاء اليوم .
واتسعت عينا الكاهنة الصغيرة ، وتأتأت قائلة : سيدي .. إنها في فراشها .. شبه مريضة ..
وتوقفت عن الكلام لحظة ، ثم انهارت قائلة : ربما أصابها برد ، حين خرجت البارحة من المعبد ليلاً ، لقد .. لقد ذهبت إلى القصر ، قالت إنها ستخبرك بالأمر ، وعادت من القصر بعد ساعات ، وهي شبه مريضة ، ولم تنم حتى الصباح .
ونهض الكاهن من مكانه ، وقال للكاهنة الصغيرة : تعالي معي ، أريد أن أراها .
وخرج الكاهن من الغرفة مسرعاً ، والكاهنة الصغيرة تهرول في أثره ، وتوقف على مقربة من غرفة " زرقاء " ، والتفت إلى الكاهنة الصغيرة ، وقال لها : ادخلي ، واعلميها بقدومي .
ودخلت الكاهنة الصغيرة إلى الغرفة ، وسرعان ما عادت ، وقالت للكاهن : سيدي ، تفضل ادخل ، إنها مستيقظة ، تنتظرك .
ودخل الكاهن ، ودخلت الكاهنة الصغيرة وراءه ، وإذا " زرقاء " تقف قرب السرير ، شاحبة ، مرتعبة ، شبه مريضة كما قالت الكاهنة الصغيرة ، ورفعت عينيها الزرقاوين إليه ، وقالت : مرحباً .. سيدي .
والتفت الكاهن إلى الكاهنة الصغيرة ، وقال لها : اذهبي ، وانتظري في الخارج .
وعلى الفور ، ودون أن تتفوه بأية كلمة ، خرجت الكاهنة الصغيرة ، وأغلقت الباب وراءها ، ونظر الكاهن إلى " زرقاء " ، فأطرقت رأسها ، وقالت : عفواً سيدي ، لأني خرجت من الدير ليلة البارحة دون علمك .
وبدل أن يؤنبها الكاهن ، أو يعاتبها على الأقل ، قال لها : لابدّ أن الأمر كان مفاجئاً ومستعجلاً .
وهزت " زرقاء " رأسها ، وقالت : نعم ، يا سيدي ، تزاحمت عليّ الرؤى ، وأردت أن أنقلها إلى الملك مباشرة ، لكن ..
وصمتت " زرقاء " مختنقة بدموعها ، فقال الكاهن : لا مكان لرؤاك في ليالي الأمير .
وتابعت " زرقاء " قائلة : ليته لم يصدقني فقط ، لقد طردني ، وهددني بالشنق فوق شجرة من أشجار حديقة قصره ، أنا والضابط الذي أدخلني عليه .
وصمتت " زرقاء " ثانية ، وقد ازداد انفعالها ، وقالت : الأمر خطير للغاية ، يا مولاي ، ما العمل ؟
فأطرق الكاهن رأسه متأثراً ، وقال بصوت متهدج : لا أدري ، ولكن لابدّ أن نفعل شيئاً ، سأتصل بالأمير قدار ، وسنرى ما يشير به علينا .
وخرج الكاهن من الغرفة ، وقال للكاهنة الصغيرة ، التي كانت تقف على مقربة من الباب : ابقي إلى جانبها ، ولا تتركيها وخدها في الغرفة أبداً .
فأحنت الكاهنة الصغيرة رأسها ، وقالت : أمرك ، يا سيدي ، لن أتركها لحظة واحدة .
ودخلت الكاهنة الصغيرة إلى الغرفة ، وإذا " زرقاء " جاثية أمام السرير ، فأسرعت إليها ، وقالت : ما الأمر ، يا عزيزتي زرقاء ، ما الأمر ؟
وهزت " زرقاء " رأسها ، دون أن ترفع عينيها الزرقاوين ، وقالت بصوت منهار مبلل بالدموع : الويل قادم .. الويل قادم .. الويل قادم .
وقبيل المساء ، من ذلك اليوم ، جاء الضابط الشاب ، الذي عرَض نفسه للخطر ، وقدم " زرقاء " إلى الملك نفسه ، والتقى بها أمام الكاهن ، وقال لها : تعالي معي ، حدثتُ القائد عنكِ ، ويريد أن يراكِ .
ولم ترد " زرقاء " مباشرة ، وإنما رفعت عينيها إلى الكاهن ، وكأنها تنتظر رأيه ، فقال لها : اذهبي ، يا ابنتي ، ولتكن الآلهة معكِ .
وذهبت " زرقاء " مع الضابط الشاب ، الذي قدمها إلى القائد ، وكان رجلاً قد تجاوز منتصف العمر بقليل ، وقال له : سيدي ، هذه هي الفتاة زرقاء ، التي حدثتك عنها ، وعن قدراتها الخارقة .
وحدق القائد في " زرقاء " ، وقال : أنت زرقاء ..
وردت " زرقاء " قائلة : نعم .
وتابع القائد قائلاً : ترين بقلبك ..
وقالت " زرقاء " بصوت هادئ : وأرى بعيني أيضاً على بعد ثلاثة أيام .
ونهض القائد من مكانه ، وقال " لزرقاء " : تناهت إلينا أخبار غير مؤكدة ، عن الثموديين ، يقال أنهم يستعدون سراً لمهاجمتنا في وقت قريب ..
وصمت القائد ، فقالت " زرقاء " : رأيت هذا بقلبي ، وقلبي لا يكذب ، نحن في خطر ..
وتساءل القائد : ماذا رأيت ؟
وردت " زرقاء " قائلة : رأيتُ أعداءنا الثموديين يبدؤون الزحف نحونا .
وقال القائد : أريد أن ترينهم ليس فقط بقلبك ، وإنما أيضاً بعينيكِ الزرقاوين .
فقالت " زرقاء " : أنا لا أرى بعيني هاتين ، إلا على بُعد ثلاثة أيام فقط .
ونظر القائد إلى الضابط الشاب ، وقال له : خذها سراً من الغد ، إلى التل المرتفع خارج المدينة ، ودعها تنظر من هناك ، إلى الجهة التي قد يأتي منها الأعداء ، لعل في ما تقوله بعض الحقيقة .
فأحنى الضابط الشاب رأسه ، وقال : أمر سيدي .
" 12 "
ـــــــــــــــــــــ
زحف الثموديون بجيشهم الجرار ، المدرب ، المدجج بأحدث وأقوى الأسلحة ، في سرية تامة ، يقودهم الملك ذؤابة ، نحو مدينة الحجر ، التي يسكنها الديدانيون ، قوم " زرقاء " والفارس قدار .
وإلى جانبي الملك ذؤابة ، في مقدمة الجيش ، كان كبار القادة ، على خيولهم المطهمة ، من بينهم قائده المحنك ، ووزيره العجوز ، الذي كان العامة يطلقون عليه اسم " الثعلب العجوز " .
وفي اليوم الأول من زحفهم ، قطعوا المسافة المقررة لليوم الواحد ، من بين خمسة أيام ، يستغرقها الزحف من مدينة الثموديين إلى مدينة الديدانيون .
وخطة مسيرة هذا الزحف ، التي تستغرق خمسة أيام ، بين المدينتين ، رسمها الوزير العجوز ، رغم أن الجيش يتمكن من قطعها في أربعة أيام ، والهدف منها ، أن يكون الجند مرتاحين ، عندما تحين ساعة المواجهة بين الجيشين ، هذا إذا لم تتحقق المفاجأة ، التي خطط لها الوزير العجوز ، بمساعدة القائد المحنك .
وفي اليوم التالي من بدء الزحف ، قطعوا المسافة المقررة تقريباً ، وقد تعمدوا ـ بتخطيط من الوزير العجوز أيضاً ـ أن يتوقفوا قبل نهاية المسافة المقررة ، وسط غابة كثيفة الأشجار .
وفي الساعات الأولى ، من تلك الليلة ، اجتمع مع الملك في خيمته ، القائد المحنك ، وكذلك الوزير العجوز ، أو الثعلب العجوز ، كما يُسميه العامة ، يتدارسون خطط الأيام التالية للزحف على الديدانيين .
وبادر الملك ذؤابة ، وزيره العجوز ، فقال : نحن إلى الآن ، عملنا بما تشير لنا أن نعمله ، حتى أننا توقفنا وسط هذه الغابة ، قبل أن نقطع المسافة المقررة لليوم الثاني ، والآن ماذا ترى أن نعمل ؟
ورفع الوزير العجوز إلى الملك ، عينيه المتقدتين ، رغم تقدمه في العمر ، وقال : الجزء الأهم من المسيرة ، والذي سيقرر مصير خطتنا ، سيبدأ منذ الغد .
وقاطعه الملك قائلاً : مهما كان الأمر ، يا وزيري ، فنحن منتصرون في معركتنا هذه .
وسارع القائد المحنك إلى تأييد الملك ، فقال : هذا أكيد ، يا مولاي ، وقد أعددنا جيشنا لهذا النصر .
ولاذ الوزير بالصمت ، حتى انتهى الملك من كلامه ، وكذلك القائد المحنك ، فرفع عينيه إلى الملك ، وتابع قائلاً : أنت محق ، يا مولاي ، لكني أواصل التخطيط ، تحت إشرافكم طبعاً ، لتخطيط أسهل ، لا يكلف جيشنا المنتصر ، أية خسارة تذكر .
وحدق الملك ذؤابة فيه ، وقال : حسناً ، يا وزيري ، هذا ما أتمناه ، تكلم ، إنني أسمعكَ .
وقال القائد المحنك : ليتهم لا يعرفون بزحفنا نحوهم ، حتى اليوم الرابع ..
وقاطعه الوزير العجوز قائلاً : بل إنني أخطط ، لأن لا يعرفون بزحفنا ، حتى اللحظات الأخيرة .
وابتسم الملك ، وقال : ستكون هذه معجزة من الآلهة ، أوضح خطتك ، يا وزيري العجوز .
ونظر الوزير العجوز إلى الملك ، وقال : يمكنني أن أؤكد ، يا مولاي ، أن الدودانيين لم يرونا حتى الآن ، لكني أخشى أنهم سيروننا منذ الغد ..
وصمت الوزير العجوز ، وتساءل القائد المحنك مندهشاً : ولماذا منذ الغد ؟
فرد الوزير العجوز قائلاً بصوت يوحي بالخطورة : لأن لديهم الرائية .. زرقاء .
وتساءل الملك : تلك الرائية التي حدثتني عنها ؟
وهزّ الوزير العجوز رأسه ، وردّ قائلاً : نعم ، يا مولاي ، هي نفسها ، إنها عدونا الأول ، ويمكنها أن ترانا ، ونحن على بعد ثلاثة أيام ، أي سترانا غداً ، وتخبر قومها بالزحف ، وبذلك تحرمنا من مفاجأتهم .
وبدأ الانفعال يتملك القائد المحنك ، وانفجر قائلاً : اقترحت عليك ، منذ أن حدثتنا عنها ، أن نقوم بتصفيتها ، والتخلص منها ، لكنك لم توافق .
ونظر الوزير العجوز إليه ، وقال بهدوء : لو قمنا بتصفيتها ، لربما وقع القاتل في أيديهم ، وتحت التعذيب ، سيعترف بأننا وراء هذه العملية ، وسيعرفون على الأغلب ، هدفنا منها .
وتساءل القائد : والآن ، ما العمل ؟
وحدق الملك فيه ، وقال : أشر علينا .. أنتَ العجوز .
وابتسم الوزير العجوز ، فقد أدرك ما يشير إليه الملك ، وقال بنبرة المازح : هنا نحتاج إلى المكر ، مكر .. الثعلب العجوز .
وقال الملك مجارياً الوزير العجوز : أمكرْ .
فقال الوزير العجوز : نحن الآن في الغابة ، يا مولاي ، وإذا زحفت الغابة ، هل سيصدق أحد ، أن الأغصان الخضراء ، مدججة بالسلاح ؟
وهزّ الملك رأسه ، وقال : تعني .. !
وتابع الوزير العجوز مبتسماً : نعم ، يا مولاي ، جند من الأشجار الخضراء ..
وصمت لحظة ، ثم قال : كلّ جندي من جندنا ، يقطع غصناً كثيف الأوراق ، من أشجار هذه الغابة ، ويتخفى وراءه ، وفي يده سلاحه القاتل ، ويزحف مع الجند الآخرين نحو ، ولن تبقى لحيان .
ونهض الملك منتشياً ، وخاطب القائد قائلاً : هذه الغابة الزاحفة ، إنها خطة المنتصر ، مرْ الجند جميعاً ، أن ينهضوا غداً مع الفجر ، وليقطع كلّ منهم غصناً من أغصان أشجار هذه الغابة ، ويتخفى وراءه ، ولنبدأ الزحف على مدينة الحجر ، ولتبقَ ثمود ، وتنمحي الحجر وأهلها إلى الأبد .
وصمت لحظة ، ثم قال : ولتمت : زرقاء .
وتمتم الملك ذؤابة من بين أسنانه : آه ستقع زرقاء بين يدي عاجلاً أ آجلاً ، ولن تبقى زرقاء .
وطوال ساعات وساعات ، من صباح اليوم التالي ، انهمك جند ثمود ، بإشراف القائد المحنك نفسه ، في قطع الكثير من الأغصان الكثيفة الأوراق ، والتخفي بأسلحتهم وراءها ، وحوالي منتصف النهار ، زحفت الغابة المدججة بالسلاح ، نحو مدينة الديدانيين .

" 13 "
ـــــــــــــــــــــ
في الأيام الثلاثة التالية ، ولأكثر من مرة في اليوم الواحد ، كان الضابط الشاب ، يذهب إلى المعبد ، ويأخذ " زرقاء " إلى التل المرتفع ، القريب من مدينة الحجر ، ومن هناك تقف " زرقاء " ، تراقب الآفاق البعيدة بعينيها الزرقاوين الثاقبتين ، ويخاطبها الضابط الشاب قائلاً : ها .. أخبريني .. الملك ينتظر .
وترمقه " زرقاء " بنظرة سريعة ، وتعود للنظر إلى الآفاق البعيدة ، وتقول : لا شيء حتى الآن .
ويقول لها الضابط الشاب : انظري جيداً ، لعلك ترين بعض ثمود مقبلين .
فتنظر " زرقاء " إليه ، وتقول : إنني أراهم بقلبي ، إنهم قادمون ، وسأراهم قريباً بعينيّ .
وعند المساء ، من كِلا اليومين ، كان الضابط الشاب ، يقبل على الملك ، ويقف أمامه محبطاً ، ويقول : لم ترَ زرقاء أحداً من ثمود اليوم ، يا مولاي .
ويحدق فيه الملك غاضباً ، ويقول له : ولن ترى أحداً منهم ، لا اليوم ولا في المستقبل .
ورغم تردده ، وخوفه من الملك ، يقول الضابط الشاب : لكنها تراهم .. بقلبها .
فردّ الملك قائلاً بشيء من الانفعال : قلبي يقول لي ، إن قلبها اللعين يكذب .
وفي اليوم الرابع ، عند حوالي الضحى ، فوجئ الضابط الشاب ، " بزرقاء " تصيح بصوت متهدج ، : تعال .. انظر ..
وأسرع الضابط الشاب إليها ، وهو يقول بشيء من الانفعال : ماذا ؟ ماذا أنظر ؟
وأشارت بيدها إلى الأفق البعيد ، وهي تكاد تتقافز : انظر ، انظر هنا ، وسترى كلّ شيء .
ونظر الضابط الشاب ، ولم يرَ شيئاً ، فقال لها : لا أرى شيئاً ، أنتِ زرقاء ، وليس أنا .
والتفتت " زرقاء " إليه ، وقالت : ليت الملك هنا ، ليعرف أخيراً أنني .. زرقاء .
وبدا الحماس على الضابط الشاب ، وقال : سأذهب إلى الملك ، وأخبره ، إذا كنتِ واثقة من الأمر .
وبنفس الحماس ، قالت له " زرقاء " : اذهب ، وسأكون عند حسن ظنك .
وذهب الضابط الشاب على حصانه مسرعاً ، ودخل على الملك ، وانحنى له ، وقال لاهثاً : مولاي ..
وحدق الملك فيه ، وقال : خيراً .
وتابع الضابط الشاب قائلاً : ترجو زرقاء ، أن تأتي إلى التلّ ، وترى ما رأت .
ونهض الملك ، وقال : أرجو أن لا يكون ما رأته ، كان بقلبها أيضاً .
فردّ الضابط الشاب قائلاً ، لا يا مولاي ، ما رأته قبل قليل ، كان بعينيها وليس بقلبها .
ومضى الملك إلى الخارج ، والضابط الشاب يهرول وراءه ، وهو يقول : لن أصدق هذه الزرقاء ، حتى أرى بعيني اللتين لم تكذبا عليّ في يوم من الأيام ، ما تدعي أنها رأته بقلبها وعينيها .
ووصل الملك إلى التل ، وترجل عن حصانه ، وراح يصعد التل المرتفع لاهثاً ، وهو يقول ، والضابط الشاب يصعد في أثره : هذه الزرقاء ، إن لم تصدق هذه المرة ، سأريها ما لم تره في عمرها اللعين كله .
وتقدم الملك من زرقاء ، عندما بلغ أعلى التل ، وقال لها بصوت متقطع : زرقاء ..
والتفتت زرقاء إليه مضطربة ، وقالت : مولاي ..
وقال الملك ، وصوته مازال يتقطع : حدثيني بشكل واضح عما رأيتِ بعينيكِ .
ونظرت " زرقاء " إلى البعيد ، وقالت مترددة : رأيتُ وأرى غابة من الأشجار ، تزحف نحونا ..
واتسعت عينا الملك غضباً ، وقال : غابة !
وتابعت " زرقاء " قائلة : لابد أن جند ثمود يتخفون وراءها ، وهم مدججون بالسلاح .
والتفت الملك إلى الضابط الشاب ، وقال له غاضباً : جئت بي إلى هنا ، لتحدثني مجنونة عن غابة من غابات ثمود ، تزحف إلينا بكامل أشجارها ، الويل لك ..
وقبل أن يتفوه الضابط الشاب بكلمة واحدة ، استدار الملك غاضباً ، ومضى ينحدر عن التل ، ولحق به الضابط الشاب ، وهو يردد : مولاي .. مولاي .
وتابع الملك قائلاً ، دون أن يتوقف : إنها مخبولة ، وقد عرفت أنها مخبولة ، منذ البداية ، غابة من الأشجار ؟ يا للجنون .
وهبط الملك التل ، وهو يلهث ، ثم امتطى حصانه ، وقبل أن يمضي مبتعداً ، اقترب منه الضابط الشاب منهاراً ، وقال له : مولاي ، أرجوك ، اسمعني ..
وقاطعه الملك بغضب قائلاً : خذ هذه المجنونة إلى المعبد ، وقل للكاهن أن تبقى هناك العمر كله ، وإلا قتلتها ، وخلصت الناس من جنونها .
ولكز الملك حصانه بقوة ، فانطلق به نحو مدينة الحجر ، وعاد الضابط الشاب إلى " زرقاء " ، وأطبق على ذراعها ، وقال لها : تعالي ..
وحاولت " زرقاء " أن تتملص منه ، وراحت تشير إلى الأفق البعيد ، وهي تقول : مهلاً ، إنهم ثمود ، أعداؤنا ، يزحفون نحونا ، متخفين وراء الأشجار ..
وسحبها الضابط الشاب بقوة ، وهو يقول غاضباً : أيتها المجنونة ، هيا إلى المعبد ، وإلا قتلتك أنا نفسي ، لقد حطمت مستقبلي ، وسودتي لي حياتي .
وأخذها الضابط الشاب عنوة إلى المعبد ، وطوال الطريق ، حاولت " زرقاء " أن تقنعه بأن غابة ثمود تزحف نحوهم ، دون جدوى .
وفي المعبد ، دفع الضابط الشاب " زرقاء " إلى الكاهن ، وقال له بغضب : الملك أرسل لك هذه الزرقاء ، ويقول لك ، أن تبقيها عندك في المعبد ، حتى نهاية عمرها ، وإلا قتلها شرّ قتلة .
ولم ينتظر الضابط الشاب ردّ الكاهن ، وإنما استدار بسرعة ، ومضى إلى الخارج ، وجثت " زرقاء " منهارة على الأرض ، وانحنى الكاهن عليها ، وخاطبها بصوت مفعم بالتعاطف ، قائلاً : زرقاء ..
ورفعت " زرقاء " عينيها الزرقاوين إليه ، وقالت بصوت تغرقه الدموع : لقد رأيتهم ، إنهم جند ثمود ، يزحفون متخفين وراء الأشجار ..
ولاذ الكاهن بالصمت ، فتابعت " زرقاء " بصوت باكٍ : لقد انتهت ديدان .. انتهت ديدان .

" 14 "
ــــــــــــــــــــــ
ساعة بعد ساعة ، مرت الأيام الثلاثة ، قضاها ملك الحجر بمزيد من اللهو والجواري والولائم الباذخة ، وكأنه يريد أن يغطي على نبوءة " زرقاء " ، القاتمة المليئة بالحرائق والدماء .
ومن جهتها ، قضتها " زرقاء " ، ومعها كاهن المعبد ، ساعة بعد ساعة ، وهما يتقلبان معاً ، على ألسنة لهب الرؤى ، التي تتدفق من بركان أعماق " زرقاء " ، ومما تراه من غابة ثمود ، التي تقترب شيئاً فشيئاً ، وبدون إبطاء أو توقف ، من الحجر .
وفي مساء اليوم الثالث ، والشمس المدماة تقترب من حافة الأفق ، رأى ملك الحجر ، من فوق السور ، بعينيه اللتين زالت عنهما غشاوة الملاهي والجواري والولائم الباذخة ، غابة من الأشجار تحيط بمدينته الحجر ، ورأى الجند المدججين بالسلاح يقفون وراءها ، كما وصفتهم له " زرقاء " ، قبل ثلاثة أيام .
واقترب ملك ثمود من البوابة ، يحيط به جنده المدججون بالسلاح ، يتقدمه القائد والوزير العجوز ، وصاح بملك حجر : أيها الملك ..
وأطل ملك الحجر عليه ، وحوله يقف القائد وبعض الجند ، من بينهم الضابط الشاب ، وردّ قائلاً : يا ملك ثمود ، تمنيت لو أنك جئت ضيفاً .
وردّ ملك ثمود بصوت جاف قائلاً : دعك من هذا ، يا ملك حجر ، أريد منك .. زرقاء .
وتمتم ملك جحر مذهولاً : زرقاء !
وتابع ملك ثمود قائلاً : سلموني هذه الزرقاء ..
وصمت لحظة ، ثم قال : وقد أخفف عنك ما سأوقعه بكم من ويلات وعذاب .
لم يردّ ملك الحجر عليه ، وإنما التفت إلى الضابط الشاب ، وقال له : أنت تعرف أين زرقاء ..
وبدا التأثر على الضابط الشاب ، وقال : مولاي ..
وأدرك ملك الحجر ما فهمه الضابط الشاب ، فقاطعه قائلاً : زرقاء ابنتنا ، لن نفرط فيها ، حتى لو كان هذا الملك الغادر ، صادقاً في وعوده ..
وصمت لحظة ، وقد هدأ الضابط الشاب ، وقال : اذهب إليها ، وقل لها إنها في خطر ، أسرع ..
وذهب الضابط الشاب مسرعاً إلى المعبد ، للقاء " بزرقاء " ، وتحذيرها من ملك ثمود ، لعلها تستطيع أن تنجو بنفسها من هذا الخطر الداهم .
ومن تحت السور ، صاح ملك ثمود بصوته الجاف : يا ملك الحجر ، طلبت منك زرقاء ، ووعدتك أن أخفف عنك ، لكنك لم تردّ عليّ .
واستدار ملك الحجر ، ومضى مع قائده وجنده بعيداً عن السور ، دون أن يلتفت إليه ، أو يردّ عليه بكلمة واحدة ، وانفجر ملك ثمود غضباً ، وصاح : الويل لك ، والويل للحجر وأهلها ، الويل لكم جميعاً .
والتفت ملك ثمود إلى قائد جنده ، وقال له بحضور وزيره " الثعلب العجوز " : أيها القائد ، هذه المدينة ، التي عصاني ملكها ، انقضوا عليها ، واستبيحوها ثلاثة أيام ، ولا ترحموا كائناً من كان فيها .
وانقض جند ثمود ، المدججون بالسلاح ، على مدينة الحجر ، ولم يرحموا أحداً فيها ، وعلم القائد أن " زرقاء " الرائية التي أرادها الملك ، موجودة في معبد المدينة ، فاقتحم المعبد مع عدد من جنده ، وأخذ زرقاء ، بعد أن قتلوا الكاهن والكاهنات ، وحطموا كلَ شيء فيه .
وقاد القائد " زرقاء " إلى الملك ، ودفعها أمامه ، وقال : مولاي ، هذه هي زرقاء ، حية كما أردتها .
وحدق ملك ثمود فيها ، ثم قال : أنتِ .. زرقاء .
فتطلعت " زرقاء " بعينيها الزرقاوين إليه ، وردت قائلة ، دون أن يرفّ لها جفن : نعم ، أنا .. زرقاء .
ورفت على شفتيه الجافتين ، ابتسامة ساخرة ، وقال : يُقال أنكِ ترين بقلبكِ ما تراه عيناكِ بعد ثلاثة أيام ..
وهزت " زرقاء " رأسها ، وقالت : هذا صحيح .
وتابع الملك قائلاً : وأنكِ ترين بعينيكِ الزرقاوين هاتين على مسافة ثلاثة أيام .
وقالت " زرقاء " : نعم ، فأنا رائية .
واختفت ابتسامة الملك ، عن شفتيه الجافتين ، وقال : وعلى هذا ، كان من الممكن أن ترينا ، ونحن على بعد ثلاثة أيام من مدينتكم .. الحجر .
والتمعت عينا " زرقاء " الزرقاوان ، وقالت : بل رأيتكم ، رأيت جندكم المدججين بالسلاح ، يتخفون وراء أغصان الأشجار ، التي يحملونها بأيديهم ، وقد أخبرت الملك بذلك ، ليتهيأ لمقاومتكم ، والدفاع عن المدينة ، لكنه للأسف لم يصدقني ، وقال إنني مجنونة .
وابتسم الملك ابتسامته الساخرة المسمومة ، وقال : أنت مجنونة فعلاً ، وإلا لهربت من المصير الأسود ، الذي لحق بملككم ، ومدينتكم الحجر ، وبكل ما فيها .
وحدقت " زرقاء " فيه ، وقالت : ما كان لي أن أهرب ، ولم أهرب ، فأنا واحدة من ديدان .
وانطفأت ابتسامة الملك ثانية ، وهو يحدق فيها مغتاظاً ، ثمّ خاطبها قائلاً : إذا كنت رائية حقاً ، وأنك تتنبئين بالمستقبل ، أخبريني عن مستقبلي .
وحدقت " زرقاء " فيه ملياً ، ثم قالت : كلّ حيّ في هذه العالم سيموت عاجلاً أو آجلاً ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : وأنتَ ستموت .. عاجلاً .
ولاذ الملك بالصمت لحظة ، والغيظ يتأكله ثمّ قال متسائلاً : وكيف سأموت ، في رأيكِ ؟
وحدقت زرقاء فيه ملياً مرة ثانية ، وقالت بصوت المتنبئة : أنت أمتّ قومي في مدينة الحجر بغابة الأشجار ، وأنت أيضاً ستميتك الغابة .
ومرة أخرى صمتت ، وهذه المرة صمتت طويلاً بعض الشيء ، ثم قالت ، وهي تحدق في الملك : الأمير قدار هرب من السجن ، هو ومن معه ، والتحق به الكثير من الشباب ، الذين نجو من المذبحة ، ولن يهدأ له بال ، حتى ينال منك ، انتصاراً لحق مدينته وأهله المغدورين ، هكذا ستموت ، يا ذؤابة .
ومن بين أسنانه المجنونة بالغضب ، قال الملك : هذا حلم تتمنين أن يتحقق ، لكنه لن يتحقق ، وما سأحققه صباح الغد ، هو .. سآمر أن تشد يديك إلى جمل ، وتشد رجليك إلى جمل آخر ، وسألكز الجملين بنفسي ، وأنت تعرفين ماذا سيحدث .
وصمت لحظة ، ثم قال : خذوها الآن ، ولتبق حتى الغد في السجن .

" 15 "
ــــــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، ومنذ الصباح الباكر ، وقد أشرقت الشمس على مدينة الحجر ، التي غدت خراباً ، غصت الساحة على سعتها ، بأعداد كبيرة من جنود ثمود ، المدججين بالغضب والسلاح .
وقبل أن يأتي ملك ثمود ذؤابة ، ويجلس على المنصة ، التي أعدت له وللمقربين منه ، جاءوا بجملين ضخمين هائجين ، ووضعوهما وسط الساحة ، التي سينفذ فيها الحكم ، الذي قرره الملك على " زرقاء " .
وجاء الملك ذؤابة ، ومعه وزيره العجوز ، وقائد جنده المحنك ، يحيط بهم عدد كبير من الحرس المدججين بالسلاح ، وجلس الملك على المقعد المخصص له ، عابساً مقطب الجبين ، وجلس الوزير العجوز عن يمينه ، وعن يساره جلس القائد المحنك .
وارتفع هياج الجند ، حال مجيء الملك ، وراحوا يهللون ويهتفون : عاش الملك ذؤابة ..
ـ الموت لأعداء ثمود
ـ الموت للساحرة .. زرقاء
ومع هياج الجند ، الذين مسّتهم الدماء ، التي سفكوها على أرض الحجر ، بدا وكأن الطبيعة تشاركهم هياجهم المجنون ، فقد إربدت الآفاق ، رغم أن السماء كانت صافية تماماً ، ولا تنذر بأي سوء .
وهبت موجة من الريح ، محملة ببعض الغبار ، ولامست وجه الملك ذؤابة ، وحانت منه نظرة ، ووقعت عيناه الغاضبتان على الآفاق المربدة ، وقال بصوت متضايق : يبدو أن هناك عاصفة .
ونظر الوزير العجوز ، حيث ينظر الملك ، وقال : حتى لو كان هناك عاصفة ، يا مولاي ، فإنها لن تهب ، وتصل إلينا ، قبل منتصف النهار .
وتململ الملك ذؤابة فوق كرسيه ، والوزير العجوز والقائد المحنك ، يتابعانه بنظراتهم القلقة المتوجسة ، وقال كأنما يحدث نفسه : مهما يكن ، إنني لست مرتاحاً من هذه الآفاق المربدة ، وأخشى أنها تنذر بشر مستطير ، آه من هذه الساحرة اللعينة زرقاء .
واعتدل الوزير العجوز وقال ، مولاي ، يمكننا إذا أمرت ، أن نرجئ الإعدام إلى الغد ، أو إلى أي يوم آخر ، إن الزرقاء بين أيدينا ، في السجن .
وعبّس الملك ذؤابة ، ولم يردّ ، فرفع القائد رأسه إليه ، وقال متردداً : فلننفذ فيها حكمكم العادل ، داخل مبنى السجن ، يا مولاي ، إذا أردت .
ونظر الملك بغضب ، إلى الآفاق التي تزداد اربداداً ، وقال من بين أسنانه : كلا ، لا أريد تأجيل الإعدام ، ولا تنفيذه في السجن ، ولا أريد أن تبقى الزرقاء حية هذا اليوم ، فلتعدم هنا ، في هذه الساحة ، الآن .
ونهض القائد ، وقال : كما تشاء ، يا مولاي .
وتقدم قليلاً ، ورفع يده عالياً ، وعلى الفور ، راح الصخب والصياح يتلاشيان ، حتى ساد الصمت تماماً ، ولم يعد يُسمع سوى دمدمة العاصفة ، التي راحت تقترب ، وتقترب معها دوامات الغبار الغريبة .
ونظر القائد إلى أحد الضباط ، وخاطبه قائلاً بصوت مرتفع آمر : جيئوا بالساحرة زرقاء ، وليبدأ تنفيذ الإعدام فيها ، فوراً .
وعلى الفور ، مضى الضابط إلى الداخل ، وسرعان ما عاد ، ومعه ثلة من الجند المدججين بالسلاح ، يحيطون " بزرقاء " ، وما إن رآها جند ثمود الهائجون ، حتى ازدادوا هياجاً ، وراحوا يصرخون : الموت للزرقاء .. الموت للزرقاء .. الموت للزرقاء .
ومع ازدياد صراخهم وهياجهم ، ازداد عويل العاصفة ، واشتدت دوامات الرمال الغريبة ، وراحت تزحف بسرعة نحو الساحة ، وكلّ ما فيها من الجند والملك والقائد والوزير العجوز .
وهبّ الملك من مكانه كالمجنون ، وراح يصرخ بأعلى صوته ، كأنما يريد أن يغطي على العاصفة ودواماتها اللولبية : ابدأوا .. لا أريد أن أرى الزرقاء حية بعد اليم ، هيا .. ابدأوا .. ابدأوا ..
وعلى عجل ، بدأ الجند المكلفون بإعدام " زرقاء " ، بربط يديها بأحد الجملين الهائجين ، وربط رجليها بالجمل الآخر ، وما أن انتهوا ، والعاصفة تكاد تعول فوقهم ، حتى صاح الملك بصوته المجنون : الكزوا الجملين .. الكزوهما .. الموت .. للزرقاء ..
وأعولت العاصفة بصوت مرتفع جداً ، وانقضت الدوامات الرملية الغريبة ، ولفت الجميع برمالها الكثيفة ، وفي الوقت نفسه ، ضجت السماء بالرعود والبروق ، وزلزلت الأرض بمن فيها و ..
وفجأة هدأ كل شيء ..
لا عاصفة ..
ولا دوامات ..
ولا رعود ..
ولا بروق ..
ورفع الملك رأسه إلى الأعلى .. السماء زرقاء صافية .. كعيني زرقاء .. و ..
ثمّ نظر ، ومعه الوزير العجوز ، والقائد المحنك ، الجنود المدججون بالسلاح ، في أماكنهم ، يحيطون بالساحة ، والحرس المكلفون بإعدام " زرقاء " يقفون مذهولين ، و ..
يا للآلهة ، أين الجملين الضخمين الهائجين ، اللذين أحضرا ليمزقا " زرقاء ، ويبعثرون رفاتها في كل مكان ، كما أمرهم بذلك الملك ذؤابة ؟ بل أين الزرقاء نفسها ؟ أين اختف ؟ وكيف ؟
وراح الملك ذؤابة يدور حول نفسه كالمجنون ، وهو يقول كما لو كان يكلم نفسه : ماذا يجري ؟ أخبروني .. ماذا يجري ؟ ماذا يجري ؟
وهمس الوزير العجوز للقائد : من الأفضل أن نأخذ الملك ، ونذهب به إلى القصر .
وهزّ القائد رأسه ، وقال بصوت خافت : نعم ، هذا أفضل ، هيا فلنأخذ جلالة الملك .
وأمسك الوزير العجوز ، بإحدى يدي الملك ، وأمسك القائد باليد الأخرى ، وقاداه برفق بعيداً عن المنصة ، واتجها به نحو القصر وقال الوزير العجوز : بقاؤك هنا ، يا مولاي ، فيه خطر عليك .
وقال القائد : نعم ، يا مولاي ، من الأفضل أن لا نبقى هنا ، ونلجأ إلى القصر ، حتى ينجلي الموقف .
ماذا جرى ؟
هذا ما لا يعرفه أحد بالضبط .
قال البعض ، أن أحد الآلهة ، هبط من السماء ، وانتشلها من بين الجميع ، وصعد بها إلى السماء .
وقال البعض الآخر ، أن الأمير قدار ، وبعض فرسانه ، جاءوا وأخذوها معهم إلى الغابة .
وقال آخرون : إن الجملين الهائجين ، ربما كانا ماردين ، يأتمرون بأمر الساحرة " زرقاء " ، فأخذاها ، وهربا بها إلى أعماق الصحراء .
ومهما يكن ، فإن " زرقاء " ، هربت من الظلم ، واختفت ، ومن يدري ، فقد تعود يوماً ما ، ويأتي معها الأمير الشاب قدار ، ويعيدا مدينة الحجر إلى أهلها ، ويعيشون فيها بسلام وأمان وعدل .



3 / 11 / 21 20























لهيب الصحراء













شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ أكثم

2 ـ لبابة أم أكثم

3 ـ شيحان أبو أكثم

4 ـ ميثاء زوجة شيحان

5 ـ ليا

6 ـ بسطام

7 ـ الشيخ

8 ـ نوفل ابن الشيخ





" 1 "
ــــــــــــــــــ
ما كانتْ تخشاه ميثاء ، صار أمراً واقعاً ، هذا ما تناهى إليها مؤخراً ، ولكي تقطعَ الشكَ باليقين ، أرسلتْ إلى الجدةِ ، المولدةَ والخبيرة بالنساءِ ، وجلستْ تنتظرها في الخيمةِ ، وهي تغلي .
هذهِ السبيةُ لبابة ، وليتها بيضاءُ ، يحومُ حولها زوجها شيحان ، ومن يدري ، لعله .. ، وأقبلتْ ابنتها بأعوامها التي لم تصلْ بعد إلى العاشرة ، تهتفُ : أمي ..
وهبتْ ميثاءُ واقفة ، وقالتْ : نعم .
فتابعتْ ابنتها قائلةً : جاءتِ الجدةُ .
وأطلت الجدةُ من مدخلِ الخيمةِ ، وقالتْ : طابَ يومك ، يا ابنتي ميثاء .
ودفعتْ ميثاءُ ابنتها إلى الخارجِ ، وهي تقولُ : اذهبي أنتِ خارجَ الخيمةِ ، والعبي مع صويحباتِكِ .
ثم التفتتْ إلى الجدةِ ، وسحبتها إلى الداخلِ ، وقالتْ : تعالي ، أريدكِ في أمرٍ هام .
وقالت الجدة ، وقد أحستْ بخطورةِ الأمر : قولي ، يا ابنتي، قولي ، إنني في خدمتكِ .
وتلفتتْ ميثاءُ حولها ، ثم دنتْ من الجدةِ ، وهمست في أذنها: لبابة السوداء تلك ، إنني أشك في أنها ، أنتِ تعرفين .. وأريدُ اليقينَ منكِ .
فقالتِ الجدةُ : لكِ ما تريدين ، يا ابنتي .
وحدقتْ ميثاء فيها ، وقالت : إنها في خيمتها ، اذهبي إليها الآنَ ، إنني أنتظركِ .
وذهبت الجدة ، وظلتْ ميثاءُ في الخيمةِ ، تنتظرُ على أحرّ من الجمر ، وسرعان ما عادت الجدة ، وعرفتْ ميثاء الحقيقةَ ، من ملامحِ الجدةِ ، قبل أن تنطقَ بها : أنتِ محقة ، يا ابنتي، إنها حامل .
واشتعلتْ عينا ميثاء بالحزن والغضب ، لكنها تمالكتْ نفسها، وقالت للجدةِ : اسمعي جيداً ، هذا السرّ يبقى بيني وبينكِ ، لا أريدُ أن يعرفَ به أحد .
ونظرت الجدة إليها ، وقالتْ : السرّ سرّ ، يا ابنتي ، ولن يعرفهُ مني أحد ، اطمئني .
وقالتْ ميثاءُ: اذهبي .
وذهبت الجدة ، لكن حزنَ ميثاء وغضبها لم يذهبا عنها طولَ النهارِ ، وقبيلَ المساءِ جاء شيحان ، ورأى غيومَ زوجتهِ ، لكنه تغاضى عنها ، ووضعتْ ميثاء الطعامَ أمامه ، وقالت : سبيتك السوداءُ حامل .
ورمقها شيحان بنظرةٍ سريعةٍ ، دون أن يتوقفَ عن تناولِ الطعام ، وقال باقتضابٍ : أعرف .
واحتدمتِ الغيومُ في صدرِ ميثاء وعينيها ، وقالتْ : تسكتُ ، ولا تخبرني ، وأنت تعرفُ .
وألقى شيحان الطعامَ من يدهِ ، وحدقَ في زوجته ميثاء ، وقال : إنه مني ..
وهبتْ ميثاءُ من مكانها ، وقد طفحَ حزنُها دموعاً ، وقالت بصوتٍ يخنقهُ الغضبُ : هذا أسوأ .
وحدقتْ فيه ، وقالت : أعدها إلى أهلِها .
وردّ قائلاً : كلا ..
وصمتَ لحظةً ، ثم قال : إنها تحملُ طفلي .
ونهض من مكانه ، وقال كأنما يخاطبُ نفسَهُ : ستبقى هنا ، وتلدُ ، لكني .. لن أقربَها ثانية .
وأجهشتْ ميثاء في البكاءِ ، ومضتْ بحزنها وغضبها ، الذي أغرقته الدموعُ ، إلى الخارجِ ، وبقي شيحان في مكانهِ داخلَ الخيمةِ ، وتنهد بارتياحٍ .
وبعد أشهرٍ ، وبطلبٍ من شيحان ، جاءت الجدةُ ليلاً ، وأولدت السبيةَ لبابة ، ولم تفاجأ بالوليدِ ، إذ جاء غامق البشرة ، واغرورقتْ عينا لبابة بالدموع ، حين سمعتْ صيحاتِ بكائهِ الأولى ، ووضعتهُ الجدة بين ذراعيها ، وتساءلتْ : ماذا ستسميه ؟
وردتْ لبابة ، وهي تحدقُ في الطفلِ من بين دموعِها الفرحة: سأسميه أكثم ..
وتمتمتْ الجدةُ : أكثم ! اسمٌ جميلٌي .
وتابعتْ لبابة قائلةً ، وعيناها تطيران إلى البعيد : أكثم اسمُ أخي ، ابنُ أبي وأمي ..
وتنهدتْ بعمقٍ ، وقالتْ : آه لن أراهُ ثانيةً ، لقد قُتلَ في إحدى الغزواتِ ، وها هي الآلهةُ الرحيمةُ ، تعوضني عنه بالصغيرِ .. أكثم .

" 2 "
ــــــــــــــــــ
نما أكثمُ ، ببشرتهِ الداكنةِ ، وعينيه السوداوين اللامعتين ، في خيمةِ أمهِ الصغيرةِ المنعزلةِ ، لكنها مفعمةٌ برعايتها له ، وحبها الفائقِ .
وبدتْ أمهُ فرحةً به ، فله لونُ عينيها وبشرتها الغامقةِ ، وله وسامةُ أبيهِ ، وقوةُ بنيتهِ ، وما إن بدأ بالزحفِ ، حتى انسلّ خارجَ الخيمةِ ، يراقبُ ما يراهُ بدهشةٍ كبيرةٍ .
وتمسكتْ زوجةُ أبيهِ ، ميثاء ، بوعدها لنفسِها ، فلم تسمحْ لأطفالها بالذهابِ إلى خيمةِ لبابة ، أو اللعب مع الصغيرِ أكثم ، كما أن الأبَ نفسَهُ ، كان عند وعده ، فلم يقربْ لبابة ، ولا طفلهُ أكثم ، لكنه كان لا يقصّر في حقهِما ، وكان يزودهما بكلِ ما يحتاجانه ، طوالَ الوقتِ .
ولم يكتفِ أكثم بالزحفِ ، فسرعان ما وقفَ على قدميه ، وراحَ يجري داخلَ الخيمةِ وفي محيطها ، وغالباً ما كانت أمهُ لبابة تجري وراءَهُ ، خشيةَ أن يُؤذي نفسَه ، أو يدخلَ خيمةَ ميثاء .
ولم يكن أكثم يخافُ من شيءٍ ، وتقولُ أمهُ إنه طفلٌ لا يعي ، وطالما خرجَ من مغامراته هذه ، داخلَ الخيمةِ أو خارجها ، وقد تسلختْ يداه ، أو جُرحتْ قدماه ، أو تورمتْ عين من عينيه السوداوين ، لكنه أبداً لم يشكُ ، وقلما رأته أمه يبكي لأي سببٍ من الأسبابِ .
ورغم أنه لم يتجاوزْ الخامسةَ من عمرهِ ، كان يريدُ أن ينطلقَ من الخيمةِ ، ويتجولُ بحريتهِ ، ولو في الأماكنِ القريبةِ ، لكن أمه تمنعه بحجة أو بأخرى ، فيقف في مواجهتها ، ويخاطبها قائلاً : دعيني ، لم أعدْ طفلاً صغيراً ، إنني أريدُ أن ألعبَ مع الأطفالِ .
وتكتمُ أمهُ لبابة فرحتها ، وتردّ عليه ، وهي تحاولُ دون جدوى ، أن تضعَ على وجهها قناعَ امرأةٍ عابسةٍ : كلا ، اكبرْ أولاً ، مثلكَ مازال يرضعُ .
ويصيحُ محتجاً : لستُ جدياً ، إنني إنسانٌ ، وسأكون .. سأكون .. لن أبقى .
وصمتَ لحظةً ، ثم قالَ : أولئكَ الأطفالُ ، صحيحٌ أنهم أكبرُ مني ، لكني أريدَ أن ألعبَ معهمْ .
وتحضنهُ أمهُ بين ذراعيها المحبين ، وتقولُ لهُ : أعرفُ أنكَ لا تخافُ ، لكني أنا أخافُ ..
تساءلَ وعيناه السوداوان اللامعتان محتدتان : مما تخافينَ، يا أمي ؟
فقالتْ : أخافُ عليكَ .
قالَ : لا تخافي .
وتابعتْ أمهُ قائلةً : إنني أمٌ .
ولاذَ بالصمتِ لحظةً ، ثم قالَ : سأبقى من أجلكِ ، لكن لتعلمي.. اليومَ فقط .
ورغمَ ملاحقةِ أمهِ لبابة ومتابعتها له ، كي يبتعدَ عن خيمةِ ميثاء ، وحرصِ ميثاء نفسها على أن يبقى أكثم بعيداً عن خيمتها ، وأن لا يخالطُ صغارَها ، إلا أن أكثم ، رغم كلّ شيء، كان يتسللُ من خيمتهم ، ويفرض نفسه على الأطفالِ ، حتى الأكبر منه عمراً ، ومنهم أبناءُ ميثاء ، ويشاركهمْ لهوهمْ وألعابهم .
وتشاءُ الصدفةُ أحياناً ، أن يراهُ أبوه شيحان ، فيراقبه من بعيدٍ ، ويغالبُ ابتسامتهُ الفرحةَ ، حين يراهُ يزاحمُ ، حتى الأكبر منه سناً ، ويعاركهمْ كما الجراء ، ويغلبهم أحياناً، بل وحتى لو غلبه أحدُهم ، وطرحَه أرضاً ، ينهض بسرعةٍ ، ويواصلُ عراكهُ .
ويعودُ إلى أمهِ لبابة في الخيمةِ ، مجرحاً ، معفرّ الثيابِ ، فتنظرُ إليه معاتبةً ، وتقولُ : آه منكَ ، متى تنتهي من هذهِ المعاركِ المؤذيةِ .
ويرفعُ رأسهُ ، ويقولُ لأمهِ : لن أدعَ أحداً يغلبني ، سأصرعهمْ جميعاً ، أنا ..بسطام .
وتتسعُ عينا أمه لبابة دهشاً ، وتقولُ : بسطام !
فيجيبُ متفاخراً : بطل الصحراء .
وتهزّ أمهُ رأسها ، وتقولُ : ما أعرفهُ ، أن بسطام ، الذي يعرفهُ الجميعُ ، قاطعُ طريقٍ .
ولوحَ أكثم بيدهِ ، وقالَ : بلْ بطلٌ ، يا أمي ، يخافهُ الجميعُ ، لأنه قويٌ ولا يهابُ .
ورفعَ يدهُ ، مستعرضاً عضلاتِه ، وقالَ : أنا بسطام ، انظري عضلاتي .
وهزتْ أمهُ رأسَها ضاحكةً ، وقالتْ : آه ليتك تترك العراكَ على الأقل .
وبدأ عراكهُ يقلّ ، سنةً بعد سنةٍ ، وحين تجاوزَ الخامسةَ عشرَ من عمرهِ ، بدا لأمهِ أنهُ توقفَ عن العراكِ تماماً ، وراحَ يرددُ الأشعارَ بشكلٍ مضحكٍ ، وذاتَ يومٍ ، كان مع أمهِ قربَ الغديرِ ، فلفتَ نظرَه فتاة أصغر منه قليلاً ، فقالِ لأمهِ : تلكَ الفتاةُ ، من تكونُ ، يا أمي ؟
وكتمتْ أمهُ ابتسامتها ، لقد كبرَ أكثم ، لكنها قالتْ له : هذا لا يعنيكَ ، كن حذراً .
ولاذ أكثمُ بالصمتِ لحظةً ، وهو مازالَ يحدقُ في الفتاةِ ، ثم قالَ : عرفتُها ، إنها ابنةُ عمي .
وهمهمتْ امهُ : هم م م م ..
وتابعَ أكثم : ترى ما اسمها ؟

" 3 "
ــــــــــــــــــ
رغم تحذيرِ أمهِ ، وتنبيهها له إلى ضرورة الابتعاد عنها، وجد أكثم نفسه ، وبدون إرادةٍ منهُ ، يقتربُ ممن عرفَ أنها ابنة عمهِ ، وقد عرفَ اسمَها أيضاً .
وذاتَ يومٍ ، بعدَ أن تابعها بقلبهِ الفتيّ ، وعينيه السوداوين اللامعتين ، اللتين غشيهما جمالها وجاذبيتها ، خاطبَها بصوتٍ هامسٍ ، لم يعتدهُ ، وبدا وكأنه لا يناسبُ ملامحه المقطبة دائماً : ليا ..
والتفتتْ ليا إليهْ معبسةً ، لكنها لم تردّ عليهِ ، ووقفَ متحيراً ، لا يعرفُ ماذا يقولُ لها ، ولكي لا تبتعد عنهُ ، مالَ عليها ، وقالَ : أنا أكثم ..
وثانيةً لم تردّ عليهِ ، فقالَ وكأنهُ يريدُ أن يوضحَ لها ما قالهُ : ابنُ عمكِ .. شيحان .
وحدقتْ ليا فيه بشيءٍ من الازدراءِ ، وقالتْ : بل أنتَ ابنُ السبيةِ لبابة .
ولاذَ أكثمُ بالصمتِ ، وقد تصلبتْ ملامحُهُ ، وزالت الغشاوةُ عن عينيهِ ، وردّ قائلاً بصوتٍ صلبٍ عنيدٍ : نعم ، لبابة أمي .
واستدارتْ ليا ، وقد شمختْ برأسِها ، ومضتْ مبتعدةً ، دون أن توجهَ إليه كلمةً واحدةً ، وظلّ أكثم في مكانهِ لحظاتٍ ، من غير أن يسمحَ لعينيهِ السوداوين ، أن تتابعانها ، كما كانَ يفعلُ دائماً ، ولو للحظةٍ واحدةٍ .
لم يخبرْ أكثم أمهُ ، بما دارَ بينهُ وبينَ ليا ، لقد عيرتهَ هذه ال .. ليا ، بأنّ أمهُ لبابة ، نعم ، أمه السوداء ، ذات القلبِ الأبيضِ ، لبابة ، ولتعلمْ ليا هذه ، ومن على شاكلتها ، إنه يحبُ أمهُ لبابة ، ويعتزُ بها أشدَ الاعتزازِ .
وخلالَ الأيامِ التاليةِ ، توقفَ أكثم عن متابعةِ ليا ، بل وحظرَ على عينيهِ السوداوين ، اللتين زالتْ الغشاوةُ عنهما، أن تتأثرا خطواتها ، رغم أن قلبَه ، على الضدِ من إرادتهِ، مازالَ يهفو إليها .
وذاتَ يومٍ ، بعد العصرِ بقليلٍ ، وجدَ نفسه قريباً من الغديرِ، رغم أنه يعرف أن ليا تترددُ وحدها ، أو مع بعضِ صويحباتها ، على هذا المكانِ .
وحانتْ نظرة من عينيه السوداوين المتمردتين ، وإذا ليا ، ابنةُ عمهِ نفسُها ، يقفُ أمامها شابٌ أكبرُ منها بعدةِ أعوامٍ، وهو يخاطبها مبتسماً ، وبدتْ له ابتسامة هذا الشاب ابتسامةً خبيثةً شريرة .
وضجّ الدمُ في رأسهِ ، وأطاشَ صوابه ، هذا الأرعنُ من يتصورُ نفسهُ ، وعرفهُ على الفور ، إنه آصف ابنُ الشيخِ ، وليكن الشيخُ نفسهُ ، إنها ليا ، ابنةُ عمهِ .
وفجأة وجدَ نفسهُ ، يندفعُ نحو آصف ، ويخاطبهُ بغلظةٍ : أيها السفيهُ ، ماذا تفعلُ ؟ ابتعدْ من هنا .
وفوجىء آصف بأكثم ، وهو يتصدى له غاضباً ، فردّ عليه مندهشاً : أتخاطبني !
واقتربَ أكثم منه أكثرَ ، وتابعَ قائلاً بصوتٍ غاضبٍ منفعلٍ : قلتُ لك ابتعدْ ، وإياكَ أن تقتربَ منها ثانية ، أو تخاطبها في أي مكانٍ .
وابتسمَ آصف بشيءٍ من الاستهانةِ ، وقالَ لأكثم : أيها الأحمقُ، أنا ابنُ الشيخِ ، من أنتَ ؟
ورمقَ أكثمُ ليا بنظرةٍ سريعةٍ ، ثم وضعَ عينيه السوداوين الغاضبتين في عيني آصف ، وقالَ متردداً : أنا .. ليا .. ابنةُ عمي .
واتسعتْ ابتسامةُ آصف الساخرةُ ، وأشاحَ بوجههِ عن أكثم ، وقالَ : كلا ، أنتَ ابنُ لبابة .
وهنا لم يعدْ الردّ بالكلماتِ يكفي ، فردّ عليهِ بكفهِ العريضةِ القويةِ ، فبكلِ ما يملكُ من غيظٍ وغضبٍ وقوةٍ ، صفعهُ على وجههِ .
وتهاوى آصف على الأرضِ ، وهو يضعُ يدهُ على وجههِ ، ويصرخُ متوجعاً ، وانقضتْ ليا على أكثم ، وراحتْ تضربهُ بجمعيها ، وهي تقولُ بصوتٍ منفعلٍ غاضبٍ : أيها المجنونُ ، ماذا تفعلُ ؟
وبدلَ أن يردّ أكثم عليها ، أو يتقي ضرباتِها الطائشةِ ، أطبقَ بكفهِ على ذراعها ، وجرها مبتعداً بها ، تاركاً آصف ملقى على الأرضِ .
وحاولتْ ليا أن تقاومَ ، أو أن تسحبَ يدَها من يدِ أكثم ، لكن دون جدوى ، لكنها راحتْ تضربه بجمعِ يدها الأخرى ، وهي تصيحُ : دعني أيها المخبولُ .. دعني ..
لكن أكثم لم يدعها ، وقبضته القوية لم تدعْ ذراعها ، حتى لاحت خيمةُ عمه " أبو ليا " ، عندئذٍ رفعَ قبضتهُ عن ذراعها، وقالَ لها : اذهبي إلى الخيمةِ ، لن أسمحَ لهذا السفيهِ ، أن يقتربَ منكِ ثانيةً .

" 4 "
ــــــــــــــــــ
ما إن عرفَ " أبو ليا " بما جرى ، حتى انطلقَ من خيمتهِ، وهو يقولُ بصوتٍ منفعلٍ مضطربٍ : هذا المجنونُ الأرعنُ أكثم ، ابنُ لبابة ، سيقتلهُ الشيخُ إذا عرفَ ما اقترفهُ بحقِ ابنهِ آصف .
ومضى مسرعاً نحو الغديرِ ، حيثُ جرتِ الواقعةُ ، لعله يلتقي بابنِ الشيخِ آصف ، الذي ضربهُ أكثم ، ويحاولُ أن يقنعهُ بأن لا يُعلمُ أباه بما جرى ، وإلا فإن الشيخَ قد لا يكتفي بقتلِ أكثم ، وإنما يتعداهُ إلى أخيهِ نفسهَ .
لكنه لم يجدْ آصف عند الغديرِ ، وعرفَ أنه مضى إلى الخيمةِ الكبيرةِ ، حيثُ يتواجدُ أبوه الشيخُ ، في مثلِ هذا الوقتِ ، آه أيها المجنونُ أكثم ، ليت الشيخَ يكتفي بقتلكَ ، بعد أن أهنتَ نجلهُ ، ومرغتهُ بالترابِ .
وأسرعَ " أبو ليا " إلى الشيخِ ، ودخلَ عليهِ في خيمتهِ ، وفوجئ بآصف يقفُ إلى جانبهِ ، وقد تعفرتْ ثيابهُ بالترابِ ، وعلى وجههِ أثرُ صفعةٍ قويةٍ ، فحيا الشيخَ قائلاً بصوتٍ مترددٍ : طابَ يومكَ ، يا الشيخُ .
وحدقَ الشيخُ فيه غاضباً ، وقالَ : يا لليومِ الأسودِ ، الذي اختارهُ لنفسهِ ابنُ لبابة .
وانحنى " أبو ليا " للشيخِ قليلاً ، وقلبهُ يخفقُ بشدةٍ ، ثم قالَ : إنه مجنونٌ أرعنٌ أكثم هذا ، لا يعرفُ ما يفعلهُ ، وسأجلدهُ أنا نفسي حتى لو ماتَ .
وهبّ الشيخُ من مكانهِ ، وحدقَ في " أبو ليا " ، وقالَ : هذا لا يكفي ، يا أبا ليا ..
وصمتَ لحظةً ، ثمّ قالَ : لقد صفعَ ابني آصف ، ومرغهُ في الترابِ ، أنا الشيخ ..
وانحنى " أبو ليا " ثانيةً ، وقالَ : أنتَ على رؤوسنا ، لكَ الأمرُ ، وعلينا الطاعة .
وحدقَ الشيخُ فيه ، وقالَ بحزمٍ : غداً إذا أشرقتِ الشمسُ ، وكان أكثم في خيمتهِ ، أو في محيطِ خيامنا ، سأذبحهُ أنا بنفسي .
ولاذ " أبو ليا " بالصمتِ ، ولم يردّ على الشيخِ بكلمةٍ واحدةٍ ، فأشاحَ عنه الشيخُ بوجههِ ، وقالَ آمراً : اذهبْ ، وقد أعذرِ من أنذرَ .
وتراجعَ " أبو ليا " وخرجَ من خيمةِ الشيخِ ، وبدلَ أن يعودَ إلى خيمتهِ ، اتجهَ إلى خيمةِ أخيهِ شيحان ، ورآه يقفُ مضطرباً أمامَ مدخلِ خيمتهِ ، وقد عرفَ بذهابهِ إلى الشيخِ ، فقالَ لهُ : خيراً ..
وردّ " أبو ليا " قائلاً ، وقد سحقتهُ مقابلةُ الشيخِ ، وقالَ: أيّ خيرٍ ، يا أخي ، يمكن أن يأتي من ابن لبابة .
وسكتَ لحظةً ، ثم قالَ : قابلتُ الشيخَ ، وكان غاضباً جداً لما لحقَ بابنهِ ، وهدد قائلاً ، بأنهُ سيقطعُ رأسَ أكثم ، إذا رآهُ هنا غداً عند شروقِ الشمسِ .
وهزّ شيحان رأسهُ ، ثم قالَ : اذهبْ أنتَ إلى خيمتكَ ، وسأعالجُ أنا هذا الأمرَ .
وقبلَ أن يذهبَ " أبو ليا " إلى خيمتهَ ، قالَ لأخيهِ شيحان : تذكرْ أمامنا ساعاتٍ ، لا تعرضْنا لغضبِ الشيخِ ، فلا قِبلَ لنا على مواجهةِ غضبهِ .
وعلى الفورِ ، توجهَ شيحان إلى خيمةِ لبابة ، وتوقفَ عند مدخلها ، وصاحَ : أكثم .
وبدلَ أكثم خرجتْ لبابة ، ونظرتْ إليه ، وقالتْ : ادخل ، أكثم في الداخلِ .
وصمتتْ لحظةً ، ثم أضافتْ قائلةً : أمْ أن خيمتنا مازالت حراماً عليكَ .
ودخلَ شيحان ، ودخلتْ لبابة في أثرهِ ، وإذا أكثم يقفُ وسطَ الخيمةِ ، وعيناه تتقادحان ، ولا أثرَ للخوفِ فيهما ، وقبلَ أن يقولَ شسحان أيّ شيءٍ ، قالَ أكثم : ليا ابنةُ عمي ، ولن أسمحَ لأيّنْ كان ، أن يتعرضَ لها ، أو يمدّ يدهَ عليها .
ورمقَ شيحان لبابة بنظرةٍ سريعةٍ ، ثم حدقَ في أكثم ، وقالَ مغالباً انفعالهُ : لم يعدْ لأي كلام من فائدةٍ ، لقد توعدَ الشيخُ ، وهو ينفذُ ما يتوعّدَ به دائماً .
وهمّ أكثم أن يتكلمَ ، فقالَ شيحان بصوتٍ مضطربٍ : إذا رآكَ هنا غداً ، أو في محيطِ المنطقةِ ، بعد شروقِ الشمسِ ، فسيقطعُ رأسكَ دونَ ترددٍ .
ولاذ أكثم بالصمتِ ، وأمهُ لبابة تنظرُ إليهِ بعينين تغرقهما الدموعُ ، فاقتربَ شيحان منه ، وقالَ له بصوتٍ حزينٍ : بنيّ ، لا خيارَ ، لا ِقبلَ لنا على الشيخِ .
ونظرَ أكثم إليه ، وقالَ : لا عليك ، سأرحلُ الآنَ .
واقتربتْ أمهُ لبابة منه ، وهي تنهنهُ قائلةً : بنيّ ..
فقالَ أكثم : اطمئني ، إنني ابنك أكثم .
ومدّ شيحان يدهُ ، وشدّ على يدِ أكثم ، وقالَ : انتظرْ ، سآتيكَ بحصاني ، إنه لك ، ولترافقكَ السلامة .

" 5 "
ــــــــــــــــــ
أشرقتِ الشمسُ ، وبدا قرصُها المشعُ ، ينهضُ مبتعداً عن الأفقِ شيئاً فشيئاً ، لقد انتهى الليلُ ، وابتعدَ محيطُ الخطرِ، فتباطأ أكثم بحصانهِ حتى توقفَ .
ولاحتْ لهُ أمهُ لبابة ، تقف وسط الخيمة ، وعيناها غارقتان بالدموع ، إنها تودعهُ ، فمتى يمكنُ أن تلتقيَ به ثانيةً ؟ ومدّ يديهِ ، وأخذها إلى صدرهِ ، أم أنّ هذا ما تمناهُ ، وقالَ لها : مهما يكنْ ، يا أمي ، فأنا بسطام .
ورفعَ رأسهُ ، ونظرَ إلى البعيدِ ، ها هي الصحراءُ تمتدُ أمامهُ ، فليتقدمْ ، لابدّ أن في الأنحاءِ واحةً ، لها دفءُ أمّهِ وحنانها ، يمكنُ أن تؤويه ، وتمنحهُ الراحةَ والأمانَ ، ولا تلتفتُ إلى بشرتهِ الداكنةِ ، و ..
وقبلَ أن يلكزَ حصانهُ ، ويستأنفَ طريقهُ ، الذي لا يعرفُ إلى أين سيقودهُ ، لاحتْ لهُ ثلةٌ من الفرسان ، بدتْ له ، والشمسُ تسطعُ وراءهم ، كفرسانِ النارِ تركضُ نحوه من الأفقِ ، ترى كم عددهم ؟ ربما خمسة أو ستة ، فلينتظرْهم ، ويرى من يكونون.
وما إن اقتربوا منهُ ، ورآهم عن كثبٍ ، بعيداً عن قرصِ الشمسِ الساطعِ ، حتى توضحت له حقيقتهم ، إنهم ستتُ فرسان، معظمهمْ في مقتبلِ العمرِ ، يتقدمهم فارسٌ ضخمٌ بعضَ الشيءِ ، وأكبرهمْ عمراً ، والإرهاقُ والسأمُ بادٍ عليه ، ترى من يكونون ؟
وعلى الفورِ ، تحلقوا حولهُ ، وراحوا يحدقون فيهِ ، من وراءِ ألثمتهم ، وهمهمَ أحدهمْ ، ثم قالَ : هم م م م .. هذا الفارسُ ، غيرُ الملثمِ ، لم يرحبْ بنا .
وقال آخرٌ بنفسِ النغمةِ : السلامُ ، في هذا المكانِ المنقطعِ من الصحراءِ ، نعمةٌ كبيرةٌ .
وقالَ ثالثٌ : حصانُهُ فتيّ ، متعبٌ ..
وعلقَ آخرُ : لكنه أصيلٌ ، وقويٌ .
وقالَ آخر : لابدّ أنهُ سرقهُ ، إنه صبيّ ..
وردّ أكثم بشيءٍ من الغضبِ : لو كان لك عينان تبصران ، لعرفتَ أنني لستُ صبياً .
وأزاحَ الرجلُ الضخمُ اللثامَ قليلاً عن وجههِ ، وابتسمَ لردّ أكثم ، وقالَ لهُ : ترجلْ عن الحصانِ .
وردّ أكثم قائلاً : هذا حصاني ، لن أترجلَ عنهُ .
فقالَ الرجلُ الضخمُ : ترجلْ ، لا تخفْ .
وردّ أكثم قائلاً : أنا لا أخافُ .
وكتمَ الرجلُ الضخمُ ابتسامتهُ ، وقالَ بشيءٍ من الحزمِ : ترجلْ وإلا أرجلكَ أحدُ رجالي .
ولم يردّ أكثم هذهِ المرةَ ، لكنه لم يترجلْ عن حصانهِ ، فأشارَ الرجلُ الضخمُ إلى أحدِ أتباعهِ ، وقالَ لهُ : هذا الصبيُ عنيدٌ ، أرجلهُ عن الحصانِ .
وترجلَ الرجلُ عن حصانهِ ، واقتربَ من حصانِ أكثم ، ومدّ يدهُ نحوه ، فقفز أكثم من فوق الحصانِ ، وأطبقَ على يد الرجلِ ، وألقاهُ على الأرضِ .
وقهقهَ الرجلُ الضخمُ ، وضحكَ معه أتباعهُ ، وقالَ أحدهمْ ، مخاطباً رفيقهُ الذي طُرحَ على الأرضِ : جبانٌ ، يغلبكَ صبيّ .
وترجلَ عن حصانهِ ، وهو يقولُ : أنظرْ ، سأطرحهُ على الأرضِ ، بأسرع مما طرحكَ .
وتقدمَ من أكثم ، دون أن يتهيأ للنزالِ ، وبلمحِ البصرِ ، أطبقَ أكثم على ذراعهِ ، وسحبهُ بقوةٍ إليهِ ، وطرحهُ على الأرضِ إلى جانبِ الرجلِ الأولِ .
وضحكَ الرجلُ الضخمُ ثانيةً ، لكن أتباعهُ لم يشاركوه الضحكَ، وترجلَ اثنان منهمْ عن حصانيهما ، وانقضا على أكثم ، وأمسكهُ أحدهما من الخلفِ ، وطرحهُ بصعوبةٍ على الأرضِ ، لكنه سرعان ما نهضَ ، ووقفَ أمامهما متحدياً ، وهم الرجلان بالانقضاضِ عليه ثانية ، لكن الفارسَ الضخمَ ترجلَ عن حصانهِ، وخاطبهما قائلاً : كفى ، دعوه ، لا أريدُ أن يقربه أحدٌ .
وتوقفَ الرجلان ، لكنهما كانا غاضبين ، ونهضَ الرجلان اللذان طرحهما أكثم على الأرضِ ، وقالَ أحدهما : لا يجبُ أن نتركه بدون عقابٍ ..
وقالَ الآخر : لنأخذْ حصانهُ ، هذا اللصُ الصغيرُ ، الذي لا نعرفُ من أين سرقهُ .
ومدّ أكثم يده ، وأمسكَ زمامَ حصانهِ ، وقال متحدياً : لستُ لصاً ، ولم أسرقْ هذا الحصانِ ، ولن أسمحَ لأحدٍ أن يمدّ يده إليه ، مهما كان الثمن ..
ونظرَ الرجلُ الضخمُ إليه ، وقالَ : يبدو أن هذا الحصانَ عزيزٌ عليكَ ، كيفَ حصلتَ عليهِ ؟
فردّ أكثم قائلاً : لم أسرقهُ ، ولم أحصلْ عليه من أحدٍ ، لقد أعطاه لي أبي .
وتساءلَ الرجلُ الضخمُ : ما اسمكَ ، يا بنيّ ؟
وردَ أكثم بصوتٍ هادىءٍ : اسمي أكثم .
ولاذَ الرجلُ الضخمُ بالصمتِ لحظةً ، ثم التفتَ إلى أتباعهِ ، وقالَ : أكثم منذُ اليوم واحدٌ منّا .
ثمّ مدّ يده إليه ، وشدّ عل يدِ أكثم بحرارةٍ ، وقالَ لهُ : وأنا اسمي .. بسطام .
وفغرَ أكثم فاه مذهولاً ، وتمتم : بسطام !

" 6 "
ـــــــــــــــــــ
صارَ أكثم واحداً منهم ، على حدِ تعبيرِ بسطام ، ولعل هذا ما كانَ يحلمُ به ، نامَ تحتَ النجومِ ، على مقربةٍ منهم، بعد أن شاركهم طعامَ العشاءِ ، وأفاقَ فجراً على أحدِ الرجالِ، ينهضُ من مكانهِ ، ويمتطى حصانهُ ، ويمضى دون أن يلتفتِ إليه أحدٍ .
ونهضَ بسطام ورجالهُ ، عندَ شروقٍ الشمسِ ، وانشغلَ اثنان منهمْ بإعدادِ طعامِ الفطورِ ، وجلسوا جميعاً حولَ السفرة ، يتناولون طعامهم صامتين .
وقبلَ أن يفرغوا من تناولِ الطعامِ ، أقبلَ على حصانهِ مسرعاً، الرجلُ الذي مضى مع الفجرِ ، وما إن وصلَ إليهم ، حتى خاطبهُ بسطام قائلاً : خيراً .
وردّ الفارسُ ، دون أن يترجلَ عن حصانهِ : لنسرعْ ، القافلةُ ستصلُ قريباً .
ونهضَ بسطام من مكانهِ ، واعتلى حصانهُ على عجلٍ ، وهو يقولُ: اتركوا كلّ شيءٍ في مكانهِ ، ولنسرعْ إلى القافلةِ ، التي انتظرناها طويلاً .
وعلى عجلٍ ، هبّ الفرسان من أماكنهم ، وكذلك فعلَ أكثم ، وامتطوا جميعهم خيولهم ، وأسرعوا في إثرِ حصانِ بسطام ، الذي كان يسابقُ الريحَ .
وتوقفَ بسطام فوق كثيبٍ يطلُ على الطريقِ ، وأشارَ أحدُ رجالهِ إلى البعيدِ ، وقالَ الرجلُ الذي مضى صباحاً : تلك هي القافلةُ .
ونظرَ بسطام إلى حيثُ أشارَ الرجلُ ، وقالَ : نعمْ ، إنها القافلةُ المنتظرةُ ، استعدوا جميعاً .
ثم أشارَ لأكثم ، وقالَ لهُ : تعال .
وشقَ أكثم طريقهُ بحصانهِ بين الرجالِ ، وتوقفَ على مقربةٍ من بسطام ، وقالَ : نعم .
ورمقهُ بسطام بنظرةِ سريعةِ ، وقالَ لهُ : تعال معنا ، حين نهجمُ على القافلةِ ، ولكن إذا نشبَ قتالٌ بيننا وبينهم ، فلا تتدخلْ أنتَ ، وابقَ جانباً .
وهزّ أكثم رأسهُ ، وقالَ : كما تشاءُ .
وسكتَ أكثم لحظةً ، ثم نظرَ إلى بسطام ، وقالَ : تلك قافلةٌ صغيرةٌ ، وحراسها على ما يبدو قلةٌ ، هل ستقتلون جميعَ الرجالِ الذين فيها ؟
ورمقهُ بسطام بنظرةِ سريعةِ ، وقالَ بصوتٍ هادىءٍ : لن نقاتلهم إذا لم يقاتلونا .
وتوقفت القافلةُ كلها ، يبدو أنهم رأوا الفرسان من بعيدٍ، وتلفتَ تاجرٌ حولهُ كأنما يبحثُ عن نجدةِ ، وقالَ : يا ويلنا، أولئكَ قطاعُ طرقِ .
وصمتَ التاجرُ لحظةً ، ثم قالَ : لعله بسطام ورجاله .
وتبادلَ الحراسُ الثلاثةُ ، الذين يرافقون القافلةَ ، النظراتِ القلقةِ الحائرةِ ، وقالَ أحدُهم : نعم ، إنه بسطام ورجالهُ على الأغلبِ ، وهم أقوى قطاعِ طرقٍ في هذا المكانِ المنقطعِ من الصحراءِ .
وهزّ الثاني رأسهُ ، وقالَ : من المستحيلِ مواجهتهم ، سيقتلوننا إذا قاتلناهم .
ورمقهما الثالثُ بنظرةٍ خائفةٍ ، وقالَ : ما العمل ؟
واستمعَ التاجرُ ذو الكرشِ ، وكانتْ إلى جانبهِ فتاةٌ شابةٌ غامقةُ البشرةِ ، في حوالي السادسة عشرة من عمرها ، ما دار بين الحراسِ الثلاثةِ ، وقالَ بصوتِ خائفٍ : لا أريدُ أن أفقدَ حياتي .
فقالَ الحارسُ الأولُ : إنهم لا يريدون حياتكَ ، سيكتفون ببعضِ المالِ ، وإلا ..
وأشارَ التاجرُ ذو الكرشِ له أن يسكتَ ، ولا يكمل حديثهُ ، فلاذَ الحارسُ بالصمتِ ، ونظرَ إلى بسطام ومن معه ، وقالَ : ها هم قادمون .
ودفعَ التاجرُ ذو الكرشِ ، الفتاةَ الشابةَ غامقةَ البشرةِ ، وراءَ ظهرهِ ، وقالَ لها : ابقي ورائي ، ليأخذوا نصفَ ثروتي، ولا يأخذونك أنتِ .
وتمتمت الفتاةُ : ليتهم يأخذونني .
وزجرها التاجرُ البطين : اسكتي .
وهبطَ الفرسان عن الكثيبِ ، يتقدمهم بسطام ، وأكثم يركبُ حصانهُ على مقربة منه ، وأحاطوا بالقافلة وسيوفهم في أيديهم ، فاقتربَ أحد الحراسِ من بسطام ، وقالَ له : أهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوةُ .
وردّ بسطام قائلاً : أهلاً بكم .
ومدّ الحارسُ يده بكيسٍ من المالِ ، وقالَ له : هذا هديةٌ من التاجرِ ، صاحبِ القافلة .
وأخذَ بسطام الكيسَ ، ونظرَ إلى التاجرِ البطينِ ، وقالَ لهُ : أنتمْ في أمانٍ ، اذهبوا مطمئنين ، رافقتكمْ السلامةُ .
ومضت القافلةُ مبتعدةً ، والرجالُ حولَ بسطام فرحين ، وهم ينظرون إلى كيسِ المالِ ، الذي دفعهُ التاجرُ البطينُ لهم ، لقاءَ سلامتهِ وسلامةِ قافلتهِ .
وتابع أكثم القافلةَ ، وهي تبتعدُ ، ولفتَ نظرهُ فتاةٌ شابةٌ قاتمةَ البشرةِ ، تجلسُ لصقَ التاجرِ البطينِ ، وتتطلعُ إليه بعينين سوداوين قلقتين ، وبدا وكأنها تستنجدُ به ، ولم تُبعدْ عينيها عنه ، حتى غابت القافلةُ في البعيدِ .

" 7 "
ـــــــــــــــــــ
جلسوا تحت نخلةٍ ، يحصون ما غنموه ، ويقوم بسطام ّبتقسيمهِ بينهم ، وابتعدَ أكثم عنهم ، لا يدري ماذا يفعلُ ، وتوقف ينظر إلى البعيدِ ، ثمّ أسرعَ إلى حصانهِ ، ووثبَ على صهوتهِ ، وانطلقَ به نحو الآفاقِ .
ورفعَ أحدُ الرجالِ رأسهُ ، وصاحَ في إثرهِ : أكثم ، تمهلْ ، إلى أين ؟ الصحراءُ خطرةٌ .
لم يلتفتْ أكثم إليه ، وخاطبهُ بسطام قائلاً : دعه ..
وقال الرجلُ : أخشى أن يهربَ .
وردّ عليه بسطام : لا تخشَ ، سيعودُ ، ليس لديه أحد غيرنا في هذهِ الصحراءِ .
ومضى أكثم على حصانهِ ، يلاحقُ الآفاقَ الهاربةَ ، نعم ، لن يهربَ من بسطام وعالمهِ ، رغمَ أنه لم يرقْ لهُ هذا العالمَ ، ثمّ إلى أين يهربُ ؟
وتناهى إليهِ من بعيدٍ أصوات استغاثةٍ ، فشدّ زمامَ حصانهِ ، وتوقفَ به وهو يصغي ، إنها أصواتُ فتاةٍ ، يا للعجبِ ، ولاحتْ الفتاةُ تركضُ متعثرةً ، وفي أثرها يسرعُ فارسٌ على حصانهِ .
وحدقَ أكثم بالفتاةِ ، التي تركضُ صارخةً متعثرةً ، إنها الفتاةُ الداكنةُ البشرةِ ، التي كانت مع الرجلِ ـ التاجر البطينِ ، والتي خيلَ إليه ، أنها كانت تستنجدُ به .
وترجلَ الفارسُ على عجلٍ ، حين وصلَ الفتاةَ ، ولحقَ بها ، وأطبقَ على معصمِها ، وهو يقولُ : تعالي معي ، يجبُ أن أعيدكِ إلى القافلةِ .
فقاومته الفتاةُ ، وهي تقولُ : لن آتي ، لا أريدُ أن أعودَ إلى ذلك الشيخِ المتصابي .
وسحبها الفارسُ بقوةٍ ، وقالَ : ستأتين رغماً عنكِ ، إنه سيدكِ ، وهو تاجرٌ غتيّ .
وراحت الفتاةُ تقاومُ بعنفٍ ، وهي تنظرُ إلى أكثم ، وتصيحُ : أنقذني ، هذا الرجلُ يريدُ أن يرجعني عبدةً مملوكةً إلى التاجرِ اللعينِ .
وترجلَ أكثم عن حصانهِ ، واقتربَ من الفارسِ ، الذي يسحبُ الفتاةً رغماً عنها ، وخاطبه قائلاً : دعها مادامتْ لا تريدُ أن تعودَ إلى التاجرِ .
لكن الفارسَ لم يدعها ، وسحبها بقوةِ أشدّ ، وردّ على أكثم قائلاً : هذا ليس شأنك ، ابتعدْ وإلا ..
وأمسكَ أكثم يدّ الفارسِ ، وأبعدها بقوةٍ عن ذراعِ الفتاةِ ، وقالَ لهُ : بل هذا شأني ، ولن أدعكَ تأخذها رغم إرادتها ، والأفضلُ لكَ أن تعودَ إلى القافلةِ .
وتراجعَ الفارسُ قليلاً ، ثم شهرَ سيفهُ ، وهو يقولُ : والآن اترك الفتاةَ ، وإلا ..
وقبلَ أن يكملَ الفارسُ جملتهُ ، وجدَ نفسهُ يحلقُ عالياً ، ثمّ ينطرحُ على الأرضِ ، وسيفهُ في يدِ أكثم ، الذي قالَ لهُ بصوتٍ حازمٍ : وإلا .. ؟
وتراجعَ الفارسُ زاحفاً على الأرضٍ ، فألقى أكثم له سيفهُ ، وقالَ لهُ : انهضْ ، واركبْ حصانكَ ، وامضِ .
ونهضَ الفارسُ ، وأعادَ سيفهُ إلى قرابهِ ، ثم ركبَ حصانهُ ، دون أن ينظرَ لا إلى الفتاةِ ، ولا إلى أكثم ، ومضى لا يلوي على شيءٍ .
وبعد أن غابَ الفارسُ ، هو وسيفهُ وحصانهُ ، التفتَ أكثم إلى الفتاةِ ، وراحَ يحدقُ فيها ، إنها داكنةُ البشرةِ مثلهُ ، ولعلها أصغرُ منه بقليلٍ ، وتبدو من عينيها السوداوين الحادتين ، عنيدةً حدّ الشراسةِ .
وتململت الفتاةُ حائرةً ، فقالَ أكثم : والآنَ .. ؟
وهزت الفتاةُ كتفيها ، وقالتْ : المهمُ أنني لم أعدْ إلى التاجرِ ، الذي اشتراني عبدةً ، وربما أكثرَ ، فهو تاجرٌ طماعٌ خبيثٌ ، و ..
وصمتتْ لحظةً ، ثم قالتْ : إنني لا أريدُ أن أكونَ عبدةً له أو لغيرهِ ، أنا لستُ .. عبدةً .
فقالَ أكثم : أنا معكِ ، ولهذا وقفتُ إلى جانبكِ ، وحررتكِ منهُ ومن ذلكَ التاجر البطين .
ورمقته الفتاةُ بنظرةٍ سريعةٍ ، قويةٍ ، وقالتْ : أشكركَ ، ولو أعادني ، ذلكَ الفارسُ ، لما استسلمتُ ، ولكنتُ هربتُ في أقربِ فرصةٍ ، مهما كلفَ الأمرُ .
وتلفتَ أكثم حولهُ صامتاً ، ثم حدّقَ فيها بعينيهِ السوداوين الحادتين ، وقالَ : أنتِ الآنَ حرةٌ ..
وحدقتْ فيه صامتةً ، لا تعرفُ ماذا تقولُ ، فتابعَ أكثم قائلاً: والآن إلى أين ؟
ورفعت الفتاةُ كتفيها حائرةً ، ثم نظرتْ إليهِ ، وقالتْ : أنتَ أنقذتني منهُ ، وحررتني ..
ولاذ أكثم بالصمتِ ، فقالت الفتاةُ : لا أريدُ أن أكونَ عبئاً عليكَ ، دعني للصحراءِ ، إنها واسعةٌ ، و ..
وقالَ أكثم : أنتِ بنتٌ ..
ونظرتْ إليه صامتةً ، فأضافَ قائلاً : وجميلةٌ ..
وصمتَ أكثم ثانيةً ، فرفعت الفتاةُ عينيها إليه ، وقالتْ : اسمي .. عسل ..
وابتسمَ أكثم ، فقالت الفتاةُ : يبدو أنكَ لا تصدقُ أن اسمي عسل ، هذا اسم أطلقته عليّ أمي ، التي لم أرها .
واتجه أكثم إلى حصانهِ ، وهو يقولُ : تعالي أردفكِ ورائي على الحصانِ ، ونعودُ إلى بسطام وجماعتهُ ، لقد رأيتِهم ، حين هاجموا القافلةَ .

" 8 "
ـــــــــــــــــــ
فوجء بسطام ورجالهُ ، وهم متمددون تحتَ النخلةِ ، بوقعِ حوافرِ حصانٍ ، يصدرُ من مكانٍ ليس ببعيدٍ ، وفتحَ أحدُ الرجالِ المتعبين عينيه ، وقالَ : أسمعُ وقعَ حوافرِ حصان يقتربُ منّا.
ورفعَ آخرٌ رأسهُ ، ونظرَ نحو مصدرِ الصوتِ ، وقالَ :
هذا أكثم ، لقد عادَ .
ونظرَ ثالثٌ إلى الحصانِ ، وهو يقتربُ ، وقالَ : لم يعدْ وحدهُ، معه آخر ، آه .. ربما معه بنتٌ .
واعتدلوا جميعاً ، وقد طارَ النعاسُ من عيونهم ، وراحوا يتابعون الحصانَ ، ومن عليه لحظةً بلحظةٍ ، وقالَ أحدهم : حقاً ، إنها بنتٌ ، وهي بلونِ أكثم .
وتوقفَ أكثم بحصانهِ ، فاعتدلَ بسطام مندهشاً ، وحدقَ في الفتاةِ ، التي كانت وراءَ أكثم على الحصانِ ، وقالَ : هذه الفتاتُ أظنّ أنني رأيتها من قبل .
وترجل أكثم عن الحصانِ ، وساعدَ الفتاةَ على الترجلِ ، وقالَ لبسطام : نعم ، رأيناها جميعاً ، حين أحطنا بالقافلةِ ، فقد كانتْ مع التاجرِ البطينِ .
ونظرَ بسطام إلى أكثم ، وقالَ له : حقاً ، هذه الفتاةُ كانتْ مع التاجرِ البطينِ ، ورأيتها حين ابتعدت القافلةُ .
فرمقَ أكثم الفتاةَ عسل بنظرةٍ خاطفةٍ ، وقالَ : نعم ، كانتْ معه ، لكنها هربتْ فيما بعد .
وحدقَ بسطام فيها ثانية ، فتابع أكثم قائلاً " تقولُ إنها لا تريدُ أن تكونَ عبدةً .
فقالَ أحدُ الرجالِ : لتبقَ معنا .
وقالَ آخرُ مازحاً : تطبخُ لنا ..
وأضافَ ثالثٌ : وتغسلُ ملابسنا ..
وهمّ رابعٌ أن يقولَ شيئاً ، فقاطعته عسل بحدةِ : كلا ، لن أكونَ عبدةً لأحدٍ ، مهما كان السبب .
وضحكَ رجلٌ ، وقالَ : صارَ عندنا أكثمان .
ونظرتْ عسل إلى أكثم ، وقالتْ : يبدو أنه يشيرُ إلى اسمكَ ، الذي لم تقله لي .
وقالَ أكثم ، دون أن يلتفتَ إليها : نعم ، اسمي أكثم ، ويقولُ إننا متشابهان ، أنا وأنتِ .
وتساءلَ بسطام مخاطباً الفتاةَ : ما اسمكِ ؟
وردت الفتاةُ مباشرةً : عسل .
وابتسمَ بعضُ الرجالِ ، وحدقَ بسطام فيهم بحدةٍ ، خشيةَ أن يعلقَ أحدهمْ على الاسمِ ، ثم قالَ لعسل : تبدينَ متعبةً ، اذهبي ، وارتاحي تحت تلك النخلةِ .
ورمقت عسل أكثم بنظرةٍ سريعةٍ ، ثم مضتْ نحو النخلةِ ، التي أشار بسطام إليها ، وجلستْ تحتها ، ونظرَ بسطام إلى أكثم، وقالَ لهُ : خذْ بعضَ الطعامِ ، وقدمهُ لها ، أخشى أن تكون جائعةً .
وأخذَ أكثم بعضَ الطعامِ ، وذهبَ به إلى عسل ، ووضعهُ أمامها، وقالَ لها : هذا الطعامُ أرسله لكِ بسطام ، وهو كبيرُ هؤلاءِ الرجالِ ، كلي .
ونظرتْ عسل إليه بعينيها السوداوين الجميلتين ، وقالتْ : اجلسْ إلى جانبي ، وكلْ معي .
وجلسَ أكثم على مقربةٍ منها ، وقالَ : سأجلسُ معكِ ، لكني لن آكلَ ، فأنا شبعان .
ونظرَ بسطام إليهما ، وهما يجلسان متقاربين ، فتمتمَ قائلا بصوتٍ مسموعٍ : لو تزوجتُ ، في الوقتِ المناسبِ ، لكان لي أولادٌ في عمرهما .
وسمعه أحدُ الرجالِ ، فمالَ عليهِ ، وقالَ : لا عليكَ ، إنهما ولداكَ ، يا بسطام .
وابتسمَ بسطام بمرارةٍ ، وقالَ : لا أريدُ لولديّ هذه الحياةَ القاتلةَ ، التي أحياها .
ورمقتْ عسل أكثم ، وهي تأكلُ ، وقالتُ : منذُ أكثرَ من شهر ، وأنا عند ذلك التاجرُ البطينُ ، لكني لم أفكرْ في الهربِ ، إلا حين رأيتكَ .
وحدقَ أكثم فيها صامتاً ، فتابعتْ عسل قائلةً : أعجبني ما أنتَ فيه من حريةٍ .
وقالَ أكثم : لستُ حراً .
فردتْ عسل : لكنكَ لستَ عبداً .
وصمتتْ لحظةً ، ثم قالتْ : لقد كرهتُ الحياةَ ، منذُ أن اختطفني قاطعُ طريق ، من خارجِ الواحةِ ، وباعني لذلك التاجرِ البطينِ المتصابي .
وتوقفتْ عسل عن تناولِ الطعامِ ، ونظرتْ إلى أكثم ، وقالتْ : يخيل إليّ ، أنكَ لستَ واحداً من قطاعِ الطرقِ هؤلاء ، يا أكثم.
ولاذ أكثم بالصمتِ لحظةً ، ثم قالَ : إن لون بشرتي مثلُ لون بشرةِ أمي ، وهي سبيةٌ لأبي ، ولي ابنةُ عمٌ ، ليستْ بشرتها مثل بشرتنا ..
وتعكرتْ عينا عسل ، وخفقَ قلبها بحيرةٍ ، فتابعَ أكثم قائلاً: تعرضَ لها ابن الشيخ ، فأبعدتهُ عنها بخشونةٍ ، وصفعتهُ بقوةٍ ، وطرحتهُ على الأرضِ .
وهمهمتْ عسل متعكرةً : هم م م م ..
ونهضَ أكثم ، وقالَ : لو بقيتُ مع أمي لقتلني .

" 9 "
ـــــــــــــــــــ
رغمَ تعاملهم الطيبِ مع الفتاةِ عسل ، إلا أنهمْ أحسوا ، أن وجودَها بينهم ، لا يبدو أمراً طبيعياً ، لقد تقبلوا أكثم على مضضٍ ، رغمَ أنه شابٌ ، شجاعٌ ، شديدَ التحملِ ، أما عسل فهي .. نعمْ .. إنها فتاةٌ .
وذاتَ يومٍ ، جلسوا حولَ سفرةِ الطعامِ يأكلونَ ، وجلستْ عسل وأكثم يأكلانِ وحدهما ، وهذا ما أرادهُ بسطام نفسهُ ، وترامى صوتٌ من بعيدٍ ، فرفعَ الجميعُ رؤوسهم ، وقد توقفوا عن تناولِ الطعامِ ، ونظرَ بسطام إلى البعيدِ ، وقالَ : لا عليكم ، إنها زوبعةٌ صغيرةٌ لا أكثر.
وحانتْ منه نظرةً ، فرأى الفتاةَ عسل ، تنظرُ إلى البعيدِ بقلق ، وقد كفتْ عن تناولِ الطعامِ ، وأكثم ينظرُ حيثُ تنظرُ، فنهضَ من مكانهِ ، وهو يخاطبُ رجالهُ قائلاً : أكملوا تناولَ طعامكم .
واقتربَ بسطام من أكثم وعسل ، وهو يحدقُ فيهما ملياً ، وقالَ لعسل : يا بنية ، أراكِ لا تأكلين ، أخشى أن طعامنا المتواضع لا يعجبكِ .
فرفعتْ عسل وجهها ، ونظرتْ إليه بعينيها السوداوين ، الجميلتبن ، وقالتْ : بالعكس ، طعامكم يعجني ، لكنكم أنتم تعجبونني أكثر .
وضحكَ بسطام ، وقالَ ، وهو يجلسُ على مقربةٍ منهما : غبي من لا يريدُ البنات .
وابتسمَ أكثم ، وقالَ مازحاً : البعضُ يئدهن .
فقالَ بسطام : هؤلاءِ ليسوا من البشرِ ، يا أكثم .
وصمتَ بسطام برهة ، ثم قالَ : في الفترةِ الأخيرةِ ، تأكدَ لنا أنّ هناك من يترصدنا .
وردّ أكثم قائلاً : لا أظنُ أن أحداً ، ممن في هذه الصحراءِ ، يجرؤ على مواجهتنا .
وابتسمَ بسطام ، وقالَ : وجودنا في هذا الطرفِ من الصحراءِ، لا يعجبُ الأمير ، ولهذا فإنه يسعى لمفاجأتنا ، والتخلصِ مناّ جميعاً .
وقالَ أكثم بحماس : هيهات .
ونظرَ بسطام إليه ، وردّ قائلاً : الكثرةُ تغلبُ الشجاعةَ ، إنهم كثيرون جداً ، يا أكثم ، ونحنُ قلةٌ ، ولا قبلَ لنا على مواجهةِ هذه الكثرة .
وصمتَ بسطام ، وراحَ يحدق في عسل بعينين أبويتين ، فيهما شيء من الأسى ، فتململتْ عسل ، وقالتْ : للأسف ، إنني أشعرُ بأني عبءٌ عليكم .
وأطرقَ بسطام لحظةً ، ثم رفعَ عينيهِ إليها ، وقالَ : بنيتي، مكانكِ ليس بيننا .
واحتجتْ عسل قائلةً بحماس : ألأنّي صغيرةٌ ؟ أكثم لا يكبرني كثيراً ، إنه يكادُ يكون في عمري .
وضحكَ أكثم ، فابتسمَ بسطام ، وقالَ : أنتِ محقةٌ ، لكن أكثم.. شاب .
وابتسمَ أكثم ، وقالَ : وأنتِ ..
وقاطعتهُ عسل قائلة بحدةٍ : أنا ماذا ؟
فتابعَ أكثم قائلاً : لستِ .. شاباً .
وبدا الحزنُ على عسل ، ونظرتْ إلى بسطام ، وقالتْ : ليس لي أحد ، ولا أريدُ أن أعودَ إلى ذلك التاجرِ البطينِ ، ولا إلى.. أيّ كان .
وحدقَ بسطام فيها ، وتساءلَ قائلاً : قبلَ أن يخطفكِ قاطعُ الطريقِ ، أين كنتِ .
ورمقتْ عسل أكثم بنظرةٍ خاطفةٍ ، ثم قالتْ : في واحتنا ، مع جدني ، وكانتْ مريضةً ، لعلها رحلتْ الآن .
وقالَ بسطام : ولعلها لم ترحلْ .
ولاذتْ عسل بالصمتِ لحظةً ، ثم قالتْ : مهما يكنْ ، لا أريدُ أن أكونَ عبدةً لأحدٍ .
ونهضَ بسطام ، وقالَ لها بصوتٍ هادىئ : لن تكوني عبدةً ، ما دمتُ موجوداً ، لكن وجودك هنا ، يا بنيتي عسل ، غير مناسبٍ لك .
ونهضتْ عسل بدورها ، ونظرتْ إلى بسطام ، وقالتْ له بشيءٍ من الحماسِ : لن أكون عبدةً ، إذا بقيتُ هنا ، حتى لو طبختُ لكم ، وغسلتُ ملابسكم ، و ..
وهزّ بسطام رأسه مبتسماً ، وقالَ : لقد رفضتِ هذا قبل أيامٍ، وأنا أرفضهُ لك اليومَ .
وهنا صاحَ أحدُ الرجالِ : جاءَ الكشافُ .
واستدارَ بسطام ، ونظرَ حيثُ ينظرُ الرجالُ ، ورأى الكشافَ الذي خرجَ صباحاً ، يُقبلُ مسرعاً على حصانهِ ، وتمتمَ بسطام : يبدو أن معه خبراً هاماً .
واقتربَ الكشافُ بحصانهِ من بسطام ، وتوقفَ على مقربةٍ منه ، وقالَ : هناك قافلةٌ ، ستمرُ على الطريقِ القريبِ ، بعد قليلٍ.
والتفّ الرجالُ حولهُ ، وقالَ أحدهم بلهجةِ مزاحٍ : أرجو أن تكون قافلةً دسمةً .
وعلقَ آخر : المهم أن لا تكلفنا شيئاً .
وتطلعَ بسطام إلى الكشافِ ، وقالَ لهُ : آملُ أن تكون قد راقبتها جيداً ، فالأميرُ يتربصُ بنا .
فردّ الكشافُ قائلاً : رأيتها من بعيدٍ ، وجئتكمْ على عجلٍ ، لكن اطمئنْ ، تبدو قافلةً عاديةً .
ونظرَ بسطام إلى رجاله ، وقالَ : مهما يكنْ ، لنكنْ حذرين ، هيا اركبوا خيولكم ، ولنسرعْ إلى القافلةِ ، ونرَ ما الذي كتبته الأقدارُ لنا اليومَ .
" 10 "
ــــــــــــــــــــــ
توقفوا فوق مرتفعٍ ، يطلُ على الطريقِ ، الذي ستمرُ فيه القافلةُ ، بسطام في المقدمةِ ، وعلى مقربةٍ منه أكثم ، وقد أردفَ عسل وراءهُ ، وإلى الوراءِ بقليلٍ ، توزعَ الرجالُ على خيولهمْ .
وأشارَ أحدُ الرجالِ بيدهِ ، وقالَ : القافلة .
ونظروا جميعاً حيثُ أشارَ الرجلُ ، وراحوا يتململون فوقَ خيولهم ، ويتبادلون الهمساتِ المتحمسةَ ، ودققَ بسطام بالقافلةِ بعينين متشككتين ، وقالَ : لا تستعجلوا ، دعوا القافلةَ تقتربُ ، ونتأكدُ من حقيقتها .
وهمهمَ رجلٌ ، ثم خاطبَ بسطام قائلاً : لا داعي للترددِ ، أنتَ بسطام ، ونحنُ رجالكَ .
وردّ بسطام ، وهو مازالَ يدققُ في القافلةِ : نعم ، أنا بسطام ، ولكن عليّ أن لا أزجكمْ في النارِ ، راقبوا القافلةَ جيداً ، ولنتأكدْ من أنها قافلةُ تجار .
وراحَ الجميعُ يراقبون القافلةَ ، تقتربُ شيئاً فشيئاً ، وها هي تسيرُ تحتَ أنظارهم ، عدةُ جمالٍ فوقَ بعضها هوادجٌ ، تشغلها النساءُ عادةً ، وإلى جانبها على خيولهم بضعةُ حراس، ليس فيهم ما يميزهم ، وعددٌ من الرجالِ ، لا يبدو أنهم~ يحملون أسلحةً ، يسيرون متعبين وراءَ القافلةِ ، دون لثامٍ .
والتفتَ أحدهمْ إلى بسطام ، وقالَ : هذه الهوادجُ للنساءِ .
وردّ بسطام ، دون أن يلتفتَ إليه : ربما هذا ما أرادوا أن يقولونه لنا .
وعلقَ أحدُ الرجالِ : أنتَ متطيرٌ هذهِ الأيام .
وهزّ بسطام رأسهُ ، وقالَ : أنتَ لا تعرفُ الأميرَ ، إنهُ ثعلبٌ ، وأنا أحذرُ الثعالبَ .
وتقدمَ أحدهمْ بحصانهِ قليلاً ، وهو يقولُ : ستفلتُ القافلةُ منّا ، فلنهاجمها .
وأيدهُ أكثرُ من واحدٍ ، فقالَ بسطام : كما تشاءون .
والتفتَ إلى أكثم ، وعسل وراءهُ ، وقالَ لهُ : أكثم ، ابقَ هنا ، فعسل معكَ ، وعليكَ أن تحميها .
لكن أكثم قالَ : لقد وعدتني أن أشارككم ..
وقاطعهُ بسطام ، وهو يتقدمُ بحصانهِ قليلاً إلى الأمامِ : ليس هذه المرةَ ، لديك مهمةٌ أهمّ ، عسل ..
ثم أشارَ إلى رجالهِ ، وقالَ : هيا ..
واندفعَ بحصانهِ ، ينهبُ الأرضَ نهباً ، وهو يخاطبهم قائلاً : تذكروا ، تذكروا جميعاً ، وكما في كلّ مرةٍ ، ليس هدفنا القتلَ ، وإنما الغنيمة .
وهتفَ أحدهمْ مماحكاً : وإذا قاتلونا ؟
فردّ بسطام : حقّ قتالهم ؟
ونظرتْ عسل إلى أكثم ، وخاطبتهُ : أكثم ..
وردّ أكثم ، وهو يتابعُ بسطام ورجاله : نعم .
فتابعت عسل قائلةً : لو هاجمتمْ التاجرَ البطينَ ، أكنتَ تريدني غنيمةً لكَ ؟
فرمقها أكثم بنظرةٍ سريعةٍ ، وقالَ : أنا لا أريدك عبدةً .
وقبلَ أن تردّ عسل عليهِ ، انتفضَ أكثم فوقَ حصانهِ ، وصاحَ منفعلاً : عسل ، انظري ..
ونظرتْ عسل حيثُ ينظرُ أكثم ، وإذا بها ترى الحراسَ ، والرجالَ الذين يسيرون وراءَ القافلةِ ، بلْ ورجالاً آخرين هبطوا من فوق الهوادجِ ، يتحولون بلمحِ البصرِ ، إلى مقاتلين مدججين بالسلاحِ .
وصاحتْ عسل مرعوبةً : هذا فخٌ ..
وانقضَ المقاتلون بأسلحتهم ، على بسطام ورجالهِ ، الذين فوجئوا بالهجومِ ، ولم يتسنّ لمعظمهم ، أن يستلّ سيفهُ ليدافعَ به عن نفسهِ ، ويبدو أن المقاتلين ، وهمْ أعوانُ الأميرِ ، يعرفون بسطام ، فقد انشغلَ معظمهمْ ، بالإحاطةِ به، والانقضاضِ عليهِ بسيوفهمْ .
ومدّ أكثم يدهُ ، محاولاً إنزالَ عسل عن حصانهِ ، وهو يقولُ : إنهم يقتلون بسطام ، انزلي ..
وتشبثتْ عسل به ، وهي مازالتْ فوق الحصانِ ، وقالتْ : لا فائدة ، لقد وقعَ الجميعُ في الفخِ ، ولن ينجو منهم أحدٌ ، وستقتلُ أنتَ الآخر إذا ذهبتَ إليهم .
ودفعها أكثم من فوق الحصانِ ، وهو يقولُ : انزلي ، لن أدعهم يقتلون بسطام ..
وصاحتْ عسل ، وهي تتشبثُ بالحصانِ : لا تنسَ وصيةَ بسطام ، عليكَ أن تحميني .
وتوقفَ أكثم بحصانهِ ، وعيناه مازالتا تجوسان في أرضِ المعركةِ ، وقالَ بصوتٍ متهدجٍ : انظري ، لقد قُتلوا جميعاً ، وبينهم بسطام .
فنظرتْ عسل حيثُ ينظرُ ، وقالتْ : لا ، هناك اثنان يلوذان بالهربِ على حصانيهما .
وصمتتْ لحظةً ، ثم قالتْ : أكثم ..
لم يردّ أكثم عليها ، فتابعتْ قائلةً : لنهربْ نحنُ أيضاً ، وإلا لحقوا بنا ، وقتلونا .
واستدارَ أكثم بحصانهِ ، وقالَ لها : اصعدي ورائي .
وصعدتْ عسل وراءَ أكثم ، وتشبثتْ به بقوةٍ ، فلكزَ أكثم حصانهُ ، وأسرعَ متوغلاً به في الصحراءِ ، بعيداً عن ساحةِ الموتِ .

" 11 "
ــــــــــــــــــــــ
عند حوالي المساء ، توقفَ أكثم بحصانهِ ، الذي أنهكه التعبُ ، وهو يحملُ أكثم ومعه عسل أيضاً ، اللذين هربا من ساحةِ المجزرةِ .
وتلفتتْ عسل حولها ، وقالتْ بصوتٍ متعبٍ : هذا مكانٌ موحشٌ ، يا أكثم 0
فردّ أكثم قائلاً : الصحراءُ كلها موحشةٌ .
وهمّ أكثم أن يحثَ حصانهُ على مواصلةِ السيرِ ، رغمَ أنه متعبٌ جداً ، عندما أشارتْ عسل إلى البعيدِ ، وقالتْ : أكثم ، انظرْ .
ونظرَ أكثم حيث أشارتْ عسل ، وإذا فارسان يقبلان من بعيدٍ ، على جواديهما ، وقالتْ عسل خائفةً : أخشى أن يكونا من أعوان الأميرِ ، لنهربْ .
وردّ أكثم قائلاً ، وهو مازالَ ينظرُ إلى الفارسين المقبلين: انتظري ، إنني أكادُ أعرفُ هذين الفارسين ، إنهما من رجالِ بسطام على الأغلب .
وحين اقتربَ الفارسان على جواديهما ، حدقتْ عسل فيهما ، وقالتْ بصوتٍ هادئ مطمئنٍ : أنتَ محقٌ ، إنهما فعلاً من رجالِ بسطام .
وتوقفَ الفارسان بحصانيهما ، على مقربةٍ من أكثم ، وقد بدا عليهما الإرهاقُ الشديدُ ، ووجهاهما وثيابهما معفرةٌ بالرمالِ والدماءِ .
وخاطبهما أكثم قائلاً : معجزةٌ أنكما حيينِ .
وتبادلَ الفارسان نظراتٍ سريعةً ، وقالَ أحدهما : قالَ بسطام أنه كمينٌ ، لكننا لم نلتفتْ إليه .
وقالَ الآخرُ : كان أولئك من جندِ الأميرِ .
وتابعَ الأولُ قائلاً : قُتلَ الجميعُ ، وفي المقدمةِ بسطام ، وكان في الحقيقةِ ، هو الهدفُ الأولُ .
ورانَ الصمتُ فوقهم ، كسرهُ أحدهمْ قائلاً : الليلُ سيخيمُ بعد قليلٍ ، فلنبتْ هنا الليلةَ .
وترجلَ الفارسان عن حصانيهما ، وخاطبَ أكثم الفتاةَ عسل متمتماً : عسل ..
فقالتْ عسل : الأفضلُ أن نكونَ معاً حتى الغد .
وترجلَ أكثم وعسل عن الحصانِ ، وكانا في غايةِ التعبِ ، وخاطبَ أحدُ الرجلين أكثم قائلاً : عند فجرِ الغدَ ، سنتوغلُ في الصحراءِ ، بعيداً عن أذرعِ الأميرِ .
ونظرَ الآخرُ إلى أكثم ، وقالَ : أنتما لا خوفَ عليكما ، فجندُ الأميرِ لا يعرفانكما .
وعلقَ الأولُ قائلاً : يمكنكما أن تذهبا إلى أي مكان ، من هذه الصحراءِ اللعينةِ .
ورمقَ أكثم الفتاةَ عسل ، ثم قالَ للرجلين : سآخذُ عسل إلى جدتها في الواحةِ ، ثم .. الصحراءُ واسعةٌ .
وحين تمددَ أكثم وعسل ، أحدهما على مقربةٍ من الآخر ، نظرتْ عسل إليه ، وقالتْ : ابقَ معنا ، إن جدتي امرأةٌ طيبةٌ ، وستحبكَ وترعاكَ .
وأضافتْ متمتمةً : هذا إذا مازالتْ على قيد الحياةِ .
فأغمضَ أكثم عينيه ، وقالَ : نامي الآنَ .
ونامتْ عسل ، رغمَ أنها أرادتْ أن تفكرَ ، في الخيمةِ التي ستضمها مع جدتها ، ومعهما أكثم ، الذي لا تعرفُ عنه إلا القليل ، ويكفيها أنه .. أكثم .
وأفاقَ أكثم قبلَ شروقِ الشمسِ ، واعتدلَ في مكانهِ ، وراحَ يرهفُ السمعَ ، فقد خيلَ إليهِ ، أنه يسمعُ وقعَ حوافرٍ خيلٍ من بعيدٍ .
أهو حلمٌ ؟ لكن ماذا لو كان الأمرُ حقيقةً ؟ وتلفتَ حولهُ ، لا أثرَ للرجلين ولا لحصانيهما ، يبدو أنهما مضيا إلى عمقِ الصحراءِ ، دون أن يوقظاهما .
وزحفَ أكثم إلى حيثُ تتمددُ عسل ، وكانتْ ما تزالُ مستغرقةً في نومٍ عميق ، فمدّ يدهُ ، وهزّها برفقٍ ، وهو يهمسُ لها : لا تخافي ، أنا أكثم ، أفيقي ..
وفتحتْ عسل عينيها السوداوين الجميلتين ، وتلفتتْ حولها ، ثم قالتْ بصوتها الناعس : ما الأمرُ ، يا أكثم ؟ الشمسُ لم تشرقْ بعدُ .
وردّ أكثم بصوتٍ خافتٍ : يخيل إليّ أنني أسمعُ وقعَ حوافرِ خيلٍ متجهةٍ نحونا .
وأرهفتْ عسل السمعَ برهةً ، ثم نظرتْ إلى أكثم ، وقالتْ : لعلك واهمٌ ، إنني لا أسمعُ أيّ شيءٍ .
فقال أكثم : مهما يكنْ ، الأفضلُ أن نغادرَ هذا المكانَ ، في أسرعِ وقتٍ ممكنٍ .
واعتدلتْ عسل ، وتلفتتْ حولها ، ثم قالتْ : لا أرى الرجلين ولا حصانيهما .
فمدّ أكثم يدهُ ، وأنهضَ عسل ، وهو يقولٌ : يبدو أنهما استيقظا قبلنا ، وتوغلا في الصحراءِ ، خوفاً من أن يداهمها جندُ الأميرِ ، ويجهزا عليهما .
فهتفتْ عسل : فلنذهبْ نحن أيضاً ، هيا .
وامتطى أكثم حصانهُ ، وأردفَ وراءهُ عسل ، وانطلقا مبتعدين، وخاطبها أكثم قائلاً : عسل ..
وردتْ عسل : نعم .
فتابعَ أكثم قائلاً : أرجو أنك تعرفين الطريقَ إلى الواحةِ ، التي فيها جدتكِ .
فقالتْ عسل : أعرفها كما أعرفكَ .
فردّ أكثم ، وهو يحثُ حصانهُ : هذا ما يخيفني .

" 12 "
ـــــــــــــــــــــ
من بعيدٍ جداً ، من أفقِ الرمالِ ، لاحتْ بقعةٌ ذات لونٍ مغاير ، أهي خضراء ؟ من يدري ، ونظرَ أكثم إليها ملياً ، ثم تمتمَ : عسل ..
وردتْ عسل : آه .. انطقْ اسمي مرةً أخرى .
وتابعَ أكثم قائلاً : يبدو أنك لم تخطئي هذهِ المرةَ .
وقالتْ عسل : كنتُ أخطئ كثيراً ، قبلَ أن أراكَ .
وتغافلَ عن قولها ، وأشارَ إلى البقعةِ ، التي تمنى أن تكون خضراءَ ، وقالَ : تلكَ هي الواحةُ ، التي قلتِ أن جدتكِ تسكنُ فيها .
ونظرتْ عسل حيثُ أشارَ أكثم ، وقالتْ فرحةً : نعم ، إنها هي، تلكَ واحتنا .
وصاحتْ بأعلى صوتها : جدتي ، عدتُ إليك ، أعادني فارسُ الصحراءِ أكثم .
وضحكَ أكثم ، وهو يقولُ : كفى أيتها المجنونةُ ، لا تصيحي هكذا ، لم تعودي طفلةً .
ومدتْ عسل يديها ، واحتضنتْ أكثم من الوراءِ ، وهي تصيحُ فرحةً بأعلى صوتها : أسرعْ .. أسرعْ .. ستجنُ جدتي فرحاً حين تراني .
لم يسرعْ أكثم ، وقالَ لعسل دون أن يلتفتَ إليها : سأعيدكِ إلى جدتكِ ، وبذلك أكونُ قد قمتُ بمهمتي ، كما أرادها الراحلُ بسطام .
وردتْ عسل على الفورِ : بسطام لم يقلْ أن تتركني ..
وصمتتْ لحظةً ، ثم تمتمتْ وكأنها تتحدثُ إلى نفسها : إذا تركتني سأجنّ .. نعم .. سأجنّ .. أنا عسل .
وحثّ الحصانُ خطاه ، ربما مُمنياً نفسهُ بوجبةٍ من الأعشابِ الخضراءِ النديةِ ، وجرعاتٍ من الماءِ الباردِ ، وراحت الواحةُ تقتربُ شيئاً فشيئاً ، وبدت الأشجارُ التي تطلعُ من الرمالِ ، تتطاولُ خطوةً بعد خطوةٍ .
ودخلَ الحصانُ في الواحةِ ، التي انتثرت الخيامُ في جنباتها، وأسندتْ عسل رأسها على ظهرِ أكثم ، وقالتْ : لن تباتَ الليلةَ تحتَ النجومِ .
وسكتتْ لحظةً ، ثم قالتْ : الشمسُ تكادُ تغربُ .
وسحبَ أكثم زمامَ الحصانِ برفقٍ ، وخاطبَ عسل قائلاً : أين خيمةُ جدتكِ ؟
فقالتْ عسل : اتجهْ يساراً ، لقد اقتربنا .
وتنهدتْ من أعماقها ، وتمتمتْ : لو تعرفُ ، يا أكثم ، كم سأحنُ إلى ضوءِ النجومِ .
وهنا ربتتْ على كتفِ أكثم ، وأشارتْ إلى خيمةٍ صغيرةٍ رثةٍ ، وقالتْ : توقفْ ، هذه خيمةُ جدتي ، آه هنا عشتُ طفولتي ، الطفولةُ مهما كانتْ فهي جميلةٌ .
وتوقفَ أكثم بحصانهِ ، وخاطبَ عسل قائلاً : عسل ، لقد وصلنا، ترجلي .
لم تترجلْ عسل ، وإنما ردتْ قائلةً : ترجلْ أنتَ أولاً ، وأنزلني ، يكادُ جسمي يلتصقُ بظهرِ الحصانِ .
وهزّ أكثم رأسهُ ، وترجلَ عن حصانهِ ، ثم مدّ يديه إلى عسل ، وساعدها على الترجلِ عن الحصانِ ، وتوقفتْ عسل بمدخلِ الخيمةِ ، ورمقتِ أكثم بنظرةٍ سريعةٍ ، ثمّ قالتْ : ستجنّ جدتي حين تراني .
وقالَ أكثم لها : ادخلي .
ودخلتْ عسل بخطواتٍ مترددةٍ متوجسةٍ ، ودخل أكثم وراءها ، وتوقفتْ مصدومةً إذ رأتْ جدتها متمددة في فراشها دون حراكٍ، فخاطبتها قائلةً : جدتي ..
وللحظةٍ بدا وكأن الجدةَ سمعتْ شيئاً ، ففتحتْ عينيها ، وتطلعتْ ملياً إلى عسل ، وهي ترتعشُ ، ثم قالتْ بصوتٍ مرتجفٍ: الحلمُ مرةً أخرى .. عسل ..
وأسرعتْ عسل إلى جدتها ، وانحنتْ عليها قائلةً : ليس حلماً، يا جدتي ، إنني عسل حقيقةً .
ومدتْ الجدةُ يديها المرتجفتين ، وأخذتْ وجهَ عسل بين كفيها، وقالتْ بنبرةٍ باكيةٍ : عسل .. طالما رأيتكِ إلى جانبي في الحلمِ ، وحين أفيقُ .. آه عسل .
وصمتتْ لحظةً ، ثم قالتْ من بين دموعها : الآنَ حقّ الموتُ ، كم كنتُ أخشى أن أموتَ ، قبلَ أن أراكِ ، وها أنا أراكِ .. يا عسل .
وانحنتْ عسل على جدتها ، وراحتْ تمطرها بالقبلِ ، وهي تقول: لن أدعكِ تموتين ، يا جدتي ، إنني بحاجةٍ إليكِ ، وأريدُ أن تفرحي لفرحي .
والتفتتْ عسل نحو أكثم ، وأشارتْ لجدتها إليه ، وقالتْ : جدتي ، هذا أكثم ..
وتساءلتْ الجدةُ مندهشةً : أكثم !
فتابعتْ عسل قائلةً : لقد أنقذني من الموتِ ، وأعادني سالمةً لك ، وسيبقى هنا معنا ..
وشعرَ أكثم بالحرجِ ، وهمّ أن يردّ على عسل ، لكن الجدةَ نظرتْ إليه ، وأشارتْ له بيدها المرتجفةِ : تعال .. يا بنيّ.. تعال .. تعال ..
واقتربَ أكثم من الجدةِ ، المتمددةِ في فراشها ، وكأنها هيكلٌ عظمي ، فتطلعتْ إليه بعينين منطفئتين ، غارقتين بالدموع ، وقالتْ : بنيّ ، إنني أكادُ أحتضرُ ، وما دمتَ قد أنقذتَ عسل ، فلا تتخلى عنها أبداً .

" 13 "
ـــــــــــــــــــــ
مرتْ أيامٌ عديدةٌ ، وأكثم في الخيمةِ حائرٌ ، لا يدري ماذا يفعلُ ، هل يبقى مع عسل والجدةِ المريضةِ ، أم يواصلُ طريقهً ، وظلّ في الخيمةِ حائراً ، ولم يدرِ ، ما الذي زادَ في تردده ، وأبقاهُ في الخيمةِ ، عسل وعيناها السوداوان الجميلتان ، أم الجدةُ .. أم ماذا ؟
وذات ليلةٍ ، وقد أغفت الجدةُ ، قالَ أكثم لعسل : لم أعدْ أتحملُ ، سأمضي غداً .
وخفقَ قلبُ عسل خوفاً ، وتساءلتْ : إلى أين ؟
ولاذَ أكثم بالصمتِ ، فهو لا يعرفُ إلى أين يمكنُ أن يمضي ، فتابعتْ عسل قائلةً : الصحراءُ متاهةٌ قاتلةٌ ، يا أكثم ، وأنا أخافُ عليكَ .
وهمّ أكثم أن يردّ عليها ، فرفعتْ إليه عينيها السوداوين الجميلتين ، وقد اغرورقتا بالدموعِ ، وقالتْ : ثم إنني وحيدةٌ ، وجدتي توشكُ على الموتِ .
وأطرقَ أكثم رأسهُ ، ثم نهضَ من مكانهِ ، وأوى إلى فراشهِ ، وهو يقولُ : إنني متعبٌ ، سأنام .
وتمددَ أكثم في فراشهِ ، وأغمضَ عينيه ، فقالتْ له عسل ، وقد جفتْ عيناها السوداوان الجميلتان من الدموعِ : تصبحُ على خيرٍ .
لم يردّ أكثم عليها ، لكنه لم ينمْ ، وظلَ يفكرُ في الجدةِ وعسل وأمهِ و .. وآه من و .. .
وحاولَ أكثم ، في الأيامِ التاليةِ ، أن يتشاغلَ ، ويتناسى ما كان يشغلُ تفكيرهُ ، وحاولتْ عسل من جهتها ـ رغم انشغالها بجدتها المريضةِ ـ أن تلهيه ، لكن دون جدوى ، وظلت الآفاقُ تناديهِ .
وذاتَ صباحٍ ، وعلى حين غرةٍ ، نهضَ أكثم من فراشهِ ، ورأتهُ عسل يتجهُ بهمة إلى الخارجِ ، وأدركتْ بإحساسها الأنثويّ ، ما ينوي عليه ، فهبتْ من فراشها ، ولحقتْ به إلى الخارجِ .
وما إن رأتهُ ، يهمّ بامتطاءِ حصانهِ ، حتى أسرعتْ إليهِ ، وتشبثتْ بذراعهِ ، وقالتْ : أكثم ، أنتَ تنتحرُ .
وامتطى أكثم حصانهُ ، وهو يقولُ لها : دعيني ، لم أعدْ أتحملُ ، إنني أختنقُ .
وأمسكَ أكثم زمامَ حصانهِ بقوةٍ ، فخاطبتهُ عسل قائلةً ، والدموعُ تغرقُ عينيها : أعرفُ ماذا تريدُ ..
وحثّ أكثم حصانهُ ، وانطلقَ به مبتعداً ، فحاولتْ عسل أن تلحقَ به ، لكنها سرعان ما توقفتْ ، حين ابتعدَ عنها بحصانهِ ، فصاحتْ بأعلى صوتها : أكثم ، مهما ابتعدتَ ، ستعودُ إليّ ، وسأنتظرك .
ووقفتْ عسل تتابعُ أكثم ، بعينيها السوداوين الجميلتين ، الغارقتين بالدموع ، حتى اختفى هو وحصانهُ ، وقفلتْ عائدةً إلى داخلِ الخيمةِ ، فنظرتْ جدتها إليها ملياً ، ثم قالتْ : لقد ذهب أكثم ..
فردتْ عسل من بين دموعها : سيعودُ .
وعادَ أكثم ، بعد حولي أسبوع ، مغبراً ، متعباً ، مهدماً ، وحين رأته عسل يدخلُ عليها الخيمةَ ، هبتْ إليه وهي تشهقُ ، وتلقتهُ بين ذراعيها ، وابتسمتْ ، وقالتْ : قلتُ لك ستعودُ ، وها أنتَ قد عدتَ .
وفرحت الجدةُ بعودتهِ ، فنظرتْ إليه ، وقالتْ بصوتها الخافتِ المرتجفِ : أهلاً بعودتكَ ، يا أكثم ، لم يكن لي ولدٌ ، أنتَ ولدي .
وأسندَ أكثم رأسهُ على كتفِ عسل ، وقالَ بصوتٍ متعبٍ خافتٍ : عسل ، إنني مريضٌ .
وتحسستْ عسل جبهتهُ ووجنتيهِ ، ثم قالتْ له : لستَ مريضاً ، تعالً إلى فراشكَ ، ونمْ ، وسترتاحُ .
ووضعتهُ في فراشهِ ، ودثرتهُ جيداً ، وقالتْ له بنبراتٍ فرحةٍ: نمْ ، يا أكثم ، نمْ ، وسترتاحُ .
ونام أكثم لكنه لم يرتحْ ، وإنما راحَ يئنُ ويتأوه ، وهو يتململُ في نومهِ ، وتحسستْ عسل جبهتهُ ، ونظرتْ إلى جدتها قلقةً ، وقالتْ : حرارتهُ مرتفعةٌ .
فاعتدلت الجدةُ قليلاً ، وقالتْ لها : لا تقلقي ، يا بنيتي ، ضعي على جبهته ، كماداتٍ مبللةً بالماءِ ، إنه شابٌ قويٌ ، ستنخفضُ حرارتهُ ، وسيشفى .
وظلتْ عسل إلى جانبهِ ، لا تفارقهُ حتى حلّ الليلُ ، وهي تبدلُ كماداتهِ المبللةَ بالماءِ ، وتنتظرُ أن تنخفضَ حرارتهُ ، دون جوى ، وقد تعبتْ عند منصفِ الليلِ ، حتى غلبها النعاسُ ، فأغمضتْ عينيها ، وأغفتْ .
وانتبهتْ إليه ، وقد انتصفَ الليلُ ، واستغرقتْ جدتها في النومِ ، وإذا هو يتململُ ويتفوهُ بكلماتٍ لا تكادُ تُفهمُ ، وأنصتتْ إليه ، وهو يقولُ : أمي .. أمي .. أريدُ أن أعودَ.. ليا .. ماذا عنها .. نعم .. ليا .. ليا ..
وصمتَ أكثم ، وتوقفَ عن التململِ والهذيانِ ، واستغرقَ في النومِ ، وحدقتْ عسل فيه ، وهي تقولُ في نفسها : أمه .. هذا مفهوم .. فمن هي ليا ؟ .. يا ويلي .
وعند الفجرِ ، أفاقَ أكثم ، وفتحَ عينيه المتعبتين ، فأطلتْ عسل عليه ، وقد تورمتْ عيناها ، هل نامتْ ، من يدري ، فقالَ لها أكثم : عطشان .. عطشان ..
وجاءتهُ عسل بطاسةِ ماءٍ ، ورفعتها إلى شفتيهِ ، وقبل أن تميلها ليشربَ ، سألتهُ : من .. ليا ؟
وبرقتْ عينا أكثم ، وتمتمَ : ليا !
وقالتْ عسل : سمعتكَ تهذي باسمها .
وقالَ أكثم : اسقيني الآن .
وأمالتْ عسل الطاسةَ ، وراحتْ تسقيه ، وهي تقولُ من بين أسنانها : سأعرفُ من ليا .. ومنكَ بالذات .. اشربْ الآن .. اشرب وارتوِ .

" 14 "
ـــــــــــــــــــــ
خلالَ أيامٍ قليلةٍ ، وكما قالتْ جدتها ، وبفضلِ رعايتها أيضاً ، تماثلَ أكثم للشفاءِ ، وسرعان ما استعادَ قوتهُ ، ونهضَ على قدميهِ ، وراحَ يتجولُ في الجوارِ وحدهُ ، أو برفقةِ ظلهِ عسل .
لكن عسل ، خلالَ تلك الأيامِ ، والأيامِ التاليةِ ، لم تشفّ من ليا ، وظلّ قلبها يخفقُ قلقاً ، من ليا هذه ؟ وما موقعها من قلبِ أكثم ؟ هذا ما يجبُ أن تعرفهُ ، عاجلاً أو آجلاً ، ولتعرفهُ عاجلاً ، وإلا لن تشفى .
وهمتْ عسل ، أكثرَ من مرةٍ ، أن تسألَ أكثم ، وهما يتجالسان في الخيمةِ ، أو يتجولان جنباً إلى جنبٍ ، في أرجاءِ الواحةِ، عن هذه ال .. ليا ، التي أرقتها ليلاً ونهاراً ، لكنها تتراجعُ في اللحظةِ الأخيرةِ ، وترجئ ذلك للأيامِ القادمةِ التاليةِ .
وتعافى أكثم تماماً ، وعادَ للعنايةِ بحصانهِ ، الذي رعتهُ عسل طوالَ فترةِ مرضهِ ، فراحَ يأخذهُ وحدهُ إلى المرعى ، أو إلى الغديرِ ، أو يمتطيهِ ، ويتجولُ به في أطرافِ الواحةِ ، وهذا ما لم تكنْ عسل ترتاحُ إليه ، وغالباً ما كانت تقولُ له : ابقَ في الخيمةِ ، ما زلتَ متعباً ، أنتَ لم تتعافَ تماماً.
وذاتَ يومٍ ، عند الضحى ، وكان مع عسل خارجَ الخيمةِ ، قالَ أكثم لها : يُقالُ أنّ في مكان قريبٍ من الصحراءِ ، توجدُ أعدادٌ من الغزلانِ .
وردتْ عسل قائلةً : نعم ، يخرجُ أحياناً بعضُ الشبابِ ، ويتلهون بالصيدِ منها .
ونظرَ أكثم إليها ، وقالَ : مادامَ الأمرُ كذلكَ ، سأذهبُ غداً، وأصطادُ غزالةً لكِ .
وعلى الفور ، ردتْ عسل قائلةً : كلا ، لا أريدُ غزالةً ، أنتَ ما زلتَ مريضاً .
وحدقَ أكثم فيها ، وقالَ بصوتٍ هادئ : لم أعدْ مريضاً ، تعالي معي ، وانظري كيفَ سأطارد الغزلان ، واصطادُ واحدةً منها ، لها عينان تشبهان عينيكِ .
ورغم هذا ، ردتْ عسل قائلةً : لا ، جدتي مريضةٌ ، ولا أريدُ أن أتركها وحدها في الخيمةِ .
ولاذَ أكثم بالصمتِ لحظةً ، ثم استدارَ ، ودلفَ إلى الخيمةِ ، وهو يقولُ : الأفضلُ والحالةُ هذه ، أن أدخلً الخيمةَ ، وأبقى فيها طولَ النهارِ .
لم ترد عسل بكلمةٍ واحدةٍ ، لكنها ابتسمتْ ، وقالتْ في نفسها : هذا أفضلُ .
وانتبهتْ عسل إلى شابٍ ، في حوالي العشرين من عمره ، يقتربُ منها ، وهو ينظرُ إليها ، وحدقتْ فيه ملياً ، إنها لم تره في الواحةِ من قبلُ ، وخاطبها الشابُ قائلاً : سألت عن خيمةِ فتاة اسمها عسل ، فأشاروا ..
وقاطعتهُ عسل قائلةً : أنا عسل .
وحدقَ الشابُ فيها صامتاً ، فقالتْ عسل : تفضل .
فقال الشابُ : في الحقيقةِ ، أنا أريدُ أكثم ..
وقالتْ عسل مندهشةً : أكثم !
فقال الشابُ : أنا ابن عمه ، وأريدُ أن أراهُ .
وقالتْ عسل : إنه في الداخلِ ، سأناديهِ .
ودخلتْ عسل الخيمةَ ، وسرعان ما خرجتْ يسبقها أكثم ، وما إن رأى الشابَ ، حتى قالَ مندهشاً : نوفل !
ومدّ نوفل يدهُ متردداً ، فصافحهُ أكثم بشيءٍ من الحرارةِ ، وقالَ : لم أتوقعْ أن أرى أحداً منكم .
فمالَ نوفلُ عليهِ ، وقالَ : جئتكَ لأمر غاية في الأهميةِ ..
وحدقَ أكثم فيه ، دون أن يتفوهَ بكلمةٍ ، فقالَ بصوتٍ يشي بالخطورةِ : ليا ..
واتسعتْ عيا عسل عند سماعها بالاسمِ ، إنها ليا ، ترى من هي ؟ وراحَ قلبها يخفقَ بشدةٍ ، واضطربَ خفقانُ قلبها ، حين سمعتْ نوفل يقولُ : أختي .. خُطفتْ ..
واربدّ وجهُ أكثم ، ومدّ يدهُ ، وأمسكَ بذراع الشابِ نوفل ، ودفعهُ جانباً ، وهو يقولُ : تعالَ ، وحدثني عن هذا الأمرِ ، بالتفصيل .
وظلتْ عسل واقفةً وحدها ، عند مدخلِ الخيمةِ ، وقلبها يخفقُ غضباً وغيظاً ، ليا التي كان يلهجُ باسمها في هذيانهِ ، إذن هي ابنةُ عمهِ ، لابدّ أنها سمراءُ مثل أخيها ، وأنا البلهاء، السوداءُ ، أقفُ متفرجةً ، و ..
ها هو أكثم قادمٌ ، مربدّ الوجهِ ، غاضبٌ ، ليكن ، لن أصمتْ، لن أنفجرَ الآن ، سأنفجرُ ، نعم ، فلأرجئ هذا الآن ، وخاطبته متسائلةً : أين ابن عمكَ ، نوفل ؟
فردّ قائلاً ، وهو يدلفُ إلى الخيمةِ : جاءَ مع اثنين من القبيلةِ ، وعادَ معهما إلى الواحةِ .
ودلفتْ عسل وراءهُ ، وهمتْ أن تتحدثَ إليه ، فقالَ لها بحزمٍ: دعيني الآن ، إنني متعبٌ ، سأنامُ .





" 15 "
ـــــــــــــــــــــ
لم تشرقِ الشمسُ بعد ، حين استيقظَ أكثم ، وسرعان ما هبّ إلى الخارجِ ، وقبلَ أن يصلَ إلى حصانهِ ، أدركتهُ عسل ، وتشبثتْ به قائلةً : أكثم ..
وحاولَ أكثم أن يبعدها عنهُ ، وهو يقولُ : دعيني الآن ، يا عسل ، لدي شيءٌ هامٌ .
وبدلَ أن تدعهُ عسل ، تشبثتْ به قائلةً : لا أهمّ منكَ ، أصغِ إليّ ، يا أكثم .
ودفعها أكثم عنهُ ، فتداعتْ نحو الأرضِ ، لكنها تماسكتْ ، ووقفتْ على قدميها ، وفي الأثناءِ وثبَ أكثم فوقَ صهوةِ حصانهِ، فصرختْ عسل : أعرفها .. إنها ليا .. وأنتَ تركضُ إلى الموتِ من أجلها .
ومضى أكثم على حصانهِ مسرعاً ، دون أن يلتفتَ إلى عسل ، وليس في رأسهِ إلا ليا ، ابنةُ عمهِ ، التي اختطفتْ ، وسُلمتْ إلى شيخِ القبيلةِ .
وظلّ أكثم طوالَ النهارِ ، يقطعُ الصحراءَ المقفرةَ ، على حصانهِ الذي تجاوبَ معهُ ، وبدا وكأنهُ يتعاطفُ مع رغبتهٍ في الوصولِ إلى ليا ، التي يحجزها الشيخُ ، دون أن يتباطأ لحظةً واحدةً .
وقبيلَ غروبِ الشمسَ ، وصلَ أكثم إلى الواحةِ ـ الهدفِ ، وتوجهَ مباشرةً إلى الخيمةِ الكبيرةِ المميزةِ للشيخِ ، ومن هنا ستبدأ مهمتهُ الأصعبُ .. ليا .
والشيخُ ، في تلكَ اللحظةِ ، لم يكنْ في خيمتهِ ، وإنما أمامَ مدخلها ، ولمحَ في الشمسِ ، التي توشكُ على الغروبِ ، فارساً يقبلُ على حصانهِ ، فقالَ لابنهِ نوفل ، الذي يقفُ إلى جانبهِ: انظرْ ، ذاك الفارس يبدو في عمرك .
ونظرَ نوفل إليهِ ، وهو يقتربُ على حصانهِ منهما : إنهُ أسودُ البشرةِ ، يا أبي .
وحدقَ الشيخُ فيهِ ، وقالَ : إنه يمتطي حصاناً أصيلاً .
وقالَ نوفل : من يدري ، لعله سرقهُ .
وردّ الشيخُ قائلاً : هذا الشابُ ، لا يبدو سارقاً .
وتوقفَ أكثم قريباً من الشيخِ وابنهِ نوفل ، وترجلَ عن حصانهِ المتعبِ ، واقتربَ منهما ، وعيناه تتأملانِ الشيخَ ، وخاطبهُ قائلاً : طابَ مساءك ، سيدي الشيخ .
ورمقَ الشيخُ ابنهُ نوفل بنظرة سريعةِ ، ثم حدقَ في أكثم ، وردّ قائلاً : أهلاً ومرحباً .
ودققَ الشيخُ في أكثم ، ثم قالَ : تبدو غريباً عن ديارنا ..
وسكتَ الشيخُ ، فقال أكثم : أنا أكثم .
وبدا على الشيخِ ، أنهُ يحاولُ تذكرَ الاسمِ ، ثم قالَ : أظنُ أنكَ من رجالِ بسطام .
فردّ أكثم قائلاً : رافقتُ بسطام في الصحراءِ أياماً ، لكني لم أكنْ من رجالهِ .
وحدقَ الشيخُ فيهِ ، وقالَ : لقد حدثنا أحدهمْ عنكَ ، وقالَ إنكَ فتى شجاعٌ ، وأنكَ أنقذتَ فتاةً غامقةَ السمرةِ من العبوديةِ ، وهي لم تكنْ في الأساسِ عبدةٌ .
فقالَ أكثم : نعمْ ، وهي الآنَ عند جدتها .
ورمقَ الشيخُ ابنهُ نوفل بنظرةٍ سريعةٍ مبتسماً ، ثم قالَ : هذا عملٌ بطوليٌ ، تُحمدُ عليهِ .
وصمتَ الشيخُ ، فمالَ أكثم عليهِ ، وقالَ بصوتٍ هادئ : سيدي الشيخ .
فقال الشيخ : يبدو أنك جئتني لأمر ..
فقالَ أكثم : أمر هام للغايةِ .
وقالَ الشيخُ : مادامَ الأمرُ هاماً ، تعالَ ندخلُ الخيمةَ .
ودخلَ الشيخُ وابنهُ نوفل الخيمةَ ، ودخلَ أكثم معهما ، وجلسَ الشيخُ ، وأشارَ إلى حشيةٍ قريبةٍ منهُ ، وقالَ لأكثم : تفضلْ ، اجلسْ هنا .
وجلسَ أكثم ، ثم نظرَ إلى الشيخ ، وقالَ : أنقذتُ تلك الفتاةَ ، وأعدتها سالمةً إلى جدتها ، وجئتُ طامعا بكرمكَ وإنسانيتكَ ، أريدُ ليا .
ونبرَ ابنُ الشيخ نوفل بشيءٍ من الانفعالِ : كلا ..
وأشارَ الشيخُ لابنهِ ، فلاذَ بالصمتِ ، ثم نظرَ إلى أكثم ، وقالَ : أنتَ شديدُ السمارِ ، وليا ..
فقالَ أكثم : ليا ابنةُ عمي ..
ولزمَ الشيخُ الصمتَ ، يبدو أنه لم يقتنعْ ، فتابعَ قائلاً : أمي منكمْ ..إنها لبابة ..
ولاذ الشيخُ بالصمتِ لحظاتٍ ، ثم قالَ : قومُ ليا سبوا أمكَ قبلَ سنواتٍ بعيدةٍ .
فردّ أكثم قائلاً : سباها واحدٌ من قومِ ليا ، وقد أخذها أبي منه ، وأواها في حِماه ، وأحسنَ معاملتها .
وصمتَ أكثم ، ونظرَ إلى الشيخ ، ثم قالَ : أنا الآنَ خارجٌ على القبيلةِ ، وقررتُ أن أعودَ أنا وأمي إليكمْ .
فقالَ الشيخُ : أهلاً ومرحباً ، نحنُ أهلكم .
وتابعَ أكثم قائلاً : لكن ليا تبقى ابنةَ عمي ، وأنتَ لا ترضى لابنكم أكثم ، أن تكون ابنةُ عمهِ سبيةً .
ولاذَ الشيخُ بالصمتِ ، ثم نظرَ إلى ابنهِ نوفل ، فأطرقَ نوفل رأسهُ ، وقالَ : الأمرُ لكَ يا أبي .
ونظرَ الشيخُ إلى أكثم ، وقالَ لهُ مبتسماً : ليا ابنةُ عمكَ ، وهي ضيفةٌ عزيزةٌ عندنا ، ولكَ أن تأخذها وتمضي بها غداً ، وتعيدها إلى قومها معززةً مكرمةً .






" 16 "
ـــــــــــــــــــــ
قبل أن تأويَ ليا إلى فراشها ، في تلكَ الليلةَ ، التي وصلَ فيها أكثم إلى الواحةِ ، ولم تعلمْ هي بذلكَ ، جاءتْ إليها ابنةُ الشيخ آصال ، وكانتْ في عمرها تقريباً ، واقتربتْ منها ، وهمستْ لها : ليا ..
ونظرتْ ليا إليها صامتةً ، فتابعتْ آصال قائلةً بصوتٍ هامس : أبشركِ ..
لاذتْ ليا بالصمتِ ، فبماذا يمكنُ أن تبشرها ابنةُ الشيخ ، الذي يحتجزها في إحدى خيامهِ ؟ ومالتْ عليها آصال قليلاً ، وقالتْ : جاءَ شابٌ من قومكِ ، وقابلَ أبي .
وخفقَ قلبُ ليا ، ربما بشيءٍ من الأملِ ، فأبوها وقومها لن يتخلوا عنها ، وبدا وكأن آصال تنظرُ إلى البعيدِ ، وهي تقولُ : يا له من شابٍ .. يبدو قوياً .. شجاعاً .. ووسيما.. لولا أن بشرتهُ ..
ولمعتْ عينا ليا ، أيعقلُ أنه .. لا .. لا .. فأكثم بعيدٌ عن الديار .. وأبوها قد حذرهُ .. ترى من يكون ؟ وتوجهتْ ليا إلى فراشها ، وهي تقولُ : سأخلدُ إلى النومِ ، تصبحين على خير .
واستدارتْ آصال ، وغادرت الخيمةَ ، وهي تقولُ : وأنتِ بألفِ خيرٍ .
وتمددتْ ليا في فراشها ، وأغمضتْ عينيها ، وفيما هي تستغرقُ في النومِ ، كانت ما تزالُ تفكرُ فيمن يكون هذا الشابُ ، الذي لولا بشرته ..
وفي اليومِ التالي ، بعد أن أشرقتِ الشمسُ ، جاءتها آصال ، وهتفتْ بها مبتسمةً : ليا ..
وردتْ ليا هذه المرة : نعم .
وتابعتْ آصال قائلةً : تعالي ، أبي ينتظركِ ، مع الشابِ الذي جاءَ إليكِ ، هيا أسرعي .
ومضتْ ليا مع آصال ، وهي متشوقةٌ لتعرفَ من هو هذا الشابُ ، الذي جاءَ إليها ، وكادتْ تشهقُ ذهولاً ، حين رأتْ أكثم يقفُ بين الشيخ وابنهِ نوفل .
ولمحتْ أكثم يرمقها بنظرةٍ سريعةٍ ، دون أن يبدو على وجههِ أيةُ مشاعر ، مهما كان نوعها ، ورآها الشيخُ مقبلةً مع ابنتهِ آصال ، فخاطبها قائلاً : تعاليْ يا ليا .
واقتربتْ ليا من الشيخ على استحياءٍ ، فأشارَ إلى أكثم ، الذي يقفُ إلى جانبه ، وقال لها : هذا الشابُ يقولُ إنه من قومكِ ، انظري إليه ، هل تعرفينه ؟
وردتْ ليا قائلةً : نعم ، إنه .. أكثم ..
ونظرَ أكثم إليها ، فرفعتْ عينيها إليه ، وحدقتْ فيه ، ثم قالتْ : ابن عمي .
وجاءَ أحدهمْ بحصانٍ مسرج ، فأمسكَ الشيخُ بزمامهِ ، وقدمهُ لأكثم ، وقالَ : هذا ما طلبتهُ لابنةِ عمكَ ليا ، وهو هديةٌ منّا لها ، تفضلْ .
وأمسكَ أكثم زمامَ الحصانِ ، وقالَ للشيخ : أشكركُ ، يا شيخُ، هذا تكريمٌ لي ، أنا ابنكمْ .
وابتسمَ الشيخُ له ، وقالَ بصوتٍ هادئ : نحنُ ننتظركَ أنتَ وأمكَ لبابة .
وأمسك أكثم بيد ليا ، وساعدها على امتطاءِ الحصانِ ، وهو يقولُ لها : هيا ، الوقتُ يمرّ ، لنمضِ ، لعلنا نصلُ واحتنا قبلَ حلولِ الليلِ .
وانطلقَ أكثم على حصانهَ ، وانطلقتْ ليا على حصانها على مقربةٍ منهُ ، ووقفَ الشيخُ وابنهُ فالح وابنتهُ آصال ، يتابعونهم بأنظارهم ، حتى غابوا تماماً .
وطوالَ طريقِ العودةِ ، لم يتبادلْ أكثم وليا إلا كلماتٍ قليلةٍ جداً ، وحتى عندما توقفا ، بعد منتصفِ النهارِ ، ليرتاحا قليلاً ، ويريحا حصانيهما ، ويتناولا بعضَ الطعامِ ، لم يتبادلا إلا ما هو ضروري من الكلامِ ، والحقيقةُ أن ليا ، من جهتها على الأقلِ ، أرادتْ أن تتحدثُ إليه ، لكنه كان يتجنبُ ذلك .
وأخيراً ، عند المساءِ تقريباً ، لاحت الواحةُ من بعيدٍ ، فتوقفَ أكثم ، وقالَ لليا ، التي توقفتْ إلى جانبهِ : تلكَ هي الواحةُ ، اذهبي ، رافقتكِ السلامةُ .
لكن ليا ظلتْ في مكانها ، والتفتتْ إلى أكثم ، وخاطبته قائلةً : أكثم ..
ولاذ أكثم بالصمتِ ، دون أن يلتفت إليها ، فتابعتْ قائلةً بصوتٍ دامعٍ : أرجوكَ سامحني .
وظل أكثم صامتاً ، فقالت ليا : أشكركَ .
وهمزتْ ليا حصانها ، فسارَ بها مبتعداً ، وشعرتْ بقلبها يخفقُ بشيءٍ من الفرح ، حين سمعتْ أكثم ، يقولُ لها بصوتٍ هادئ : رافقتكِ السلامةُ .
وعند حلولِ الظلامِ ، تسللَ أكثم إلى الواحةِ ، وفوجئتْ أمهُ به يدخلُ عليها الخيمةَ ، فهبتْ شاهقةً : أكثم ..
ومدتْ يديها ، وأخذتهُ إلى صدرها ، وعادَ ذلك الطفلُ ، الذي يستكينُ إلى دفءِ صدرِ أمهِ ، وراحتْ ترددُ من بين دموعها : أكثم .. ابني .. ابني .. ابني .
ورفعَ أكثم عينيه إليها ، وقالَ لها : أعدتُ ليا من مختطفيها ..
ونظرتْ الأمُ إليه ، فقالَ لها : سأحدثكِ عن كلّ شيءٍ فيما بعد، يا أمي ..
وسكتَ لحظةً ، ثم قالَ : غداً ، قبلَ شروقِ الشمسِ ، سآخذكِ بعيداً عن هذه الواحةِ ، ونذهبُ إلى الواحةِ التي ولدتِ فيها .


" 17 "
ــــــــــــــــــــــ
مع المساءِ خرجتْ آخرُ امرأةٍ من خيمةِ عسل ، وجميعُ النساءِ ، السمراواتِ منهن والسوداواتِ ، جئن ذلك اليومَ لتعزيةِ عسل بوفاةِ جدتها العجوزِ .
وحين صارتْ عسل وحدها في الخيمةِ ، وقد بدأ الليلُ يطبقُ عليها ، أجهشتٍ في البكاءِ ، رغمَ قوتها ، وصلابتها ، فقد أدركتْ بأنها غدتْ وحيدةً ، في هذهِ الصحراءِ ، التي اسمها الحياة .
وشعرتْ عسل بأنّ قواها تخورُ ، وبأنها تكادُ تختنقُ ، هواء.. هواء .. أريدُ هواءً ، وهمتْ أن تخرجَ من قضبان الخيمةِ وعتمتها ، وتعبُ الهواءَ طلقاً ، لعله يعيدُ إليها بعضَ ما كانتْ دوماً عليهِ ، من حيويةٍ وصلابةٍ وعنادٍ ، وشهقتْ متمتمةً: أكثم ..
لكن .. أين أكثم ؟
هذه هي اللحظةُ ، التي تحتاجُ فيها إليهِ ، فلا أحدٌ يستطيعُ أن يساندها ، ويشعرها بأنها حيةٌ ، إلا أكثم نفسهُ ، ولكن بدلَ أن يكونَ أكثم إلى جانبها ، يساندها ويواسيها ، ذهبَ إلى ابنةِ عمهِ .. ليا .
وتناهى من بعيدٍ ، من عمقِ الصحراءِ والليلِ ، صوتٌ يهتفُ كما لو كان ريحاً : عسل .. عسل ..
ورفعتْ عسل رأسها ، وعيناها غارقتان بالدموعِ ، وراحتْ تنصتُ ، إنهُ أكثم ، نعم ، فهذا صوتهُ ، الذي تعرفهُ جيداً ، لكن أكثم ذهبَ إلى ليا ، ذهبَ إلى ابنةِ عمهِ ، ذهبَ ولن يعودَ ، لكن هيهاتْ .
ومن الليلِ والصحراءِ ، انبثقَ أكثم من مدخلِ الخيمةِ المتهرئةِ ، ومعه امرأةٌ متوسطةُ العمرِ ، لها لونهُ وبعضُ ملامحهِ ، ونسيتْ عسل نفسها ، ونسيتْ أن جدتها قد ماتتْ قبل يومين فقط ، فهبتْ صارخةً ، وارتمتْ على صدرهِ بقوة ، وهي تشهقُ : أكثم .. أكثم ..
وابتسمَ أكثم محرجاً ، ورمقَ أمهُ بنظرةٍ سريعةٍ ، ثمّ دفعَ عسل برفقٍ عنه ، وهو يقولُ لها : عسل .. كفى جنوناً .. كفى .. انظري .
ورفعتْ عسل عينيها إليهِ ، وقالتْ : لو لم تأتِ ، يا أكثم ، لخرجتُ أبحثُ عنكَ في الصحراءِ كلها ، فأنتَ لي ، ولن تفلتَ مني ، مهما كلفَ الأمرُ .
وهزّ أكثم رأسهُ مبتسماً ، ثم أشارَ إلى أمهِ ، وقالَ لعسل : أنظري ، إنها أمي .
ونظرتْ عسل إلى أمِ أكثم لبابة ، من خلالِ دموعها ، التي تغرقُ عينيها ، وقالتْ بصوتٍ باكٍ : أهلاً ومرحباً .. أهلاً بك.. أهلاً .. أهلاً ..
وصمتتْ لحظةً ، ورمقتْ أكثم بنظرةٍ سريعةٍ ، ثم قالتْ بصوتٍ باكٍ : أكثم .. لقد ماتتْ جدتي .
وبسرعةٍ نظرَ أكثم إلى حيثُ كانتِ الجدةُ تتمددُ ، وهي مريضة، كان المكان خالٍ ، فنظر إلى عسل ، وقال بصوتٍ حزينٍ : متى؟
فردتْ عسل بصوتٍ باكٍ : في اليومِ التالي ، الذي غادرتنا فيه ، تدهورتْ صحتها ، ربما تأثرتْ لذهابكَ ، وماتتْ عند المساءِ ..
وتقدمتْ أم أكثم منها ، وأخذتها إلى صدرها ، وقالتْ لها : لا عليكِ ، يا ابنتي ، كلنا إلى هذا الطريقِ ، وقد علمتُ من أكثم أنها امرأةٌ مسنةٌ مريضة .
وتمتمتْ عسل بصوتٍ باكٍ : نعم ، كانتْ مسنةً ومريضةً ، لكن .. لم يبقَ لي أحد في الحياةِ .
وردتْ لبابة قائلةً : لديكِ الكثيرُ ، فأنتِ شابةٌ ، وجميلةٌ ، والعمرُ أمامكِ طويلٌ .
وأطرقتْ عسل رأسها ، ومازالتْ الدموعُ تغرقُ عينيها السوداوين الجميلتين ، ونظرَ أكثم إلى عسل ، وناداها بصوتٍ يعرفُ أنه يُحييها : عسل ..
ورفعتْ عسل إليه عينيها السوداوين الجميلتين ، وقد بدأ الدمعُ يجفُ فيهما ، ونسيتُ أنها حزينةٌ ، وأن جدتها قد ماتتْ منذ يومين ، واقتربتْ منهُ ، حتى أوشكتْ أن تلتصقَ به، وقالتْ : نعم .
وقالَ لها أكثم : كفكفي دموعكِ ..
ومدتْ عسل يدها إلى عينيها السوداوين الجميلتين ، اللتين عاد اللمعان إليهما ، وراحتْ تمسحُ ما تبقى من الدموع عنهما ، ثم نظرتْ إلى أكثم ، ووجهها كله ابتسامةٌ ، فنظرَ أكثم إلى أمهِ ، وقالَ : أمي .. انظري ، يا أمي ..
ونظرتْ الأمُ مبتسمةً ، نظرتْ إلى أكثم أولاً ، ثمّ نظرتْ إلى عسل وابتسامتها ، التي تملأ وجهها الشابَ الغامقَ السمرةِ ، وقالتْ : إنني أنظرُ ، يا بنيّ .
فأشارَ أكثم إلى عسل ، وقالَ : هذهِ هي عسل ، التي حدثتكِ عنها ، يا أمي .
واتسعتْ ابتسامةُ الأمِ لبابة ، وهي تنظرُ إلى عسل ، وقالتْ : هذا هو العسل ، الذي تحتاجهُ .
واقتربَ أكثم من عسل ، وحدقَ في عينيها السوداوين الجميلتين ، وقالَ لها : اسمعي يا عسل ..
ونظرتْ عسل إليه ، وقالتْ : قل ، يا أكثم .
وتابع أكثم قائلاً : سنأخذكِ غداً ، أنا وأمي ، ونذهبُ لنعيشَ معاً في الواحةِ ، التي ولدتْ فيها أمي .
والتفتتْ عسل إلى أمِ أكثم لبابة ، وارتمتْ على صدرها ، وقالتْ بصوتٍ هادئ : أمي .
وعانقتها لبابة مبتسمةً فرحةً ، وهي تقولُ : بنيتي ، ستكون حياتكِ وأكثم ، كلها عسل ..
27 / 10 / 2022










خزامى الصحراء











شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ خزامى

2 ـ قتادة

3 ـ مرنان

4 ـ انمار

5 ـ اصيلة











" 1 "
ــــــــــــــــ
على عادتها ، وحتى عندما كانت أمها على قيد الحياة ، حملت خزامى قربتها ، وخرجت من الخيمة ، ومضت نحو البركة ، التي تقع بعيداً بعض الشيء عن الخيام ، تحيط بها أشجار ناحلة ، كأنها تقاوم هجمات الصحراء برمالها الجافة القاتلة .
البركة خالية ، لا أحد فيها الآن ، رغم أن الوقت تجاوز منتصف النهار ، وخزامى تهرب بسنيها السبعة عشرة تقريباً ، من نفسها المثقلة بالهموم والمصاعب والأحلام ، وهي تهرب أيضاً من خيمتها ، التي غدت باردة موحشة خاوية ، منذ رحلت عنها أمها قبل أشهر .
ملأت خزامى القربة ، وجلست على حافة البركة ، وقد شردت حتى عن تغريد الطيور ، وهي تتناغى لبناء أعشاش جديدة لها ، فالحياة تتجدد ولا تقف عند العواصف ، وما تخلفه من خراب ومآسي .
وأفاقت من شرودها ، حين تراءى لها ، أنها تسمع وقع حوافر جواد ، ربما من بين الأشجار المحيطة ببركة الماء ، وأنصتت ملياً ، لا أثر لوقع حوافر الجواد ، يبدو أنها كانت واهمة ، أو هو صوت جياد الريح ، وهي تركض خفيفة فوق رمال الصحراء .
وأفاقت تماماً ، وانتفض قلبها الصغير المرهف ، " كعصفور بلله القطر " ، حين جاءها صوت تعرفه ، يهمس لها : آه أشم شذا خزامى .
والتفتت خزامى إليه مبتسمة ، إنه قتادة ابن أخي الشيخ ، فنهضت واقفة ، وقالت : الخزامى في القبيلة كثير ، ومن يدري أي خزامى تعني .
واقترب قتادة منها ، وقال : لا توجد إلا خزامى واحدة ، إنها .. خزامى الصحراء كلها .
ونظرت خزامى إليه ، وقالت : شاعر ..
تلامعت ابتسامة على شفتي قتادة ، بدت لخزامى سراب واحة وسط صحرائها ، ونظرت إليه ، وقالت : منذ أيام وأنت غائب في الصحراء .
فمال قتادة عليها ، وقال بابتسامته الساحرة : كنت أصطاد الغزلان ، يا خزامى .
وابتسمت خزامى بدورها ، وقالت : ستفرح أمك ، وكذلك ابنة عمكَ ، بما اصطدته .
فاعتدل قتادة ، وقال : لن تفرح أمي ..
وسكت لحظة ، ثم قال : طاردتُ غزالة ، طاردتها طويلاً ، حتى لم تعد تقوى على الهرب ، فأمسكتُ بها ، لكني عندما تأملت عينيها ، أطلقت سراحها .
وحدقت خزامى فيه ، فقال : كان لها عينان سوداوان ، جميلتان ، ساحرتان ، تشبهان عينين ساحرتين أعرفهما جيداً ، لزهرة من الصحراء اسمها .. خزامى .
وأغمضت خزامى عينيها ، وقلبها يخفق فرحاً ، وقالت : حمداً لله أنك لا تكتب الشعر .
ومال قتادة عليها ثانية ، وقال : يبدو أن عينيك ، يا خزامى ، ستجعلان مني شاعراً .
وحدقت خزامى فيه ، ورغم شعورها بالفرح ، قالت له : لا أدري كم غزالة فتية في صحرائنا ، قلت لها هذه الكلمات .
واستدارت خزامى ، متأهبة للعودة ، فلحق قتادة بها ، وقال : قلته وأقولها لغزالة واحدة ، يا خزامى .
ومضت خزامة مبتعدة ، وهي تقول : فلأذهب قبل أن تكتبني قصيدة .
وهمّ قتادة أن يلحق بها ، فقالت له خزامى : لا تأتِ بعدي مباشرة ، لا أريد أن يعرف أحد إننا كنّا معاً .







" 2 "
ـــــــــــــــــــ
قبيل المساء ، كانت خزامى منهمكة في إعداد الطعام داخل الخيمة ، عندما جاءها صوت نسائيّ آمر ، متعال ، غاضب : يهتف بها : خزامى .
وتوقفت خزامى ، هذه مرنان ، ابنة عمّ قتادة ، ومدعية الحق المطلق فيه ، وتجنّ إذا اقتربت فتاة منه ، مهما كانت مكانة أهل هذه الفتاة في القبيلة .
والتفتت خزامى نحوها ، ووجهتها بوجه متسائل ، وقالت : نعم ، يا مرنان .
واقتربت مرنان منها ، وقالت لها بنبرة وعيد : قلتُ لك مرة ، ولن أعيدها مرة أخرى ، لا تقربي من ابن عمي أبداً ، لا تقربي من قتادة .
ولاذت خزامى بالصمت ، وهي تحدق فيها ، فتابعت مرنان قائلة : لا تكذبي وتقولي ، إنكِ لم تقابليه اليوم ، إن لي عيوني ، ترصدك في كلّ مكان .
وقالت خزامى ، وهي مازالت تحدق في مرنان : أنا لا أكذب ، ولستُ بحاجة إلى الكذب ، وعلى عيونك أن يكونوا صادقين ، لم أقترب من ابن عمك قتادة ، هو الذي اقترب مني ، وأنا أملأ القربة من البركة .
ولاذت مرنان بالصمت لحظة ، ثمّ قالت ، قبل أن تخرج ، وتبتعد عن الخيمة : أنت يتيمة ، وحيدة ، وأنا لا أريد أن أؤذيك ، لكني لن أرحمك إذا تجاوزت حدودك .
وعادت خزامى إلى طعامها ، وواصلت إعداده كما تشتهي ، وجلست تأكل حالمة شاردة ، قتادة ، الشاب العشريني ، ابن أخي الشيخ ، وابنة عمه مرنان ابنة الشيخ نفسه ، صياد الغزلان ، وفارس الكلمات الدافئة العذبة ، حلم معظم فتيات القبيلة ، الكلمة الحاسمة ستكون له ، فلتحلم هي الأخرى .
وحلّ الليل ، وقد انتهت خزامى من طعامها ، ونظفت الأغراض ، ووضعتها في أماكنها ، ثم أوت إلى فراشها ، لا لتنام ، فالوقت مبكر ، وهي ليست متعبة أو ناعسة ، وإنما لتغمض عينيها ، وتحلم .
وفتحت عينيها الحالمتين ، على بطل حلمها قتادة ، يهتف بها من خارج الخيمة : خزامى ..
أهذا حقيقة ، أم أن قتادة يهتف بها في الحلم ، ستجن ، وجاءها الصوت ثانية ، وبنبرة أعلى : خزامى .
يا للفرح ، إنه هو ، ونسيت تحذير مرنان ، وهبت إلى الخارج ، وهي تردّ قائلة : نعم ، إنني قادمة .
وخرجت خزامى من الخيمة ، وإذا قتادة يقف في الظلام ، وقد تمنطق بسيفه ، فقالت خزامى : أهلاً قتادة ، نحن في الليل ، والبعض نيام .
ونظر قتادة إليها ، وقال : هناك خبر غير مؤكد ، لكني أردت أن تكوني على علم به .
وقالت خزامى ، وكل ظنها أن ما قاله قتادة إنما هي حجة ليراها : خيراً .
وتابع قتادة قائلاً : يقال أن أفراداً مسلحين من قبيلة معادية ، يجولون في الجوار ، ونخشى أن يغيروا علينا على حين غرة ، ويغدروا بنا .
وتطلعت خزامى إليه ، وتمتمت : قتادة ..
وابتسم قتادة لها ، وقال : أنت غزالتي ، لا تخافي مادت موجوداً قريباً منك .
وتابعت خزامى قائلة : مرنان كانت هنا .
واتسعت ابتسامة قتادة ، وقال : مرنان ابنة عمي .
وتراجع قتادة في الظلام ، وهو يقول : سنخرج صباح الغد ، إلى حيث شوهد المسلحون ، لن ندعهم يفاجئوننا ، فلي هنا غزالة أحرص عليها .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
نامت الخيام تلك الليلة ، ولم تنم ، وأرق كبار السن من الرجال والنساء ، رغم حاجتهم الشديدة للراحة والنوم ، فقد أقلقتهم أنباء أولئك المسلحين ، الذين قيل أنهم يتربصون في محيط مضاربهم الآمنة .
إنهم قلقون وخائفون ، قلقون مما قد ينزل بمضاربهم من نهب وحرائق ودمار ، ويخافون على صغارهم ، وخاصة الفتيات ، ولابد أن بعضهم قد خبر مثل هذه الغارات ، ورأوا القتلى والجرحى و .. الفتيات السبايا ، اللاتي اختفين ، ولم يُعرف لهن أثر فيما بعد .
ولعل القلق والخوف الذي اعترى كبار السن ، اعترى الشباب أيضا ، لكنه لم يقعدهم في الخيام ، وإنما جعلهم يحملون ما لديهم من سيوف أو رماح أو خناجر ، ويطوفون طول الليل ، بين الخيام الهاجعة ، يراقبون كلّ شيء ، ويدرؤون الخطر عن النيام .
وعند الفجر ، قبل شروق الشمس ، وقد هجعت الخيام جميعاً ، امتطى بعض الشباب الفرسان خيولهم ، مدججين بالسلاح والعزيمة ، يتقدمهم فارسهم الأول قتادة ، وانطلقوا إلى عمق الصحراء ، حيث قيل أن المسلحين شوهدوا هناك ، يحومون ، وينتظرون فرصتهم للإغارة على مضاربهم ، والنيل منهم .
واستيقظت الخيام خيمة بعد خيمة ، مع استيقاظ شمس ذلك اليوم ، واستغرق الجميع ، وخاصة النساء والفتيات ، في أعمالهم اليومية ، من حلب الأغنام والنوق ، وإعداد طعام الفطور ، و.. استقبال يوم جديد .
وعند الضحى ، وبعد أن فرغت من تناول فطورها ، أخذت خزامى قربتها ، رغم أن ماءها لم ينفد بعد ، وقد يكفيها ذلك اليوم كله ، ومضت كالعادة نحو البركة ، لعلها ترى قتادة ، أو تحظى بالهدوء بعض الوقت على حافة البركة ومائها المرآة ، و .. وتحلم وهي تنصت شاردة إلى مناغاة الطيور .
وانحدرت خزامى نحو البركة ، وقربة الماء بين يديها ، وبدت لها وكأن مياهها المرآة ، التي تتلامع تحت أشعة الشمس ، تتهلل لها وتناديها ، وتناهى إليها من داخلها ، ما دار البارحة ، وعلى ضفاف هذه البركة نفسها ، من حديث بينها وبين قتادة .
لم يطل الحديث بينها وبين قتادة ، وانقطع قبل نهايته كما ينقطع الحلم فجأة ، وأفاقت وقلبها العصفور الخائف يخفق في صدرها ، على أصوات مختلطة ، وصرخات مذبوحة وعويل ، و .. والتفتت نحو مصدر الأصوات .. إنها من المضارب ، ترى ماذا يجري ؟
واستدارت خزامى ، وهمت أن تقفل بسرعة عائدة إلى الخيام ، حين قطع الطريق عليها ، فارس غريب على حصانه ، لعله أكبر من قتادة بقليل ، فقالت له عابسة : ابتعد عن طريقي .
وترجل الفارس عن حصانه ، واقترب منها ، وقال : أنت محظوظة ، لأنك بعيداً عن خيام قومك .
وحدقت خزامى فيه ، وخمنت من يكون ، وقالت : يبدو أنني لست محظوظة كما تظنّ .
وسكت لحظة ، ثم قالت وهي تهم بمواصلة سيرها : ابتعد عن طريقي .
فردّ الفارس قائلاً : طريقك منذ الساعة طريقي ، ولن يكون لك طريق غيره .
وفوجئت خزامى بالفارس الغريب ، يأخذها بيديه القويتين ، ويلقيها فوق صهوة حصانه ، ثم يقفز خلفها ، وقال : ستكون لك حياة جديدة ، آمل أن تروق لك .

" 4 "
ــــــــــــــــــ
طوال ساعات الصباح ، وحتى ارتفاع الشمس في السماء ، ظلّ قتادة ومن معه من الفرسان ، يطوفون على خيولهم ، في محيط المنطقة الصحراوية ، التي قيل لهم يوم أمس ، أن المسلحين يجولون فيها ، لكنهم لم يعثروا لأي فارس منهم على أثر .
وبعد منتصف النهار ، وقد جابوا المنطقة كلها ، شدّ قتادة زمام حصانه ، حتى توقف تماما ، ونظر إلى رفاقه الفرسان ، وقال : أخشى أن ما بلغنا ، عن وجود فرسان يتربصون بنا ، كان كذباً .
ولاذ الجميع بالصمت ، وكأنهم يوافقون جميعاً على ما قاله قتادة ، لكن صوتاً من بين الفرسان ، خرج على الصمت ، وقال : أو خديعة .
والتفت قتادة إلى مصدر الصوت ، وحدق فيه ملياً ، ثم قال متشككاً : ماذا تعني ؟
وتنحى الفرسان بخيولهم ، وبقي الفارس المتكلم في محيط نظر قتادة ، فتقدم قليلاً ، وقال : هذا ما أظنه ، وأرجو أن أكون مخطئاً .
وقال له قتادة : لم تجبني على سؤالي .
فقال الفارس : ما بلغنا عن الفرسان الغرباء ، كان من ضيف عابر ، وقد غادرنا ليلاً .
واستدار قتادة بحصانه ، دون أن يعلق بكلمة واحدة ، على ما قاله الفارس المتكلم ، وانطلق مسرعاً نحو مضارب القبيلة ، وعلى الفور ، استدار الفرسان جميعاً بخيوله ، وانطلقوا في أثر قتادة .
ولاحت المضارب من بعيد ، والدخان يتصاعد من بعض خيامها ، وبدا لقتادة أن ما خمنه رفيقه الفارس ، ربما كان فيه شيء من الصحة ، فصاح وهو يحث حصانه : فلنسرع ، يبدو أننا تعرضنا للغدر .
وانطلق الفرسان في أعقابه ، يتسابقون ويتصايحون غاضبين : الويل للغادرين ..
ـ الموت لهم جميعاً ..
ـ لو مسوا شعرة من أهلنا وذوينا ، لن نُبقي منهم أحداً ..
وما إن وصلوا الخيام ، حتى توجه كلّ واحد منهم إلى خيمة أهله ، وعند خيمتهم التقى قتادة بالمرأة العجوز ، التي تخدم أباه الشيخ المتقدم في العمر ، فقالت تطمئنه : الشيخ بخير ، وقد نام منذ قليل ، ومرنان إلى جانبه ، وأرى أن تدعه يرتاح ، فقد أحزنه ما جرى .
وترجل قتادة عن حصانه ، وتساءل : ماذا جرى ؟
فردت المرأة العجوز : عند ضحى اليوم ، أغار علينا قطاع طرق ملثمون ، ويبدو أن هدفهم الأول كان الغنائم ، فقد ساقوا الجمال أمامهم وهربوا بها ، ولم يستطع رجالنا ، وجلهم من الشيوخ والمرضى أن يمنعوهم ، وقد أصابوا كل من تعرض لهم بجروح بليغة .
ولاذ قتادة بالصمت ، ثم مدّ يده بزمام الحصان ، وقدمه للمرأة العجوز ، وقال : اربطي الحصان في مكان قريب ، سأذهب وأطمئن على الآخرين .
ومضى قتادة مسرعاً ، يضرب بين الخيام ، التي أحرق بعضها ، وخُرب بعضها الآخر ، وإن كان معظم الخيام لم يلحق بها أذى يذكر ، وتوقف أمام خيمة خزامى ، إنها كما هي ، وإن بدا أنها خالية من خزامى .
وهمّ أن يدخل الخيمة ، ويتأكد من مصير خزامى ، لكنه توقف ، حين جاءه صوت يعرفه ، يهتف به : قتادة .
آه إنها ابنة عمه مرنان ، لحقته برنينها إلى هنا ، وقبل أن يلتفت إليها ، قالت مرنان : عرفت أنني سأراك هنا ، عندما قالت لي المرأة العجوز ، أنك تريد أن تطمئن على الآخرين ، خزامى هي الآخرون .
والتفت قتادة إليها ، وقال : إنها فتاة يتيمة .
وقالت مرنان : عمك الشيخ أولى ، لقد أفاق قبل قليل ، وسأل عنك .
واستدار قتادة ، دون أن يتفوه بكلمة ، ومضى نحو خيمتهم ، حيث يقيم عمه الشيخ ، وعلى الفور ، لحقت مرنان به ، وسارت وراءه كظله .

" 5 "
ــــــــــــــــ
طوال الطريق الصحراوي ، كان انمار ـ الفارس الذي اختطف خزامى من قرب البركة ـ رغم انشغاله بمتابعة فرسانه ، الذين كانوا يسوقون الإبل ، التي غنموها من غزوهم لمضارب العشيرة ، كان يحوم حول الهودج ، الذي وضعوا فيه خزامى .
وقد حاول انمار تبادل الحديث معها مرات ، لكنها كانت تشيح عنه ، ولا تجيبه حتى على أسئلته بكلمة واحدة ، بل إنها وطوال الطريق ، الذي استغرق أكثر من يومين ، رفضت أن تتناول الطعام أو الشراب حتى وحدها .
وقبيل منتصف نهار اليوم الثالث ، لاحت خيام مرابع قبيلة انمار ، فتهلل الفرسان فرحين ، وراحوا يحثون الإبل ، التي غنموها في غزوتهم ، على الإسراع ، وهم يتصايحون : تلك مرابعنا ، هيا فلنسرع .
واستدار انمار بحصانه ، واقترب من الهودج ، وقال لخزامى : لقد وصلنا .
لم ترد خزامى ، فقال انمار : سألتك أكثر من مرة عن اسمك ..
وسكت لحظة ، ثم قال : اسمي انمار ، ما اسمك ؟
ونظرت خزامى إليه ، وقالت : أنا سبية .
وشعر انمار بمرارة كلماتها ، فاستدار بحصانه ، ومضى مبتعداً عنها وعن الهودج الذي هي فيه .
وصل الفرسان مشارف المرابع ، وهم يسوقون قطيع الإبل ، الذي غنموه في غزوتهم ، فخرج الأهالي من خيامهم ، نساء ورجالاً وأطفالاً متهللين فرحين بعودة فرسانهم سالمين غانمين .
وفيما انشغل الفرسان بأهاليهم ، وبما غنموه من ابل في غزوتهم ، انصرف انمار إلى الاهتمام بغنيمته ، التي لا تقدر بثمن في رأيه ، فقاد جملها ، وهو على حصانه ، إلى خيمة منعزلة عن الخيام ، اتخذها سكناً له بعيدا عن خيمة أهله الكبيرة .
وحين وصل الخيمة ، ترجل عن حصانه ، وأمسك بمقود الجمل ، وأناخه برفق ، ثم اقترب من الهودج ، وخاطب خزامى قائلاً : ترجلي ، لقد وصلنا .
وترجلت خزامى عن هودجها ، دون أن تخاطب انمار بكلمة واحدة ، أو تنظر إليه ، فأشار انمار إلى الخيمة ، وقال : ادخلي الخيمة ، إنها مستقرك حتى النهاية .
ودخلت خزامى الخيمة بخطوات بطيئة مهتزة ، وهي مازالت صامتة ، ودون أن ترفع عينيها إلى انمار ، ودخل انمار في أثرها ، وهنا ارتفع من مدخل الخيمة صوت مرتعش تخنقه الدموع : بنيّ انمار ..
وأشرق وجه انمار ، انها المرأة التي ربته ، أصيلة ، والتفت إليها متمتماً بفرح : أصيلة !
وفتحت أصيلة بأعوامها ، التي تجاوزت الستين ، ذراعيها المحبين ، وعانقت انمار بقوة ، وهي تقول : كم خفت عليك ، آه منكم أنتم الشباب .
ولمحت أصيلة خزامى ، فرفعت ذراعيها عن انمار ، وراحت تتأملها ، وقال : هكذا الأزهار ..
ومالت عليها ، وقالت : ما اسمها .
لم تتكلم خزامى ، فقال انمار : هذا ما لم تقله لي حتى الآن ، اسأليها .
ونظرت أصيلة إلى خزامى ، لكنها ظلت صامتة ، فقال انمار : لم تأكل منذ يومين ..
وقالت أصيلة ، وهي مازالت تنظر إليها : سأعد لها ألذّ طعام ، وستأكل اليوم حتى تشبع .

" 6 "
ــــــــــــــــــ
حوالي عصر ذلك اليوم ، جاءت أصيلة بوجهها البشوش ، تحمل قدراً فيه طعام ساخن ، وقالت : جئت بطعام ستأكلين أصابعك معه .
وأفرغت أصيلة الطعام في طبق واسع ، فاحت منه رائحة البهارات والدهن الحر ، وقالت لخزامى : تعالي تذوقيه ، وادعي لي .
ونظرت خزامى إلى الطعام ، ثم إلى أصيلة ، وقالت : لا أكتمك ، أكاد أموت من الجوع .
فمدت أصالة يدها ، وأمسكت يد خزامى ، وأجلستها أمام طبق الطعام ، وقالت : تعالي كلي حتى تشبعي ، وسأطبخ لك هنا كلّ يوم ما يعجبك .
وجلست خزامى أمام ، طبق الطعام ، وقالت لأصيلة : كلي معي .
ومدت أصيلة يدها ، وراحت تأكل ، وهي تقول : سآكل وإن كنت أعددت الطعام لك .
وقالت خزامى ، وهي تأكل : الطعام كثير .
ودفعت أصيلة لقمة في فمها ، ثم نظرت إلى خزامى ، وقالت بنبرة حنونة : لم تقولي لأنمار اسمك ، وأنا أتفهم موقفك ، وغضبك ، لكني أنا سأكون بمثابة أمك ..
وتمتمت خزامى : أمي ماتت ..
وقالت أصيلة بنبرة متعاطفة : أنا أمكِ ..
ثم نظرت إليها ، وقالت : ما اسمكِ ؟
وتوقفت خزامى عن تناول الطعام ، ونظرت إلى أصيلة ، وقالت : اسمي خزامى ..
وتأملتها أصيلة ملياً ، وقالت : حقاً .. أنتِ خزامى هذه الصحراء .
وتناهى من الخارج ، وقع أقدام خفيفة ، فتوقفت خزامى عن تناول الطعام ، ونظرت أصيلة إليها ، وقالت : واصلي تناول طعامك ، إنه انمار .
وتراجعت خزامى عن سفرة الطعام ، دون أن تردّ على أصيلة ، وتنحنح انمار وهو يدخل الخيمة ، ورمق خزامى بنظرة سريعة ، وقال : طاب مساؤكم .
لم تردّ خزامى ، ونهضت أصيلة ، وقالت مبتسمة فرحة : أهلاً بني ، طاب مساؤك .
ونظر انمار إلى أصيلة ، وقال لها بصوت هادىء : دعينا وحدنا الآن .
وخرجت أصيلة من الخيمة ، وهمست لخزامى : سأعود بعد قليل .
وألقى انمار نظرة على سفرة الطعام ، ثم قال لخزامى : أنتِ لم تأكلي شيئاً يذكر من الطعام .
وردت خزامى ، دون أن تنظر إليه : أكلتُ ما يكفي ليبقيني سبية حية في خيمتك .
ونظر انمار إليها ، وقال بصوته الهئ : أنتِ لست سبية عندي ، وإنما ضيفة .
ورمقته خزامى بنظرة سريعة ، وقالت : ما أعرفه أن الضيف يأتي بإرادته ، ويغادر بإرادته .
ورفع انمار عينيه إليها ، وحدق فيها ملياً ، ثم قال : عندما رأيتك قرب البركة ، ملكتِ قلبي ، فأخذتك لتكوني ضيفة دائمة معززة عندي .
وردت خزامى ، وهي تحدق فيه : بل أخذتني سبية ، وهذا ما أنا عليه .
واستدار انمار ، وغادر الخيمة ، دون أن يردّ على خزامى بكلمة واحدة .

" 7 "
ـــــــــــــــــــ
مرت الأيام سريعة على خزامى ، وفي نفس الوقت ، كانت بطيئة جداً وثقيلة ، أين عالمها الذي ولدت وعاشت فيه ؟ أين خيام أهلها ؟ أين البركة ، والأشجار التي تحفّ به ؟ وأين .. قتادة ؟
كلّ هذا صار على ما يبدو من الماضي ، حلماً مرّ في ليلة قائظة ، لكنها مليئة بالنجوم والأقمار والأحلام ، وأفاقت فجأة ، وإذا هي .. سبية .
ولولا أصيلة بدفئها الأمومي ، لكانت حياتها لا تحتمل ، رغم أن انمار لم يكن يضايقها ، ويحاول جهدها التقرب إليها ، لكن دون جدوى .
وقد اعتادت أصيلة ، وبطلب من انمار ، أن تقضي النهار كله ، وسحابة من الليل ، في خيمة خزامى ، ترعاها ، وتعد طعامها ، وتخفف عنها وطأة الحياة ، ثم تغادرها ليلاً ، وتمضي إلى خيمتها .
وكصباح كل يوم ، عند شروق الشمس ، أقبلت أصيلة ، على خيمة خزامى ، تحمل صينية الطعام ، وقالت محيّية : طاب صباحك ، يا خزامى .
ونظرت خزامى إليها ، وقالت بصوت هادىء : أهلاً أصيلة ، طاب صباحك .
ووضعت أصيلة الطعام أمام خزامى ، وقالت : هذا الطعام يعجبك ، وأريدك أن تأكليه كله .
وجلست خزامى أمام صينية الطعام ، وقالت مبتسمة : هذا ما كانت تقوله لي أمي دائماً .
وابتسمت أصيلة ، وقالت : أنا الآن أمكِ .
فقالت خزامى بنبرة ارتياح : أشكرك .
ثم رفعت عينيها إليها ، وأضافت قائلة : اجلسي ، وشاركيني تناول الطعام .
وجلست أصيلة قبالة خزامى ، وقالت : بالعافية ، أكلت قبل أن أعد طعامك .
وران الصمت بينهما ، كانت خزامى خلاله منهمكة في تناول الطعام ، وأصيلة تتابعيها بعينيها المحبتين ، وتحينت فرصة ، وقالت : خزامى ..
وشعرت خزامى من نبرة كلامها ، أنها تريد أن تقول شيئاً ، ليس مما تقوله عادة ، فقالت دون أن تتوقف عن تناول الطعام : نعم .
وتابعت أصيلة قائلة : قد لا يكون قدرنا ، ما كنا نحلم به ونتمناه ، وقد يكون محبطاً وقاسياً ، لكنه قدرنا ، وعلينا أن نتكيف معه .
لم ترتح خزامى لما قالته أصيلة ، لكنها لم تتكلم ، فنظرت إليها أصيلة ، وقالت : أنت محظوظة .
وحدقت خزامى فيها ، وقالت محتجة : أنا سبية .
وتابعت أصيلة قائلة : محظوظة لأنك عند انمار ، وليس عند رجل آخر من رجال القبيلة .
وهزت خزامى رأسها ، وقالت : كلا ، السبية سبية ، يا أصيلة ، حيثما كانت .
وتنهدت أصيلة ، وقد غامت عيناها ، وقالت : بنيتي ، أنا سبقتكِ إلى هنا ، بأكثر من عشر سنوات ، وكان من سباني رجل غليظ القلب ، فظ ، عدواني ، شرس ، وقد أوشكت على الهلاك ، لولا انمار ، الذي أنقذني منه ، ومنذ ذلك الوقت ، وأنا إنسانة .
ولاذت خزامى بالصمت ، فمالت أصيلة عليها ، وقالت : انمار إنسان ، وستعرفين أنه إنسان مع الزمن .

" 8 "
ــــــــــــــ
جاءت أصيلة إلى خيمة خزامى ، على عادتها كلّ يوم ، عند شروق الشمس ، وتناولت الفطور مع خزامى ، وكذلك تغدت معها ، وتبادلتا أحاديث شتى ، لكنهما لم تتطرقا بالحديث إلى انمار ، وعند حوالي العصر ، استأذنت أصيلة ، وخرجت في شأن لها .
وعادت بعد قليل ، ومعها طعام قالت أنه من عند انمار ، وتناولتاه معاً ، وأصيلة تتحدث عن أم انمار ، ودماثة خلقها ، وتعاملها الطيب مع الجميع .
وتثاءبت أصيلة ، قبل الموعد الذي تعودت أن تغادر فيه ، وقالت : عفواً ، يبدو أنني تعبانة هذا اليوم .
ونهضت من مكانها ، وقالت : أرجو أن تأذني لي .
واعتدلت خزامى في مكانها ، وقالت : الوقت مبكرة ، يا أصيلة ، هذه ليست عادتك .
واتجهت أصيلة إلى الخارج ، وهي تقول : إنني متعبة بعض الشيء الآن ، تصبحين على خير .
وردت خزامى قائلة : تصبحين على خير .
وبقيت خزامى وحدها في الخيمة ، وليس معها غير قنديلها الخافت ، وعلى عادتها في مثل هذه الحالة ، أغمضت عينيها ، وهربت إلى أحلامها ، خيام قومها .. والبركة .. والأشجار المحيطة بها .. وأمها الراحلة .. و .. وقتادة .. آه .. أين قتادة ؟
وتراءى لها قتادة ، على حصانه المتوثب الفتي ، يشق الصحراء إليها ، وينتزعها من خيمة سبيها ، ويطير بها عائداً إلى عالمها ، الذي لم يفارقها لحظة .
وأفاقت خزامى على صوت أحدهم ، يهتف بها من خارج الخيمة : خزامى .
واختفت أحلامها فجأة ، وأفاقت على واقعها ، إنها هنا سبية في خيمة غريبة ، وارتفع الصوت ثانية من الخارج : خزامى .. خزامى .
إنه انمار ، وفكرت أن خروج أصيلة في وقت مبكر ، ربما كان متعمداً ، لكنها نهضت واقفة ، وردت بصوت محتج : نعم ، انمار !
وجاءها الرد : نعم ، أنا انمار .
فقالت خزامى : عفواً إنني أتهيأ للنوم .
وقال انمار : الوقت مبكر ، يا خزامى ، تعالي هنا ، القمر بدر هذه الليلة ، وأريد أن أتحدث إليك .
وردت خزامى قائلة : إنني لم أخرج من هذه الخيمة ، منذ أن جئت بي إلى هنا ، ولن أخرج منها الآن .
ولاذ انمار بالصمت لحظة ، ثم قال بصوته الهادئ : لا بأس ، سأدخل أنا الخيمة ، وسأبقى عندك قليلاً .
وقبل أن تردّ خزامى بشيء ، دخل انمار الخيمة ، وخاطب خزامى قائلاً : طاب مساؤكِ .
وردت خزامى على مضض : طاب مساؤكَ .
ونظر انمار إليها ، وقال : هذه الخيمة ليست سجناً لك ، وأنا لم أسجنكِ فيها .
فردت خزامى قائلة : أنا سجنت نفسي .
وقال انمار : العالم في الخارج فسيح ، وجميل ، ولكِ أن تخرجي ، وتتجولي حيثما تشائين .
وأشاحت خزامى بوجهها عنه ، وقالت بمرارة : حيثما أكون هنا ، فأنا سبية .
وحدق انمار فيها ، وقال : السبية تكون عادة ، ملكاً لمن سباها ، فيفعل بها ما يشاء ، وكيف يشاء ، أنتِ هنا منذ حوالي ستة أشهر ، ولم أسمح لأحد أن يضايقكِ .
وبقيت خزامى صامتة لا تريم ، فنظر انمار إليها ، وقال بصوته الهادئ : خزامى .. إنني أريدكِ ..
ورفعت خزامى إليه عينين مندهشتين متسائلتين ، فتابع قائلاً : أريدك زوجة .
وردت خزامى قائلة : هناك من يريدني .
تساءل انما : من أبناء قبيلتك ؟
هزت خزامى رأسها ، فتساءل انما : وأنت ، أتريدينه ؟
ومرة ثانية هزت خزامى رأسها ، فأطرق انمار رأسه ، ثم استدار ، وغادر الخيمة .

" 9 "
ـــــــــــــــــــ
مرت أيام ، وانمار لا يزور خزامى ، ولا يقترب من خيمتها ، وواصلت أصيلة الحضور كلّ صباح ، وقضاء النهار كله عند خزامى ، دون أن تتحدث عن انمار ، وإحجامه عن التردد على خيمة خزامى ، كما كان يفعل طول الأيام الماضية .
وثقل على أصيلة ، وأحزنها حزناً شديداً ، وهي تعرف انمار ، وما يجول في أعماقه ، انقطاعه عن زيارة خزامى ، وربما قدرت السبب ، رغم أنها لا تعرف ، لا من خزامى ، ولا من انمار ، ما دار بينهما في الخيمة ، حين التقيا فيها لآخر مرة .
وذات أمسية ، وهما على سفرة العشاء ، لاحظت خزامى بعض الشرود على أصيلة ، ولمحتها أكثر من مرة ، ترمقها بنظرة خاطفة ، وتتوقف عن تناول الطعام ، وتهمّ بقول شيء لها ، لكنها سرعان ما تحجم عن ذلك ، وتستأنف تناول الطعام .
وحين فرغتا من تناول طعام العشاء ، وجلست خزامى في مكانها المعتاد ، نظرت أصيلة إليها ، وقد صممت أخيراً على قول ما تريد قوله : بنيتي ..
ورفعت خزامى عينيها إلى أصيلة ، ونظرت إليها منصتة ، وكأنها كانت تنتظر هذا الكلام ، وقالت : نعم .
وتابعت أصيلة قائلة : أريد أن أتكلم معكِ .
قالت خزامى : أعرف أن لديكِ ما تريدين قوله ، قوليه ، إنني أنصت إليكِ .
قالت أصيلة : انمار ..
وصمتت أصيلة ، فحدقت خزامى فيها ، ثم قالت : أهو كلامك ما تريدين قوله ، أم كلام انمار ؟
فردت أصيلة قائلة بنبرة أمومية : بل كلامي ، وهو نابع من حبي لكِ ، كحب الأم لابنتها ، وكذلك حبي وتقديري لانمار ، وثقتي بنبل أهدافه .
وأطرقت خزامى ، ثم قالت كأنما تحدث نفسها : انمار إنسان نبيل وطيب ، ولابدّ أن الكثيرات من فتيات قبيلته ، وممن يعرفنه ، يحلمن بالاقتران به .
وتشجعت أصيلة ، وقالت : وبين هؤلاء الفتيات الكثير من الجميلات ، لكنه يريدك أنت ، يا خزامى .
ورفعت خزامى عينيها الغارقتين بالحزن إليها ، وقالت : لكني ، يا أصيلة ، خلقتُ لغيره .
ومالت أصيلة عليها ، وقالت : خزامى ، بنيتي ، أنتِ هنا ، وستبقين هنا كما بقيتُ ، فابقي أميرة .
ولاذت خزامى بالصمت ، ولبثت أصيلة تتملاها ، وتنتظر ردها ، وقلبها يخفق أملاً ، لكن لا ردّ ، وظلت خزامى صامتة ، فقلت أصيلة : خزامى ..
ونهضت خزامى ، وقالت بصوت حزين : لا فائدة ، يا أصيلة ، لا فائدة .
وانحنت أصيلة صامتة مقهورة ، ولملمت بقايا سفرة الطعام ، وقبل أن تخرج من الخيمة ، قالت لها خزامى : أشكركِ ، يا أصيلة ، وأقدر عواطفكِ ، لكن لي حلمي ، ولا أستطيع أن أتخلى عنه .
وعادت أصيلة بعد قليل ، وقالت لخزامى : سيدتي ، سيأتي سيدي انمار ، بعد قليل ، ويتحدث إليك .
ولاذت خزامى بالصمت ، فغادرت أصيلة الخيمة ، وجاء انمار ، وبادر خزامى قائلاً : طاب مساؤكِ .
وردت خزامى قائلة : طاب مساؤك .
ونظر انمار إليها ، وقال : أعددت لك الناقة ، وسآخذك غداً إلى مضارب أهلك .
وردت خزامى ، وقد فوجئت بكلامه : انمار ..
وقاطعها انمار قائلاً : غدا صباحاً ، سآخذك على الناقة ، وأرافقك إلى أقرب مكان من مضارب أهلك .
ثم استدار ، وغادر الخيمة ، وهو يقول : تصبحين على خير .


" 10 "
ــــــــــــــــــــــ
قبل أن تشرق الشمس ، صباح اليوم التالي ، فتحت خزامى عينيها مستيقظة ، رغم أنها لم تستطع أن تنام ، إلا في ساعة متأخرة من الليلة الماضية .
لقد أوت إلى فراشها مبكرة ، لأنها تريد أن تمرّ الساعات سريعة ، ويأتي اليوم التالي ، يوم نهاية سبيها ، وعودتها إلى مضاربها .. والبركة .. والأشجار المحيطة بها و .. وقتادة .. آه من قتادة .. و .. و ها هي تفتح عينيها ، وقد جاء الغد الموعود .
ونهضت من فراشها بسرعة ، حين تناهى إليها وقع أقدام أصيلة ، إنها ستأتيها بطعام الفطور كالعادة ، ومن يدري ، قد تتحدث إليها بأمر أنمار ، وقد تحثها على التراجع ، لا .. لا تراجع .. ولا مراجعة ، سترجع إلى ماضيها .. إلى أحلامها و .. هذا .. وهذا فقط .
ودخلت أصيلة حاملة صينية الطعام ، وقالت بصوت أردته أن يكون هادئاً : طاب صباحكِ ، يا سيدتي .
سيدتي ! لقد عادت إلى مناداتها يا سيدتي ، والسبب واضح ، مهما يكن ، لا بأس ، إنها ستغادر بعد قليل ، فردت قائلة : طاب صباحكِ .
ووضعت أصيلة صينية الطعام على الأرض ، وجلست خزامى أمام الطعام ، وقالت بصوت هادئ : أصيلة ، تعالي وكلي معي .
فردت أصيلة قائلة ، وهي تحاول جهدها أن تتماسك ، وترد بصوت هادئ : لا يا سيدتي ، كلي أنتِ ، قد آكل أنا ، فيما بعد .
ورفعت خزامى عينيها إليها ، وقالت معاتبة : ما الأمر ، يا أصيلة ؟
ومسحت أصيلة دمعتين فرتا من عينيها ، وقالت : رأيتُ سيدي انمار ، يعدُ الناقة .
فردت خزامى قائلة : أصيلة ، لن أكون سبية بعد اليوم ، أنا فرحة ، وكنت أظن أنكِ ستفرحين لفرحي .
ويبدو أن أصيلة ، لم تعد تستطيع أن تتماسك ، فأجهشت بالبكاء ، وقالت ، وهي تغادر الخيمة : إنني فرحة .. فرحة لك .. رافقتكِ السلامة .
ونهضت خزامى ، دون أن تتناول لقمة واحدة من الطعام ، وبعد قليل دخل انمار ، ونظر إلى خزامى ، وقال : طاب صباحكِ .
وردت خزامى قائلة : طاب صباحك .
وألقى انمار نظرة إلى صينية الطعام ، وقال : يبدو أنكِ لم تأكلي شيئاً من طعام الفطور .
لم تنظر خزامى إليه ، وردت قائلة : سآكل فيما بعد ، لا أشتهي الآن أي شيء .
وقال أنمار : رأيتُ أصيلة تخرج من الخيمة ..
ورفعت خزامى عينيها إليه ، فتابع قائلاً : كانت تجهش بالبكاء .
فقالت خزامى بشيء من المرارة : قالت لي ، إنها تبكي من الفرح .
ونظر انمار إليها ، وقال : من يدري ، إنها تحبك ، وتريد الخير والسعادة لك .
ولاذت خزامى بالصمت ، فقال انمار : مهما يكن ، لقد أعددت الناقة ، وهي تنتظرك بالخارج .
ونظرت خزامى إليه ، ونظر هو الآخر إليها ، وطال الصمت بينهما ، ولعل انمار كان ينتظر منها كلمة في اللحظة الأخيرة ، تعدل بها عن موقفها ، لكنها قالت أخيراً ، وهي تتجه إلى الخارج ، حيث تقف الناقة : لنذهب الآن ، قبل أن ترتفع الشمس في السماء .




" 11 "
ــــــــــــــــــــــ
سارت الناقة مبتعدة عن مضارب القبيلة ، وخزامى في هودجها ، صامتة تحلم بالعبور من الماضي القريب ، إلى الماضي الآتي ، الذي تغربت عنه هذه الأشهر العديدة ، منذ بداية سبيها حتى الآن .
وعلى حصانه ، سار انمار صامتاً ، مقطباً ، مبتعداً بحلمه ، عن الواحة التي أراده أن يزهر فيها ، بعد كلّ خطوة يخطوها إلى الأمام على رمال الصحراء ، التي بدا وكأنها تمتد أمامه إلى ما لا نهاية .
وغابت بعد ساعات ، معالم محيط المضارب ، وأحاطت بهم الرمال من الجهات الأربع ، وفي هذا الخلاء الشبه ميت ، لم يعد يُسمع غير أنين الريح ، وهي تركض خفيفة فوق الرمال ، ووقع حوافر الحصان ، متناغماً مع وقع أخفاف الناقة ، التي تحمل هودج خزامى .
وحوالي منتصف النهار ، استدار انمار بحصانه ، واقترب به من الناقة ، وخاطب خزامى قائلاً : لنتوقف هنا بعض الوقت ، إذا كنتِ قد تعبتِ .
ورمقته خزامى بنظرة سريعة ، وردت قائلة : أشكرك ، لم أتعب ، لنتوقف إذا أردت أنت .
وقال انمار : لنواصل سيرنا ، مادمتِ لم تتعبي .
فقالت خزامى : كما تشاء .
واستدار انمار بحصانه ، وعاد إلى مكانه أمام الناقة ، وقد بدا عليه بعض التعب ، لكنه واصل السير ، والآفاق الجرداء تمتد أمامه حتى الأفق .
وتوقف انمار قبيل غروب الشمس ، قرب كثيب ضخم من الرمال أشبه بالتل ، ثم اقترب بحصانه من خزامى ، وقال لها : الشمس تكاد تغرب ، لنتوقف هنا ، ونقضي ليلتنا في هذا المكان .
وردت خزامى قائلة : كما تشاء .
وترجل انمار عن حصانه ، وربطه في مكان قريب ، ثم أناخ الناقة ، وخاطب خزامى قائلاً : هل أساعدكِ على النزول من الهودج ؟
فردت خزامى قائلة : أشكرك ، سأنزل وحدي .
ونزلت خزامى من الهودج ، وتلفتت حولها ، ثم قالت : يبدو أننا قطعنا مسافة طويلة هذا اليوم .
وقال انمار ، وهو يوثق الناقة : سنصل مرابع أهلكِ بعد غد ، إذا لم تمت الناقة من التعب .
فردت خزامة قائلة : لن تموت هذه الناقة ، فهي مثلي عائدة إلى أهلها .
وانصرف انمار إلى تقديم العلف والماء للحصان والناقة ، اللذين بدا عليهما التعب ، بينما انهمكت خزامى بإعداد سفرة الطعام ، وحالما انتهت من ذلك ، التفتت إلى انمار ، وخاطبته قائلة : الطعام جاهز .
وأقبل انمار ، بعد أن غسل يديه ، ونفض عنه الغبار ، ونظر إلى سفرة الطعام ، ثم رمق خزامى بنظرة خاطفة ، وقال : سآكل وحدي إذا أردت .
وردت خزامى بصوت هادئ ، دون أن تنظر إليه : لا الأفضل أن نأكل معاً .
وجلست خزامى ، فجلس انمار قبالتها ، وقال : كما تريدين ..
وتناول انمار لقمة من الطعام ، ودسها في فمه ، ثم قال : هذه أول مرة نأكل معاً .
لم تردّ خزامى ، وانهمكت في تناول الطعام ، فنظر انمار إليها ، وقال : هذا طعام لذيذ بحق .
وردت خزامى ، وهي مازالت تأكل : للحقيقة ، هذا الطعام أعدته أصيلة .
وابتسم انمار ، وقال ، وهو يدس لقمة طعام أخرى في فمه : أصيلة امرأة طيبة ، وهي طباخة ماهرة .
فقالت خزامى : إنها اسم على مسمى ، هي أصيلة حقاً ، و بارعة ومتميزة في كلّ شيء .
ورمقها انمار بنظرة خاطفة ، وقال : كنتُ أتمنى لو أنكِ أنتِ من أعدّ هذا الطعام .
ونظرت إليه خزامى ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع انمار قائلاً بصوته الهادئ : كنت على الأقل ، تذكرت في الأيام التالية ، طعاماً أعددته بنفسكِ .
وأطرقت خزامى ، ثم قالت : في حياة أمي ، حتى وأنا فتية ، طالما ساعدتها في إعداد الطعام ، وكانت تقول لي ، خزامى ستكونين طباخة ماهرة .
ونهض انمار ، وهو يقول : هذا ما تمنيت أن ألمسه يوماً ، ولم يتسنّ لي أن ذلك .
وغابت الشمس وراء الأفق ، وأخذت معها أشعتها المنيرة ، وخيم الظلام على الصحراء ، وجلس أنمار في طرف الناقة ، وجلست خزامى في الطرف الآخر منها ، وساد الصمت بينهما ، حتى لم يعد يُسمع غير أنين الريح ، وهي تركض خفيفة عبر الصحراء .
ونظر انمار إلى خزامى ، ثم قال : تبدين متعبة .
وردت خزامى : وأنت لا تقل تعباً عني ، لقد قطعنا مسافة طويلة ، الأفضل أن نخلد إلى النوم ، لعلنا نرتاح ، فأمامنا غداً مسافات ومسافات .
فتمدد انمار في مكانه ، وهو يقول بصوت ناعس : تصبحين على خير .
فردت خزامى قائلة : تصبح على خير .

12
ـــــــــــــــ
في اليوم التالي ، قبل شروق الشمس ، وحتى قبل أن يفتح انمار عينيه ، أفاقت خزامى من النوم ، وأرهفتْ سمعها لعلها تسمع أنمار ، وقد أفاق من النوم هو الآخر ، لم تسمع صوت غطيطه ، فخمنت أنه مازال راقداً في مضجعه ، هذا إن لم يكن نائماً بالفعل .
واعتدلت خزامى في مضجعها ، وعلى الفور سمعت انمار يقف من وراء الناقة ، ويهتف بها : خزامى .
ونهضت خزامى ، وقالت دون أن تلتفت إليه : إنني مستيقظة ، طاب صباحكَ .
وأطل عليها انمار ، من وراء الناقة ، وردّ عليها قائلاً : طاب صباحك ..
وانهمكت خزامى بجمع فرشها ، فقال انمار : من الأفضل أن نواصل السير الآن ، قبل شروق الشمس ، فالطريق أمامنا مازال طويلاً .
ورفعت خزامى رأسها إليه ، وقالت : نعم هذا أفضل ، إلا إذا أردت أن نتناول طعام الإفطار هنا .
فقال انمار ، وهو يضع الهودج فوق الجمل استعداداً للمسير : لنسر الآن ، ونقطع بعض الطريق ، ثم نتوقف للاستراحة ، وتناول الطعام .
وقبل شروق الشمس ، كانت الناقة تسير بإيقاعها المعهود ، تمخر عباب الرمال ، التي موّجتها الريح ، وخزامى في هودجها ، وانمار على حصانه ، يتقدم الناقة ، وقد لفه صمت الصحراء .
وأشرقت الشمس ، وأطلت بأشعتها الدافئة على القافلة الصغيرة ، وهي تسير في محيط الرمال ، دون أن يلوح في أفقها جزيرة واحدة ، تنبض فيها الحياة .
وتناهى إلى خزامى ، وهي في هودجها ، وقع حوافر جياد ، تلطم في عدوها صمت الصحراء ، واعتدلت قليلاً وقد انتابها القلق ، ونظرت إلى انمار ، الذي توقف بحصانه ، وراح يتلفت حوله .
وأطلت خزامى من الهودج ، وخاطبت انمار خائفة : ما الأمر ، يا أنمار ؟
واستدار انمار بحصانه بسرعة ، واقترب من الناقة ، وقال لخزامى بصوت حاول أن يكون هادئاً : ادخلي الهودج ، واطمئني ، كل شيء على ما يرام .
واقتربت الجياد من القافلة الصغيرة ، وإذا أربعة رجال ملثمين ، والسيوف مشرعة في أيديهم ، وعلى الفور أحاطوا بانمار والناقة ، وأوقفوهما عن السير ، وصاح أحدهم بانمار : ترجل عن حصانك .
وترجل انمار عن حصانه ببطء وعلى مضض ، فخاطبه الرجل نفسه قائلاً بلهجة آمرة : انزع سيفك ، وارمه على الرمال ، وإلا قتلناك .
ونزع انمار سيفه مقطباً ، وألقاه على الرمال ، دون أن يتفوه بكلمة ، فترجل واحد من الرجال الثلاثة ، بإشارة من الرجل الأول ، وتناول السيف عن الأرض ، وعاد إلى حصانه ، وأمسك زمامه .
وتقدم الرجل الأول من الهودج ، وهو على حصانه ، وحدق في خزامى ، ثم خاطبها قائلاً بلهجة جافة آمرة : انزلي من الهودج .
وهمّ انمار أن يتقدم منه ، وهو يقول : دعها في الهودج ، إنها امرأة .
ونظر الرجل الأول إليه ، وقال : لكنها ليست امرأتك ، فلا داعي لأن تعرض نفسك للخطر من أجلها .
وهمّ أنمار ثانية ، أن يتقدم منه ، فقال الرجل الأول : مرْها أن تنزل من الهودج .
وحدق انمار فيه غاضباً ، وقال : ماذا تريدون ؟
وتقدم منه الرجل الأول على حصانه ، وتوقف أمامه والسيف في يده ، وقال : لن نقتلك ، اترك المرأة لنا ، وسندعك تواصل طريقك حيث تشاء .
ولاذ انمار بالصمت ، وهو ما زال يحدق فيه ، فاستطرد الرجل الأول قائلاً : نحن نعرف عنها كلّ شيء ، أنت لا علاقة لك بها ، إنها سبية ، وأنا أريدها ، وسآخذها مهما كلف الأمر .
وعلى حين غرة ، وثب انمار على الرجل الأول ، وأسقطه عن الحصان ، وانتزع السيف منه ، ووضعه على رقبته ، وهو يقول : لن أدع أحداً منكم ، يمدّ يده عليها ، حتى لو دفعتُ حياتي ثمناً لذلك .
وهمّ الرجال الثلاثة الانقضاض على انمار ، وهم يلوحون بسيوفهم ، فصاح انمار بهم : تراجعوا وإلا حززت عنقه ، وليكن ما يكون .
وتوقف الرجال الثلاثة مترددين ، والسيوف في أيديهم ، فقال انمار للرجل الأول : مرهم أن يلقوا سيفي وسيوفهم على الرمال ، ويمضوا بعيداً وإلا قتلتك .
وضغط انمار بحد السيف على عنقه ، فصاح الرجل الأول بصوت مخنوق : القوا سيفه وسيوفكم ، وامضوا بعيداً ، هيا بسرعة .
ورمى الرجال الثلاثة سيف انمار وسيوفهم على الرمال ، واستداروا بخيولهم ، ومضوا مبتعدين ، تاركين قائدهم تحت رحمة انمار .
ورفع الرجل الأول عينيه إلى انمار ، وقال : لقد نفذنا ما تريده ، اطلق سراحي .
ورفع انمار السيف عن عنقه ، ودفعه بشدة ، وقال له : خذ حصانك واذهب ، لا أريد أن أراكم ثانية .




13
ــــــــــــــ
استأنفا رحلتهما ، التي قطعها عليهما قطاع الطرق الأربعة ، أنمار على حصانه ، وخزامى في هودجها ، لكن انمار لم يكن يسير هذه المرة أمام الناقة ، وإنما إلى جانبها ، ليس بعيداً عن خزامى .
ونظرت خزامى إلى انمار ، وقالت بصوت مازال فيه شيء من الخوف : ليتنا نسرع قليلاً .
والتفت انمار إليها ، وقال : الناقة والحصان متعبان ، وعلينا أن لا نثقل عليهما بالإسراع في السير ، خاصة وأنّ الجو حار بعض الشيء .
وألقت خزامى نظرة وراءها ، وقالت : إنني أخشى أن يلحق بنا قطاع الطرق .
وردّ انمار قائلاً : لا عليك ، قطاع الطرق أولئك ، لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً ، وهم مدججون بالسلاح ، فكيف وسيوفهم معنا .
ولاذت خزامى بالصمت لحظة ، ثم قالت : عندما أحاط بك قطاع الطرق الأربعة ، والسيوف في أيديهم ، انتابني شعور ..
وقاطعها انمار قائلاً : خزامى ، لقد انتهى الأمر الآن ، وولى أولئك الجبناء ..
وتابعت خزامى كلامها قائلة : شعور بالخوف من أن يلحق بك أذى ، وسيكون هذا بسببي ..
وصمتت خزامى ، ونظر انمار إليها ، فتابعت خزامى قائلة بصوت تغرقه الدموع : تمنيت أن يأخذوني على أن يلحق بك أي أذى .
وابتسم انمار أمام دموعها ، التي أغرقت عينيها ، وبللت قلبه بالندى ، وقال : لم أفكر لحظة واحدة ، بإمكانية أن يأخذك قطاع الطرق أولئك ، وأنا على قيد الحياة .
وأبطأت الناقة ، وقد اقترب الوقت من العصر ، حتى توقفت ، وتوقف انمار بحصانه هو الآخر ، والتفت إلى خزامى ، وقال : يبدو أنكِ نعبت .
ونظرت خزامى حولها ، وقالت : هذا مكان مريح ، لنتوقف هنا ، ونأخذ قسطاً من الراحة .
ونظر انمار إلى الشمس ، وقال : الوقت مبكر ، وقد نصل محيط مضاربكم في أول الليل .
وقالت خزامى : ولمَ العجلة ؟ ثم لا تنس ، إننا لم نأكل شيئاً حتى الآن .
وترجل انمار عن حصانه ، وهو يقول : كما تشائين ، لنتوقف هنا .
وربط انمار حصانه ، وأناخ الناقة ، ونظر إلى خزامى ، ومدّ يده إليها ، وقال : أنت متعبة ، دعيني أساعدكِ على النزول من الهودج .
وبدون تردد ، وضعت خزامى يدها في يد انمار ، وقالت : أتعبتني محنتنا مع قطاع الطريق الأربعة .
وساعدها على النزول من الهودج ، وقد بدا عليها التعب فعلاً ، وقال لها : هذه كانت محنتي أكثر مما كانت محنتك ، وقد انتهت الآن .
وأعدت خزامى السفرة ، وجلست هي وانمار متقابلين ، وراحا يتناولان الطعام بشهية مفتوحة ، دون أن يتفوه أحدهما بكلمة واحدة .
وبعد أن انتهيا من تناول الطعم ، نظر انمار إلى خزامى ، وقال : يبدو أن النهار يوشك أن يرحل .
وابتسمت خزامى ، وقالت بصوت واهن : إنني متعبة ، وأنت أيضاً متعب ، الأفضل أن نقضي الليلة هنا ، وغداً مع الفجر ، نواصل رحلتنا .
وابتسم انمار لها ، وقال : كما تشائين .
وبعد أن لملمت خزامى بقايا الطعام ، واغتسلت من وعثاء الرحلة ، التي لم تنتهِ بعد ، أقبلت على انمار ، وجلست إلى جانبه ، وتنفست ملء صدرها ، وقالت : يبدو أن النسيم سيكون الليلة عذباً .
وهزّ انمار رأسه ، وقال بصوت هادىء : هذه مزية من مزايا الليل في الصحراء .
وصمت انمار ، وساد الصمت بينهما لفترة ، لم يكن يُسمع خلاله غير أنين الريح ، وهي تسري بهدوء فوق رمال الصحراء المترامية .
وتنهدت خزامى ، فرمقها انمار بنظرة خاطفة ، وقال : غداً ، ربما عند منتصف النهار ، نصل أطراف البركة ، التي رأيتك على مقربة منها .
ولاذت خزامى بالصمت ، فقال انمار بصوت موحي : بدا لي وكأنكِ تنتظرين أحداً .
والتفتت خزامى إليه ، وحدقت فيه ، وقالت : انمار ..
ردّ انمار قائلاً : نعم .
فقالت خزامى : لو أتى إليّ ، وأنا عندك ، هل كنتَ تتركني له بطيب خاطر ؟
فالتفت انمار إليها ، وحدق فيها ، وقال : لم يأتِ إليكِ .
وشعرت بطعنة في قلبها ، هذا ما لم يعنّ لها من قبل ، فنهضت واقفة ، وقالت : إنني متعبة جداً ، لابدّ لي أن أرتاح ، سأذهب إلى فراشي .







" 14 "
ـــــــــــــــــــــــ
أفاقت خزامى ، صباح اليوم التالي ، وفتحت عينيها الناعستين ، لكنها لم تتحرك من مكانها ، وأنصتت ملياً ، وخمنت أن انمار قد أفاق أيضاً ، ولعله لا يريد أن يتحرك في مكانه ويوقظها ، حتى تستيقظ هي بنفسها .
لم تنمْ خزامى ليلة البارحة ، كما تنام عادة كلّ ليلة ، لقد أرقتْ ، وكانت كلمات انمار وراء أرقها ، وتردد في أعماقها مرات ومرات قوله " لم يأتِ إليكِ " ، حقاً إن قتادة لم يأتِ إليها ، بل ولم يرسل لها كلمة واحدة يعبر لها عن اهتمامه بها ، وموقفه منها وهي في السبي .
ونفضت خزامى هموم الليل عنها ، وتطلعت إلى ما حولها ، الحصان مربوط بعيداً ، والناقة تبرك بينها وبين انمار ، والصحراء تمتد حولها على امتداد البصر ، رمال ميتة ، لا حياة فيها ، غير الريح التي تئن من وجع الخواء وغياب نفس واحد للحياة .
وطال سكون خزامى في مضجعها ، ولعل انمار ظنّ أنها مازالت نائمة ، وقد أطلت الشمس من وراء الأفق ، وأرسلت أشعتها الدافئة لتوقظ الحياة ، في الأحياء الذين رقدوا طوال غيابها ساعات الليل المظلمة .
وهمت خزامى أن تنهض ، حين جاءها صوت انمار يناديها : خزامى ..
ونهضت خزامى ، وهي تقول : إنني مستيقظة .
وحيّاها انمار قائلاً : طاب صباحكِ .
وردت خزامى ، وهي تلملم فرشها : طاب صباحك ، سأعد طعام الفطور .
ونهض انمار بدوره ، وقال بنبرة مزاح : أنت لا تفطرين عادة في مثل هذا الوقت .
وقالت خزامى : يعجبني أن آكل هذا الصباح .
وانصرف انمار إلى الناقة ، وقال : سأعد لك الهودج ، ريثما تفرغين من إعداد السفرة .
وانهمك كلّ منهما في عمله ، وما أن فرغ أنمار من وضع الهودج على الناقة ، حتى جاءه صوت خزامى تقول له : الفطور جاهز .
واتجه انمار إليها ، وقال : وهودجك جاهز أيضاً .
وجلسا متقابلين ، وبينهما سفرة طعام الفطور ، وراحا يتناولان ما فيها من طعام ، وقد ران عليهما صمت ثقيل ، ورمقت خزامى انمار بنظرة خاطفة ، وهو يتناول الطعام ، وبدا لها أنه مستغرق ، لا في الطعام ، وإنما في أمر آخر ، ترى فيمَ يفكر ؟
وتململت خزامى في مكانها ، وقالت ، وهي تأكل : هذه آخر مرة نتناول فيها الطعام معاً .
وهزّ انمار رأسه ، وقال دون أن ينظر إليها : من يدري ، ربما آخر مرة كما تقولين ..
وصمت لحظة ، ثم رفع عينيه ، ونظر إليها ، وقال : لم أتذوق طعاماً من صنع يديكِ .
وتوقفت خزامى عن تناول الطعام ، ونظرت إلى انمار ، وقالت : هذا أمر مؤسف حقاً .
ونهض انمار عن السفرة ، وقال بصوت مشوب بالحزن : هذه أمنية لم تتحقق .
وصمت لحظة ، ثم قال : لنترك هذا للأيام ، يا خزامى ، هيا الشمس ترتفع في السماء ، ومن الأفضل أن نبدأ السير الآن .
ونهضت خزامى بدورها ، وقالت : هذا أفضل ، وقد نصل أطراف البركة بعد العصر .
وصمت انمار ، محدقاً في خزامى ، ثم قال بصوت حاول أن يكون هادئاً : وهناك سنفترق ، تذهبين أنتِ إلى حياتك ، وأعود أنا إلى حياتي .
وهربت خزامى بعينيها من عيني انمار ، خشية أن يرى فيهما ، بوادر دمعتين انبثقتا من أعماقهما ، وأرادتا أن تقفزان إلى وجنتيها السمراوين ، وسرعان ما استدارت ، ولاذت بالهودج ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
وامتطى انمار حصانه ، وسار والناقة تسير وراءه ، وفي هودجها خزامى ، وقد غرقت عيناها بالدموع ، والشمس تصعد في مدارج السماء شيئاً فشيئاً ، وحوالي العصر ، استدار انمار بحصانه ، واقترب به من الناقة ، وحين حاذى الهودج ، خاطب خزامى قائلاً : خزامى ..
ونظرت خزامى إليه ، وقالت : نعم .
فأشار انمار إلى ما حوله ، وقال : انظري ، يا خزامى ، أظنّ أننا اقتربنا من أطراف البركة .
وأطلت خزامى من الهودج ، وتطلعت إلى ما يشير إليه انمار ، وتأملته جيداً ، لكنها لم تقل شيئاً ، فأشار انمار إلى مرتفع يقع في البعيد ، وقال : انظري إلى ذلك المرتفع ، إنني أتذكره جيدا ، والبركة تقع بعده ، على مسافة ليست بعيدة .
ونظرت خزامى إلى المرتفع ، الذي يقع في البعيد ، وقالت : نعم ، إنني أتذكر هذا المرتفع ، وكنت أراه دائماً ، عندما ارتاد البركة .
وصمتت خزامى ، ثم قالت : انمار ..
فاستدار انمار بحصانه ، وعاد إلى مكانه أمام الناقة ، وهو يقول : سأوصلك إلى ذلك المرتفع ، الذي يطل على البركة ، وأودعكِ هناك .






" 15 "
ـــــــــــــــــــــ
توقف انمار بحصانه ، عند مشارف المرتفع الرمليّ ، الذي يطل على البركة ، وتلفت بحذر حوله ، خشية أن يكون هناك أحد من قبيلة خزامى ، ولما اطمأن إلى خلو المكان ، ترجل عن حصانه ، وصعد إلى أعلى المرتفع ، ونظر إلى البعيد .
ورأته خزامى من هودجها ، وهو يتوقف قليلاً في أعلى المرتفع ، وخمنت ما يريده ، وسرعان ما لاحظت أنه تراجع إلى مكانه ، ثم اتجه إليها ، وقال : هذا هو المكان كما توقعته ، إن البركة ، التي تحيط بها الأشجار ، تقع على مسافة ليست بعيدة وراء هذا المرتفع .
والتمعت عينا خزامى ببريق غريب ، فسكت انمار ، وقال وهو يبتعد عن الناقة : انزلي من الهودج ، وارتاحي قليلاً ، ثمّ .. اذهبي حيث تريدين .
ونزلت خزامى من الهودج بلهفة شديدة ، ونظرت فيما حولها ، وتنفست ملء صدرها ، ثم قالت : هذه أنسام دياري حقاً ، أنسام طفولتي ، وشبابي ، وأمي و .. آه كم اشتقتُ إليها ، وأنا بعيدة عنها في الغربة .
ونظر انمار إليها ، وقال : إنني آسف ، يا خزامى ، لأنني حرمتك هذه الفترة مما تحبين .
وتطلعت خزامى إليه ، وقالت بصوت هادىء : لا يا انمار ، أنت إنسان طيب ، وتعاملك الرقيق الحنون معي ، خفف عني الغربة كثيراً .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : ولا أنسى أصيلة ، كانت أصيلة معي بحق ، و ..
وابتسمت خزامى ، وكأنما تتراءى لها أصيلة ، وقالت : إنها تحبك كثيراً ، وقد أحبتني كثيراً أيضاً ، حتى أنها حاولت مرات أن تقنعني بالبقاء عندك ، و ..
ونظر انمار إليها ملياً ، ثم قال : لكنك لم تقتنعي ، وها أنت تعودين إلى ديارك .
وحدقت خزامى فيه طويلاً ، ثم أطرقت رأسها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فقال لها انمار مازحاً : حذار يا خزامى ، سأخطفكِ إذا رأيتك ثانية عند البركة ، وسأبقيكِ عندي هذه المرة ، مهما كلف الأمر .
وابتسمت له خزامى ، والدموع تتلامع في عينيها ، وقالت : لكن ها أنت تعيدني .
فقال انمار : رغم إرادتي ، فأنا لا أريد أن أكرهكِ على البقاء معي .
ولاذت خزامى بالصمت لحظات ، ثم نظرت إلى الشمس ، وهي تنحدر نحو الأفق ، وقالت بصوت متحشرج : ستغرب الشمس بعد قليل .
فقال انمار ، وهو يحدق في عينيها المبللتين بالدموع : أنت في دياركَ ، وإذا ركبت ناقتكَ ، وأسرعت بها قليلاً ، فستكونين عند أهلك قبل حلول الظلام .
وتساءلت خزامى بصوت تخنقه الدموع : وأنت ؟
فردّ انمار قائلاً بصوت حاول جهده أن يكون هادئاً : المكان هنا آمن ، وسيبزغ القمر بدراً هذه الليلة ، سأبقى هنا ، ثم أعود فجر الغد إلى دياري .
واستدارت خزامى ببطء ، وسارت نحو الناقة بخطى مترددة ، ثم ركبت هودجها ، وأنهض انمار الناقة ، ثم ربت عليها ، فسارت متهادية ، وأطلت خزامى من الهودج ، وقبل أن تتفوه بكامة واحدة ، قال لها انمار : رافقتك السلامة .
وظل انمار في مكانه ، يتابع الناقة ، وهي تبتعد بخزامى ، حتى غابت تماماً ، وقد بلغت الشمس حافة الأفق ، وراحت تتوارى خلفه بستار شفاف من الظلام .
وهبط الليل ، ومعه هبطت مشاعر انمار ، لقد ذهبت خزامى ، ووضع فرشه على مسافة من الحصان ، الذي هدأ شيئاً فشيئاً ، وقد آن له أن يرتاح .
وتمدد انمار على فرشه ، دون أن يفكر في تناول شيء من الطعام ، وأغمض عينيه ، وحاول أن ينام ، لكن خزامى لم تدعه ينام ، حضورها .. عيناها .. وأحاديثها .. وتعاطفها معه خلال الطريق .. وخاصة بعد أن هاجمهما قطاع الطرق .. حالت بينه وبين النوم .. وزاد القمر الطين بلة .. حين بزغ بدراً .. وراح يتسلق السماء .. ويطل عليه و .. أهو خزامى ؟ .. آه يا لخزامى .
وانتبه انمار إلى وقع أقدام خفيفة ، تتناهى إليه من بعيد ، أهم قطاع الطرق ؟ أم واحد من قبيلة خزامى ، جاء ليثأر لها ، لأنه اختطفها قبل أشهر ؟ أم ..
واعتدل انمار ، وقلبه يخفق بشدة ، هذه ناقة ، الناقة التي يعرفها ، واتسعت عيناه ، حين رأى الناقة تتوقف ، وتبرك بهدوء ، و .. أهو حلم .. ونزلت خزامى من الهودج ، وراحت تقترب من أنمار ، وضوء القمر هالة حول وجهها .
وهبّ انمار من مكانه ، وهتف مذهولاً : خزامى !
فاقتربت خزامى منه ، وتوقفت أمامه ، وقالت : اخترت أن تأكل الطعام من يديّ ، إذا أردت .
مدّ انمار يديه ، وأطبق على يديها ، وقال : مدى العمر ؟
فردّت خزامى قائلة : مدى العمر .

28 / 1 / 2021
الفهرس
ـــــــــــــــــــــــ
1 ـ الهارب 2
2 ـ سعدى 10

3 ـ الثأر 21

4 ـ سعاد 38

5 ـ من قتل الشمر ؟ 62

6 ـ بدر البدور 102

7 ـ السراب 147

8 ـ الزرقاء 198
9 ـ لهيب الصحراء 273

10 ـ خزامى الصحراء 340



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايتان طلال حسن الهارب
- رواية للفتيان ذئب الأهوار
- رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
- رواية للفتيان خزامى الصحراء
- رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
- رواية للفتيان الصحن الطائر
- رواية للفتيان اشوميا الز ...
- رواية للفتيان نداء الانوناكي
- رواية للفتيان نانوك
- شبح غابة اتوري رواية للفتيان
- رواية للفتيان فتى من كوكب نيبيرو
- زهرة الأنوناكي
- رواية للفتيان الحداد
- رواية للفتيان من قتل شمر ؟
- رواية للفتيان طفل من خرق
- رواية للفتيان البجعة
- رواية للفتيان جبل الوعول
- جزيرة كالوبيوك
- رواية للفتيان هوفاك
- رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - حكايات للفتيان حكايات عربية