أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال حسن















المزيد.....



رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7735 - 2023 / 9 / 15 - 12:14
المحور: الادب والفن
    


رواية للفتيان









الغيوم السوداء









طلال حسن

شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ سندباد
2 ـ قوت القلوب
3 ـ الطبيب صالح
4 ـ الأمير مانو
5 ـ جايا زوجة الأمير
6 ـ الربان
7 ـ الكاهنة العجوز
8 ـ الكاهنة الأم
9 ـ الملك
10 ـ الملكة
11 ـ سارلا
12 ـ الطبيب







" 1 "
ــــــــــــــــــــ

منذ أيام ، والجارية دنيا زاد ، تتابع سيدها سندباد ، داخل القصر وخارجه ، وفي الحديقة ، وحتى أثناء سهرات اللهو والغناء والسمر .
وبدا لها ، أنه أخذ يتغير ، فقد زايله الفرح شيئاً فشيئاً ، وبات أكثر شروداً ، وكآبة ، وميلاً إلى الصمت والهدوء والعزلة ، حتى خشيت أن يكون قد أصابه مرض ما ، أو أن الحنين إلى السفر قد عاوده من جديد ، ولعل هذا أشدّ خطورة عليه من المرض نفسه .
وهذه أمور لا تريحها ، وتثير قلقها ، فهي جديدة عليه ، وحين عاد من رحلته الأخيرة ، التي واجه فيها العملاق ، في جزيرة القرود ، قرر أن لا يسافر ثانية ، وأن يبقى في قصره ببغداد ، ويتمتع بما ربحه في التجارة ، وحصل عليه من أموال طائلة ، ما كان ليحلم بها ، في يوم من الأيام .
واليوم ، بعد الظهر ، رأته يخرج من غرفته ، صامتاً مقطباً بادي الشرود ، ومضى إلى الحديقة ، وراح يذرعها بخطوات شاردة ، ذهاباً وإياباً .
وانتظرت دنيا زاد فترة ، وهي تراقبه من إحدى النوافذ ، ثم خرجت هي الأخرى إلى الحديقة ، وأقبلت عليه ، وهي في كامل زينتها ، وقالت مبتسمة : آه يا سيدي العزيز ، الجو رائع اليوم هنا في الحديقة .
وتمنت أن يردّ عليها ، منفرج الأسارير ، كما يفعل غالباً ، وخاصة عندما يكون رائق المزاج : رائع بحضوركِ أنتِ ، يا دنيا زاد .
لكن بدل ذلك ، قال متذمراً ، دون أن ينظر إليها : لقد هربت إلى الحديقة ، فالجو كئيب خانق داخل القصر .
ومشت دنيا زاد إلى جانبه ، وقالت مبتسمة : لن يكون خانقاً ، إذا أقمنا حفلة رقص وغناء وسمر ، هذه الليلة ، بحضور محبيك ، يا سيدي .
ولاذ سندباد بالصمت ، فاقتربت دنيا زاد منه ، حتى لامسته بكتفها ، وقالت بما يشبه الهمس : سأكون أنا .. دنيا زاد .. بطلة السهرة .
وتوقف سندباد ، ورمقها بنظرة خاطفة ، وقال : إنني متعب ، يا دنيا زاد .
وتطلعت دنيا زاد إليه متأثرة ، وقالت : ليتني أعرف ، يا سيدي ، ما الذي يتعبك ، وبين يديك كلّ ما تتمنى وتشتهي وتأمر .
وابتعد سندباد بعينيه الحائرتين عنها ، وتطلع بعيداً ، بعيداً جداً ، ثم قال بصوت يشيع فيه الوهن والحزن : لا أعرف ، يا دنيا زاد ، لا أعرف .
ولاذ بالصمت لحظة ، ثم التفت إليها ، لكنه لم ينبس بكلمة ، فقالت دنيا زاد : أنت متعب ، يا سيدي ، متعب لا أكثر ، فما عانيته في رحلتك الأخيرة ، ليس بالأمر الهين ، ليتك تعود إلى غرفتك ، وترقد قليلا في فراشك الوثير ، لعلك ترتاح .
وابتعد سندباد بعينيه عنها ثانية ، وقال بصوته الواهن الحزين : اذهبي أنت ، يا دنيا زاد ، اذهبي ، سأدخل بعد قليل ، وأمضي إلى غرفتي .
وقفلت دنيا زاد عائدة إلى داخل القصر ، وهي تكتم عواطفها الدامعة ، لكنها ظلت تتابعه من بعيد ، حتى غادر الحديقة ، وعاد إلى غرفته .
ولم تهدأ دنيا زاد ، ولم تستقر في أي مكان ، لا في غرفتها ، ولا في أي مكان داخل القصر أو خارجه ، وكان لا يشغلها إلا أمر سندباد ، ما الذي يغيره ، وساورتها أفكار غيورة ، لابد أنها امرأة ، جارية أخرى ، وهذا ما تخشاه .
وقبيل غروب الشمس ، لاح لها ما رأت أنه ربما يوقفها على الحقيقة ، فقد رأت الطبيب صالح ، يدخل من باب القصر الخارجي ، ويتجه عبر الحديقة ، إلى الباب الداخلي للقصر .
وعلى الفور ، دخلت دنيا زاد على سندباد في غرفته ، وكان متمدداً يرتاح في فراشه الوثير ، وما إن رآها حتى اعتدل قليلاً ، وقال : دنيا زاد ، تعالي .
واقتربت دنيا زاد منه ، وقال بصوت رقيق : سيدي ، جاء صديقك ، الطبيب صالح .
وابتسم سندباد ، وقال : أظن ، يا دنيا زاد ، أنك وراء مجيئه الساعة .
فردت دنيا زاد قائلة : لا تلمني ، يا سيدي ، أريد أن أطمئن وأرتاح .
ونهض سندباد ، ونزل من سريره ، وقال : اطمئني ، يا دنيا زاد ، لستُ مريضاً .
وسكت هنيهة ، ثم قال : دعيه يدخل .
ومضت دنيا زاد إلى الخارج ، وهي تقول : سأدعه يدخل وحده ، إذا أردت .
وقال سندباد : هيا ، لا تدعيه ينتظر .
وخرجت دنيا زاد ، وسرعان ما أقبل الطبيب صالح ، بخطواته الشبابية ، ووجهه المتورد ، رغم تجاوزه الخمسين ، وقال : ليت لي من يدللني ، كما يدللونك ، يا صديقي العزيز ، سندباد .
ونظر سندباد إليه ، وقال : أصدقني ، يا صديقي صالح ، هل أنا حقاً مريض ؟
وهزّ الطبيب صالح رأسه ، وقال : نعم ، أنت مريض ، وسيشتد مرضك إذا لم يُعالج .
وردّ سندباد قائلاً : حسن ، أنتَ صديقي وطبيبي ، عالجه .
وقال الطبيب صالح : سافر .
وتساءل سندباد : ماذا !
فقال الطبيب صالح : هذا علاجك الوحيد ، السفر ، فسافر ، يا صديقي .
واحتج سندباد قائلاً : لكنك أنت نفسك ، قلتَ لي عندما عدتُ من رحلتي الأخيرة ، كفى ، يا سندباد ، لا تسافر .
فقال الطبيب صالح : والآن أقول لك ، أنت مريض ، سافر ، وستشفى .
واستدار سندباد ، وتوقف عند النافذة ، وراح ينظر عبرها إلى البعيد ، ثم قال : كلا ، يا صالح ، لن أسافر .





" 2 "
ــــــــــــــــــــــ

هذه ليست المرة الأولى ، التي يقول فيها سندباد ، بعد عودته من إحدى رحلاته الشاقة الخطرة " لن أسافر " ، لكن " لن " هذه ، سرعان ما تضعف حتى تتلاشى ، تحت وطأة حياة القصر المملة الراكدة ، وإغراءات الرحيل ، وحتى مخاطر المغامرات اللذيذة ، في بحار العالم ، إلى جزر ومدن جديدة ، تدعوه مشيرة .. تعال .. تعال .
وتلاشت " لن " هذه المرة سريعاً ، فالسفر علاج ، هذا ما قاله صديقه الطبيب صالح ، ولكي يشفى سندباد من مرضه ، لابد أن يعمل بنصيحة الطبيب ، ولا يبقى في القصر ببغداد ، ويسافر إلى البحار ، التي لا تحدها حدود ، وإلا فالمرض سيستمر ، ويتفاقم يوماً بعد يوم ، وعندها ستكون النتائج وخيمة ، لا تحمد عقباها .
وعلى هذا ، وككل مرة ، يُقدم فيها سندباد على السفر ، في رحلة من رحلاته الآسرة ، للتجارة ورؤية البلدان المختلفة ، والناس على اختلاف ألوانهم وأشكالهم ، اشترى بضاعة نفيسة ، وحزمها جيداً ، ثم سافر من بغداد ، عاصمة الرشيد ، إلى البصرة ، ليبدأ رحلة جديدة ، من رحلاته البحرية المحببة والخطرة .
واستقل سندباد مركباً ضخماً ، مع بعض التجار ، انحدر بهم من البصرة ، عبر شط العرب ، إلى الخليج العربي ، ومن هناك خرجوا إلى البحار الواسعة ، ، التي لا تحدها حدود ، وراحوا يتنقلون من جزيرة إلى جزيرة ، ومن مدينة إلى مدينة ، يبيعون ويشترون ، ويطلعون على غرائب وعجائب ، لم يعهدوها في مدنهم ، التي جاءوا منها ، من مختلف أنحاء العراق .
ومن إحدى الجزر الصغيرة ، المبثوثة كالنجوم في المحيط ، صعد إلى المركب ، شاب أصغر من سندباد بقليل ، دمث ، طيب ، وسيم ، أحبه الجميع ، ومن بينهم ، وبالأخص ، سندباد .
وقد ارتاح له سندباد على الفور ، لطيبه ودماثته وعفويته ، فحالما التقى به ، وتبادل معه أطراف الحديث ، مدّ يده إليه مبتسماً ، وقال : أنا الأمير مانو .
وتلقى سندباد يده مصافحاً ومرحباً ، وقال مقابلاً ابتسامته بابتسامة طيبة مرحبة : أهلاً بك ، وأنا تاجر من بغداد ، اسمي سندباد .
ومنذ تلك اللحظة ، ارتبطا بعلاقة وطيدة ، لتتحول مع الأيام إلى صداقة نادرة ، أقرب إلى العلاقة الأخوية منها إلى أي علاقة أخرى .
وذات يوم ، قال الأمير مانو لسندباد ، وكانا يتمشيان على ظهر المركب : كم أتمنى أن تأتي معي ، يا سندباد ، وتبقى في ضيافتي فترة من الزمن .
وضحك سندباد ، وقال : وأنا أتمنى لو تأتي معي إلى بغداد ، وترى أنها عاصمة من عواصم العالم ، بدورها وشوارعها وحدائقها ومستشفياتها ومدارسها وأهلها الكرماء الطيبين .
وقال الأمير مانو : حسن ، تعال معي أولاً ، فجزيرتي قريبة ، ومن يدري ، فقد يُقدر لي أن آتي معك يوماً ، وأرى حبيبتك بغداد .
ونظر سندباد إليه ، وقال : هذا ما أتمناه .
وقال الأمير مانو : تعالوا ببضائعكم إلى مدينتنا ، فهي مدينة غنية عامرة ، وملكها قريب لي ، فأنا أمير ، ولي مكانتي ، وأستطيع أن أقدمك أنت بالذات ، يا سندباد ، إلى الملك .
وتوقف سندباد ، وقال : هذه فكرة جيدة ، لكن الأمر لا يعود لي وحدي كما تعرف ، لنعرض الأمر على الربان والتجار ، وأظنهم سيرحبون بالفكرة .
وعرض سندباد الأمر على الربان والتجار ، فوافقوا متحمسين على ذلك ، وسرعان ما وجه الربان المركب صوب جزيرة الأمير مانو ، وبالفعل وصلوا إليها ، بعد أيام قلائل .
وأنزل التجار بضاعتهم من المركب ، في خان وسط المدينة ، قريباً من الأسواق والمتاجر ، ليبيعوا ويشتروا ، ويبقوا فيها أياماً ، ثم يعودوا إلى المركب ، ليشدوا الرحال مجدداً ، إلى جزر ومدن أخرى .
وأراد سندباد أن ينزل في الخان ، مع جماعته التجار ، لكن الأمير مانو اعترضه قائلاً : لن أدعك تنزل في الخان ، بل ستنزل في بيتي .
وقال سندباد : أشكرك ، أيها الأمير ، إنني تاجر ، وأريد أن أبيع وأشتري .
فقال الأمير مانو : ستنزل عندي ، وأكلف من يبيع بضاعتك ، ويشتري لك ما تريد ، وهذه فرصة يا أخي ، سأقدمك للملك .
ونزل سندباد عند رغبة صديقه الجديد الأمير مانو ، ومضى معه إلى قصره ، الذي يقع في طرف المدينة ، وقدم زوجته الأميرة جايا إليه ، وقال مبتسماً : هذه زوجتي .. الأميرة جايا .
وانحنت الأميرة جايا مبتسمة ، فقال الأمير مانو ، وهو يشير مبتسماً إلى سندباد : هذا سندباد ، أخي العزيز ، وهو تاجر من بغداد ، وسيبقى في ضيافتنا ، ما بقي في هذه الجزيرة .
فانحنت الأميرة جايا له ثانية ، وقالت : على الرحب والسعة ، القصر قصرك .
فرد سندباد قائلاً ، وهو ينحني متردداً كما انحنت له ، وقال : أشكركِ ، يا سيدتي .
والتفت الأمير إلى زوجته الأميرة جايا ، وقال : سندباد يمتدح دائماً طعامهم في بغداد ، أريه طعامنا ، ليعرف أن طعامنا فاخر أيضاً .
وابتسم سندباد محرجاً ، فقالت الأميرة جايا : في الحال ، يا عزيزي .
ومضت مسرعة إلى المطبخ ، لتعد مائدة الطعام لزوجها الأمير مانو وضيفه التاجر سندباد ، الذي جاء من بغداد ، عاصمة الدنيا ، كما قال للأمير مانو .


" 3 "
ـــــــــــــــــــــ

انهمك التجار ، القادمون من العراق ، بالبيع والشراء ، أما سندباد فقد انشغل مع صديقه الأمير مانو ، والزوجة الشابة جايا ، بينما كان بعض تجار الجزيرة ، الذين كلفهم الأمير مانو ، يبيعون البضاعة ، التي جاء بها سندباد من بغداد ، بأثمان طيبة ، تحقق أرباحاً مجزية .
وتجول سندباد برفقة الأمير مانو ، في أرجاء الجزيرة ، وزار معظم معالمها ، وكانت الزوجة الأميرة جايا ترافقهما أحياناً ، وأحياناً تبقى في القصر ، إذا لم تكن صحتها على ما يرام .
وذات يوم ، قرر الأمير مانو أن يأخذ سندباد إلى المعبد ، ويقدمه للكاهنة الأم ، وطلب من زوجته الأميرة جايا ، أن ترافقهما إلى المعبد ، لكنها اعتذرت قائلة : أشعر بصداع ، اذهبا أنتما ، وبلغا الكاهنة الأم تحياتي .
ومضى الأمير مانو مع سندباد إلى المعبد ، وفي الطريق ، قال الأمير مانو : سندباد ، ليلة البارحة ، التقيت بجلالة الملك .
وقال سندباد : ليتني ألقاه .
فقال الأمير مانو : ستلقى جلالته قريباً ، لقد حدثته عنك مراراً ، وأبدا رغبته في التعرف عليك .
فقال سندباد : أنا متشوق للقاء جلالته .
ودخلا المعبد ، فاستقبلتهما كاهنة عجوز ، تبدو طيبة الملامح ، ورحبت بهما ، فقال الأمير مانو : نحن على موعد مع الكاهنة الأم .
فقالت الكاهنة العجوز : تفضلا ، الكاهنة الأم تنتظركما ، في جناحها .
واستقبلتهما الكاهنة الأم ، دون أن تنهض من مقعدها ، وتقدم الأمير مانو ، وقبل يدها ، وقال : طاب صباحكِ ، يا سيدتي .
وتطلعت الكاهنة الأم إلى سندباد ، وقالت : هذا ضيفك التاجر البغدادي .
فقال الأمير مانو : نعم ، يا سيدتي .
ونظرت الكاهنة الأم إلى الأمير مانو ، وقالت : أرجو أن تكون صحة زوجتك ، الأميرة جايا ، على ما يرام .
فقال الأمير مانو : أشكرك ، يا سيدتي ، الحقيقة إنها لم تستطع مرافقتنا اليوم إلى المعبد ، فهي تشكو من صداع شديد .
وقالت الكاهنة الأم ، وكأنها تريد أن تنهي الزيارة : لتشفها الآلهة الرحيمة .
وحين غادرا المعبد ، قال الأمير مانو لسندباد : يبدو أنك لم ترتح للكاهنة الأم .
فقال سندباد : عفواً ، إنها كاهنة جليلة ، ولكن خيل إليّ أنها حادة وصارمة .
وابتسم الأمير مانو ، وقال : أنت محق ، إن البعض هنا ، يسمونها السيف .
وابتسم سندباد بدوره ، وقال : حقاً إنها سيف ، وأي سيف .
ولم تمض ِ أيام قلائل ، حتى مال الأمير مانو على سندباد ، وقال له : تهيأ ، يا صاحبي ، غداً سنذهب إلى القصر ، ونلتقي بالملك .
وفي الغد ، ويا لمشيئة القدر ، لم يلتق ِ سندباد بجلالة ملك الجزيرة فقط ، وإنما التقى بالفتاة ، التي ستقلب حياته رأساً على عقب .
فحين ذهبا ، صباح الغد ، إلى قصر الملك ، التقيا بالملكة ، وكانت برفقتها الفتاة الموعودة ، وانحنى الأمير مانو للملكة ، وقال : مولاتي ، هذا صديقي التاجر سندباد ، وهو من بغداد .
وابتسمت الملكة ، وهي تنظر إلى سندباد ، وقالت : أهلاً بك ، في جزيرتنا ، لقد سبقتك إلينا عطورك العربية الرائعة .
فانحنى سندباد لها قليلاً ، وقال : أشكركِ ، يا مولاتي ، هذا لطف منكِ .
وحانت منه نظرة سريعة إلى فتاة شابة ، كانت تقف إلى جانبها ، وبدا له أنها نظرت إليه هي الأخرى نظرة خاطفة ، ولا يدري لماذا شعر بأنه يعرف هذه الفتاة ، وأنه ربما قد رآها من قبل ، في مكان ما .
وقالت الملكة : تفضلا ، أظن أن جلالة الملك ينتظركما في قاعة العرش .
وانحنى الأمير مانو ، وقال : نستودعك الآلهة .
فقالت الملكة : رافقتكما السلامة .
ومشى سندباد إلى جانب الأمير مانو ، متجهين إلى داخل القصر ، دون أن ينتبه إلى أن تلك الفتاة الشابة ، التي كانت برفقة الملكة ، تابعته رغم إرادتها بعينيها السوداوين الحييتين .
واستقبلهما الملك مرحباً ، في قاعة العرش ، ثم خاطب سندباد قائلاً : لقد تجولت في مدينتنا ، على ما قاله لي الأمير مانو .
فقال سندباد : نعم ، يا مولاي ، وهي مدينة رائعة .
وقال الملك ، وقد بدا مرتاحاً من رأي سندباد : لو قارنتها بمدينتك بغداد ، وهي مدينة عظيمة ومتقدمة ، ماذا ينقصها في رأيك ؟
فردّ سندباد قائلاً : مدينتكم رائعة ، وستكون أروع لو بنيتم فيها ، كما في بغداد ، مدرسة يتعلم فيها الصغار ، ومستشفى يعالج فيه المرضى .
والتفت الملك إلى الأمير مانو ، وقال : اسمع ما يقوله صديقك البغدادي .
وصمت لحظة ، ثم قال : هذا ما أريد أن تشرف على بنائه في جزيرتنا هذه ، يا سندباد ، وسيعاونك في هذا الأمير مانو .
فقال سندباد : عفواً مولاي ، أنا تاجر ، وقد أسافر من جزيرتكم بعد أيام .
فقال الملك : لن تسافر ، يا سندباد ، وستبني لنا المدرسة والمستشفى ، بعد موافقتك طبعاً .
وعلى الفور ، تراءت له الفتاة الشابة ، التي رآها في حديقة القصر ، برفقة الملكة ، ترى من هي ؟ ولاذ بالصمت ، ولم يعترض بكلمة واحدة .


" 4 "
ــــــــــــــــــــــ

خلال أسابيع ، باع التجار الذين جاء سندباد معهم بعض البضائع التي أتوا بها من بغداد ، واشتروا ما يتوفر في تلك الجزيرة من بضائع ، ثم نقلوا تلك البضائع إلى المركب ، لينتقلوا على عادتهم إلى مدينة أو جزيرة أخرى ، ليواصلوا البيع والشراء .
وقبل أن يصعد التجار إلى المركب ، ويرحلوا عن الجزيرة ، إلى جزيرة أخرى ، تشاوروا في ما بينهم حول سندباد .
وقال أكثر من واحد منهم ، إنه لن يأتي ، فقد باع تجار من المدينة بضاعته كلها ، ولم يشتروا له بضاعة ، يمكن أن يتاجر بها .
لكن الربان قال لهم : مهما يكن ، لن نغادر هذه الجزيرة إلا بعد أن يقول لنا ذلك بنفسه.
فقال له أحد التجار : هذه مهمتك ، أنت الربان ، اذهب إليه بنفسك ، واعرف موقفه .
فقال الربان : نعم هذه مهمتي ، فأنا ربان المركب ، سأذهب إليه ، وأعرف موقفه .
وهذا ما حدث بالفعل ، فقبل رحيلهم بيومين أو ثلاثة أيام ، ذهب الربان عصراً ، إلى قصر الأمير مانو ، والتقى بسندباد ، وقال له : نحن سنرحل ، من هذه الجزيرة ، خلال أيام قلائل ، ونريد أن نعرف موقفك أنت .
فردّ سندباد : ارحلوا أنتم ، أما أنا فسأبقى هنا ، ربما بعض الوقت ، فلدي عمل التزمت به أمام الملك ، وعليّ أن أنجزه .
ونهض الربان ، وقال : نتمنى لك التوفيق .
فعانقه سندباد قائلاً : تحياتي إلى جميع الإخوة التجار ، رافقتكم السلامة .
وخلال هذه الفترة ، وبعد رحيل المركب ، انشغل سندباد مع الأمير مانو ، ببناء المستشفى والمدرسة ، اللتين وعد الملك بالإشراف على بنائهما ، وكان كلما ذهب إلى القصر ، بصحبة الأمير مانو طبعاً ، للقاء الملك ، كانت عيناه تبحثان متلهفتين عن الفتاة الشابة السمراء ، التي كانت برفقة الملكة ، حين زار الملك لأول مرة .
ورغم تلهفه لمعرفتها ، أو معرفة اسمها على الأقل ، إلا أنه تردد في أن يسأل الأمير مانو ، والأميرة جايا ، عنها .
وذات يوم ، وهم على الغداء ، في قصر الأمير مانو ، وكانت زوجة الأمير مانو ، الأميرة جايا ، معهم على المائدة ، قال سندباد وكأنما عرضاً : في المرة الأولى ، التي زرت فيها الملك مع أخي الأمير مانو ، رأيت مع الملكة فتاة شابة ..
وسكت سندباد محرجاً ، فابتسمت الأميرة جايا ، وقالت : سارلا .
وتساءل سندباد مندهشاً : سارلا !
فقالت جايا : هذا اسمها .
وغمغم سندباد ، وكأنما يحدث نفسه : سارلا .
ونظرت جايا إليه ، وقالت مبتسمة : سارلا صديقتي الحميمة ، وهي ربيبة الملكة ، تحبها كما لو كانت ابنتها ، أو أختها الصغيرة .
وسكتت برهة ، ثم استطردت قائلة : سارلا فتاة رائعة تمناها الكثيرون ، وأصارحك ، لقد جاءتني قبل أيام ، وسألت عنك ، هي أيضاً ، وعرضاً كما سألت أنت .
وضحك الأمير مانو ، وقال : جرب حظك معها ، يا سندباد ، من يدري ماذا يخبئك لك القدر ، في جزيرتنا هذه .
وتوقف سندباد عن تناول الطعام ، وتساءل قائلاً : ماذا تقول ، يا مانو ؟
وعلقت الأميرة جايا مبتسمة : جرب ، يا سندباد ، من يدري ، قد ستنجح .
وقال الأمير مانو : بل سينجح .
وقبل أن يرد سندباد بشيء ، أضاف الأمير مانو مخاطباً زوجته جايا : هذه أفضل طريقة لإبقائه معنا ، إلى الأبد في هذه الجزيرة .
فقال سندباد : لكن آه .. هذا يبدو مستحيلاً .
وقالت جايا مبتسمة ، وهي تنظر إلى مانو : مثل هذه العواطف ، لا تعرف المستحيل ، اسألني واسأل مانو .
وضحك مانو ، وقال وهو يغمز لجايا : جرب ، يا سندباد ، وسترى .
لكن ما بدا مستحيلاً لسندباد ، بدأ يصير ممكناً ، وخاصة بعد أن عرفت الأميرة سارلا نفسها بالأمر ، وتأكدت أن سندباد يبادلها نفس العواطف ، التي تكنها له .
وقد أفرح هذا كلّ من عرف سارلا وسندباد ، عدا الكاهنة الأم ، فهي ما إن عرفت بالأمر ، حتى هبت من مقعدها ، وقالت منفعلة : كلا ، أخي يريدها .
ولكن لأن سارلا كانت تريد سندباد ، وليس أخا الكاهنة الأم ، تدخلت الملكة ، وقالت : لن تكون سارلا إلا لمن أرادته هي ، سندباد .
وهذا ما حدث بالفعل ، فخلال أسابيع قليلة ، تزوج سندباد من سارلا ، في حفل بهيج ، حضره الملك والملك ، وقد أهداهما الملك قصراً جميلاً ، يطل على البحر ، فحلا فيه فرحين غاية الفرح .
وبدا لسندباد وسارلا ، ولكل من يعرفهما ، أن السعادة قد حلت عليهما ، وأنها ستقيم بينهما حتى النهاية ، لكن السماء الزرقاء الصافية ، لا تبقى دائماً صافية ، فالرياح السوداء ، إذا هبت ، لا تأتي إلا بالغيوم السوداء ، فآه من .. الغيوم السوداء .


" 5 "
ـــــــــــــــــــــ

ظهرت أولى تلك الغيوم ، في سمائهما الصافية الزرقاء ، عندما سقطت الأميرة جايا ، زوجة الأمير مانو مريضة ، وبدا عليها الضعف والوهن ، مما اضطرها إلى ملازمة الفراش .
وزارها الطبيب ، وهي في فراشها ، وحولها زوجها الأمير مانو ، وسندباد وزوجته سارلا ، وفحصها فحصاً دقيقاً ، ثم قال : اطمئنوا ، إنه دلال لا أكثر ، ستتحسن صحتها ، وتنهض من الفراش ، خلال أيام قلائل .
وتناهى الأمر إلى الكاهنة الأم ، وقد أنصتت ملياً إلى الكاهنة العجوز ، التي نقلت لها هذا الأمر ، فنظرت بعيداً عبر النافذة ، وقد ازداد تجهمها ، ولم تنبس بكلمة واحدة .
وعلى العكس مما قاله الطبيب ، لم تتحسن صحة جالا ، رغم مرور الأيام ، والرعاية المستمرة من قبل الأمير مانو وزوجة سندباد سارلا ، بل اشتد عليها المرض يوماً بعد يوم ، حتى باتت لا تقوى على النهوض ، ومغادرة فراشها .
وزارها الطبيب مرات ومرات ، وفي كل مرة ، كان يغير الأدوية ، ويقول حائراً : ماذا يجري ؟ لك اطمئنوا ، ستشفى .
وبدل أن تشفى ، كانت صحة جايا تتدهور يوماً بعد يوم ، وراح الذبول يصيب عينيها ، ودا أن الحية تنطفئ فيهما .
وذات مساء ، عاد سندباد متعباً من موقع العمل ، في المدرسة والمستشفى ، فوجد زوجته سارلا حزينة ، دامعة العينين ، فتساءل متوجساً : ما الأمر ، يا سارلا ؟
فردت سارلا بنبرة باكية : جايا .
وقال سندباد : لا عليك ، يا سارلا ، الطبيب يسهر على علاجها ، وهو يقول دائماً ، إن صحتها ستتحسن ، وستشفى .
وهزت سارلا رأسها ، وهي تكاد تجهش باكية ، فمدّ سندباد يديه إليها ، وأخذها إلى صدره ، وقال : أعرف أنك خائفة عليها ، يا سارلا ، لكن اطمئني ، إنها شابة ، وستجتاز هذه المحنة .
لكن جالا لم تجتز المحنة ، فعند منتصف تلك الليلة ، بلغهم النبأ الصاعق ، لقد صدقت نبوءة الكاهنة الأم ، ورحلت جالا .
وأجهشت سارلا بالبكاء ، فنظر سندباد إليها ، وقال بصوت مفعم بالحزن : مسكينة جالا .
وقالت سارلا ، من بين دموعها : ومسكين مانو أيضاً ، إنه مازال شاباً .
وهز سندباد رأسه ، وقال : نعم ، مسكين ، كان يعبدها ، ولا أدري كيف سيعيش من دونها .
وسكت لحظة ، ثم قال بصوت حزين : الإنسان لا يعرف ما قد يصيبه ، في هذه الحياة ، مهما يكن ، هذا قدره .
وازداد بكاء سارلا ، وهي تقول بنبرات تغرقها الدموع : لكن مانو لن يعيش ، لقد انتهت حياته بانتهاء حياة جايا.
ومدّ سندباد يديه ، وأخذ سارلا إلى صدره ، وراح يربت على ظهرها مفكراً في تقوله زوجته سارلا ، مهما يكن ، إنها في غاية الحزن ، وربما لا تعرف ماذا تقول .
ويبدو أن سندباد ، هو من لم يعرف ما قصدته سارلا ، وعرف ذلك بالتدريج فيما بعد ، فحين أسرع إلى الأمير ، لتعزيته بوفاة زوجته جالا ، وقال له بصوت حزين ، وهو يشد على يده : البقاء في حياتك ، هذه هي الحياة ، علينا أن نتحمل مصائبها ، ونستمر .
تمتم الأمير : نستمر !
فقال سندباد : هذا ما علينا أن نفعله ، الحي أبقى من الميت ، يا أخي مانو .
فقال الأمير مانو ، وعيناه غارقتان بالدموع : لم يعد لي حياة ، بعد موت زوجتي جايا .
ونظر سندباد إليه صامتاً ، فتابع الأمير بصوت متشنج : تلك هي عادتنا في هذه الجزيرة ، يا سندباد ، لابد أن أذهب مع زوجتي إلى القبر ، نعم ، عليّ أن أذهب إلى القبر ، ولو كنت أنا المتوفي ، لذهبت هي معي إلى القبر .
وصعق سندباد أمام ما قاله الأمير ، وتذكر ما قالته له زوجته سارلا ، ولم يفهمه بالضبط وقتها ، وكيف يمكن أن يفهم مثل هذا الأمر ، الذي لم يذكر حدوثه في أي مدينة زارها ، خلال رحلاته الكثيرة ، في طول الأرض وعرضها .
وفي صباح اليوم التالي ، تجمع المشيعون في قصر الأمير مانو ، وقبيل منتصف النهار ، حمل بعض المشيعين التابوت على أكتافهم ، وساروا به إلى خارج المدينة ، وبقية المشيعين يحيطون بالأمير مانو ، ويسيرون ببطء وجلال وراء التابوت .
ووصل الجميع إلى جبل خارج المدينة ، وتوقفوا عند مكان قريب من السفح ، ورفع الدفانون حجراً ضخماً ، عن فوهة جب عميق موحش ، وأنزلوا التابوت فيه ببطء ، بواسطة الحبال ، ثم سحبوها من داخل الجب .
وأحاط المشيعون بالأمير مانو ، وراحوا يعزونه من جديد ، ويقبلونه قبلة الوداع ، وتقدم سندباد منه ، دامع العينين ، وعانقه بحرقة ، وقال بصوت كالبكاء : أخي مانو ..
فعانقه الأمير مانو ، وكأنه يواسيه وقال : هذه عاداتنا ، يا سندباد ، وقد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ، عش أنت حياتك ، وداعاً .
وعند حوالي الغروب ، ربط الدفانون الأمير مانو بالحبال ، وأنزلوه إلى الجب ، وأنزلوا معه كوز ماء ، وسبعة أرغفة من الخبز ، وثلاث شموع ، ثم سحبوا الحبال ، وأعادوا الحجر الضخم إلى فوهة الجب ، ثم قفلوا عائدين ، مع غروب الشمس ، إلى المدينة .


" 6 "
ـــــــــــــــــــــ
ترك غياب الأميرة جالا والأمير مانو ، فراغاً كبيراً في حياة سندباد وزوجته سارلا ، وقد عانت سارلا الكثير من هذا الغياب ، ولم يواسي سندباد ، ويخفف عنه بعض الشيء ، إلا انهماكه في العمل ، الذي بدأه مع الأمير مانو ، بانجاز المدرسة والمستشفى في الجزيرة .
ومما زاد في معاناة سارلا ، وشعورها بالقلق والخوف ، مرور أشهر عديدة على زواجها ، دون أن تبدو عليها بوادر الحمل ، إنها تريد طفلاً ، ليس من أجلها فقط ، بل في الأساس ، من أجل زوجها سندباد ، لعله يخفف عنه أيضاً شعوره الممض بفقدان الأمير مانو والأميرة جايا .
وقد عرف سندباد سبب معاناتها وقلقها ، فحاول جهده أن يخفف عنها ، وطالما حدثها قائلاً : سارلا ، عزيزتي ، لا داعي للقلق ، الوقت مازال مبكراً ، والمهم عندي أنت ِ .
فتقول له دامعة العينين : أعرف ، يا عزيزي ، لكني أريد أن أقدم لك طفلاً .
فيأخذها بين ذراعيه ، ويقول لها : أنتِ تكفيني ، ثم إنني لا أريد من ينافسني على حبكِ .
فتستكين سارلا فوق صدره ، وتقول : لن ينافسك أحد ، يا سندباد ، مهما كان عزيزاً عندي .
وعن بعد ، وبشكل غير مباشر ، كانت الكاهنة الأم ، تتبع أنباء سندباد وزوجته سارلا ، فهي في أعماقها القاتمة ، لم تغفر لسارلا أنها فضلت سندباد ، التاجر القادم من بغداد ، على أخيها ، ابن جزيرتها ، وشقيق الشخصية الدينية الكبيرة .. الكاهنة الأم .
وذات ليلة ، وسندباد يكاد يغفو في فراشه ، اندست سارلا إلى جانبه ، وهمست له : سندباد .
وردّ سندباد ، دون أن يفتح عينيه ، اللتين يثقلهما النعاس الشديد : حبيبتي .
وتابعت سارلا قائلة : لابد لي ، يا عزيزي ، أن أذهب غداً إلى المعبد ..
وهمهم سندباد بصوت ناعس : هم م م م م .
فقالت سارلا : أريد أن ألتقي بالكاهنة الأم .
فقال سندباد بصوت يكاد يغطيه النعاس : حسن .. اذهبي حبيبتي .. اذهبي .
فقالت سارلا : سندباد ، لم تسألني ، لماذا أريد الذهاب إلى المعبد .
وغمغم سندباد متسائلاً : لماذا ؟
فردت سارلا بصوت هامس : أريد أن أقدم لك طفلاً صغيراً ، يشبه حبيبي سندباد .
لكن حبيبها سندباد ، لم يرد عليها هذه المرة ، ولم تبدر منه حركة ما ، فقد كان بعيداً عنها ، في عالم آخر ، يغط في نوم عميق .
وقبل أن تذهب سارلا إلى المعبد ، وتقابل الكاهنة الأم ، التقت بالكاهنة العجوز ، فمهدت لها الأمر ، وحددت لها موعد المقابلة .
وأخبرت سارلا زوجها سندباد بالأمر ، فقال سندباد : يا للعجب ، يبدو أن الكاهنة الأم ، قد غفرت لكِ موقفك الأخير من أخيها .
فردت سارلا بطيبتها المعهودة : لا تنسَ ، يا سندباد ، إنها الكاهنة الأم ، ولمثلها في جزيرتنا عادة ، قلب كبير محب ، متسامح .
ونظر سندباد إليها مبتسماً ، وقال : آه حبيبتي ، إنما أنت تتحدثين عن قلب كبير ورائع هو قلب حبيبتي .. سارلا .
وفي الموعد المحدد ، ذهبت سارلا إلى المعبد ، واستقبلتها الكاهنة الأم في جناحها ، وقالت لها بصوتها الجاف : سارلا .
وانحت سارلا على يدها ، وقبلتها بإجلال ، ثم قالت : طاب يومك ، يا سيدتي .
ودون أن تردّ على تحيتها ، أشارت الكاهنة الأم إلى مقعد قريب ، وقالت : تفضلي .
وجلست سارلا ، ونظرت برجاء إلى الكاهنة الأم ، وقالت : سيدتي الأم المبجلة ، جئتك في أمر ، لن يساعدني فيه غيرك .
وردت الكاهنة الأم ، دون أن تنظر إليها : أعرف في ما جئتِ ، يا سارلا .
وهنا أقبلت الكاهنة العجوز ، ووضع أمام سارلا قدحاً من العصير ، ثم انحنت للكاهنة الأم ، وخرجت من الجناح ، ورفعت سارلا عينيها الضارعتين إلى الكاهنة الأم ، وقالت : سيدتي ..
فقاطعتها الكاهنة الأم قائلة بصوت قاطع : اشربي عصيرك أولاً ، يا سارلا .
ومدت سارلا يدها ، وأخذت كوب العصير ، وشربت منه جرعة ، وهمت أن تعيده إلى مكانه ، فخاطبتها الكاهنة الأم قائلة : اشربيه كله ، يا سارلا ، فهذا العصير الخاص أعددته بنفسي .
وقالت سارلا ، بعد أن شربت العصير حتى نهايته : عصير لذيذ ، يا سيدتي ، أشكركِ .
ووضعت سارلا الكوب أمامها ، وجلست صامتة منتظرة ، فقالت الكاهنة الأم : لقد صليت للآلهة ، أن ترسلك إليّ في المعبد ، وها قد استجابت الآلهة لصلاتي ، وجئتِ إليّ .
ثم أبعدت عينيها القاتمتين عنها ، وقالت بصوتها الجاف : انهضي ، يا سارلا ، واذهبي .
ونهضت سارلا مرتبكة ، حائرة ، ثم انحنت للكاهنة الأم ، وقالت بصوت متردد : استودعكِ الآلهة ، يا سيدتي .
وانتظرت سارلا برهة ، وكأنما تريد أن تسمع الرد ، لكنها سرعان ما مضت إلى الخارج ، دون أن تسمع كلمة واحدة من الكاهنة الأم ، آه سندباد ، كل شيء يهون من أجلك ، سأقدم حياتي فداء لراحتك وسعادتك ، وإعطائك طفلاً صغيرة يشبهك ، سندباداً صغيراً ينمو في أعماقي ، أقدمه هبة من أعماقي إليك .






" 7 "
ـــــــــــــــــــــ

بعد أن زارت سارلا المعبد ، والتقت بالكاهنة الأم ، وشربت ما قدمته لها من عصير ، قالت أنه من إعدادها شخصياً ، لم تحمل بطفل كما تمنت ، بل بدأت حملت بمرض غامض ، بدأ يزحف إلى أعماقها المعافاة .
ورغم شعورها التدريجي بالوهن والضعف ، لم تشأ يوماً أن ترقد في الفراش ، متظاهرة بالنشاط والحيوية ، وراحت تخفي شحوب وجنتيها المتزايد ، بما تضعه بعض نساء الجزيرة من أصباغ ملونة خادعة .
ولاحظ سندباد معاناة زوجته سارلا ، والنحول الطفيف الذي بدأ يصيب جسمها الممتلئ ، وسمعها أكثر من مرة ، تئن ليلاً ، وهي ترقد إلى جواره في الفراش .
وذات ليلة ، أفاق سندباد على أنينها الخافت ، المتوجع ، فالتفت إليها ، وراح يحدق فيها ، ورغم أن عينيها كانتا مغمضتين ، إلا أنه عرف أنها لم تكن نائمة .
وداخله هاجس مقلق ، أنها ربما تكون مريضة حقاً ، وتكتم مرضها كي لا يتأثر ، فمال عليها ، وقال بصوت هامس : سارلا .
وعلى الفور ، فتحت سارلا عينيها ، فلمح فيهما الخوف والقلق ، ومدّ يده ، ومسح العرق عن جبهتها المحمومة ، وقال يطمئنها : غداً سأستدعي الطبيب ليراك .
وعبثاً حاولت سارلا أن تبتسم ، وهي تقول محاولة التخفيف عنه : حبيبي ، لا داعي للطبيب ، لست مريضة .
ومدّ سندباد يديه ، وأخذها إلى صدره ، وقال بصوت حنون : هذا ما أتمناه ، ، يا حبيبتي ، لكني لن أرتاح ، إلا إذا رآكِ الطبيب ، لتطمئني ، وأطمئن على صحتكِ .
لكن سندباد لم يرتح ، ولم يطمئن ، حتى بعد أن جاء الطبيب ، في اليوم التالي ، وفحص سارلا جيداً ، ثم قال : صحيح إن سارلا نحلت قليلاً ، لا أدري لماذا ، إلا أنها ، على ما يبدو لي ، لا تعاني من أي مرض .
ونظرت سارلا إلى سندباد ، وقالت بصوت حاولت أن لا يكون واهناً : ارتحت الآن ؟ قلت لك لست مريضة ، لكنك لم تصدقني .
وقبل أن يغادر الطبيب القصر ، قال لسندباد : نعم ، سارلا ليست مريضة ، وستعود إليها صحتها وحيويتها ، خلال أيام قلائل .
لكن خلال أيام قلائل ، لم تعد لسارلا صحتها ولا حيويتها ، بل اشتد عليها المرض ، حتى أجبرها سندباد على الرقاد في الفراش ، لعلها ترتاح ، وراح الطبيب يعودها كلّ يوم ، ويفحصها من جديد ، ويصف لها المزيد والمزيد من الأدوية ، لكن دون جدوى .
وسمعت الملكة بمرض سارلا ، الذي أرقدها في الفراش ، فقررت أن تزورها بنفسها ، وتطمئن عليها ، وهذا ما لم تفعله الملكة من قبل ، حتى مع أحب الناس إليها ، خارج القصر .
وأخبرت الملك بقرارها ، فوافقها على هذه الزيارة ، وطلب منها أن تنقل لها ولزوجها سندباد ، تحياته وتمنياته لسارلا بالشفاء العاجل .
وقبيل مساء أحد الأيام ، فوجئ سندباد ، وكان إلى جانب زوجته سارلا ، التي كانت راقدة في فراشها ، بحضور الملكة إلى قصره .
وهمت سارلا أن تنهض من فراشها ، لتكون بنفسها في استقبال الملكة ، عند باب القصر ، لكنها لم تستطع النهوض ، وأقبلت عليها الملكة ، يرافقها سندباد ، بادي التأثر ، ونظرت إلى سارلا ، وقالت بصوت مفعم بالعاطفة : سارلا ..
واعتدلت سارلا قليلاً في فراشها ، وردت بنبرة دامعة : مولاتي العزيزة .
وابتسمت الملكة ، وقالت : زرتك اليوم ، يا سارلا ، وأريد أن تردي لي الزيارة غداً .
وغامت عينا سارلا بسحابتين من الدمع ، وهي تقول : بعون الآلهة ، يا مولاتي .
فقالت الملكة : جلالة الملك يحييكِ ، ويتمنى لك الشفاء العاجل ، وسيرسل لك طبيبه الخاص اليوم ، ليعالجك ، فأنت عزيزة عندنا .
وجاء طبيب الملك ، بعد أن غادرت الملكة قصر سندباد ، وأجرى لسارلا فحوصات عديدة ، ثم وصف لها أدوية جديدة ، وغادر القصر .
وأرقت سارلا تلك الليلة ، وبقي سندباد إلى جانبها ، يحاول تهدئتها ، والتخفيف عنها ، وعند منتصف الليل تقريباً ،نظرت سارلا إلى سندباد بعينين ، تكادان تنطفئان ، وغمغمت : سندباد .
ورد سندباد : حبيبتي .
فقالت سارلا : تعال إلى جانبي .
وتمدد سندباد إلى جانبها ، وقال والدموع تبلل عينيه : وسأبقى إلى جانبك .
ودمعت عينا سارلا ، لكنها كتمت دموعها ، وقالت : لو أردتُ منك شيئاً ، أتحققه ؟
فمال سندباد عليها ، ولثم جبينها المحموم ، وقال : حتى لو أردتِ حياتي .
وقالت مغالبة بكاءها : اهرب .
واعتدل سندباد ، وقد اتسعت عيناه ، وتمتم مذهولاً : ماذا ! ماذا تقولين ؟ أهرب ؟ أترك حياتي سارلا وأهرب ؟ لا ، مستحيل .
فقالت سارلا باكية : لا أريد أن تموت معي .
وأخذها سندباد إلى صدره ، وقال : كلا ، يا حبيبتي ، لن أهرب ، سأبقى ، وأعيش إلى جانبك ، حتى النهاية .


" 8 "
ــــــــــــــــــــــ
لا يدري سندباد ، كيف ومتى أغفى ، وسارلا تتململ بين ذراعيه ، والحمى تلهب جسدها وتشويه ، لكنه أفاق فجأة ، قبيل الفجر ، وسارلا مازالت بين ذراعيه ، لكنها كانت هذه المرة ساكنة ، باردة ، وأدرك مصعوقاً ، أن سارلا التي عرفها ، وكأنه عاش معها العمر كله ، لم تعد سارلا .
وهبّ سندباد ، وسارلا التي لم تعد سارلا بين يديه ، وصاح من أعماقه ، وكأنما يريد أن يوقظها من رقدتها : سارلا .
لكن سارلا ، ولأنها لم تعد سارلا ، لم تستجب لهتافه ، كما كانت تستجيب ، عندما كانت سارلا ، وظلت بين يديه ساكنة باردة ، لا أثر فيها للحياة ، آه سارلا ، لقد رحلت سارلا .
وكما تسري النار في الغابة ، سرى نبأ رحيل سارلا في الجزيرة كلها ، حتى وصل الكاهنة الأم ، وكذلك الملك والملكة ، ولمعت عينا الكاهنة الأم المعتمتين ، حين أبلغتها الكاهنة العجوز بالنبأ ، وقالت في نفسها : لا عجب ، لقد تذوقتْ عصيري ، الذي أعددته لها بنفسي .
ودمعت عينا الملكة حزناً على سارلا ، فقد رعتها وكأنها ابنتها ، وغمغمت : مسكينة سارلا ، إنها ربما لم تبلغ العشرين بعد .
وقال الملك : الأعمار بيد الآلهة .
وسكت لحظة ، ثم قال : سآمر بتشييعها ، كما لو كانت أميرة من أميرات القصر .
وكتمت الملكة بكاءها ، وقالت : لقد زوجناها كأميرة ، آه لقد كانت سعيدة مع سندباد ، لكن سعادة المسكينة لم تدم طويلاً .
فقال الملك : مهما يكن ، علينا أن نقف الآن إلى جانب سندباد ، فهذه مأساة ومحنة عمره ، ول أكن أتمناها له .
وكفكفت الملكة دموعها ، وقالت : مليكي ..
وأحس الملك بأهمية ، وربما خطورة ، ما ستقوله الملكة ، فنظر إليها ، وقال : نعم .
فقالت الملكة : ستدخل سارلا اليوم إلى الجب ، إنها واحدة منا ، فماذا بشأن سندباد ؟
وقطب الملك ، وقد أدرك ما ترمي إليه ، وقال : أيتها الملكة ، أنت تعرفين جيداً ، إنها عادات وتقاليد آبائنا وأجدادنا ، منذ أن وجدنا على هذه الجزيرة ، وليس لنا أن نخرج الآن عليها .
وقالت الملكة بنبرة رجاء : لكن سندباد من بغداد ، وليس من جزيرتنا .
وردّ الملك قائلاً : صار سندباد واحداً منا ، ما إن تزوج سارلا ، وهي فتاة من هذه الجزيرة .
وقالت الملكة مترددة : مليكي ..
فقاطعها الملك قائلاً ، وكأنه يريد أن يضع حداً لهذا الحديث : ما ينطبق عليّ وعليك ، يجب أن ينطبق على الجميع ، بمن فيهم سندباد .
وعلى الفور ، أمر الملك أن تحضر الأميرة سارلا ، وتبدأ مراسيم التشييع ، كما تحضر أميرة من أميرات القصر ، والذي سيشارك في تشييعها الجميع ، وفي مقدمتهم الملك والملكة .
ومنذ وقت مبكر ، من ذلك اليوم الأسود ، التف المشيعون بالمئات حول سندباد ، يعزونه بمصابه ، الأليم ، محاولين شدّ أزره ، والتخفيف عنه ، دون جدوى .
وانصرفت بعض النساء ، كبيرات السن خاصة ، إلى إعداد سارلا للدفن ، ثم ألبسوها أجدّ وأجمل ملابسها ، وزينوها بما في حوزتها من مصاغ وقلائد وجواهر ، وكأنهم يعدونها للزفاف .
ثم طلبوا من سندباد نفسه ، أن يرتدي أجدّ وأفضل ما عنده من ثياب ، ولم يكن أمامه إلا أن ينفذ ما طلبوه منه وهو ذاهل تماماً ، فارتدى الحلة الجميلة ، التي ارتداها في ليلة زواجه من سارلا ، ولا عجب ، فهو سيزف إلى سارلا نفسها ، ولكن ليس على سطح الأرض ، وإنما في الجب .
وقبيل الغروب ، بدأ التشييع المهيب ، فحُمل تابوت سارلا على عربة ، يقودها جوادان مطهمان ، سارت في المقدمة ، وسار وراءها مباشرة الملك والملكة وسندباد ، تليهم الحاشية وكبار رجالات القصر ، وعدد غفير من سكان الجزيرة .
وتوقفت العربة بتابوت سارلا ، عند حافة الجبل المعهود ، وتوقف الجميع وراءها ، وعلى الفور ، تقدم الدفانون ، ورفعوا الصخرة الضخمة ، التي تغطي فوهة الجب ، وحين رفع الدفانون تابوت سارلا ، وبدأوا بإنزاله إلى الجب ، دمعت عينا الملكة ، وتمتمت بحزن عميق : وداعاً .. يا سارلا .. وداعاً .. وداعاً .
ثم أحاط الجميع بسندباد ، الذي بدا مذهولاً عما يدور حوله ، يعزونه ويعبرون له عن حزنهم وتأثرهم لمصابه .
وتقدم الملك منه ، وشدّ على يده بقوة وتعاطف ، وقال : سندباد ..
ورفع سندباد عينيه الغارقتين بالحزن إليه ، لكنه لم ينبس بكلمة واحدة ، فتابع الملك قائلاً : إنني متأثر لما حدث لك أنت ولسارلا ، أنتما لا تستحقان إلا الخير ، لكن ما العمل ؟ هذه هي الحياة .
وصمت لحظة ، ثم قال : أشكرك على كلّ ما قدمته لجزيرتنا ، سنكمل ما بدأته ، وسنطلق على المدرسة اسم ، مدرسة سندباد .
وقالت الملكة : بعد إذن الملك ، وسنطلق على المستشفى اسم ، مستشفى سارلا .
وهزّ الملك رأسه موافقاً ، ثم شدّ على يد سندباد ، وقال : وداعاً ، يا سندباد ، وداعاً .
وتراجع الملك قليلاً ، فأحاط الدفانون بسندباد ، وكما فعلوا بالأمير مانو ، فعلوا بسندباد ، فقد شدوه بالحبال ، وأنزلوه إلى الجب ، بعد أن زودوه بكوز ماء وسبعة أرغفة من الخبز وثلاثة شموع ، ثم أعادوا الصخرة الكبيرة إلى مكانها ، وأغلقوا بها فوهة الجب .
وعند المساء ، والشمس تغرق في البحر شيئاً فشيئاً ، مودعة يوماً آخر من الحياة ، عاد الموكب الحزين إلى المدينة ، يتقدمه الملك والملكة .


" 9 "
ـــــــــــــــــــــــ

أطبق الظلام على سندباد ، ما إن وضعوا الصخرة الضخمة على فوهة الجب ، لكن ذلك الظلام ، لم يكن ظلام الليل ، بهوائه العليل المنعش ، ونجومه المتغامزة في عمق السماء ، بل ظلام الرعب والموتى .
وتلفت سندباد حوله ، لا شيء غير الظلام والصمت والروائح النتنة ، وجلس مرعوباً إلى جانب التابوت ، كأنه يحتمي بزوجته سارلا من العتمة والمجهول ، لكن سارلا ، التي عرفها ، والتي عاش معها مطمئناً سعيداً ، لم تكن سارلا ، فما العمل ؟
وأغمض عينيه ، لعله يفرّ من الجب ، ولو لحظات ، وتراءت له بغداد .. والبصرة .. والمركب .. والتجار .. والأمير .. والجزيرة .. آه .. وتمنى لو لم يأتِ إلى هذه الجزيرة .. ويرى الأمير و جايا .. والملك والملكة و .. سارلا ؟ لا .. لا .. سارلا حياتي .. آه سارلا .
هل أغفى ؟
هذا ما تمناه ، ولكنه على ما يبدو ، غاب عن الوعي قليلاً ، وهذا أيضاً ما تمناه ، لكن هذا الغياب ـ الأمنية ، لم يدم طويلاً .
فقد أفاق على ما يشبه الأنين الخافت ، يصدر من مكان غير بعيد ، من عمق الظلام ، وفتح عينيه مرعوباً ، أهي الريح ؟ لكنه في جب تحت الأرض ، فمن أين تأتيه الريح ؟
وأنصت ملياً ، لعله واهم ، فما هو فيه من ضيق ورعب وظلام ، يجعله يتخيل ما لا وجود له ، وخفق قلبه رعباً ، إنه ليس واهماً ، فالأنين واضح ، ويبدو أنه أنين امرأة ، نعم ، امرأة ، إلا إذا كانت جنية تقمصت شكل امرأة ، فمثل هذا الجب ، يمكن أن يكون مأوى للجن ، وللأرواح الشريرة ، لكن جنية تئن ! أهذا معقول ؟ من يدري ، كل شيء ممكن في هذا الجب .
وتذكر سندباد الشموع الثلاث ، فأخذ شمعة ، وأشعلها بيد مرتعشة خائفة ، وما إن انتشر ضوؤها الخافت حوله ، حتى سمع الأنين يرتفع ، نعم ، إنه أنين ، أنين امرأة ، ومن مكان غير بعيد ، فنهض والشمعة في يده ، وسار ببطء وحذر ، نحو مصدر الصوت .
وتوقف سندباد مصعوقاً ، بعد أن خطا على ضوء الشمعة بضع خطوات ، فقد رأى إلى جانب أحد التوابيت القريبة ، امرأة في أواسط العمر ، تكاد لا تقوى على النهوض ، وقد مدت يديها الضارعتين إليه ، مغمغمة : ماء .. ماء .. ماء .
وأسرع سندباد ، وجاء بكوز الماء ، الذي أنزل معه إلى الجب ، وأماله على شفتي المرأة ، اللتين جففهما الجوع والعطش ، وسقاها حتى ارتوت ، ونظر إليها ، وقال : لابد أنك جائعة .
فهزت المرأة رأسها ، أن نعم ، دون أن تقوى ربما ، على نطق كلمة واحدة ، فقال سندباد : لدي سبع أرغفة من الخبز ، سآتيك بواحد منها .
ثم أسرع وأتاها برغيف خبز ، من الأرغفة السبعة ، وقدمه لها قائلاً : تفضلي ، كلي حتى تشبعي .
وأكلت المرأة ، وظلت تأكل بنهم ، وهي تئن وتتأوه ، حتى أتت على الرغيف ، وعندها هدأت قليلاً ، وخفت أنينها المتوجع ، ونظرت إلى سندباد ، وقد عادت الحياة قليلاً إلى عينيها ، وقالت بصوت واهن لا يكاد يُسمع : أشكرك ، يا سيدي ، أشكرك .
وتطلع سندباد إليها ، على ضوء الشمعة ، وقال : سآتيك برغيف آخر، إذا أردتِ .
فهزت المرأة رأسها بوهن ، وقالت : لا ، أشكرك ، إنها أرغفتك ، حافظ عليها ، ستحتاجها .
وسكتت لحظة ، وهي تحدق فيه ، ثم قالت : أيها الرجل الطيب ، أنا أعرفك .
وحدق سندباد فيها ، على ضوء الشمعة ، ثم قال : عفواً ، لا أذكر أنني رأيتك من قبل .
فردت المرأة قائلة : أما أنا فأذكرك جيداً ، لقد رأيتك مرات ، أنت وزوجتك سارلا ، فأنتما معروفان ومحبوبان في الجزيرة كلها .
وسكتت المرأة ، فنظر سندباد إلى التابوت ، الذي كانت تجلس إلى جانبه ، وقال : إنه زوجك .
وهزت المرأة رأسها ، وقالت بصوت حزين واهن : نعم ، مات منذ أسبوع تقريباً .
ونظر سندباد إليها ، وقال : عفواً ، أنا أحترم تقاليد الآخرين عادة ، لكن هذه عادة غريبة ظالمة ، لم أرَ مثيلاً لها في أي مكان زرته من العالم .
وردت المرأة قائلة بصوت مستسلم : هذه عادتنا ، أردناها أو لم نردها .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : إنه زوجي ، وقد أحبني وأحببته ، رغم أن يكبرني بأكثر من عشرين سنة ، وقد عشنا سعيدين سنين عديدة .
وقال سندباد : هذه هي الحياة ، والسعادة كالربيع لا تدوم طويلاً .
وسكت لحظة ، ثم قال : لقد مات زوجك ، يا سيدتي ، هذه قسمته من الحياة ، ولا ارادة لك فيها ، فما ذنبك أنتِ لتدفني معه ؟
ونظرت المرأة إليه ، وقالت : هكذا نحن في هذه الجزيرة ، أباً عن جد ، أنت غريب ، وماتت زوجتك سارلا ، وها أنت تدفن معها .
واغرورقت عينا سندباد بالدموع ، وقال : لقد أحببتها ، كما أحبتني ، و ..
وشهقت المرأة بالبكاء ، وانكفأت على التابوت ، وراحت تتمتم باكية : لو تعرف .. كم أحببته .. وكم .. أحبني ..آه .
وظلت المرأة منكفئة على التابوت ، وهدأت أنفاسها ، وبدا أنها أغفت ، فنهض سندباد بهدوء ، وعاد إلى تابوت زوجته سارلا ، ثم أطفأ الشمعة ، وسرعان ما أطبق الظلام على الجب .


" 10 "
ـــــــــــــــــــــــ

لا يدري سندباد ، أليلاً كان الوقت أم نهاراً ، حين أفاق على عويل المرأة ، فالجب ليل دامس دائماً ، فهبّ من مكانه ، قرب تابوت زوجته سارلا ، وهتف بها في الظلام : لا تخافي ، إنني هنا ، سآتيك حالاً .
وعلى الفور ، أشعل الشمعة ، وما كاد الضوء ينتشر حوله ، حتى رأى المرأة تركض باتجاههِ مسرعة ، وقد استبد بها الهلع ، وقبل أن يسألها عما بها ، صاحت بصوت مضطرب : الوحش .. الوحش .
وتلفت سندباد حوله ، بصورة لا إرادية ، لكنه لم يرَ شيئاً مريباَ فقال : أي وحش ، أنت واهمة ، نحن في الجب .
وردت المرأة ، وهي مازالت ترتجف من الخوف : هذه ليست المرة الأولى ، لقد جاء هذا الوحش قبل أيام ، وسمعته ينخر ، وهو يلتهم جثث الموتى القريبة مني .
وهزّ سندباد رأسه ، وقال : لابد أنك عانيت من كابوس في نومكِ ، فمثل هذا المكان ..
وتوقف سندباد عن الكلام ، وقلبه يخفق رعباً ، فقد تناهى إليه من مكان بعيد ، داخل الجب ، وقع أقدام متخبطة ، لا يمكن أن تصدر عن إنسان ، ولاذت المرأة مرتعبة بسندباد ، حتى كادت الشمعة تسقط من يده ، وهي تقول بصوت متشنج : اسمع ، هذا صوته ، صوت الوحش الذي حدثتك عنه ، لابد أنه مازال داخل الجب .
ومن شدة خوفه ، تناول سندباد ، من مكان قريب ، عظم ساق أحد الموتى ، وألقاه بشدة نحو مصدر الصوت ، وعلى الفور ، سمع وقع الأقدام المتخبط ، يسرع مبتعداً في الظلام ، وقد ازداد تخبطه ، حتى تلاشى .
وأنصتت المرأة المرعوبة ملياً ، ثم قالت : لقد هرب الوحش ، على ما يبدو .
ونظر سندباد إلى المرأة مفكراً ، ثم قال : وحش .. وحش ..
وبكت المرأة بصوت متشنج ، وقالت : سيأكلنا نحن أيضاً ، خلال أيام .
وتساءل سندباد ، وكأنه يحدث نفسه : ترى من أين دخل هذا الوحش ؟
ونظرت المرأة إليه مذهولة ، كأنما فطنت لأول مرة إلى هذا الأمر ، ورفع سندباد الشمعة عالياً ، ونظر إلى بعيد ، وقال : لابد أن هناك منفذاً ، في مكان ما من الجب ، يدخل منه هذا الوحش ، ويأكل ما يأكله من الجثث .
وتمتمت المرأة مذهولة : أنت محق ، لابد أن هناك منفذاً ، وإلا من أين أتى ؟
ومشى سندباد ، والشمعة في يده ، صوب المكان الذي صدر منه صوت الوحش ، وبصورة لا إرادية ، مشت المرأة متلفتة ، متعثرة ، خائفة ، في إثره .
وتوقف سندباد ، بعد أن قطع مسافة ، وهو يمشي متوجساً بين التوابيت والجثث ، والشمعة في يده ، وتلفت حوله ، ثم نظر إلى صدر المكان ، الذي يعمه الصمت والظلام .
وتوقفت المرأة على مقربة منه ، وقالت : لا أثر لأي منفذ ، لنعد إلى مكاننا .
وردّ سندباد قائلاً ، وهو يعاود المشي قدماً : بل هناك منفذ ، يدخل الوحش منه ويخرج ، ولابد أنه في مكان قريب ، سأبحث عنه حتى أجده .
وعاود سندباد المشي مرة أخرى ، والشمعة ترتعش في يده ، ومشت المرأة في أثره ، دون أن تنبس بكلمة واحدة ، وفجأة لمع نور من صدر المكان ، فتوقف سندباد مذهولاً ، وهتف قائلاً : انظري ، النور .
وتوقفت المرأة ، متطلعة إلى النور مذهولة ، ثم قالت : نعم ، هذا نور ، لابد أنه آت من المنفذ ، الذي يدخل منه ويخرج الوحش .
وأسرع سندباد ، والشمعة تهتز في يده ، والمرأة تسرع متعثرة وراءه ، حتى وصل مصدر النور ، وإذا به يرى منفذاً بين الصخور ، يؤدي إلى الخارج ، فصاح بصوت متهدج منفعل : لقد نجونا .. نجونا .
وتوقفت المرأة جامدة ، لا تبدي تأثراً أو فرحاً ، فقال سندباد : لنخرج من هذا الجب ، ونهرب خارج الجزيرة ، دون أن يعرف بنا أحد ، ونعيش حياتنا كما نشاء .
وتراجعت المرأة قليلاً ، وهي تقول : سندباد ، هذه فرصتك ، أنت لست من هذه الجزيرة ، أخرج من هذا الجب ، إلى الحياة .
والتفت سندباد إليها ، وقال محاولاً اقناعها : لا أريد أن أنجو وحدي من الموت ، تعالي معي خارج هذا الجب ، وعيشي حياتك .
وهزت المرأة رأسها ، وقالت : لا يا سندباد ، إنني من هذه الجزيرة ، وحياتي هنا في هذا الجب ، إلى جانب زوجي ، الذي أحبني وأخلص لي ، وأحببته كلّ الحب .
وردّ سندباد قائلاً : أنا أيضاً أحببت سارلا وأحبتني ، وها أنا أتهيأ لمغادرة الجب .
فقالت المرأة :لا لوم عليك ، يا سندباد ، فأنت لست من هذه الجزيرة .
وبصوت هادئ ، قال سندباد : سيدتي ..
وقاطعته المرأة قائلة : هذا محال ، أنا من الجزيرة ، وهذه عادتنا ، وسأرضخ لها ، وأبقى إلى جانب زوجي ، حتى النهاية .
ولاذ سندباد بالصمت ، فتطلعت المرأة إليه ، وقالت : اذهب ، يا سندباد ، وعش حياتك ، أنت إنسان طيب ، وتستحق كلّ خير .
وصمتت المرأة لحظة ، ثم قالت : بعد أن تخرج ، أرجوك أغلق المنفذ جيداً ، حتى لا ينفذ هذا الوحش اللعين ، مرة أخرى إلى الجب ، اذهب ، يا سندباد ، رافقتك السلامة .
وقدم سندباد الشمعة للمرأة ، وقال : خذي هذه الشمعة ، لتعودي إلى زوجك .
واستدار سندباد ، ومضى عبر المنفذ ، وخرج من الجب ، ثم سدّ المنفذ بصخور قوية ، مرصوصة ، لن يقوى أي وحش على زحزحتها ، والنفاذ منها إلى داخل الجب ، مهما كان قوياً .
وانحدر سندباد من ذلك الجبل ، بعيداً عن الجب ، وكان يفصل الجزيرة عن البحر ، وراح يمشي على الشاطئ ، وشاءت الأقدار أن يمرّ مركب تجاري عن بعد ، بعد منتصف النهار ، وراح سندباد يلوح له بقطعة من ثيابه ، حتى انتبه إليه بعض ركاب المركب ، فاتجهوا إليه ، وأخذوه معهم ، بعيداً عن الجزيرة ، التي كاد أن يكون ضحية لإحدى عاداتها الغريبة القاتلة .


11 / 9 / 2013



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان صخرة آي طلال حسن
- مسرحية للفتيان اورنينا ...
- رواية للفتيان الغزالة ...
- رواية للفتيان السندباد البحري طلال ...
- رواية للفتيان دروفا ـ نارانا ...
- رواية للفتيان سامو وسومو ...
- رواية للفتيان النمر ...
- رواية للفتيان البديل طلال حسن
- رواية للفتيان الزواج المقدس ...
- رواية للفتيان رجل النار ...
- شجرة الزيتون
- رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن
- رواية للفتيان طيف الاهوار
- اللبوة الجريحة
- رواية للأطفال حي ابن الإنسان ...
- رواية للفتيان جزيرة القمر ...
- رواية للفتيان الجوهرة المفقودة طلال ...
- رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل
- رواية للفتيان إله الدمار ...
- جايا الغزالة


المزيد.....




- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...
- انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة  68 Yal? Capk? ...
- فيلم السرب 2024 بطولة احمد السقا كامل HD علي ايجي بست | EgyB ...
- أستراليا تستضيف المسابقة الدولية للمؤلفين الناطقين بالروسية ...
- بعد إطلاق صندوق -Big Time-.. مروان حامد يقيم الشراكة الفنية ...
- انطلاق مهرجان أفلام السعودية في مدينة الظهران
- “شاهد الحقيقة كامله hd”موعد عرض مسلسل المتوحش الحلقة 32 مترج ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال حسن