|
رواية للفتيان البديل طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7693 - 2023 / 8 / 4 - 15:07
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
البديل
طلال حسن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بونو الفتى
2 ـ شاروسو العم
3 ـ الكاهن
4 ـ بالي الحطاب
5 ـ كيبري ابنة الحطاب
6 ـ ايلاسو الخادم
" 1 " ــــــــــــــــــــ
قبيل منتصف الليل ، قفل بونو عائداً إلى البيت ، يتلمس طريقه متعثراً في الظلام ، وكله أمل أن لا يرى عمه شاروسو قد انتبه إلى غيابه . وطوال الطريق ، كان يغني عن القمر ، وجماله ، وسطوعه في السماء ، المزينة بالنجوم ، رغم أن القمر والنجوم ، كانت تغطيهما الغيوم القاتمة . وكلما تراءت له قمره كيبري ، رفع صوته أكثر بالغناء ، ولم يسكت أو يخفض من غنائه ، حتى عندما جاءه من أحد البيوت ، صوت رجل عجوز يصيح به : كفى نهيقاً ، دعنا ننم . وحين وصل البيت ، دفع الباب بهدوء ، حتى لا يستيقظ عمه شاروسو ، ويخضعه لاستجواب ينتهي عادة ، بكلمات منتقاة لا يحبذ سماعها قبل النوم . وعلى العكس مما تمنى ، فوجىء بعمه شاروسو ، يقف بملابس النوم وسط الفناء ، والخادم العجوز ايلاسو يقف وراءه ، فتوقف متردداً ، وقال : طاب مساؤك ، يا عمي شاروسو . فردّ العمّ منفعلاً : بل قل طاب صباحك . وتجاهل بونو ردّ العم شاروسو ، وقال : الجو بارد جداً ، يا عمي ، وأخشى أن تمرض ، كان من الأفضل ، أن تبقى في فراشك الدافىء ، و .. وقاطعه عمه شاروسو قائلاً : لكي تنطلق بحريتك كالبغل ، في هذا الليل البهيم .. وقال الفتى : عمي .. لكن العم شاروسو صاح : أعرف أين كنت . وقال بونو : عمي ، لا تصدق خادمك الخرف ايلاسو ، إنه .. وفتح العم العجوز فاه ، وقبل أن ينطق بكلمة ، قال الخادم العجوز ايلاسو : أنا لم أفتح فمي ، فما شأني إذا كنت مع ابنة الحطاب أو لم تكن . وشهق العم شاروسو قائلاً : هييي ، ابنة الحطاب ! واقترب بونو من عمه العجوز ، وقال : عمي ، لا تصدقه ، لم أكن معها في هذا الليل البهيم ، بل كنت مع الحطاب ، نحن بحاجة إلى حطب . وهزّ العم العجوز رأسه ، وقال : ابن أخي ، الذي ربيته وهو رضيع ، بعد أن أخذت الآلهة أمه وأباه ، يحب ابنة الحطاب . ومال الفتى عليه ، وقال : عمي ، لقد حدثتك عنها ، أخطبها لي ، قبل أن يأتي أحمق عجوز غني ، فيخطفها مني ، إنها .. إنها قمر . فقال العم شاروسو : أنت أعمى كأبيك الراحل ، وإلا ما تزوج تلك .. وصمت لحظة ، ثم قال : اذهب ونم ، وغداً سأذهب إلى أبيها الحطاب اللعين . وقال بونو بنبرة توسل : أخطبها لي ، وستأخذك الآلهة إلى دلمون . وصاح العم شاروسو متطيراً : أيها اللعين ، مازلتُ صغيراً ، لا أريد أن أذهب منذ الآن إلى دلمون ، اذهب إلى فراشك ، ونم . وأسرع الفتى إلى غرفته ، وهو يقول : تصبح على خير ، يا عمي . والتفت العمّ شاروسو إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : هل حقاً توجد دلمون ؟ وردّ الخادم العجوز ايلاسو : هذا ما يقوله الكاهن ، يا سيدي . ومضى العم شاروسو إلى غرفته ، ماراً بالخادم العجوز ايلاسو ، وهو يدمدم : إنني لا أثق بهذا الكاهن ، رغم أن لحيته تشبه لحية الإله اشور .
" 2 " ــــــــــــــــــ
عند الفجر ، وقبل أن ينهض الحطاب بالي ، ليذهب إلى الأحراش ، خارج مدينة ايسن ، ليحتطب كما يفعل كلّ يوم ، طرق الباب . واعتدلت كيبري في فراشها مستغربة ، هذه ليست طرقة بونو ، ففتاها يطرق الباب بهدوء ، وبنغمات موسيقية عذبة ، وهذا الطرق ليس موسيقى . وطرق الباب ثانية ، فرفع الحطاب بالي رأسه ، والنعاس مازال يعشي عينيه ، ونظر إلى كيبري ، وتساءل : ترى من يكون ؟ وفكرت كيبري أنه ربما يكون بونو ، وقبل أن يعتدل أبوها في فراشه ، نهضت مسرعة ، وهي تقول : لا عليك ، يا أبي ، أنا سأفتح الباب . وفتحت كيبري الباب ، وبدل بونو رأت عمه المتصابي شاروسو ، وقد إربدّ وجهه غضباً ، لكنه ما إن رآها ، حتى لانت ملامحه ، وقال : أنت ِ .. ؟ وهزت كيبري رأسها الفتيّ ، المتوج بشعر بلون التمر ، وقالت : نعم ، أنا كيبري . وقال العم شاروسو : ابنة الحطاب بالي ! وهزت كيبري رأسها ثانية ، وقالت : نعم . وتمتم العم شاروسو بصوت لا يكاد يسمع : عشتار .. ثم رفع صوته قائلاً : جئت أرى أباك . وقبل أن تجيبه ، سمعت أباها بالي يقبل مسرعاً ، ويرحب به قائلاً : أهلاً سيدي شاروسو ، تفضل . وتفضل العم شاروسو ، ودخل فناء البيت ، الذي تظلله نخلة فارعة ، وقال : جئت أؤكد على الحطب ، الذي أوصاك عليه ابن أخي بونو . ونظر الحطاب بالي متسائلاً إلى ابنته كيبري ، فتابع العم شاروسو قائلاً : نحن بأمس الحاجة إليه اليوم . وقالت كيبري محرجة : آه ، يا لذاكرتي ، نسيت ، جاء بونو البارحة ، ولم تكن في البيت ، وأوصاني أن أخبرك ، بأنهم يريدون .. وصمتت كيبري ، فقال الحطاب بالي : على الرحب والسعة ، سيأتيكم الحطب اليوم ، يا سيدي . وحدق العم شاروسو في كيبري ، ثم قال : سأنتظرك اليوم ، بعد منتصف النهار ، في البيت ، لا تتأخر ، نحن بحاجة إلى الحطب . فقال الحطاب بالي : اطمئن ، يا سيدي ، لن أتأخر ، سآتيك بالحطب ، عند منتصف النهار . وقبل أن يستدير العم شاروسو ، ويمضي مبتعداً ، حدق في كيبري ملياً ، ثم قال : استودعكم الآلهة . وهتف الحطاب بالي : رافقتك السلامة ، يا سيدي . وأغلقت كيبري الباب حائرة ، موزعة بين الفرح والقلق ، هل جاء ليراها ، ويخطبها لفتاها بونو أم .. أم ماذا ؟ آه يا للحيرة . والتفت الحطاب بالي إلى ابنته كيبري ، وقال : السيد شاروسو هو أغنى تاجر أقمشة في ايسن . وأسرع يتهيأ للخروج ، وهو يقول : أعدي الحمار ، ريثما أبدل ملابسي ، وأجيء بالحبل والفأس ، سأذهب فوراً إلى الأحراش . فقالت كيبري : أفطر أولاً ، يا أبي . واتجه الحطاب إلى الغرفة مسرعاً ، وهو يقول : سآخذ معي بعض الخبز والتمر ، هيا أعدي الحمار .
" 3 " ــــــــــــــــــ
أفاق بونو ، عند شروق الشمس ، وعلى غير العادة ، لم يجد عمه شاروسو على الفطور ، فنظر إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : عجباً ، يبدو أن عمي ذهب إلى المتجر مبكراً . ووضع الخادم العجوز ايلاسو أمامه طعام الفطور ، وقال : سيدي لم شاروسو يذهب إلى المتجر . ووضع بونو لقمة طعام في فمه ، وهو ينظر إليه متسائلاً ، فقال : قال لي ، أن تفتح المتجر أنت اليوم ، وتنتظره هناك حتى يأتي . وتساءل بونو مندهشاً : أين مضى ؟ فردّ الخادم العجوز ايلاسو : لم يخبرني بوجهته . ونهض بونو ، بعد أن أكمل تناول طعام فطوره ، واقترب من الخادم العجوز ايلاسو ، وقال بنبرة مصالحة : البارحة .. وصمت بونو ، فربت الخادم العجوز ايلاسو على كتفه ، وقال : أنت تعرف أنني أحبك ،يا بونو ، كما كنت أحب أباك ، الذي رحل قبل الأوان . وابتسم بونو ، وقال : هذا ظني فيك . فقال الخادم العجوز ايلاسو : اذهب وافتح المتجر . ومضى بونو ، وهو يقول : استودعك الآلهة . فردّ الخادم العجوز ايلاسو مبتسماً ، وبنبرة أبوية : رافقتك السلامة . وبدل أن يذهب بونو إلى السوق ، ويفتح المتجر ، أسرع إلى بيت الحطاب بالي ، وطرق الباب طرقاته الموسيقية الخاصة ، وعلى الفور ، فتحت كيبري الباب ، وقالت بصوت فرح : بونو ، عمك شاروسو ، كان هنا ، صباح اليوم . وفغر بونو فاه متسائلاً : عمي ! وكركرت كيبري ضاحكة ، وهي تقول : تصور جاء يؤكد على الحطب ، الذي طلبته يوم أمس . وبدت الدهشة على أسارير بونو ، وقال : لكني لم أطلب حطباً من أبيك يوم أمس . فقالت كيبري : هذا ما قاله عمك لأبي .. وقاطعها بونو قائلاً : آه تذكرت ، قال عمي إنه سيأتي إلى أبيك ، و .. وقالت كيبري : وهذا ما أوقعني في حرج . ولاذ بونو بالصمت لحظة ، ثم قال : هناك أمر ما يدور في رأس عمي شاروسو ، آه . واستدار ليمضي مبتعداً ، وهو يقول : الأفضل أن أذهب الآن إلى السوق ، وأفتح المتجر ، كم أخشى أن يكون عمي قد سبقني ، آه هذا العجوز المتصابي . وأسرع بونو مبتعداً ، فهتفت به كيبري : متى نلتقي ، يا بونو ؟ فردّ بونو ، دون أن يتوقف : الليلة ، في نفس الوقت ، وفي نفس المكان . وما خشيه بونو حدث ، فقد وجد عمه يقف شاروسو بباب المتجر ، وعلى العكس مما توقعه ، لم يؤنبه عمه ، وإنما قال بصوت هادىء : لقد تأخرت قليلاً ، يبدو أن الخادم اللعين لم يوقظك في الوقت المناسب . ولاذ بونو بالصمت حائراً ، فقال العم شاروسو : أشعر بشيء من التعب ، سأذهب إلى البيت ، ابقَ أنت في المتجر حتى غروب الشمس .
" 4 " ــــــــــــــــــ
فوجىء الخادم العجوز ايلاسو ، بعودة العم شاروسو إلى البيت ، قبيل منتصف النهار ، فتوقف مبهوتاً أمامه ، وقال : عفواً سيدي ، لم أعرف أنك ستأتي في هذا الوقت ، إنني لم أعد طعام الغداء بعد . فنحاه العم شاروسو عن طريقه قليلاً ، وقال : إنني متعب ، وقد عدت مبكراً ، أريد أن أختلي بنفسي ، لعلي أرتاح بعض الشيء . وحدق الخادم العجوز ايلاسو فيه مستغرباً ، فقال العم شاروسو : ابتعد عني ، لا تنظر إليّ هكذا كالأبله . ثم مدّ يديه نحوه ، وأمسك به ، ودفعه نحو الباب الخارجي ، وقال : اذهب إلى المعبد ، وصلّ لعل الآلهة ترحمك ، هيا اذهب . وتوقف الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : سيدي ، أنت تعرف أنني لم أدخل المعبد منذ سنين . ودفعه العم شاروسو حتى الباب ، وهو يقول : ادخله اليوم ، وادعُ لي عند الإله ، لدي صفقة ، صفقة فتية وجميلة ، وأريد أن أوفق فيها . وتلكأ الخادم العجوز ايلاسو قائلاً : سيدي .. لكن العم شاروسو فتح الباب ، ودفعه إلى الخارج ، وقال : اذهب ولا تعد إلا بعد العصر . وأغلق العم شاروسو الباب ، بعد أن دفع الخادم العجوز ايلاسو إلى المعبد ، وبقي وحده في فناء البيت ، ينتظر الحطاب بالي ، على أحرّ من الجمر . وتلكأ الخادم العجوز ايلاسو في سيره ، دون أن يفكر في الذهاب إلى المعبد ، فهناك سر يخبئه العم شاروسو ، وهذا ما يريد أن يعرفه . وتوقف مفكراً ، حين رأى الحطاب بالي ، يقترب بحماره المحمل بالحطب من بيت العم شاروسو ، ثم يطرق الباب . وتأكد له أنّ هناك سراً ، حين فتح العم شاروسو الباب على سعته ، وأدخل الحطاب وحماره المحمل بالحطب ، ثم تلفت حوله ، وأغلق الباب . وتوقف الحطاب مندهشاً ، حين أقبل عليه العم شاروسو مرحباً بحرارة : أهلاً بالحطاب ، أهلاً بأبي الفاتنة كيبري ، جئت على الموعد . ونظر الحطاب إليه مندهشاً ، وقال : سيدي ، جئتك بالحطب ، أين تريدني أن أضعه ؟ واقترب العم شاروسو منه ، وقال : دع ِ الحطب الآن ، أصغ ِ إليّ .. وتمتم الحطاب قائلاً : سيدي . وتابع العم شاروسو يُمنيه قائلاً : لن تحتطب بعد اليوم من الأحراش ، ولن تسوق حماراً يحمل حطباً ، سأغنيك .. سأغنيك .. سأغنيك . وفغر الحطاب فاه ، فقال العم شاروسو : سأتزوج ابنتك الفاتنة .. كيبري . وبدون ارادة منه ، قال الحطاب : لكن ابنتي .. وقاطعه العم شاروسو قائلاً : سيكون لك بيت جديد .. وزوجة جديدة .. وحياة جديدة ..وداعاً لحياة الحمير .. فتاجر الأقمشة الكبير شاروسو سيكون زوج ابنتك الفاتنة .. كيبري .
" 5 " ـــــــــــــــــــ
شهقت كيبري : ماذا ! ثم صرخت : كلا . وقبل " كلا " هذه ، كادت عينا كيبري الفتيتان ، الجميلتان ، أن تزغردا فرحاً ، عندما قال لها أبوها : التاجر شاروسو يخطبكِ .. لكن بعد أن أضاف : يريدكِ زوجة له . شهقت ، ثم صاحت : كلا . وقال الحطاب بالي : أيتها الحمقاء ، فكري . ومن بين دموعها ، قالت كيبري : ظننتُ أنه جاء ليخطبني لابن أخيه بونو . وقال الحطاب بالي محاولاً إقناعها : الغني هو تاجر الأقمشة شاروسو ، وليس بونو . لكن كيبري ، أسرعت تلوذ بغرفتها ، وهي تقول : لا أريد شاروسو ، لا أريده ، لا أريده . وصاح الحطاب بالي : إذا كانت مشيئة الآلهة أن تتزوجيه ، فستتزوجيه رغماً عنك . وتلك الليلة ، لم تستطع كيبري أن تخرج من البيت ، وتذهب إلى موعدها مع بونو ، فقد ظل أبوها الحطاب بالي مستيقظاً ، على غير عادته ، وربما متعمداً ، لغرض في نفسه . وكلما حاولت النهوض ، والتسلل إلى الخارج ، يقول أبوها الحطاب بالي ، حتى دون أن يرفع رأسه : ابقي في فراشك ، وحاولي أن تنامي . وحضر بونو ، في الموعد المحدد ، وانتظر ، انتظر طويلاً ، لكن كيبري لم تأتِ ، وهذا ما أقلقه ، وجعله يتسلل في الظلام ، إلى بيت الحطاب بالي . وعلى عادته ، طرق الباب بهدوء طرقات خافتة منغّمة ، ووقف ينتظر ، وبدل كيبري فتح أبوها الحطاب بالي الباب ، وقال بشيء من الحدة : نعم . وتأتأ بونو قائلاً : ال .. الحطب .. وقال الحطاب ، وهو يغلق الباب : الحطب نائم ، اذهب ونم أنت الآخر . وكما لم تنم كيبري ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، كذلك بونو ، فإنه لم ينم ، وظل يتقلب حائراً قلقاً في فراشه ، وعقله القلق يعمل ، ويتساءل ، دون جدوى ، حتى غلبه النوم . وأفاق على عمه شاروسو ، يقول له : أيها الكسول ، انهض وتناول طعام الإفطار ، لقد أشرقت الشمس ، ولم نفتح المتجر بعد . وفتح بونو عينيه الناعستين ، ورأى عمه شاروسو ، يطل عليه بوجهه الشائخ ، فقال : أرجوك عمي ، إنني متعب ، دعني أرتح اليوم . وفكر العم شاروسو ، أن هذا اللعين ربما يريد أن يذهب إلى ابنة الحطاب كيبري ، وهذا ما فكر فيه بونو فعلاً ، لعله يعرف سبب تغيبها ، فقال له : انهض ، يا بونو ، وافطر ، معاً سنذهب إلى المتجر ، وستبقى فيه حتى تغرب الشمس .
" 6 " ــــــــــــــــــــ
عند الضحى ، ورغم ازدحام السوق ، لمح بونو فتاته كيبري ، تمرّ من أمام المتجر ، وتشير له خفية أن يلحق بها . وتحيّن بونو فرصة انشغال عمه شاروسو ، بزبونة غنية معها لمّة من النساء ، فتسلل خلسة من المتجر ، وأسرع يشق طريقه بين الناس ، في أثر كيبري . وتباطأت كيبري في سيرها ، حتى حاذاها بونو ، فقالت دون أن تلتفت إليه : مررت أكثر من مرة أمام المتجر ، فلم تنتبه إليّ . وسار بونو بمحاذاتها ، وهو يقول : كنت مشغولاً بك ، لم تأتي البارحة في الموعد . وردت كيبري ، دون أن تتوقف : لقد جئتَ ليلة البارحة ، ورأيت أبي .. وقال بونو : نعم ، رأيته ، لم يكن على طبيعته . وقالت كيبري : لقد ظل مستيقظاً ، ومنعني من الخروج ، حتى إلى فناء البيت . وتساءل بونو : ما الأمر ؟ وتوقفت كيبري ، وقالت : إنه عمك شاروسو . وهمس بونو لها : لا تتوقفي ، هيا امشي . ومشت كيبري ، ومشى بونو إلى جانبها ، وتساءل ثانية : ما شأن عمي شاروسو ؟ وتوقفت كيبري ثانية ، وقالت بصوت خافت منفعل : يريد أن يتزوجني . وتوقف بونو هو الآخر ، وقال بصوت منفعل : ماذا ؟ يتزوجك ! وتلفت بعض المارة نحو بونو وكيبري ، لكن بونو لم يأبه للأمر ، وقال : لقد جن عمي . وقالت كيبري : لم يأتِ البارحة ، ليشتري حطباً من أبي ، وإنما ليشتريني . ولاذ بونو بالصمت ، ووقف حائراً لا يدري ماذا يفعل ، ثم نظر إلى كيبري ، وقال : اسمعي ، لا فائدة من الحديث هنا ، لنلتقِ الليلة في نفس الموعد ، لابد أن نفعل شيئاً وإلا .. وصمت بونو ، متلفتاً حوله ، ثم قال : اذهبي أنت إلى البيت ، وسأعود أنا إلى المتجر . وتلفتت كيبري بحذر حولها ، ثم قالت هامسة : سأنتظرك ، لا تتأخر . وردّ بونو : اذهبي الآن ، رافقتك السلامة . وذهبت كيبري ، تشق طريقها في الزحام ، وهي تتمتم وكأنها تصلي : عشتار .. عشتار .. عشتار . وعاد بونو إلى المتجر ، فحملق عمه شاروسو فيه بريبة ، وقال : أين اختفيت ؟ فردّ بونو قائلاً : عطشت ، فذهب لأشرب قليلاً من الماء البارد . وقال العم شاروسو : الجرة مليئة بالماء ، وهي في متناول يدك . ورمق بونو عمه بنظرة سريعة ، وقال : هذا ماء شائخ ، أعني قديم ، ولم يعد صالحاً للشرب . وهمهم العم شاروسو مفكراً ، ثم قال : مهما يكن ، كان عليك أن تخبرني بوجهتك ، قبل أن تختفي . ولاذ بونو بالصمت ، فتابع العم شاروسو قائلاً : إنني متعب ، سأذهب وأرتاح في البيت ، ابقَ أنت هنا ، حتى غروب الشمس . لم ينبس بونو بكلمة ، وخرج العم شاروسو من المتجر ، وسار في الزحام مبتعداً ، وتابعه بونو بنظراته حتى غاب ، وفكر أن عمه شاروسو هذا ، لن يذهب إلى البيت ، وإنما سيذهب إلى الحطاب بالي ، ويكمل معه الصفقة ، لكن .. هيهات .. ومهما كان الثمن .
" 7 " ـــــــــــــــــــ
رغم كرهه للكاهن ، فإن العم شاروسو كان في أعماقه يخشى الآلهة ، ويصغي إلى وصاياها ، وخاصة تلك التي تفيد تجارته . إلا أنه هذه الليلة ، غضب وثار ، وأعماه غضبه ، فلم يصغ ِ إلى الإله أدد ، عندما أنذره ببروقه ورعوده ، بأن المطر سينهمر مدرارا ، وعليه أن يلزم بيته ، ولا يغادره ، مهما كان السبب . لكن شكوكه في بونو ، ونواياه تجاه ابنة الحطاب كيبري ، جعلته يذهب إلى غرفته ، ويطرق الباب ، ليتأكد بأنه في فراشه ، وأنه لم يذهب لملاقاة كيبري . ولما لم يأته ردّ ، من داخل غرفة بونو ، طرق الباب ثانية ، ثم صاح : بونو . وبدل بونو ، أطل الخادم العجوز ايلاسو من باب غرفته ، وقال : بونو ليس في غرفته . والتفت العم شاروسو إليه ، وتساءل غاضباً : أين هذا اللعين إذن ؟ واقترب الخادم العجوز ايلاسو منه ، وردّ قائلاً : لقد خرج منذ قليل ، لا أدري إلى أين . وحدق العم شاروسو فيه ، وقال : أنا أعرف . واتجه مسرعاً نحو الباب الخارجي ، فلحق الخادم العجوز ايلاسو به ، وقال : سيدي ، توقف ، الجو كما ترى ، ينذر بمطر شديد جداً . ولمع البرق ، وقرقع الرعد بشدة ، لكن العم شاروسو لم يتوقف ، بل فتح الباب ، ومضى متعثراً في الظلام ، وهو يقول وكأنه يهذي في نومه : الحطب لي .. وليس لأحد غيري .. أنا الذهب . وتوقف الخادم العجوز ايلاسو عند الباب مفكراً ، إن العم شاروسو قد جنّ ، وإلا ما معنى الحطب ، وما علاقته بالذهب ؟ ولمع البرق ثانية ، وانفجر رعد هزّ الدنيا ، وانهمر المطر مدراراً ، فأغلق الخادم العجوز الباب ، وأسرع يلوذ بغرفته ، وهو يقول : هذا طوفان اوتونابشتم ثانية ، سيغرق سيدي شاروسو . وحث العم شاروسو خطاه ، متعثراً في الظلام ، والمطر ينهمر فوقه ، كما تنهمر المياه من القرب ، حتى وصل بيت الحطاب ، فطرق الباب بشدة ، وهو يصيح : أيها الحطاب بالي ، افتح الباب ، أنا شاروسو . وفتح الحطاب بالي الباب ، ووقف مذهولاً ، وهو يرى العم شاروسو ، يقف في الظلام ، والمطر الشديد ينهمر فوقه ، فصاح : سيدي .. شاروسو ! وترنح العم شاروسو ، وهو يواجه العاصفة والأمطار ، وتمتم : كيبري .. وصمت مترنحاً ، فقال الحطاب : كيبري نائمة في غرفتها ، والماء يقطر منها . وتراجع العم شاروسو ، تحت العاصفة والمطر ، ثم استدار ، ومضى في الظلام ، متمتماً كالمحموم : في فراشها .. والماء يقطر منها .. آه . وصاح الحطاب : سيدي ، تعال وادخل بيتي ، ريثما يتوقف المطر . لكن العم شاروسو لم يتوقف ، ومضى تحت العاصفة والظلام والمطر ، حتى وصل البيت ، وما إن دخل الفناء ، حتى أسرع الخادم العجوز ، وتلقاه بين ذراعيه ، فتساءل العم شاروسو : بونو ؟ فردّ الخادم العجوز : في غرفته ، والماء يقطر منه مثلك تماماً ، يا سيدي شاروسو . ومال العم شاروسو برأسه على صدر الخادم العجوز ، وهو يقول : إنني متعب ، خذني إلى غرفتي .
" 8 " ــــــــــــــــــــ
طول الليل ، لم ينم العم شاروسو ، إلا نوماً متقطعاً ، قلقاً ، فقد كان يسعل سعالاً حاداً ، إلا أنه استيقظ في وقت مبكر ، وصاح بصوت مبحوح : بونو . وأسرع إليه الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : ابقَ في فراشك ، يا سيدي ، أنت مريض . لكن العم شاروسو لم يلتفت إليه ، وقال وهو يغالب سعاله : ناد ِ بونو ، ناد ِه . فمال الخادم العجوز عليه ، وقال : الوقت مازال مبكراً ، إنه نائم الآن . فصاح العم شاروسو من بين سعاله : أيقظه ، ليذهب إلى السوق ، ويفتح المتجر ، لسنا في عيد . وقال الخادم العجوز ايلاسو : دعه يفطر أولاً ، يا سيدي ، دعه يفطر . ونظر العم شاروسو إليه شزراً ، وقال : اذهب ، وأفطره ، ثم أرسله إلى المتجر . ومضى الخادم العجوز ايلاسو إلى الخارج ، وهو يقول : حسن ، فقط اهدأ ، أنت مريض جداً . ورفع العم شاروسو يده المرتعشة ، وراح يتحسس جبهته ووجنتيه ، ثم قال : نعم ، أنا مريض ، مريض جداً ، إنها أمطار الإله ادد وعواصفه . ورفع عينيه المنطفئتين إلى أعلى ، وقال بصوت مضطرب غاضب : ادد ، أيها الإله ، أهذا عقاب تعاقبني به ؟ كان بامكانك أن تؤجل عواصفك وأمطارك ، ريثما أرى كيبري ، وأطمئن إلى أنها لم تذهب للقاء ابن أخي اللعين .. بونو . ومضى الخادم العجوز ايلاسو ، إلى غرفة بونو ، وعلى العكس مما توقع ، رآه مستيقظاً في فراشه ، فقال محيياً إياه : طاب صباحك ، يا بنيّ . وابتسم الخادم العجوز ايلاسو ، حين سعل بونو مرتين ، قبل أن يردّ : صباح النور ، يبدو أنني مريض . واقترب الخادم العجوز ايلاسو منه ، وقال مبتسماً : لم تسمعا إلى الإله ادد ، لا أنت ولا عمك شاروسو . ووضع يده على جبهة بونو ، ثم قال : يبدو أن الإله ادد ، لم يعاقب سوى العم شاروسو ، أنت بخير ، انهض ، لقد أعددت لك الفطور . ونهض بونو ، وقال : لم أرَ في حياتي مطلقاً ، مطراً كمطر ليلة أمس . ونظر عبر النافذة الصغيرة ، وتراءت له كيبري ، وهي تكركر ضاحكة ، والمطر ينهمر عليها ، ويغرقها بمياهه الغزيرة من رأسها حتى أخمص قدميها ، فقال : أظن أنّ الإله ادد إله عادل . ويبدو أنّ ظن بونو ، كان في محله ، فأن كيبري ، التي تعرضت مثله لنزوات الإله ادد ، لم تتعرض لنزلة برد ، وظلت معافاة . وتهيأ أبوها ، الحطاب بالي ، في صباح اليوم التالي ، ليذهب إلى الأحراش ويحتطب ، وقبل أن يخرج بحماره من البيت ، قال لها : ليلة أمس ، رأيتك تقطرين ماء ، يا كيبري . ونظرت كيبري إليه محرجة متلجلجة ، ثم قالت : العاصف الممطرة كانت شديدة ليلة البارحة ، فخرجتُ لأطمئن على الحمار . وهمهم الحطاب بالي ، وبدا أنه لم يقتنع بكلامها ، لكنه قال : مهما يكن ، لا تخرجي من غرفتك ثانية ، عندما يكون الإله ادد غاضباً .
" 9 " ـــــــــــــــــــ
عند منتصف النهار ، أقبل الخادم العجوز ايلاسو مسرعاً على بونو ، وقال له بصوت يشي بالخطورة : بونو ، أغلق المتجر . ونظر بونو إليه متسائلاً ، وقد انقبض قلبه ، وقال متسائلاً : لماذا ؟ ماذا جرى ؟ فردّ الخادم العجوز ايلاسو : عمك شاروسو مريض ، هيا أغلق المتجر ، وتعال معي . وأغلق بونو المتجر على عجل ، ومضى مع الخادم العجوز ايلاسو إلى البيت ، وفي الطريق قال بونو : يبدو أن أمطار البارحة وعواصفها ، قد أصابته بنزلة برد شديدة . فهز الخادم العجوز ايلاسو رأسه ، وقال : أخشى أن تكون هذه نهايته ، فهو يهذي منذ البارحة ، ويتحدث عن زوجته الراحلة ، وكأنها ماثلة أمامه . وصمت الخادم العجوز ايلاسو برهة ، ثم قال : ربما سنحتاج اليوم إلى الكاهن . وحثّ بونو خطاه إلى جانب الخادم العجوز ايلاسو، وهو يقول : تعال نرَ عمي أولاً ، وأرجو أن تجنب الآلهة ، عمي شاروسو الكاهن ، فهو لا يحبه . ودخل بونو ، ومن ورائه الخادم العجوز ايلاسو ، غرفة العم شاروسو ، واقترب من عمه ، المضطجع في فراشه كالجثة الهامدة ، ومال عليه قليلاً ، ثم قال : عمي ، عمي شاروسو . وفتح العم شاروسو عينيه المنطفئتين ، وحدق في بونو ، ثم قال بصوت لا يكاد يسمع : زوجتي .. أنا عطشان .. لا .. لا .. أريد ماء .. من الجرة .. وليس من .. نهر من أنهار .. دلمون . فاعتدل بونو ، وقال : اطمئن ، يا عمي ، أنا سآتيك بالماء الذي تريده . وتمتم العم شاروسو بصوت أكثر خفوتاً : لا .. لا أريد الماء .. من دلمون .. بل من .. بيت بالي . ثم أغلق عينيه ، وبدا وكأن أنفاسه تتلاشى ، كما يتلاشى ضوء شمعة تنطفىء ، فالتفت بونو إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : عمي مريض جداً . وتراجع الخادم العجوز ايلاسو إلى خارج الغرفة ، وأشار لبونو أن يتبعه ، وتبعه بونو إلى الفناء ، فقال الخادم العجوز : العم شاروسو بحاجة الآن إلى الكاهن فعلاً . والتفت بونو إلى الغرفة ، ونظر إلى عمه شاروسو عبر الباب ، وقال : هذا ما كنت أخشاه . وقال الخادم العجوز ايلاسو : علينا أن لا ننتظر ، فقد تسوء حالته ليلاً ، إنه رجل عجوز ، من رأيي أن تذهب إلى الكاهن حالاً ، وتأتي به . ونظر بونو إلى الخادم العجوز ايلاسو ، وقال : يا للآلهة ، عمي شاروسو لا يحب هذا الكاهن . فقال الخادم العجوز ايلاسو : أنا أيضاً لا أحبه ، لكنه شرّ لابد منه ، فليأتِ ويعالجه ، لعله يشفيه . وقبل أن يخرج بونو ، ويمضي مسرعاً إلى المعبد ، قال : حسن ، سأذهب إلى الكاهن ، وآتي به .
" 10 " ـــــــــــــــــــــ
بدا الكاهن ، بلحيته الشبيهة بلحية الإله آشور ، مندهشاً بعض الشيء ، عندما رأى بونو يدخل عليه المعبد ، فنظر إليه ملياً ، دون أن يتكلم . واقترب بونو منه متردداً ، وقال بصوت مضطرب : طاب صباحك ، يا سيدي . وحدق الكاهن فيه ، وقال : بونو ؟ فردّ بونو قائلاً : نعم ، يا سيدي ، بونو . فقال الكاهن بنبرة جافة : قلما أراك أنت أو عمك ، وحتى خادمكم العجوز ، في هذا المعبد ، إلا عند الحاجة القصوى . ورمقه بونو بنظرة سريعة مذنبة ، وقال : عفواً ، يا سيدي ، عمي شاروسو مريض جداً . وهمهم الكاهن ، ثم قال : أرأيت ؟ هذا ما قلته . وقال بونو بنبرة رجاء : ليتك تتفضل إلى البيت وتراه ، إنه بأمس الحاجة إليك . وأشاح الكاهن عنه بوجهه ، وقال :إنني مشغول الآن ، اذهب أنت ، وسأزوه عند المساء . وقال بونو : لكنه ، يا سيدي .. فقاطعه الكاهن قائلاً : اذهب ، لن آتي الآن . وذهب بونو ، عائداً إلى البيت ، وأسرع إليه الخادم العجوز ايلاسو في الفناء ، وقال : أين الكاهن ؟ فردّ بونو : لن يأتي قبل المساء . وهزّ الخادم العجوز ايلاسو رأسه ، وقال : أخشى أن عمك شاروسو ، لن يصمد ، حتى مجيء الكاهن . فأطرق بونو رأسه ، وقال : لا حيلة لنا ، ما علينا إلا أن ننتظر ، الكاهن كما ترى عنيد . وعند المساء ، أقبل الكاهن ، بلحيته الشبيهة بلحية الإله آشور ، وأسرع بونو والخادم العجوز لاستقباله ، فحياه بونو مرحباً : أهلاً ومرحباً . وقال الخادم العجوز : طاب مساؤك ، يا سيدي . لكن الكاهن لم يردّ على تحيتهما ، وإنما قال بصوت جاف : بونو ، خذني إلى المريض . وتقدمه بونو إلى غرفة العم شاروسو ، وهو يقول : تفضل معي ، يا سيدي ، إنه يرقد هنا . ودخل الكاهن الغرفة ، يتقدمه بونو ، واقترب من العم شاروسو ، ومال عليه يتأمله ملياً ، ثم اعتدل وقال : العفريت يتلبسه تماماً . ونظر بونو إليه ، وقال : لكنه مرض بسبب تعرضه البارحة للعاصفة والأمطار . وحدق الكاهن فيه مؤنباً ، ثم قال : للعاصفة والأمطار عفريت ، تلبسه منذ البارحة ، وقد يأخذه الليلة إلى العالم الأسفل ، إلا أذا .. وهتف بونو وكأنه يستنجد به : سيدي .. وقال الخادم العجوز ايلاسو : ساعده ، يا سيدي . وتجاهل الكاهن الخادم العجوز ايلاسو ، ونظر إلى بونو ، وقال : أريد جدياً صغيراً . وتمتم بونو : جدياً ! فقال الكاهن بحزم : الآن . وصمت لحظة ، ثم استطرد قائلاً : سيكون هذا الجدي بديل عمك شاروسو ، وسنوهم الفريت ، بطقوس خاصة ، بأن هذا الجدي الصغير هو عمك شاروسو . ورمق بونو الخادم العجوز بنظرة خاطفة ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقال الكاهن : على كل حال ، هذه أمور لن تفهمها ، اذهب أنت الآن فوراً ، وأتني بالجدي الصغير ، وإلا فإن العفريت لن يغادر جسد عمك شاروسو ، وسيأخذه الليلة إلى العالم الأسفل . ووقف بونو متحيراً ، فنظر الخادم العجوز إليه ، وقال : ابقَ أنت مع سيدي الكاهن ، وسأذهب أنا بسرعة ، وآتي بالجدي الصغير .
" 11 " ــــــــــــــــــــــ
جاء الخادم العجوز ايلاسو بالجدي الصغير ، فأخذه الكاهن بين يديه ، وربط أقدامه جيداً ، وعند غروب الشمس ، مدده إلى جانب العم شاروسو . وعندئذ التفت إلى بونو ، وقال : ليبقّ شاروسو هكذا ، حتى شروق الشمس . ونظر بونو إلى الكاهن مستفسراً ، وقال : سيدي .. وقاطعه الكاهن قائلاً : سأبقى إلى جانبه ، في هذه الغرفة ، طول الليل . ومال الخادم العجوز على الكاهن ، وقال : سيدي ، سأعد لك وجبة من الطعام . ودون أن ينظر إليه ، قال الكاهن : تكفيني دجاجة واحدة ، ولتكن فتية . وخرج الخادم العجوز من الغرفة ، ليمضي إلى المطبخ ، بعد أن قال بصوت خافت : أمر سيدي . والتفت الكاهن إلى بونو ، وقال : اذهب أنت إلى غرفتك ، وسأناديك إذا احتجت إليك . وقال بونو : كما تشاء ، يا سيدي . ثم استدار ، وخرج من الغرفة ، ومضى إلى المطبخ ، فنظر إليه الخادم العجوز ايلاسو ، وكان ينظف الدجاجة ، التي سيعدها للكاهن ، وقال : يريد دجاجة واحدة فقط ، ويفضلها فتية . فقال بونو : المهم أن يشفى العم شاروسو . وقال الخادم العجوز ايلاسو : أنت متعب ، اذهب وارتح في غرفتك ، وأترك الأمر للكاهن . وردّ بونو ، وهو يتجه إلى غرفته : إنني متعب فعلاً ، سأغفو قليلاً في فراشي . لكن بونو ، لم يغفُ قليلاً ، بل استغرق في نوم عميق ، وأفاق على الخادم العجوز يهزه برفق قائلاً : بونو ، أفق ، الكاهن يريدك . واعتدل بونو ، وتلفت قلقاً مذهولاً ، وقال : أخشى أنني نمتُ .. وقاطعه الخادم العجوز قائلاً : انهض ، يا بنيّ ، لقد نمت الليل بطوله . ونهض بونو ، ومضى مسرعاً إلى غرفة العم شاروسو ، وإذا الكاهن يقف قرب الجدي الصغير ، وفي يده خنجر من الخشب ، فحياه قائلاً : طاب صباحك ، يا سيدي الكاهن . وقال الكاهن ، دون أن يردّ على تحيته : الآن سنذبح عمك شاروسو . وشهق بونو : ماذا ! فلكزه الخادم العجوز ايلاسو خفية ، وقال بصوت خافت : سيمثل ذبحه بالخنجر الخشبي . وتابع الكاهن قائلاً : ثم نأخذ الجدي الصغير إلى الخارج ، ونذبحه حقيقة . وانحنى الكاهن على العم شاروسو ، ومرر الخنجر الخشبي على عنقه متمتماً بصوت خافت : أيها العفريت ، ها هو العم شاروسو يموت ، هيا غادر جسده ، أخرج ، أخرج ، أخرج . ثم التفت إلى بونو ، وقال : والآن سنأخذ الجدي الصغير إلى الخارج ، ونذبحه قرب الشجرة ، وبعدها نلبسه ملابس العم شاروسو ، وكذلك حذاءه ، ونضع الكحل في عينيه ، ونصب الزيت على رأسه ، ونضع غطاء رأس العم شاروسو على رأسه ، وندفنه ، ونعلن أمام الناس جميعاً ، بأن العم شاروسو قد مات . ولاذ بونو بالصمت ، فانحنى الكاهن ، وحمل الجدي الصغير ، ومضى به إلى الخارج ، والخادم العجوز ايلاسو يمضي في أثره .
" 12 " ـــــــــــــــــــــ
لم يفق العم شاروسو ، ولم يرف له جفن ، حتى بعد أن انتهى الكاهن من طقوسه ، وأخذ الجدي الصغير المذبوح معه ، إلى المعبد . وعند الضحى ، جاء الحطاب بالي حزيناً ، ومعه ابنته كيبري ، واستقبلهما بونو عند الباب ، وقد علا وجهه الحزن ، وقال : أهلاً ومرحباً بكما . ونظر الحطاب بالي إليه وقال : علمت اليوم للأسف ، بأن سيدي العم شاروسو مريض ، فجئت مع ابنتي كيبري ، لنطمئن على صحته . فقال بونو : شكراً لكما ، تفضلا . وسار بونو بهما نحو غرفة العم شاروسو ، فقالت كيبري : أرجو أن يكون العم شاروسو بخير . فالتفت بونو إليها ، وقال : الحقيقة إنه لم يفق من غيبوبته بعد . وقال الحطاب بالي : لتشفهِ الآلهة ، إنه إنسان طيب ، لا يستحق إلا كلّ الخير . ودخل بونو الغرفة ، وخلفه دخل الحطاب وابنته كيبري ، ووقف الخادم العجوز ، ورحب بهما بصوت خافت قائلاً : مرحباً بكما . وتوقف الحطاب بالي ، وابنته كيبري متأثرين ، أمام العم شاروسو ، المتمدد كالجثة الهامدة على فراشه ، وأشار بونو إلى مكان قريب من العم شاروسو ، وقال لهما : تفضلا بالجلوس هنا . وجلس الحطاب بالي وابنته كيبري صامتين ، حيث أشار بونو ، وجلس الخادم العجوز على مقربة منهما ، أما بونو فقد جلس على حشية قرب العم شاروسو ، وقد ران فوقهم صمت شامل حزين . وقبيل منتصف النهار ، رفّ جفنا العم شاروسو ، ويبدو أن الجميع قد لمحو تلك الرفة ، فشهق الخادم العجوز متمتماً : المجد للآلهة . وقال بونو مذهولاً : عمي شاروسو حيّ . وتمتم الحطاب : نعم ، إنه حيّ . وفتح العم شاروسو عينيه ، ولمع فيهما ضوء خافت ، ثم تمتم : بونو . ومال بونو عليه ، وقال : عمي شاروسو ، إنني هنا ، إلى جانبك . ودارت عينا العم شاروسو ، ثم توقفتا عند بونو ، وقال : لست وحدك هنا ، يا بونو . وقبل أن يردّ بونو بكلمة ، مال الخادم العجوز ايلاسو عليه ، وقال : أنا هنا أيضاً ، أنا ايلاسو خادمك . وهمهم العم شاروسو ، ثم قال : ايلاسو ، أنت إنسان طيب ، ووفي ، لكني لن أعتقك ، فأنا أريدك إلى جانبي ، حتى النهاية . فقال الخادم العجوز ايلاسو : وهذا ما أريده أنا أيضاً ، يا سيدي شاروسو . ودار العم شاروسو بعينيه ثانية ، فمال الحطاب عليه ، وقال : أنا الحطاب بالي ، يا سيدي ، وقد جئت لأسلم عليك ، وأطمئن على صحتك . وهمهم العم شاروشو ، وتمتم : الحطاب .. وأطرقت كيبري رأسها ، ولم تنطق بكلمة ، فمال بونو على العم شاروسو ، وقال : عمي ، جاءت كيبري أيضاً ، لتطمئن عليك . وتمتم العم شاروسو : كيبري .. كيبري . وجمدت كيبري ، لا تدري ماذا تفعل ، فتطلع العم شاروسو إليها ملياً ، ثم قال : بونو .. وردّ بونو متخوفاً : نعم ، يا عمي . وتابع العم شاروسو قائلاً : أكثر من مرة ، خلال هذه الليلة ، زارتني زوجتي ، إنها لا تريد الآن ، أن ألحق بها إلى دلمون ، وإنما تريدني أن أبقى في هذا العالم وأفرح ، فأنا في رأيها لم أشخ تماماً بعد . وصمت العم شاروسو لحظة ، ثم قال : بونو .. وقال بونو مترددا وخائفاً : نعم ، يا عمي . واستطرد العم شاروسو قائلاً : أنت تعرف أن زوجتي تحبك ، وأنها بمثابة أماً لك .. وتمتم بونو : نعم .. نعم . وقال العم شاروسو : ولهذا قالت لي ، يا شاروسو ، افرح وأفرحني ، أنا هنا في دلمون ، أريد وبأسرع وقت ، أن تزوج بونو وكيبري . وشهقت كيبري فرحاً ، وألقت نفسها فوق العم شاروسو ، وهي تصيح : ألف شكر .. يا عمي شاروسو .. ألف شكر .. ألف شكر . وصرخ العم شاروسو مستنجداً : بونو .. ارفع مجنونتك كيبري عني .. إنها تقتلني .. ارفعها .. قبل أن أموت .. وألحق بزوجتي إلى دلمون . وعلى الفور ، رفع بونو كيبري عن عمه ، الذي صاح لاهثاً : يا للآلهة .. بونو .. غداً .. وليس بعده .. سنذهب إلى المعبد .. و .. وأفرح زوجتي .. في دلمون .
22 / 5 / 2013
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان الزواج المقدس
...
-
رواية للفتيان رجل النار
...
-
شجرة الزيتون
-
رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن
-
رواية للفتيان طيف الاهوار
-
اللبوة الجريحة
-
رواية للأطفال حي ابن الإنسان
...
-
رواية للفتيان جزيرة القمر
...
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة طلال
...
-
رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل
-
رواية للفتيان إله الدمار
...
-
جايا الغزالة
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان النمر طلال حسن
-
الهدنة
-
رواية للفتيان وادي الافاعي
...
-
رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال
...
-
رواية للفتيان غابة الذئاب
...
-
رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
-
رواية للفتيان قمر من سماء عالية
...
المزيد.....
-
انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة 68 Yal? Capk?
...
-
فيلم السرب 2024 بطولة احمد السقا كامل HD علي ايجي بست | EgyB
...
-
أستراليا تستضيف المسابقة الدولية للمؤلفين الناطقين بالروسية
...
-
بعد إطلاق صندوق -Big Time-.. مروان حامد يقيم الشراكة الفنية
...
-
انطلاق مهرجان أفلام السعودية في مدينة الظهران
-
“شاهد الحقيقة كامله hd”موعد عرض مسلسل المتوحش الحلقة 32 مترج
...
-
-سترة العترة-.. مصادر إعلامية تكشف أسباب إنهاء دور الفنانة ا
...
-
قصيدة (مصاصين الدم)الاهداء الى الشعب الفلسطينى .الشاعر مدحت
...
-
هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟
-
إلغاء حفل النجمة الروسية -السوبرانو- آنا نيتريبكو بسبب -مؤتم
...
المزيد.....
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|