أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7778 - 2023 / 10 / 28 - 07:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقول: باروخ اسبينوزا:
"إذا كانت السّعادة العظمى في الثراء و المجد، فإنّي سأكون قد تنازلت عنها. أمّا إذا لم تكن فيهما ، فإنّ تعلّقي بهذه المزايا دون غيرها سيجعلني أفقد السّعادة المنشودة أيضا.
ساورني القلق إذن، فتساءلت عمّا إذا كان بوسعي أن أؤسس حياة جديدة، أو على الأقلّ أن أكون واثقا ممّا أؤسّسه دون أن أغيّر شيئا من نظام حياتي القديم و من سلوكي المألوف.
حاولت ذلك طويلا دون جدوى، إذ أنّ أكثر الأحداث تواترا في حياة الناس، تلك التي ينظرون إليها، مثلما يستخلص من أعمالهم كلّها، على أنّها الخير الأعظم، إنّما تنحصر في ثلاثة:
الثّراء والمجد واللذّة الحسّية، وهي تشغل الفكر عن التركيز على أي حيّز آخر. فالنّفس تتعلّق باللذّة كما لو كانت قد وجدت الخير الّذي ترتاح إليه، فتكون عاجزة إلى أقصى حدّ عن التفكير في خير آخر. و من جهة أخرى، يتلو المتعة حزن شديد يُربك الفكر ويُضعفه و يثبّطه.
أمّا السّعي إلى الثراء و المجد، فهو لا يشغل الفكر أقلّ من اللذّة ـ و لاسيّما السعي إلى الثراء ـ إذا كنّا نبحث عنه لذاته، لأنّه سيظهر آنذاك بمظهر الخير الأعظم،
و أمّا المجد، فهو يشغل الفكر و يصرفه عن كلّ شيء آخر، لأنّنا ننظر إليه في الغالب على أنّه الخير بذاته و على أنّه الغاية القصوى الّتي ترمي إليه جميع أعمالنا. ثمّ إنّ الثراء والمجد لا يعقبهما الندم، مثلما الحال بالنسبة إلى اللذّة، بل على العكس من ذلك، كلّما زاد فوزنا بأحدهما، زاد شعورنا بالفرح وزاد بالتّالي دأبنا أكثر فأكثر على مضاعفتهما، لكن لو شاءت بعض الظروف أن تخيّب آمالنا، لانتابنا آنذاك حزن شديد.
و أخيرا فإنّ المجد يقف هو الآخر حائلا كبيرا أمام تحقيق السّعادة، لأنّ الفوز به يقتضي من المرء أن يوجّه حياته وفقا لما يراه النّاس، أي أن يتجنّب ما يتجنّبون عموما وأن يسعى إلى ما يسعون إليه."
عند حديث الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا عن اللذة والثراء والمجد في كتابه "رسالة في إصلاح العقل" لم ينتبه إلى أن الفرد الساعي بدأب إلى مراكمة الثروة قد يشعر بتأنيب الضمير عندما يرى أن سعيه الحثيث نحو مراكمة الثروات يتسبب في البؤس والندرة للآخرين. ولا شك في أن مثل هذا السعي لن يفضي إلى الحرية ما دام أن هذه الأخيرة مشروطة بالمعرفة. فلا حرية مع الجهل، كما قال بحق محمود أمين العالم.
أما المجد المترتب عن السعي إلى المعرفة فيبقى أعز ما يطلب لأنه لا يضمن الخير لصاحبه فقط بل للناس أجمعين، خصوصا إذا كان مقترنا عند فاعله بالتواضع. وهكذا نخلص إلى أن الثراء والمجد المجرد من المعرفة، على غرار اللذة الحسية، ينتهي بهما المطاف إلى إشعار الساعين إليهما منفردين بالندم، على خلاف ما رآه اسبينوزا..
بعبارة اخرى، غاب عن اسبينوزا أن السعي الدؤوب الفرد إلى مراكمة الثروة قد ينتج عنه تأبين ضميره لما تسبب فيه سعيه ذاك من بؤس وندرة للآخرين.. ثم أي سعادة هذه تقترن بالجهل؟.. وإذا كان الشرط الأول في تحقيق الحرية متجسدا في المعرفة فلا قيمة للثراء الذي لا يكسب صاحبه الحرية مهما تراكم وتضاغف؟ ويبقى المجد المكتسب بالتبحر في بحر العلم والمعرفة أعز ما يطلب خصوصا إذا اقترن بالتواضع.. وهكذا نخلص إلى إلى أن مآل الاهتمام بالثراء والسعي وراء مراكمته قد يكون إحساسا بالندم عندما يشعر الثري جدا أنه في مرتبة دونية وسط مثقفين متمرسين على مطالعة الكتب ومناقشة السرديات والنظريات، على خلاف ما ذهب إليه اسلينوزا في كتابه المومئ إليه أعلاه.
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟