أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان الرحلة الثامنة طلال حسن















المزيد.....



رواية للفتيان الرحلة الثامنة طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7742 - 2023 / 9 / 22 - 10:23
المحور: الادب والفن
    


رواية للفتيان








الرحلة الثامنة






طلال حسن





" 1 "


استيقظ سندباد على الديك ، يرج البيت بصوته المرتفع، وتلفت حوله مدمدماً ، بادي الغضب والانزعاج. وفوجىء فوق ذلك ، بعدم وجود هندباد في فراشه ، فنهض مؤملاً أن يكون مع أمه ، التي تعد طعام الفطور في المطبخ ، وأسرع إلى الفناء ، منادياً : هندباد.
وخرجت ابنته ريحانة من المطبخ ، وحيته قائلة : عمت صباحاً يا أبي .
ورد سندباد متلفتاً : عمت صباحاً .
ثم تساءل : أين هندباد ؟
وضحكت ريحانة ، وقالت : وأين عساه يكون حفيد السندباد البحري ؟
وهزّ سندباد رأسه ، وقال : أعدي الفطور ، ريثما أذهب ، وأعود به .
فردت ريحانة قائلة : لا تتأخر ، الفطور معد تقريباً .
واتجه سندباد إلى الخارج ، وقبل أن يفتح الباب ، رج
الديك البيت ثانية بصوته المرتفع ، وكتمت ريحانة


ضحكتها ، وهي تسمع أباها يدمدم ، وهو يفتح الباب ، ويخرج : لن أرتاح في هذا البيت ، إذا لم اذبح الديك .
ورغم شيخوخته ، مضى سندباد بشيء من السرعة ،إلى شاطىء النهر ، الذي لا يبعد كثيراً عن بيته . ولاح هندباد ، يجلس كعادته ، فوق مرتفع يطل على الشاطىء ، متأملاً القوارب والأكلاك والسفن الشراعية .
وإرتقى سندباد المرتفع ، وجلس إلى جانب هندباد ، دون أن يتفوه بكلمة ، فإلتفت هندباد إليه ، وقال : جدي !
ونظر سندباد إلى السفن الراسية قرب الشاطىء ، وقال : ليتني أعرف ما الذي تريده بجلوسك في هذا المكان .
فرد هندباد قائلاً : أنت تعرف يا جدي .
وقال سندباد بنبرة عتاب : هندباد .
وتابع هندباد : أريد .. الرحلة الثامنة .
ونهض سندباد ، وقال : هذا محال يا هندباد ، أنا الآن رجل عجوز .
ونهض هندباد بدوره ، ورد قائلاً : لا تقل هذا يا جدي ، أنت السندباد البحري .
وتنهد سندباد ، وقال : هندباد ، إنني أخاف عليك من حكايات أمك عني .
ورد هندباد : إن هذه الحكايات الملاحم هي ما نعتز به أنا وأمي .
ولاذ سندباد بالصمت ، فلا فائدة من الحديث مع هندباد ، في هذا الموضوع . والتفت هندباد ، ونظر إلى سفينة ترسو بعيداً عن السفن الأخرى ، وقال : جدي ، لقد رست سفينة جديدة صباح اليوم .
وهمّ سندباد بالسير ، والعودة إلى البيت ، وقال : هذا الأمر ليس جديداً ، فالسفن ترسو هنا وتقلع كلّ يوم .
فرد هندباد بصوت يوحي بالخطورة : إنها سفينة غريبة يا جدي ، أنظر إليها .
وتوقف سندباد ، والتفت على مضض ، وأشار هندباد إلى السفينة ، وقال : تلك هي ..
وما إن وقع نظر سندباد على السفينة، حتى اربدت سحنته ، وقال بصوت مضطرب : همام .
وسرعان ما استدار ، ومضى مسرعاً ، وهو يقول : هيا .. هيا .
ولحق هندباد به متسائلاً : ما الأمر يا جدي ؟
فرد سندباد ، دون أن يتوقف : لا شيء يا بنيّ ، هيا ، إن أمك تنتظرنا على الفطور .








" 2 "


ظلّ هندباد ، يحوم طويلاً حول جده ، لعله يعرف شيئاً عما يشغله ، دون جدوى . وقد رآه ، أكثر من مرة ، يوارب النافذة ، ويختلس النظر إلى السفن ، ثم يغلقها بضيق.
وطرق الباب قبيل الظهر ، فخرج سندباد من الغرفة قلقاً . فتطلعت ريحانه إليه ، وتساءلت : ما الأمر ، يا أبي ؟
ولم يلتفت سندباد إليها ، وإنما أشار إلى هندباد ، وقال بصوت خافت : أنظر من بالباب .
ونهض هندباد قائلاً : أظنه صديقي .. ياسر.
فقال هندباد نافذ الصبر : إذهب ، يا هندباد .
وفتح هندباد الباب ، ثم التفت إلى أمه قال : إنه صديقي ، ياسر .
ورمقت ريحانة أباها بنظرة خاطفة ، وقالت : اذهب ، يا بني ، والعب معه .
وبصوت مضطرب ، سارع سندباد إلى القول : لا ، لا يا هندباد ، أغلق الباب ، وتعال .

ووقف هندباد حائراً ، فخاطبته أمه قائلة : أغلق الباب ، يا بنيّ ، وتعال أجلس إلى جانبي .
وأغلق هندباد الباب ، ورمق سندباد بنظرة سريعة ، ثم جلس إلى جانب أمه . وقفل سندباد عائداً إلى غرفته قائلاً : أريد شيئاً من الماء.
وهم هندباد بالنهوض ، فنهضت ريحانة ، وقالت : إبق في مكانك ، ياهندباد ، أنا سآخذ الماء إلى جدك.
وملأت ريحانة القدح ماء من الحب ، ومضت به إلى الغرفة ، وقدمته لسندباد ، وقالت : تفضل ، يا أبي .
وأخذ سندباد القدح ، وشرب ما فيه من ماء ، ثم أعاده إلى ريحانة ، وقال : أشكرك .
وجلست ريحانة إلى جانبه ، ممسكة بالقدح الفارغ ، ثم قالت : طمئني ، يا أبي ، ما الأمر ؟
وهزّ سندباد رأسه ، دون أن يتطلع إليها ، وقال : لا شيء ، يا ابنتي .
فردت ريحانة قائلة : هذه أول مرة تمنع فيها هندباد من الخروج ، واللعب مع ياسر .
وتمدد سندباد في فراشه ، ثم قال : لست مرتاحاً هذا اليوم ، وأريد أن يبقى هندباد إلى جانبي .
وتطلعت ريحانة إليه ملياً ، ثم تساءلت : هل تشكو من شيء ، يا أبي ؟
فرد سندباد قائلاً : اطمئني ، إنني بخير .

ثم ابتسم لها ، وقال : اذهبي ، وأعدي لنا غداء طيباً ، وسترين أباك .
ونهضت ريحانة مبتسمة ، وقالت وهي تهمّ بالخروج : سأعد غداء يعجبك ، ويعجب هندباد أيضاً .





















" 3 "


جلس هندباد ، بعد العشاء ، إلى جانب أمه . ورمق جده بنظرة خاطفة ، وقال : أمي .
وأدركت ريحانة من نبرة صوته أنه يريد أن يمازح جده كالعادة ، فابتسمت قائلة : نعم ، هندباد .
وتابع هندباد قائلاً : ليتك تحكين لي حكاية " رحلة جدي الثامنة ".
وهز سندباد رأسه ، دون أن يبتسم . وضحكت ريحانة ، وقالت :لكن جدك ، يا هندباد ، حسب علمي ، لم يقم إلا بسبع رحلات .
ورمق هندباد جده ثانية ، وقال : لعلمك إذن ، إنني رأيت جدي البارحة يقوم بالرحلة الثامنة .
وضحكت ريحانة قائلة : في المنام .
وتمدد سندباد في فراشه ، وقال : هذه أضغاث أحلام ، والأحلام غيمة تبددها هبة ريح .
فرد هندباد قائلاً : لكن الغيوم تمطر أحياناً ، يا جدي ، ومن يدري ، فقد تمطر هذه الغيمة ، وتقوم برحلتك الثامنة .
وغطى سندباد رأسه بالفراش ، وقال : أنصحك ، يا هندباد ، أن تتغطى حين تنام .
وضحكت ريحانة ، وهم هندباد أن يرد ، وإذا الباب يطرق . فأعتدل سندباد ، وقد ضاقت أنفاسه . وتساءلت ريحانة : ترى من الطارق ؟
وهب هندباد ، منطلقاً إلى الخارج ، دون أن يسمع جده يقول بصوت مضطرب : تمهل ، يا هندباد .
وفتح الباب ، وفوجئ برجل ضخم ، أشيب اللحية ، ينحني عليه ، ويقول : أنت هندباد .
ولم ينطق هندباد بكلمة، وقد تملكته الدهشة ، فأبتسم الرجل الضخم ، وقال : هذا واضح ، فأنت تشبه جدك ، السندباد البحري .
وأبتسم هندباد فرحاً ، وقال : أمي أيضاً تقول ، إنني أشبهه .
وأعتدل الرجل الضخم ، وقال : وآمل أنك تشبهه أيضاً في حبك للأسفار .
وهزّ هندباد رأسه موافقاً ، فقال الرجل الضخم : حسن ، سنأخذك ، إذا وافق جدك سندباد ، على متن سفينتي ، الإعصار ، ونرحل معاً إلى .....
وهنا ارتفع صوت سندباد منفعلاً : هندباد ، اذهب إلى أمك .
وتطلع هندباد إلى الرجل الضخم ، فأبتسم له هذا ، وقال : اذهب ، يا هندباد .
وتراجع هندباد ، وهو مازال يتطلع إلى الرجل الضخم ، ثم استدار ، ومضى مسرعاً إلى الداخل .
وحدق الرجل الضخم في سندباد ، ثم قال : هذه ليست مقابلة صديق ، يا سندباد .
وبدل أن يرد سندباد على عتابه ، قال : لقد رأيت الإعصار صباح اليوم ، راسية بعيداً عن السفن ، وتوقعت أن أراك .
وصمت همام لحظة ، ثم قال : حسن ، الحديث قد يطول ، لنتمش قرب الشاطئ .
وأغلق سندباد الباب ، ومضى مع همام باتجاه الشاطئ ، وقال :أعرف ما تريد الحديث فيه ، وقد أخبرتك سابقاً برأيي .
وقال همام بصوت هادئ : سندباد ، نحن الآن على أعتاب النهاية .
فعلق سندباد قائلاً : أنت محق ، فأترك كل شيء ، واركن مثلي إلى الهدوء .
وقال همام : هذا ما سأفعله ، بعد أن ننجز هذه المهمة ، أنا وأنت .
فرد سندباد : مستحيل .
وقال همام متحمساً : ليس هذا من أجلي أو من أجلك ، فكر في حفيدك هندباد ، كما أفكر أنا في ابنتي ياسمين .
وتوقف سندباد ، وقال : لو كنت تفكر حقاً في ياسمين ، لتركت البحار ، وبحارة السوء ، وعشت في البصرة مثلما أعيش .
فرد همام قائلاً : من أجل حفيدتي وسعادتها ، ورفاهها ، سأذهب إلى آخر الدنيا .
وحدق سندباد فيه برهة ، ثم قفل راجعاً ، وهو يقول : اذهب .. حيثما تريد .. وحدك .
وصاح همام بنبرة الواثق : لن أذهب وحدي ، يا سندباد ، بل ستأتي أنت معي ، مهما كلفني الأمر .

















" 4 "


هبّ سندباد مستيقظاً ، ليس على صياح الديك هذه المرة ، بل على يد مرعوبة ، تهزه وتهيب به أن : انهض .
وفتح عينيه ، لا أحد في الغرفة ، لابد أنه يحلم . وإذ لم يجد هندباد في فراشه ، نهض على عجل ، وانطلق إلى الفناء يصيح : ريحانة .
وأقبلت ريحانة من المطبخ ، تمسح يديها المبللتين بطرف ثوبها ، وقالت : ها أنا ذي ، يا أبي ، ما ..
وقاطعها سندباد متسائلاً : أين هندباد ؟
فردت ريحانة مبتسمة : عند الشاطئ طبعاً .
وشهق سندباد : عند الشاطئ !
واقتربت ريحانة منه ، وقالت : أبي ، لا داعي للقلق ، هذه ليست المرة ..
وقاطعها ثانية ، مزيحاً إياها عن طريقه ، وانطلق إلى الخارج ، وهو يقول : ابتعدي ، يا ريحانة ، أنتِ لا تعرفين ما يجري .
ووقفت ريحانة مذهولة ، لا تدري ماذا تفعل ، وسرعان ما مضت إلى المطبخ صائحة : يا ويلي ، الطعام يحترق على النار .
ونسي سندباد شيخوخته ، وأخذ يركض نحو الشاطئ .
وتملكه القلق ، حين لم يجد هندباد في مكانه المعهود ، فوق المرتفع المطل على النهر .
ووقف فوق المرتفع ، متقطع الأنفاس ، يبحث بعينيه القلقتين، المتوجستين ، عن سفينة همام " الإعصار " ، لكنه لم يعثر لها على أثر . ولم يصدق عينيه ، أول الأمر ، فانحدر عن المرتفع ، وأخذ يسير بمحاذاة الشاطئ ، مفتشاً بين السفن الراسية ، دون جدوى .
وتسمر في مكانه ، حين سمع أحدهم يهتف باسمه : سندباد .
وتمتم سندباد ، قبل أن يلتفت ويواجهه : قرش !
وكشر قرش عن أسنانه المصفرة ، وقال : نعم ، يا سندباد ، قرش .
وأشار إلى عينه ، التي تغطيها عصابة متسخة ، وقال : أتذكرها؟
فرد سندباد قائلاً : لم أنسها ..
وقال قرش من بين أسنانه : وكذلك أنا .
وحدق سندباد فيه ، وقال : أنت تستحق ما جرى لك .
وكشر قرش عن أسنانه المصفرة ثانية ، وقال : وأنت تستحق ما سيجري لك .
واستأنف سندباد سيره ، وقال : إنني لم أخف يوماً من أي قرش .
فصاح قرش : ستخاف هذه المرة .
وتوقف سندباد ، والتفت إليه ، ثم قال : أنصحك أن تمضي، فلن أكتفي بقلع عينك الأخرى ، إذا رأيتك هنا ثانية .
وضحك قرش قائلاً : ستراني كثيراً يا سندباد ، ولكن ليس هنا .
واستأنف سندباد سيره ثانية ، لكنه سرعان ما تسمر في مكانه ، حين سمع قرش يقول : مهلاً ، لن تجد ما تبحث عنه .
والتفت سندباد إليه ، وكشر قرش عن أسنانه المصفرة ، وقال : هذا ما جئت ألقاك من أجله .
وتقدم سندباد منه ، وقال مهدداً : ستدفعون الثمن غالياً ، لو مسستم شعرة من هندباد .
وابتسم قرش بخبث ، وقال : اطمئن ، إنه بين يدي صديقك .. همام .
وانحدر نحو قارب قرب الشاطىء ، وصعد إليه ، وقال : تعال معي ، وسترى هندباد .
وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : هندباد فوق السفينة ، سآخذك إليه ، إنها في مكان قريب ، وراء ذلك المنحنى .
وجلس في القارب ، وأمسك بالمجذافين ، وقال : هيا ، إن همام ينتظرك .
وأسرع سندباد بالصعود إلى القارب ، دون أن يتفوه بكلمة.
وعلى الفور ، حرك قرش المجذافين ، وابتعد بالقارب عن الشاطىء ،وراح يجذف باتجاه منحنى النهر. ومن وراء إحدى الأشجار ، أطل بحار فتيّ ،وسرعان ما مضى باتجاه سفينة ترسو وسط السفن الشراعية .




















" 5 "


استيقظت ياسمين ، ونهضت متثائبة من فراشها . وعبثاً حاولت أن تقتح باب القمرة ، فقد كان مقفلاً من الخارج . واستدارت متذمرة ، ووقفت أمام الكوة ، المطلة غلى شط العرب . وراحت تتطلع إلى البعيد ، منشغلة عن القوارب والسفن والشمس المعلقة فوق أشجار النخيل . وهنا طرق باب القمرة ، وعرفت ياسمين الطارق ، إنه الطباخ العجوز ، فالتفتت قائلة : أدخل .
وسمعت الباب يفتح من الخرج ، ثم أطل الطباخ العجوز ، بوجهه الطيب المترهل ، وقال : بنيتي ، الفطور جاهز.
وعلى غير عادتها ، خرجت ياسمين من القمرة ، دون أن تحييه . ورأت أباها يجلس إلى المائدة ، وجلست قبالته عابسة ، ثم قالت : عمت صباحاًً .
ورد همام محاكياً لهجتها : عمت صباحاً .
ثم ابتسم ، وقال : الصباح اليوم جميل ، ولعل ابتسامة منك تجعله أكثر جمالاً .
وتناولت ياسمين رغيف خبز ساخن ، وقطعت منه كسرة فقال همام : كلي من هذه القشطة اللذيذة ، وبعدها ستبتسمين.
ووضعت ياسمين كسرة الخبز جانباً ، ونظرت إلى أبيها ، وقالت : سمعت صباح اليوم ، صوت صبي في عمري ، فوق ظهر سفينتنا العاصفة .
ورمق همام الطباخ العجوز بنظرة خاطفة ، وقال : أنت واهمة ، كلي .
لم تنصع ياسمين لأبيها ، وإنما قالت : وقمت من فراشي لأخرج ، وأعرف ماذا يجري ، لكن باب قمرتي كان مغلقاً من الخارج .
وصمتت لحظة ، ثم تساءلت : أخبرني يا أبي ، ماذا يجري؟
فرد همام قائلاً : لا شيء .
وهنا فتح الباب ، وأقبل بحار ، وقل مخاطباً همام : سيدي ، جاء قرش .
وهب همام من مكانه ، وسار متقدماً البحار ، وهو يتساءل بصوت خافت : أهو وحده ؟
فرد البحار بصوت لا يكاد يسمع : لا يا سيدي ، ليس وحده.
وخرج همام والبحار مسرعين ، فرفعت ياسمين عينيها إلى الطباخ العجوز متسائلة : ماذا يجري ؟ أخبرني .
وتشاغل الطباخ العجوز برفع بعض الأواني عن المائدة ، وقال : لقد قالها أبوك يا عزيزتي ، لا شيء .
وسار همام بخطوات واسعة ، فوق ظهر السفينة ، والبحار يهرول في أثره ، وتساءل بصوت مرتفع : أين القرش ؟
وأسرع مساعده إليه ، ورد قائلاً : إنه يصعد السلم مع سندباد يا سيدي .
وقال همام ، وقد بدا الارتياح عليه : تهيأ ، فقد نقلع بعد قليل.
وقبل أن يعود إلى مكانه وراء الدفة ، قال المساعد : سنقلع حالما تأمر سيدي .
وبرز سندباد مرتقياً الحاجز ، وصعد إلى ظهر السفينة ، ومن ورائه صعد قرش ، وعصابته المتسخة تغطي إحدى عينيه .وابتسم همام بانتصار ، وقال : أهلاً سندباد.
واندفع سندباد نحوه متسائلاً : أين هندباد ؟
فرد همام قائلاً : هندباد موجود .
وقال سندباد : أريد أن أراه .
وقال همام : صبراً ، ستراه .
فقال سندباد : لابد أن أراه الآن .
وصمت همام لحظة ، ثم قال : حسن يا سندباد .
ثم أشار إلى ثلاثة بحارة يقفون قربه ، وقال : خذوه إلى هندباد .
وأحاط البحارة الثلاثة بسندباد ، وأخذوه إلى قمرة في نهاية السفينة .والتفت همام إلى قرش ، وقال : قرش .
فرد قرش قائلاً : نعم سيدي .
وقال همام : أريد أن تقف بباب القمرة ، ولا تغادره أبداً .
وقال قرش بارتياح : أمرك سيدي .
وما إن مضى قرش نحو القمرة ، ليرابط عند بابها ، حتى أشار همام لمساعده ، وقال : هيا ، أقلع .
وعلى الفور ، أشار المساعد للبحارة ، فتراكضوا متسابقين إلى مهامهم . وسرعان ما رفعت المرساة ، ونشرت بعض الأشرعة ، وأقلعت السفينة " الإعصار " منسابة مع شط العرب . ومن وسط السفن ، انسلت سفينة مريبة ، وانسابت منحدرة في أثر " الإعصار " .














" 6 "


أنهت ريحانة إعداد الفطور ، ووضعته في صينية ، وأخذته إلى الغرفة . وخيل إليها أن الباب الخارجي يفتح ، وعبثاً أنصتت منتظرة ، وتنهدت قائلة : سيبرد الطعام .
ونهضت من مكانها ، وخرجت من الغرفة ، ووقفت وسط الفناء ، لا تدري ماذا تفعل . ووقع نظرها على حب الماء ، وشعرت بحلقها جافاً ، أهي عطشانة ؟ ورفعت غطاء الحب ، وغرفت قليلاً من الماء ، وشربت جرعة ، ثم سكبت الباقي على الأرض ، وقالت : لقد تأخرا .
وشعرت بقواها تخور ، لكنها بدل أن تذهب إلى غرفتها لترتاح ، مضت إلى الباب ، وواربته قليلاً ، وأطلت برأسها من الفرجة،ومدت بصرها حتى شاطىء النهر ، وشعرت بالانقباض ، حين لم تر أثراً لأبيها أو لابنها هندباد .
وأغلقت الباب ، وقفلت عائدة إلى الغرفة ، وهي تقول : ترى أين ذهبا ؟
وانتظرت ، انتظرت طويلاً ، حتى لم تعد تطيق الانتظار . فنهضت متحاملة على نفسها ، وأخذت شالها ، ووضعته فوق رأسها ، ثم خرجت من البيت .
ووقفت حائرة ، لا تعرف أين تذهب ، وأخيراً ، حزمت أمرها ، واتجهت نحو الشاطىء . وارتقت المرتفع ، الذي يجلس فوقه هندباد ، وتلفتت يميناً ويساراً ، دون أن تعثر لهما على أثر .
وتركت المرتفع ، وسارت متلفتة بمحاذاة الشاطىء ، حتى هدها التعب . وتوقفت حائرة ، وقد اغرورقت عيناها بالدموع . وسرعان ما كفكفت دموعها ، وقالت : يا لي من حمقاء ، إنني أبحث عنهما هنا ، وهما على الأغلب ينتظراني الآن في البيت .
وعلى الفور ، قفلت عائدة إلى البيت ، ودفعت الباب ، واندفعت إلى الفناء تصيح : هندباد .. هندباد .
لم يجب هندباد ، وكذلك أبوها سندباد ، وخطر لها أنهما يمازحانها ، فمن يدري ماذا يدور في دخيلتيهما ؟ واندفعت داخل الغرفة ، وكل أملها أن تراهما يضحكان من مخاوفها وأوهامها ، لكنها لم تجد أحداً منهما . ووقفت مصعوقة وسط الغرفة ، ثم تهاوت منهارة على الأرض ، وارتفع صوتها بالبكاء .
وطرق الباب ، فرفعت رأسها ، ومسحت عينيها الغارقتين بالدموع ، لعلهما عادا الآن من جولتهما ، وإلا أين عساهما يذهبان ؟ وهبت إلى الفناء ، وفتحت الباب ، وإذا ياسر يرفع وجهه إليها مبتسماً ، ويقول : أريد هندباد.
وأجهشت ريحانة بالبكاء قائلة : هندباد ليس في البيت ، لقد خرج صباحاً ، ولم يعد حتى الآن .
ووقف ياسر مذهولاً ، وقد اختفت ابتسامته ، وتراجع إلى الوراء ، وهو يقول : أخبريه .. إذا جاء .. أني أنتظره .. سنلعب سوية .
ومضى ياسر ، لا يلوي على شيء . وأغلقت ريحانة الباب، وعادت إلى الغرفة ، وارتمت باكية فوق فراش هندباد . وظلت منطرحة في مكانها ، تنتظر عودتهما ، دون أن تأكل لقمة واحدة .
وقبيل المساء ، تحاملت على نفسها ، ونهضت متثاقلة ، ووضعت الشال فوق رأسها ، وخرجت من البيت . ومشت مترنحة تائهة نحو الشاطىء ، وارتقت المرتفع ، وجلست حيث تعود هندباد أن يجلس، وراحت .. تنتظر .











" 7 "


شقت " الإعصار " طريقها في مياه شط العرب ، بين سياجين من أشجار النخيل . وراحت تمخر المياه قدماً باتجاه الخليج ، رغم انحدار الشمس ، واقتراب الليل.
وتجول همام فوق ظهر السفينة ، متفقداً سير الأعمال بنفسه. وعند غروب الشمس ، صعد حيث الدفة ، وقال للمساعد : لقد قطعنا مسافة لا بأس بها .
فرد المساعد قائلاً : نعم يا سيدي ، وسيظهر القمر بعد قليل، ولن نتوقف حتى يغيب .
وتطلع همام نحو الشمس الغاربة ، وقال : نحن في سباق مع الزمن ، أريد أن ندخل الخليج في أسرع وقت ممكن .
فقال المساعد : الريح مواتية يا سيدي ، ولن تخذلنا فيما تريد.
وسار همام مبتعداً ، وقال وهو ينزل السلم : إنني في قمرتي إذا احتجت إليّ .
فرد المساعد قائلاً : أنت متعب يا سيدي ، ليتك تخلد إلى الراحة .
ودخل همام جناحه ، ورأى ياسمين تجلس إلى المائدة ، وقد استغرقت في الحديث مع الطباخ العجوز . وجلس قبالة ياسمين ، وقال للطباخ العجوز : هات العشاء ، إن نفسي مفتوحة للطعام .
وقال الطباخ العجوز ، وهو يسرع إلى المطبخ : أمرك سيدي .
وعلقت ياسمين قائلة : طبعاً ، فأنت طول النهار ، فوق ظهر السفينة، تتمتع بالهواء الطلق .
وتطلع همام إليها ، وقال : الجو مطير اليوم يا بنيتي ، ورأيت أن تبقي مرتاحة في القمرة .
وأقبل الطباخ العجوز ، ووضع سمكة مشوية على المائدة ، ووقف جانباً . وتساءلت ياسمين ، دون أن تلقي نظرة إلى السمكة : وغداً ؟
وتناول همام رغيفاً من الخبز ، ورد قائلاً : أنت وحظك.
وأخذت ياسمين رغيف خبز ، وقطعت منه قطعة بأسنانها ، وقالت : أعرف حظي .
ووضع همام قطعة من السمك في فمه ، وقال مازحاً : من جهتي ، فإنني سعيد الحظ بك .
ونهضت ياسمين من مكانها ، وجلست إلى جانب أبيها ، وقالت بصوت رقيق : أبي .
وأخذ همام قطعة من السمك ، وتأكد بأنها خالية من العظام، ثم قال : افتحي فمك ؟
لم تستجب ياسمين لأبيها ، وإنما قالت متذمرة : لقد مللت حياة البحر.
وقال همام ثانية : افتحي فمك .
وفتحت ياسمين فمها على مضض ، فدفع همام قطعة السمك فيه ، وقال : إنها سمكة لذيذة ، كلي ، وتمتعي يا بنيتي .
ولاذت ياسمين بالصمت ، وأخذت تمضغ قطعة السمك بدون شهية . ومسح همام يديه وفمه ، وقال : اطمئني ، هذه رحلتنا الأخيرة .
فردت ياسمين قائلة : هذا ما تقوله دائماً يا أبي .
وهز همام رأسه ، وقال : لن تكون بعد هذه الرحلة رحلة أخرى ، سأبيع " الإعصار " ، ونعيش حياة هادئة مستقرة، في بيت صغير ، يطل على شط العرب .
ولاذت ياسمين بالصمت ، فنهض همام ، وقال للطباخ العجوز : لا تدعها تنهض عن المائدة ، قبل أن تجهز على هذه السمكة اللذيذة بأكملها .
وابتسم الطباخ العجوز ، وقال : سمعاً وطاعة يا سيدي .
وخرج همام من الجناح ، وأغلق الباب . فجلس الطباخ العجوز إلى جانب ياسمين ، وقال مازحاً : سمعت ما أمرني به الربان ، إنني طباخ عجوز ، وليس لي إلا الطاعة .
وقالت ياسمين بلهجة آمرة : كل معي .
وتطلع الطباخ العجوز إليها ، دون أن يرد بكلمة ، فتابعت قائلة : إنني ابنة الربان همام ، وعليك أن تطيعني.
فرد الطباخ العجوز قائلاً : سمعاً وطاعة يا ابنة القبطان .
وجلس إلى جانبها ، وأخذ قطعة من السمكة ، ثم قال : حديثك مع أبيك ، ذكرني بأمك العزيزة ، رحمها الله .
فقالت ياسمين ، وقد غمرها الحزن : أمي المسكينة ، أنا
قتلتها .
وشهق الطباخ العجوز قائلاً : لا ، يا بنيتي ، لا ، هذا قدرها، كانت على السفينة ، حين جاءها المخاض ، ولم يكن إلى جانبها سوى خادمة عجوز .
وصمت لحظة ، ثم قال : طالما حدثتني عن أملها في هجرة حياة البحر ، والاستقرار في بيت صغير يطل على شط العرب .
فنهضت ياسمين قائلة : وهذا ما سأحققه أنا ، مهما كلفني الأمر .










" 8 "


سار همام فوق سطح السفينة ، والقى نظرة خاطفة إلى مساعده ، الذي كان في مكانه المعتاد وراء الدفة . ووقف عند الحاجز ، محدقاً في غابات النخيل ، والليل يغطيها شيئاً فشيئاً ، بعباءته السوداء .
وتراءت له زوجته بشعرها البني ، وعينيها السوداوين ، وابتسامتها التي لم يفارقها الحزن . المسكينة ، كانت تحلم ببيت صغير يطل على شط العرب ، وها هي ياسمين ، ورثت منها شعرها البني ، وعينيها السوداوين ، وابتسامتها، وحلمها الذي لم يتحقق .
وأطل القمر من ذرى النخيل ، فتطلع همام إليه لحظة ، ثم سار مبتعداً عن الحاجز ، واتجه إلى مؤخرة السفينة .
واستقبله قرش عند باب القمرة ، وحياه قائلاً : عمت مساء ، يا سيدي .
فرد همام : عمت مساء .
ثم حدق فيه متسائلاً : كيف حال ضيفي ؟
فأجاب قرش : ليحمد الله ، يا سيدي ، لأنك لم ترفع عنه حمايتك بعد.
وعبس همام قائلاً : قرش ، بدون سندباد لا وجود للكنز ، وأنا أريد هذا الكنز .
وحاول قرش أن يكظم مشاعره ، دون جدوى . وقال بشيء من الانفعال : إن عيني ، يا سيدي ، تطالبني أن أثار لشقيقتها .
فرد همام بحزم : قل لعينك ، أن من الأفضل لها أن تنتظر.
وطأطأ قرش رأسه مكرهاً ، وقال : سمعاً وطاعة ، يا سيدي .
فقال همام : افتح الباب .
وأخرج قرش مفتاحاً من عبه ، أداره في القفل ، ثم قال : تفضل يا سيدي .
ودفع همام الباب بهدوء ، ودخل القمرة ، ثم أغلق الباب . وعلى ضوء القنديل الخافت ، رأى سندباد يحدق عبر الكوة . وألقى نظرة خاطفة على المائدة ، وقال : لم تأكل عشاءك بعد ، يا سندباد .
والتفت سندباد إليه ، وقال : لا أريد عشاء ، لا أريد أي شيء ، أريد فقط أن أرى هندباد .
فرد همام قائلاً : قلت لك مراراً ، إن هندباد في مكان آمن ، وأنا أعنى به شخصياً .
وتقدم سندباد منه ، وقال : حذار ، يا همام ، إياك أن تمس هندباد .
فرد همام قائلاً : اطمئن ، لن أمسه ، إنه الكنز .
وهزّ سندباد رأسه ، وقال : لن ترى الكنز في حياتك .
وحدق همام فيه غاضباً ، ثم اتجه نحو الخارج . وتوقف عند الباب ، وقال : سأراه مادمت تريد أن ترى حفيدك .. هندباد.
ثم فتح الباب ، ومضى إلى الخارج ، تاركاً سندباد يقف وحده وسط القمرة .




















" 9 "


خرج همام من القمرة ، وهو مازال غاضباً . فتطلع إليه قرش ، وقال : رأس سندباد ، يا سيد ، قدّ من حجر .
لم يلتفت همام إليه ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول بحزم: أغلق باب القمرة ، واحتفظ بالمفتاح .
وأدار قرش المفتاح ، ثم سحبه من القفل ، ووضعه في عبه مدمدماً : ولن أرتاح حتى أكسر هذا الحجر .
وتوقف همام ، عند حاجز السفينة ، محدقاً في غابات النخيل ، التي يضيئها القمر ، حتى هدأ غضبه . وغادر مكانه بخطوات متعبة ، وصعد السلم إلى حيث الدفة .
ولاحظ المساعد عبوسه ، فأستقبله باشاً ، وقال :القمر رائع اليوم ، يا سيدي .
وبدا القمر قرصاً شاحب الضوء ، معلقاً فوق غابات النخيل. وتطلع همام إليه ، ثم قال : من الأفضل أن تجد مكاناً مناسباً ، ترسي السفينة فيه .
فرد المساعد قائلاً : القمر في أوجه ، ويمكننا أن نسير مدة أخرى .
والتفت همام إليه ، وقال : لا ، أنت متعب ، وأريدك أن ترتاح .
وابتسم المساعد قائلاً : سأرتاح ، يا سيدي ، حين نصل الهدف.
ومضى همام مبتعداً ، وأخذ ينزل السلم ، وهو يقول : سنصله ، وبأسرع وقت ممكن .
وسار همام بخطى متثاقلة ، تحت ضوء القمر الشاحب ودخل جناحه ، وفتح في هدوء باب القمرة ،ورأى ياسمين في فراشها ، تغط في نوم عميق ، فسحب الباب في هدوء
وأحكم إغلاقه . واتجه إلى القمرة الصغيرة الملحقة بجناحه وفتح الباب ، واجتاز الممر الضيق المظلم ، وطرق الباب ، ثم دفعه ، ودخل دون أن ينتظر جواباً .
وهبّ الطباخ العجوز من فراشه ، حين رأى همام يدخل القمرة ، وقال مرحباً : أهلاً ، سيدي ، تفضل .
وألقى همام نظرة خاطفة على هندباد ، الراقد في فراش قرب الكوة . ثم التفت إلى الطباخ العجوز ، وقال : لا ترفع صوتك ، إنه نائم .
وهنا فتح هندباد عينيه ، وما إن رأى همام عند الباب ، حتى نهض قائلاً : عمي !
فقال همام : عد إلى فراشك ، يا هندباد ، أنت متعب .
لم يعد هندباد إلى فراشه ، وإنما اقترب من همام ، وقال : لقد وعدتني مراراً ، أن أرى جدي .. سندباد .
فرد همام قائلاً : وأنا عند وعدي .
وتساءل هندباد : متى ؟ إنني مشتاق لرؤيته .
فقال همام : لا تستعجل ، ستراه .
ولاذ هندباد بالصمت ، وقد استبد به الحزن ، فقال همام : هندباد ، طالما حلمت بالسفر ، وها أنت تسافر على متن أعظم سفينة عرفتها البحار.. " الإعصار " .
ورد هندباد قائلاً : إنني سعيد بالسفر ، رغم أني لا اخرج من هذه القمرة ، وأتمنى لو أن معي جدي .. سندباد .
فربت همام على كتفه ، وقال : سيكون جدك سندباد معك قريباً ، فقد اتفقنا أن نلتقي ، بعد فترة قريبة ، في جزيرة الكنز .
ولاذ هندباد بالصمت ثانية ، فقال همام : هيا ، يا بني ، عد إلى فراشك ، سنصل بعد أيام إلى الجزيرة ، وترى جدك .. سندباد .
وعاد هندباد إلى فراشه ، دون أن يتفوه بكلمة . فأحكم همام الغطاء حوله ، وقال : تصبح على خير .
وأغمض هندباد عينيه متمتماً : تصبح على خير .
وخرج همام من القمرة ، وأغلق الباب وراءه . ووقف الطباخ العجوز وسط القمرة ، يتطلع إلى هندباد ، ثم هزّ رأسه بأسى ، وصعد بتثاقل إلى فراشه .






" 10 "


استيقظت ياسمين ، وقد أشرقت الشمس ، وارتفعت فوق أشجار النخيل . ونهضت متعجبة ، لأن الطباخ العجوز لم يوقظها كالعادة لتفطر مع أبيها . وفتحت باب القمرة ، متوقعة أن ترى أباها أو الطباخ العجوز ، لكنها لم تر أياً منهما .
وألقت نظرة على المائدة ، ولاحظت بقايا طعام الفطور فوقها . لقد أفطر أبوها اليوم إذن ، دون أن ينتظرها . من يدري ، لعله كان مشغولاً ، أو أنه رآها مستغرقة في نوم عميق ، فلم يشأ أن يوقظها ، كما يفعل أحياناً .
واتجهت إلى المطبخ ، وفتحت بابه بهدوء ، وألقت نظرة إلى الداخل ، عجباً ، أين مضى هذا الطباخ العجوز ؟
وتذكرت ، إنه شكا البارحة ، من صداع شديد في رأسه . وتملكها القلق ، وخشيت أن يكون مريضاً . فأغلقت باب المطبخ ، ومضت باتجاه الخارج . وسرعان ما توقفت ، حين تناهت إليها ضجة خافتة من القمرة الصغيرة الملحقة بالجناح . وخمنت أنه الطباخ العجوز ، فعادت أدراجها مسرعة ، واتجهت نحو القمرة .
وفتحت الباب، واجتازت الممر الضيق المظلم ، ثم دفعت باب القمرة قائلة : أين أنت أيها ...؟
وصمتت ياسمين ، حين فوجئت بصبي في عمرها ، يقف وسط القمرة ، محدقاً فيها ، كأنها كائن غريب ، هبط من عالم آخر . وسرعان ما خرجت من صمتها متسائلة : من أنت ؟
فرد هندباد قائلاً : أنا ..
واقترب منها ، وقال : لابد أنك مثلي ، احتجزك الربان همام لسبب ما ..
فتساءلت ياسمين مذهولة : احتجزني !
وتلفت هندباد حوله ، ثم مال عليها ، وقال بصوت خافت : لا تخافي ، الربان على ما يبدو رجل طيب ، وهو يعاملني معاملة طيبة ، لكن هناك أشياء غامضة ، لا أكاد أفهمها .
وتناهى وقع أقدام من الخارج ، فتراجعت ياسمين مضطربة ، ولحقها هندباد قائلا : مهلاً .. مهلاً .
فردت ياسمين ، دون أن تتوقف : أسمع وقع أقدام في الخارج ، لابد أن أذهب .
وفتحت الباب ، ثم توقفت وقالت : لم أعرف اسمك .
فقال هندباد : اسمي هندباد .
ثم تساءل : وأنت ، ما اسمك ؟
فتطلعت إليه لحظة ، دون أن تجيب ، ثم خرجت ، وأغلقت باب القمرة . واجتازت الممر الضيق المعتم بخطوات سريعة ، وفتحت باب الجناح ، وإذا هي في مواجهة الطباخ العجوز .
وتمتم الطباخ العجوز ، وقد جحظت عيناه : ياسمين !
وأغلقت ياسمين الباب ، وقالت : ظننت أنك مريض ، وقلقت عليك، فذهبت إلى قمرتك .
ولاذ الطباخ العجوز بالصمت ، وقد تحشرجت أنفاسه ، فأضافت ياسمين قائلة : رأيت .. هندباد .
وانهار الطباخ العجوز ، وقال متوسلاً : أرجوك ، لا تقولي لأحد أنك رأيته .
وحدقت ياسمين فيه ، ثم تساءلت : من هو .. هندباد ؟
فرد الطباخ العجوز مرتعباً : لا أدري .
وجلست ياسمين إلى المائدة ، وقالت : بل تدري ، لكن لا بأس ، سأعرف بنفسي كلّ شيء .
وهمّ الطباخ العجوز أن يرد ، فقالت ياسمين : إنني جائعة ، قدم لي طعام الفطور .
فأسرع الطباخ العجوز إلى المطبخ ، وهو يقول : في الحال يا بنيتي،في الحال .








" 11 "


مع الفجر ، رفعت المرساة ، ونشرت الأشرعة ، وأقلعت " الإعصار ". وسرعان ما راحت تمخر مياه شط العرب ، منحدرة نحو الخليج .
وعلى المائدة ، جلست ياسمين قبالة أبيها ، تتناول طعام الفطور ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . ورمق همام الطباخ العجوز بنظرة سريعة ، ثم نظر إلى ياسمين ، وقال : نحن هنا .
وتململت ياسمين ، لكنها لم ترد ، فتساءل همام : أرى زهرتي صامتة ، ما الأمر ؟
وأشارت ياسمين إلى الطباخ العجوز ، وردت قائلة : اسأله.
وأسقط في يد الطباخ العجوز ، واستبدت به حيرة شديدة ، فضحك همام ، وقال : لا عليك ، أعرف أنها تمزح .
وحدقت ياسمين في الطباخ العجوز ، وقالت : أرأيت ؟ إنني أمزح .
ونهض همام ، وقال : إنني مشغول اليوم ، وقد أتأخر ، تناولي غداءك متى تشائين .
واكتفت ياسمين بهزة من رأسها ، دون أن ترد بكلمة . ومضى همام ، يسير بخطواته المتثاقلة ، وخرج من القمرة. وعندئذ انحنى الطباخ العجوز على ياسمين ، وقال :بنيتي ، ارحميني من .. .
فقاطعته ياسمين قائلة : أزور هندباد .. متى أشاء .
وتساءل الطباخ العجوز محرجاً : وإذا عرف أبوك ؟
فردت ياسمين قائلة : لن يعرف .
فطامن الطباخ العجوز رأسه ، وقال : كما تشائين .
ونهضت ياسمين ، وقالت : لا تزعل مني .
وابتسم الطباخ العجوز إبتسامة حزينة ، فحضنته..ياسمين ، وقالت : إنني أحبك .
ورد الطباخ العجوز قائلاً : وأنا أيضاً أحبك ، كما أحببت المرحومة ..أمك .
وتلفتت ياسمين حولها ، وقالت : والآن أريد بعض الطعام لأخذه إلى هندباد .
فقال الطباخ العجوز : لا عليك ، لقد أفطر .
ولاذت ياسمين بالصمت حائرة ، فقال الطباخ العجوز : خذي له شيئاً من شربت الزبيب .
وهمت ياسمين أن تمضي إلى المطبخ ، فسبقها الطباخ العجوز إلى ذلك قائلاً: لحظة ، سآتيك بدورق من الشربت .
ودخل المطبخ ، وسرعان ما عاد بالدورق ، وقال : خذيه إليه، إنه يحب شربت الزبيب كثيراً .
وأخذت ياسمين الدورق ، وقالت بامتنان : أشكرك ، أشكرك جداً .
وتطلع الطباخ العجوز إليه ، وقال بنبرة توسل : أرجوك ، يا بنيتي ، لا تتأخري .
واتجهت ياسمين إلى الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ، وهي تقول : اطمئن ، لن أتأخر .
وفتحت الباب ، واجتازت الممر الضيق المظلم ،وطرقت باب القمرة الصغيرة ، فجاءها صوت هندباد : تفضل.
ودفعت الباب ، ودخلت حاملة دورق الشراب ، وقالت : جئتك بشراب تحبه ، شراب الزبيب .
ونظر هندباد إليها متسائلاً ، فأجابت قائلة : هذا ما أخبرني به الطباخ العجوز .
وأخذ هندباد الدورق منها ، وقال : هذا حق ، أشكرك.
وجلس إلى المائدة ، وأضاف : لنشرب معاً .
وجلست ياسمين قبالته ، وقالت : أشرب بشرط .
وقدمه لياسمين مبتسماً ، وقال : حسن ، اشربي .
وآخذت ياسمين القدح ، وقالت : لم تسألني عن الشرط .
وتناول هندباد قدحاً آخر ، وملأه بشربت الزبيب، وقال : أقبل شرطك مهما يكن .
فقالت ياسمين : أريد أن تحدثني عما جرى لك مع الربان ..همام .
ولاذ هندباد بالصمت لحظة ، ثم قال : حسن ، اشربي شرابك أولاً .
ورفعت ياسمين القدح ، وشربت ما فيه من شراب ، ثم وضعته على المائدة ، وتطلعت إلى هندباد ، وقالت : ها قد شربت الشراب ، حدثني .























" 12 "


غادرت السفينة " الإعصار " شط العرب ،تاركة غابات النخيل وراءها ، وتوغلت في مياه الخليج . وسرعان ما توارت اليابسة ، وصارت " الإعصار" بين فضاء ين من الزرقة ، مياه الخليج .. والسماء .
وكلما مرّت الأيام ، واقتربت الجزيرة ، كان قلق همام وتوتره يتفاقمان ، وصار يقضي معظم وقته فوق ظهر السفينة .وحين كان يضطر للعودة إلى القمرة ليلاً ، كان لا يكاد يغمض له جفن ، خاصة وأنه لم يستطع حتى الآن أن ينتزع من سندباد وعداً بالتعاون معه ، للحصول على الكنز.
لا أحد يعرف مكان الكنز غير سندباد ، فقد كان رهينة عند القراصنة ، عندما خبأوا الكنز في الجزيرة . وما إن أقلعوا، وتوغلوا في البحر حتى هبت عاصفة شديدة ، أطاحت بالسفينة ، وغرق كل من عليها ، عدا سندباد وقرش .
ولم يعرف قرش أين خبئ الكنز ، لأنه ظل على السفينة ، عندما نزل القراصنة ، ومعهم سندباد ، وخبأوا الكنز .
ونفد صبر همام ، حين صارت الجزيرة على بعد ما
يقرب اليومين .فحزم أمره ، واتجه إلى قمرة سندباد . ورآه قرش مقبلاً ، فأخرج المفتاح من عبه، دون أن يتفوه بكلمة ، وأداره في قفل الباب.
ودفع همام الباب ، ودخل القمرة ، مربد الوجه . ورمقه سندباد بنظرة خاطفة ،وأولاه ظهره ، ووقف يحدق عبر الكوة في البحر . وخاطبه همام بنبرة حاول أن تكون هادئة : سندباد .
ولم يلتفت سندباد ، أو يرد بكلمة ، فتابع همام قائلاً : اسمعني ، يا سندباد .
وقال سندباد ، دون أن يلتفت: منذ فترة طويلة ، لم أر ياسمين .
وتابع همام قائلاً : نحن نقترب من الجزيرة .
وتجاهل سندباد ما قاله همام ، وقال متسائلاً : كيف حالها ؟
وصمت همام لحظة ، ثم أجاب : بخير .
وقال سندباد : لابد أنها الآن شابة .
فرد همام قائلاً : إنها تقريباً بعمر هندباد .
والتفتت سندباد إليه ، وقال : أنت لا تستحقها ، يا همام .
وصمت همام لحظة ، وقد بدا حزيناً منكسراً ، ثم قال : إنني مريض ، يا سندباد ، وقد لا أعيش طويلاً ، وما أفعله إنما من أجل ياسمين ..وحدها .
فقال سندباد : ياسمين بحاجة إليك أنت ، وليس إلى أي شيء آخر ، وخاصة بعد رحيل أمها ، وهي تضعها .
واحتد همام قائلاً : دعك من هذا ، يا سندباد .
فأقترب سندباد منه ، وقال : همام ، هذه الجزيرة مشؤومة، ولم يطأها أحد ، ونجا من الموت .
فرد همام قائلاً : أنت وطأتها ونجوت .
ثم أضاف ، وهو يتأهب للخروج : ولابد أن تنجو هذه المرة أيضاً ، فحفيدك هندباد معك .
وخرج صافقاً الباب وراءه ، والتفت سندباد منفعلاً ، وراح يحدق ثانية ، عبر الكوة ، في البحر
















" 13 "


من أعلى السارية ، صاح البحار المراقب ، مشيراً بيده إلى البعيد : الجزيرة .. الجزيرة .
وارتفعت ضجة فوق ظهر السفينة ، وراح البحارة يهللون فرحين . ووقف عدد منهم قرب الحاجز ، يتطلعون إلى حيث يشير البحار المراقب ، الواقف في أعلى السارية .
واقبل همام من جناحه ، وصعد السلم على عجل ، ووقف بجانب الحاجز القريب من الدفة . وهتف البحار المراقب من أعلى السارية ، وهو يشير بيده : سيدي ، أنظر ، تلك هي الجزيرة .
ونظر همام إلى حيث يشير البحار المراقب ، وإذا خط داكن من قمم الصخور ، وذرى الأشجار ، يلوح في الأفق البعيد ، فقال فرحاً : حقاً هذه هي الجزيرة ، جزيرة الكنز .
وتناهت الضجة والتهاليل إلى سندباد ، وهو راقد في قمرته، فنهض بسرعة ، ووقف قبالة الكوة المطلة على البحر ، ونظر إلى البعيد .
وعند خط الأفق ، رأى الجزيرة ، تنهض بصخورها وأشجارها ، من أعماق البحار . فهز رأسه ، وقال : إنها هي ، جزيرة الموت ، والويل لمن يطأها .
وسمعت ياسمين الضجة ، فخرجت من قمرتها مسرعة . ورأت الطباخ العجوز يرتب الصالة ، فتساءلت بحيرة :ما الأمر ؟
ورد الطباخ العجوز قائلاً : لقد وصلنا الجزيرة ، يا بنيتي.
وصاحت ياسمين : الجزيرة!
وانطلقت إلى الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ،وهي تقول : لابد أن أخبر هندباد بالأمر .
وهتف بها الطباخ العجوز قائلاً : مهلاً يا عزيزتي ، قد يأتي أبوك في أية لحظة .
وفتحت ياسمين الباب ، دون أن تلتفت إليه ، واندفعت عبر الممر الضيق المعتم نحو القمرة ، ودفعت بابها وهي تصيح : هندباد ، لقد وصلنا الجزيرة .
ونهض هندباد ، وقال بصوت حزين : وما الفائدة ، ما دمنا أنا وأنت حبيسين .
وتطلعت ياسمين إليه ، وقالت بحماس : لن نظل حبيسين ، سننزل إلى الجزيرة ، مهما كلف الأمر .
وأطرق هندباد رأسه لحظة ، ثم قال : ياسمين .
وردت ياسمين مترددة : نعم .
فقال هندباد : لقد حدثتك عن نفسي ، وأريد أن تحدثيني ..
وقاطعته ياسمين ، وقالت محاولة التهرب : ولكن ليس الآن.
ثم اتجهت إلى الخارج قائلة : فلأذهب قبل أن يراني أحد.
وفتحت الباب ، وأسرعت تجتاز الممر الضيق المعتم ، إلى قمرتها .
وفوق ظهر السفينة ، ووسط ضجة البحارة وتهليلهم ، تقدم همام ، ووقف قرب الدفة ، وصاح : أيها البحارة ..
وكف البحارة عن التهليل ، ووقفوا ينصتون ، فتابع همام قائلاً : سنرسو الليلة قرب الجزيرة ، وغداً ، مع شروق الشمس ، سننزل معاً إلى الشاطىء ، استعدوا ، فقد وصلنا الهدف .















" 14 "

أفاقت ياسمين ، قبل شروق الشمس ، وأبوها مازال يغط في النوم . ونزلت بهدوء عن سريرها ، وفتحت الباب، وخرجت من القمرة . وتوقفت لحظة في الصالة ، تنصت إلى الطباخ العجوز ، وتأكدت من انشغاله في إعداد الفطور. فمشت على رؤوس أصابعها ، وفتحت الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ، وأسرعت تجتاز الممر الضيق المعتم ، ثم دفعت بهدوء باب القمرة .
واستيقظ هندباد على صوت الباب يدفع ، وفتح عينيه ، وإذا ياسمين تدخل القمرة ، فهب من فراشه متمتماً : ياسمين !
فردت ياسمين هامسة : لا ترفع صوتك .
ثم اقتربت منه ، وقالت : لقد أنزل أحدهم قارباً صغيراً إلى البحر ، ربما للاستكشاف ، تعال نأخذه ، ونذهب به إلى الجزيرة .
ولاذ هندباد بالصمت حائراً ، فأطبقت ياسمين على يده ، وجرته قائلة : هيا يا هندباد ، وإلا ضاعت الفرصة .
ونزل هندباد من سريره قائلاً : هيا .
وتسللا من القمرة ، عبر الممر الضيق المعتم ، إلى الصالة وتناهى إليهما وقع أقدام الطباخ العجوز ، فأسرعا بالاختباء خلف المنضدة . وأطل الطباخ العجوز من باب المطبخ ، وتلفت حوله ، ثم عاد إلى المطبخ .
وخرجت ياسمين وهندباد من وراء المنضدة ، وأسرعا على رؤوس أصابعهما ،مجتازين الصالة . وفتحت ياسمين الباب الخارجي ، وأطلت برأسها ، متلفتة يميناً ويساراً ، ثم التفتت إلى هندباد ، وهمست قائلة : لا يوجد أحد ، هيا .
وخرجت ياسمين من الصالة ، وخرج هندباد وراءها ، وأغلق الباب. ولمحا بحاراً ينزل السلم من حيث الدفة ، فتواريا على عجل، خلف كومة من الحبال . وتوقف البحار عند أسفل السلم ، متلفتاً حوله ، ثم دخل العنبر .
وأطلت ياسمين برأسها من خلف كومة الحبال ، وتلفتت حولها ، ثم قالت : البحارة في العنبر ، يتناولون فطورهم ، هذه فرصتنا ، فلنذهب .
وخرجا من خلف كومة الحبال ، وركضا بمحاذاة السياج . وتوقفت ياسمين ، عند سلم من الحبال ، يتدلى من أعلى السفينة إلى البحر ، وأطلت من الحاجز ، وقالت : هاهو القارب ، فلننزل من هنا .
وقبل أن يرد هندباد بكلمة ، تسورت ياسمين الحاجز ، وأخذت تنزل السلم . وما إن وصلت القارب ، حتى أشارت لهندباد قائلة : هيا يا هندباد ، انزل .
وتسور هندباد الحاجز ، كما فعلت ياسمين من قبل ، ونزل السلم ببطء ، حتى وصل القارب ، فقالت ياسمين : لنمض بالقارب إلى الجزيرة بسرعة ، قبل أن يكتشفوا أمرنا ، وتضيع الفرصة .
وجلست ياسمين وهندباد جنباً إلى جنب ، وأخذ كلّ منهما مجذافاً ، وراحا يجذفان بقوة ، وابتعدا بالقارب عن السفينة، متجهين إلى الجزيرة .
















" 15 "


هب همام من نومه مرعوباً ، فقد سمع زوجته الراحلة تصيح من العتمة بصوت متشنج ، مستغيث : ياسمين .
وفتح عينيه ، وكاد يصعق ، حين لم يجد ياسمين في فراشها. فارتدى ملابسه على عجل ، وأسرع إلى الصالة منادياً : أيها الطباخ.
وأقبل الطباخ العجوز من المطبخ ، وهو يمسح يديه المبللتين بمريلته ، وقال : سيدي .
وتلفت همام حوله قائلاً : أين ياسمين ؟ إنها ليست في فراشها .
وجحظت عينا الطباخ العجوز رعباً ، وتمتم : ياسمين !
وتململ حائراً ، ثم دبّ نحو القمرة الداخلية ، وهو يقول : لحظة سيدي ، لعلها في قمرتي .
وتساءل همام مستغرباً : قمرتك ! وماذا يمكن أن تفعل في قمرتك ؟
وتوقف الطباخ العجوز ، وقد أسقط في يده ، ثم قال منأتئاً : أقول يا سيدي .. ربما .
ثم فتح الباب ، وانطلق متعثراً عبر الممر الضيق المظلم ، إلى قمرته. وسرعان ما عاد ، مكفهر الوجه ، وقال متأتئاً : سـ..سـ..سيدي.
فحدجه همام بنظرة غاضبة ، وقال : تكلم .
وقال الطباخ العجوز : سيدي .. هندباد أيضاً.. غير موجود.
ودمدم همام قائلاً : ماذا !
ثم اتجه بخطى واسعة نحو الباب الخارجي ، وهو يتساءل : ماذا يجري هنا ؟
ومضى إلى الخارج ، وصفق الباب وراءه . ولم يعد الطباخ العجوز ، يقوى على الوقوف ، فتهاوى منهاراً على أقرب مقعد .
وخرج همام من جناحه ، وصعد السلم إلى حيث الدفة . ووقف مطلاً على البحارة ، وصاح : أيها البحارة .. .
و أقبل البحارة مسرعين ، من مختلف أطراف السفينة ، ووقفوا أمامه منصتين ، فقال بصوت منفعل : ابنتي ياسمين، خرجت من قمرتها ، وربما خرج معها حفيد سندباد ، ابحثوا عنهما في كل مكان ، من السفينة ، هيا . وعلى الفور انطلق البحارة مسرعين ، وبحثوا عن ياسمين وهندباد ، في كل طرف من أطراف السفينة ، دون جدوى.
ونزل همام السلم نافد الصبر ، وأقبل بحار من العنبر ، واتجه مسرعاً نحو حاجز السفينة ، فخاطبه همام متسائلاً : هل وجدتوهما !
وأطل البحار من الحاجز قائلاً : لحظة ، سيدي . فصاح به همام : ماذا تفعل أيها الأحمق ؟
والتفت البحار إليه ، وقال : سيدي ، لقد كلفتني ليلة أمس أن أنزل قارباً لاستكشاف الجزيرة ، وقد أنزلته فجر اليوم ، القارب غير موجود ، لقد اختفى .
وأسرع همام، وأطل من الحاجز ، ولم يجد للقارب من أثر . ونظر البحار نحو الجزيرة ، ثم صاح ، وهو يشير بيده : سيدي ، أنظر ، القارب هناك ، فوق الشاطئ .
ونظر همام ، حيث أشار البحار ، ورأى القارب فعلاً ، فوق الشاطئ .فصاح البحار ، وهو يتجه نحو قمرة سندباد : نادِ البحارة جميعاً ، وانزلوا القوارب ، سنذهب فوراً إلى الجزيرة .
وانطلق البحار نحو العنبر قائلاً : سمعاً وطاعة ، سيدي .
وما إن رأى قرش همام مقبلاً ، حتى أخرج المفتاح من عبه، وأداره في القفل . ودفع همام الباب ، ودخل القمرة.
ونهض سندباد ، محدقاً في همام ، دون أن يخاطبه بكلمة . فقال همام : البحارة ينزلون القوارب، سنذهب بعد قليل إلى الجزيرة .
فرد سندباد قائلاً : هذا الأمر لا يعنيني .
وقال همام : بل يعنيك بقدر ما يعنيني ، إن هندباد ، وابنتي ياسمين ، فوق الجزيرة وحدهما الآن .
وجحظت عينا سندباد متمتماً : ماذا !
فتابع همام قائلاً : لقد أخذا القارب الصغير ، صباح اليوم ، ومضيا به خلسة .
وحدق سندباد فيه غاضباً ، وقال : سأقتلك ، يا همام ، إذا أصيب هندباد بمكروه .
ثم أسر إلى الخارج قائلاً : هيا ، فلنمض ِ ، قبل فوات الأوان.


















" 16 "


قفز هندباد وياسمين من القارب ، حين وصلا إلى الشاطئ . وسحبا القارب الصغير قليلاً فوق الرمال ، حتى لا تجرفه الأمواج .
وتراكضا متضاحكين ، متقافزين وسط المياه المندفعة فوق رمال الشاطئ .وتوقفت ياسمين لاهثة ، والريح تطاير شعرها الأسود ، وتوقف هندباد قربها ، متقطع الأنفاس ، ومدّ نظره إلى أعماق الجزيرة ، وقال : لا أعتقد .. أن هذه الجزيرة .. مأهولة .
وألقت ياسمين نظرة إلى الأشجار الكثيفة ، وقالت ، وهي مازالت تلهث : من يدري ، لعلها تعج بالحيوانات المفترسة.
وضحك هندباد قائلاً : يا لخيالاتك ، إنها جزيرة صغيرة وسط البحر .
وتطلعت ياسمين إلى السفينة الراسية بعيداً عن الشاطئ ، وقالت : فلنبتعد ، ونتوغل بين الأشجار ، قبل أن يلحقوا بنا.
وأسرعت بالابتعاد ، متجهة نحو أجمة كثيفة الأشجار ، وما لبث هندباد أن أسرع في أثرها . وتجولا بين الأشجار ، متوغلين في أعماق الغابة ، حتى أنهكهما التعب . وتوقفت
ياسمين ، لاهثة متقطعة الأنفاس ، وقالت : لنرتح هنا قليلاً.
وتوقف هندباد بدوره ، وقال : حسن ، لنجلس تحت هذه الشجرة الضخمة .
وتهالكت ياسمين جالسة تحت الشجرة ، وجلس هندباد إلى جانبها . وساد الصمت ، ولم يعد يسمع غير أنفاسهما المتقطعة ، وحفيف أغصان الأشجار، وتكسر الأمواج فوق الشاطئ .
وأسندت ياسمين رأسها إلى جذع الشجرة ، وأغمضت عينيها ، وقالت : آه ليتني أعيش هنا .
وتساءل هندباد مازحاُ : وحدك .
فردت ياسمين دون أن تفتح عينيها : لا .
وتساءل هندباد ثانية : ترى من سعيد الحظ الذي سيكون معك !
ولاذت ياسمين بالصمت ، وعيناها مازالتا مغمضتين ،فقال هندباد : لو سألتني هذا السؤال ، يا ياسمين ، لأجبتك على الفور .
والتفت إليها ، ثم قال : ياسمين ، افتحي عينيك .
فردت ياسمين قائلة ، وقد توردت وجنتاها : لا أستطيع الآن ، يا هندباد .
وصمتت برهة ، ثم قالت : هندباد .
فرد هندباد قائلاً : نعم .
وقالت ياسمين : أنت لا تعرف حتى الآن ، من أكون . فقال هندباد : أعرف أنك ياسمين ، وهذا يكفيني .
وفتحت ياسمين عينيها البنيتين ، وتطلعت إليه برهة ، ثم قالت : أنا ابنة .. الربان .
وندت شهقة عن هندباد : همام !
فهزت ياسمين رأسها ، وقالت : نعم ، همام .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إذا تمنيت البقاء في هذه الجزيرة الآن ، فستتمنى البقاء فيها وحدك .
وعلى الفور ، رد هندباد : أنت ِ واهمة ، فلن أتمنى البقاء هنا بدون .. ياسمين .
وهربت ياسمين بعينيها البنيتين ، وقد توردت وجنتاها ثانية. وسرعان ما نهضت قائلة : لنستأنف سيرنا ، ونصعد إلى قمة هذا المرتفع .
ونهض هندباد بدوره ، وقال : ما رأيك أن نتسابق حتى القمة ؟
وتأهبت ياسمين للسباق قائلة : حسن ، هيا .
وانطلقا يتسابقان متضاحكين ، وسبق هندباد ياسمين ، ووقف ينتظرها عند حافة القمة . وتعثرت ياسمين ، قبل أن تصل الحافة ، فمد هندباد يده ، وأطبق على يدها . وصعدت ياسمين لاهثة ، ووقفت إلى جانبه ، وسحبت يدها من يده بهدوء ، وقالت : أهنئك ، لقد سبقتني .
وابتسم هندباد ، دون أن يرد بكلمة . وعبت ياسمين الهواء ملء صدرها ، ثم رفعت يديها عالياً ، وراحت تدور حول نفسها قائلة : هندباد .. هذه الجزيرة أصابتنا بالجنون و .. .
وسكتت ياسمين ، وقد تشنجت أنفاسها ، فتطلع هندباد إليها ، وتساءل : ما الأمر ؟
فأشارت ياسمين إلى الطرف الثاني من الشاطئ ، وقالت : أنظر .
ونظر هندباد إلى حيث أشارت ياسمين ، وإذا سفينة راسية قريباً من الشاطئ ، فتساءل مذهولاً : ترى لمن هذه السفينة!
وهنا برز عدد من البحارة ، يتطاير الشر من عيونهم ، وأحاطوا بهندباد وياسمين من كل جانب . وتقدم الربان من بينهم ، وقال : هذه سفينتنا .
ولاذ هندباد وياسمين بالصمت ، وقد أذهلتهما المفاجأة ، وقالت ياسمين متوسلة : أرجوكم ، دعونا وشأننا .
وتساءل هندباد بشيء من الحدة : ماذا تريدون ؟
فرد الربان قائلاً : اطمئنا ، لا نريد إيذاءكما .
ونظر إلى سفينة همام ، ثم قال : إن ما نريده شيئاً آخر .






" 17 "


أنزل البحارة القوارب إلى البحر، واتخذوا أماكنهم فيها ، وقد تدججوا بالسلاح .
وأقبل همام وسندباد ، وما إن رآهما المساعد ، حتى نزل السلم ، وأسرع إلى همام ، وقال : سيدي ، لقد نزل جميع البحارة إلى القوارب .
وتوقف همام عند حاجز السفينة ، حيث السلم المصنوع من الحبال ، وقال : ابق في السفينة أنت و ..
والتفت إلى قرش ، فقال الأخير : لا ، أرجوك سيدي ، لا أريد أن أبقى في السفينة هذه المرة .
فرد همام قائلاً : لا بأس ، تعال معنا .
والتفت إلى سندباد ، وقال : هيا ، يا سندباد ، انزل قبلي .
وتسور سندباد الحاجز ، دون أن يتفوه بكلمة ، ونزل السلم إلى القارب المخصص للربان . ونزل بعده همام ، وأعقبهما قرش . وعندئذ صاح الربان : لنمض الآن إلى الجزيرة ، تحركوا .
وتحركت القوارب ، مبتعدة عن السفينة ، يتقدمها قارب الربان ، شاقة طريقها نحو الجزيرة . ولاح القارب الصغير، ونهايات الأمواج تؤرجحه فوق رمال الشاطىء فخاطب همام المجذفين قائلاً : ذاك هو القارب ، اتجهوا نحوه بسرعة .
وحالما وصلوا الشاطيء ، قفز همام من القارب ، وتبعه سندباد وقرش . وسرعان ما نزل جميع البحارة من قواربهم ، وسحبوها فوق الرمال ، بعيداً عن مياه البحر .
وسار سندباد ، محدقاً في الرمال ، ثم توقف ، وقال : هذه آثار أقدام هندباد وياسمين .
وتطلع همام إلى آثار الأقدام ، وقال : نعم ، إنها آثار أقدامهما .
ثم التفت إلى البحارة ، وخاطبهم قائلاً : لنبحث عن ياسمين وهندباد ، فلابد أن نعثر عليهما أولاً ، اتبعوني .
وسار همام وسندباد ، متتبعين آثار الأقدام ، وسار الجميع وراءهما. وتوقف همام بعد حين ، محدقاً في الرمال ، ثم قال : يبدو أنهما غادرا الشاطىء من هنا ، وتوغلا في الجزيرة .
وتتبع سندباد الآثار بدوره ، وقال : أنت محق ، لنتبع آثارهما .
وترك همام وسندباد الشاطىء، وسارا يتقدمان البحارة إلى أعماق الجزيرة ، حتى انتهيا بهم إلى الشجرة الضخمة . وتوقف همام في الأرض ، ثم قال : لقد توقفا هنا .
وصمت برهة ، ثم رفع رأسه ، وقال : ترى أين عساهما قد ذهبا ؟
وتلفت سندباد حوله ، وتطلع إلى أعلى المرتفع ، ثم قال يبدو لي أنهما صعدا هذا المرتفع ، وذهبا إلى الطرف الثاني من الجزيرة .
ونظر همام بدوره إلى الأعلى ، وقال : من يدري ، لعلك على حق ، وإلا فأين هما ؟
وتطلع همام إلى الأعلى ثانية ، ثم التفت إلى سندباد ، وقال : إنني متعب جداً ، لنرتح قليلاً ، قبل أن نصعد هذا المرتفع.
وقال سندباد : ارتح أنت ، وسأصعد المرتفع مع بعض البحارة .
فرد همام قائلاً : كلا .
وجلس في ظل الشجرة الضخمة ، وقال : سنصعد المرتفع جميعاً بعد قليل .










" 18 "



أطل بحار فتيّ ، من وراء صخرة ، في أعلى المرتفع ، وراقب بحذر همام وسندباد وقرش والبحارة الآخرين ، وهم يتسلقون المرتفع لاهثين ، ثم انسل عائداً إلى الربان ، المتواري وراء إحدى الأشجار ، وقد أحاط به بحارته ، وقال بصوت خافت : سيدي ، إنهم يقتربون من القمة .
وابتسم الربان بخبث ، وقال : أهلاً بهم ، سيصلون القمة منهكين ،وبذلك يسهل علينا أسرهم ، والتحكم فيهم .
ثم التفت إلى البحارة ، وقال : اختبئوا خلف الأشجار ، حتى أشير لكم .
وعلى الفور ، اختبأ الجميع خلف الأشجار ، ولزموا الصمت ، حتى لم يعد يسمع فوق المرتفع غير حفيف أغصان الأشجار ، وتكسر أمواج البحر عند صخور الشاطىء .
وواصل همام وسندباد صعودهما، ومن ورائهما قرش

وبقية البحارة، حتى بلغوا أعلى المرتفع ، وقد هدهم التعب.
وتوقف همام متقطع الأنفاس ، وقال : يا إلهي .. سأموت .. من التعب .
وهنا برز الربان ، من وراء إحدى الأشجار ، وقال : ستموت يا همام ، ولكن ليس من التعب .
ومد همام يده إلى مقبض سيفه ، وقال مذهولاً : عنبر !
وابتسم الربان عنبر ، وأشار لبحارته قائلاً : عنبر .. وبحارته .
وبرز البحارة من وراء الأشجار ، وسيوفهم تتلامع في أيديهم . وتابع عنبر قائلاً : لقد سبقتني إلى سندباد ، فتبعتك دون أن تشعر ، من البصرة إلى هذه الجزيرة .
وشهر همام سيفه ، وقال بحدة : هذه الجزيرة ستكون مقبرة لك ولبحارتك .
ورد عنبر قائلاً : قبل أن تجرب سيفك المنهك ، دعني أريك شيئاً .
وأشار بيده ، فبرز بحار من وراء شجرة قريبة ، يدفع أمامه هندباد وياسمين ، وهما مكممان ، وجحظت عينا همام ، وصاح : ياسمين .
وفي الوقت نفسه ، صاح سندباد : هندباد .
ولوح عنبر بسيفه قريباً من هندباد وياسمين ، وقال : كنزاكما في يدي .
وقال همام مهدداً : أطلق سراحهما .
فرد عنبر قائلاً : مقابل الكنز .
ولاذ همام بالصمت حائراً ، فنظر عنبر إلى سندباد ، وقال : ما قولك أنت يا سندباد ؟
وحدق سندباد فيه ، ثم قال : قولي يا عنبر ، إن هذا الكنز مشؤوم .
ورد عنبر قائلاً : لن تخدعني بهذه الخرافات ، الكنز ، أو كنزاكما .
ورمق سندباد همام بنظرة خاطفة ، ثم قال : سأدلكم على الكنز بشرط .
وتبادل همام وعنبر نظرات مترددة ، دون أن ينطقا بكلمة، فقال سندباد : تقتسمان الكنز ، النصف لكل منكما ، هو وبحارته .
فقال همام : أوافق .
وقال عنبر: وكذلك أنا .
ثم قال لسندباد : وأنت يا سندباد ؟
فرد سندباد قائلاً : يكفيني أن أعود بهندباد إلى أمه .
وصمت لحظة ، ثم قال : والآن أطلق سراح هندباد وياسمين .
فرد عنبر : لم أر الكنز بعد .
وقال سندباد : ستراه يا عنبر .
فقال عنبر : حين أراه ستراهما حرين .
وسكت لحظة ، ثم قال : هيا يا سندباد ، لا داعي للانتظار ، قدنا إلى الكنز .
وألقى سندباد نظرة خاطفة إلى هندباد وياسمين ، ثم سار
بعزم ، وأخذ يهبط المنحدر ، وهو يقول : اتبعوني .
وسار الجميع في أثره ، همام وبحارته من جهة ، وعنبر وبحارته من الجهة الأخرى .




















" 19 "


انحدر سندباد من أعلى المرتفع ، والجميع يتبعون خطاه ، حتى انتهى بهم إلى الشاطىء ، وتوقف عند صخرة غريبة الشكل ، تشبه السلحفاة .
وحدق عنبر فيه متسائلاً : لماذا توقفت ؟
فأشار سندباد إلى بقعة بجانب الصخرة ، وقال : إن ما جئتم من أجله .. هنا .
وصاح همام وعنبر معاً : الكنز !
فهز سندباد رأسه ، وقال : نعم ، الكنز .
وتململ الجميع متحفزين ، وكل مجموعة تراقب المجموعة الأخرى ، وتتهيأ لكل طارىء ، فقال سندباد : مهلاً ، لقد اتفقنا ، ولن ينقض أحد الاتفاق .
وحدق عنبر في همام ، وقال : من جهتي ، أنا أعطيت وعداً.
وقال همام : وأنا عند وعدي .
فقال سندباد : حسن ، أقترح أن يختار كلّ منكما بحارين من بحارته ،ليقوموا بالحفر .
وأشار همام إلى بحارين من مجموعته ، وكذلك فعل عنبر ، وتقدم البحارة الأربعة ، وبدؤوا يحفرون ، ويلقون الرمال جانباً . وسرعان ما اصطدمت المجارف بشيء صلب ، فرفع أحد البحارة رأسه ، وصاح : الصندوق .
فصاح به همام : احفر .
وأعقبه عنبر صائحاً : احفروا ، وأزيحوا الرمال عن الصندوق .
وواصل البحارة الأربعة الحفر ، حتى ظهر الصندوق تماماً، فقال سندباد : كفى ، ارفعوا الصندوق من الحفرة.
وألقى البحارة الأربعة المجارف ، ورفعوا الصندوق من الحفرة ، ووضعوه جانباً . وحدق عنبر في همام ، ثم خاطب سندباد قائلاً : سندباد ، افتح أنت هذا الصندوق .
فتطلع سندباد إليه ، وقال : لا ، أطلق سراح هندباد وياسمين، وليفتحا هما الصندوق .
وأشار عنبر إلى البحار ، وقال : فك وثاقيهما .
وفك البحار وثاق هندباد وياسمين ، فأشار سندباد إليهما ، وقال : تعالا ، افتحا الصندوق .
وتقدم هندباد وياسمين ، وفتحا الصندوق . وجمد الجميع مصعوقين ، فبدل الذهب والفضة والأحجار الكريمة ، كان الصندوق مليئاً بالرمال والحصى .
وتساءل همام : ما هذا !
وركل عنبر الصندوق ، وتبعثر ما فيه من رمال وحصى ، وصاح : إنها خيانة .
وهنا صاح قرش : وأنا أعرف الخائن
وأستل خنجره ، وأندفع نحو سندباد صائحاً : وخنجري .. الذي سيثأر لعيني .. سيدلكم عليه .
واندفع همام ، متصدياً لقرش ، وهو يقول : مهلاً ، أيها الغبي ، سندباد آخر من يخون و ..
وشهق مصعوقاً ، إذ تلقى طعنة قرش بدلاً من سندباد ، وقال بصوت متحشرج : آه .. قتلتني .
وصاح عنبر : اقبضوا عليه .
وقبض بحارة عنبر على قرش ، وشدوا وثاقه . وتهاوى همام على الأرض ، مضرجاً بدمائه . وأسرعت ياسمين إليه ، وارتمت عليه تصيح : أبي .. أبي .
ورفعها سندباد ، مبعداً إياها عن أبيها . وأسرع هندباد وأخذها جانباً ، وقال : تعالي هنا ، يا ياسمين .
وانحنى سندباد على همام ، وسحب الخنجر من صدره ، وألقاه بعيداً ، ثم قال : سآخذك معي إلى البصرة ، يا همام ، وأعالجك حتى تشفى .
وتطلع همام إليه بعينين ذابلتين ، وقال بصوت متحشرج : سندباد .
ولاذ سندباد بالصمت لحظة ، ثم قال : نعم .
وأستطرد همام بصوته المتحشرج : لدي كنز .. لا أستطيع .. أن أعهد به .. إلى أي إنسان .. في العالم .. غيرك .
فقال سندباد : ابنتك .. ياسمين .
وهزّ همام رأسه ، فتابع سندباد قائلاً : ياسمين .. ابنة أخي. وبدا الارتياح على همام ، وقال : آه .. الآن أستطيع .. أن أرحل .. مرتاح البال .
وانطفأت عيناه ، ومال رأسه ، حتى استقر فوق صدره . ونهض سندباد ، وقال بصوت دامع : رحل همام .
وارتمت ياسمين ثانية فوق أبيها ، وانخرطت في البكاء . وأستل عنبر سيفه غاضباً ، وقال : الموت للقاتل .
وأعترضه سندباد قائلاً : لا ، يا عنبر ، هناك عقاب أكثر عدلاً .
وتساءل عنبر وسيفه في يده : ماذا تعني ؟
فرد سندباد قائلاً : هذه جزيرة معزولة ، لا يزورها أحد ، فليبق قرش هنا مع همام .. حتى النهاية .









" 20 "

مالت الشمس للغروب ، فنهضت ريحانة من مكانها المعهود ، فوق المرتفع المطل على شط العرب ، ووقفت عائدة إلى البيت .
وقبل أن تعد عشاءها ، قدمت العشاء للديك . والتمعت في عينيها ابتسامة حزينة ، حين تذكرت أباها سندباد ، يفز فجراً على صياح الديك ، ويقول منزعجاً : لن أنام مرتاحاً، إذا لم أذبح هذا الديك .
وجلست في الغرفة ، تتناول عشاءها ، دامعة العينين . ولم تكد تأكل بضعت لقيمات ، حتى كفت عن تناول الطعام ، ورفعت الصينية ، وعادت بها إلى المطبخ .
وحين خرجت من المطبخ ، سمعت الديك يصيح ، فتوقفت لحظة في الفناء ، وقالت في نفسها : حقاً إنه ديك مجنون .
ودخلت الغرفة ، وجلست في فراشها وحيدة ، وسرعان ما أخذتها أفكارها بعيداً . وتراءى لها سندباد .. وهندباد ، فغرقت عيناها بالدموع ، وكادت تنشج ككل يوم ، فنهضت وشربت قليلاً من الماء ، ثم أوت إلى فراشها .
وأغمضت عينيها ، لعلها تنام قليلاً ، وترتاح . وككل مرة ، هبت أسئلة مضببة من أعماقها ، حاصرتها بدواماتها ، وطردت عنها النوم .
ترى أين ذهبا ؟
أين اختفيا ؟
هل انشقت الأرض وابتلعتهما ؟
أم أن مياه شط العرب قد .. ، وطرق الباب .. فتنحت الأسئلة المضببة جانباً .. أهي تحلم ، وإلا فمن يطرق بابها في مثل هذا الوقت ؟
وطرق الباب ثانية ، فهبت من فراشها ، وفتحت الباب ، وإذا هي وجهاً لوجه مع سندباد.. وهندباد .. وفتاة في عمر هندباد . وفتحت فمها على سعته ، وقد جحظت عيناها ، دون أن تتفوه بكلمة . فابتسم لها سندباد ، وخاطبها كمن يوقظها من النوم قائلاً : ريحانة .
واستيقظت ريحانة ، وانفجرت تتساءل بصوت دامع : أبي ! أين كنت ؟
فرد سندباد مازحاً : وأين عساي أكون ؟ لقد قلت لك ، سأذهب وآتيك بهندباد ..
واندفع هندباد إلى أمه ، فاحتضنته بقوة ، وراحت تقبله ، فتابع سندباد قائلاً : وها أنا قد أتيتك به ، ومعه .. ياسمين.
وتطلعت ريحانة ، من خلال دموعها ، إلى ياسمين ، وتساءلت : ياسمين !
فرد سندباد قائلاً : طالما تمنيت أن يكون لك بنت ..
وصمت لحظة ، ثم قال : الحديث يطول ، لندع هذا الآن ، إنني جائع .
وهنا رجّ الديك البيت بصوته المرتفع : كو كو .. ريكو .
فقالت ريحانة مبتسمة : سأذبح لك هذا الديك ..
وتساءل سندباد : أهذا اللعين ما زال حياً حتى الآن ؟
وتنحت ريحانة قليلاً ، وقالت ضاحكة : تفضلوا ، أدخلوا.
ودخل سندباد وهندباد وياسمين ضاحكين ، وأحكمت ريحانة إغلاق الباب .
في اليوم التالي لم يصح الديك ، بل إنه لن يصيح ثانية ، وكيف يمكن أن يصيح ، وقد انتهى عند نهاية .. رحلة السندباد البحري الثامنة ؟


15/ 8 / 2000



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان المعجزة ...
- رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال ...
- رواية للفتيان صخرة آي طلال حسن
- مسرحية للفتيان اورنينا ...
- رواية للفتيان الغزالة ...
- رواية للفتيان السندباد البحري طلال ...
- رواية للفتيان دروفا ـ نارانا ...
- رواية للفتيان سامو وسومو ...
- رواية للفتيان النمر ...
- رواية للفتيان البديل طلال حسن
- رواية للفتيان الزواج المقدس ...
- رواية للفتيان رجل النار ...
- شجرة الزيتون
- رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن
- رواية للفتيان طيف الاهوار
- اللبوة الجريحة
- رواية للأطفال حي ابن الإنسان ...
- رواية للفتيان جزيرة القمر ...
- رواية للفتيان الجوهرة المفقودة طلال ...
- رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل


المزيد.....




- قمصان بلمسة مغربية تنزيلا لاتفاق بين شركة المانية ووزارة الث ...
- “ألحقوا اجهزوا” جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 للشعبتين ...
- الأبعاد التاريخية والتحولات الجيوستراتيجية.. كتاب -القضية ال ...
- مهرجان كان السينمائي: آراء متباينة حول فيلم كوبولا الجديد وم ...
- ركلها وأسقطها أرضًا وجرها.. شاهد مغني الراب شون كومز يعتدي ج ...
- مهرجان كان: الكشف عن قائمة الـ101 الأكثر تأثيرا في صناعة الس ...
- مسلسل طائر الرفراف الحلقة 70 مترجمة باللغة العربية بجودة HD ...
- السحر والإغراء..أجمل الأزياء في مهرجان كان السينمائي
- موسكو تشهد العرض الأول للنسخة السينمائية من أوبرا -عايدة- لج ...
- المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان الرحلة الثامنة طلال حسن