|
رواية للفتيان الرحلة الثامنة طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7742 - 2023 / 9 / 22 - 10:23
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
الرحلة الثامنة
طلال حسن
" 1 "
استيقظ سندباد على الديك ، يرج البيت بصوته المرتفع، وتلفت حوله مدمدماً ، بادي الغضب والانزعاج. وفوجىء فوق ذلك ، بعدم وجود هندباد في فراشه ، فنهض مؤملاً أن يكون مع أمه ، التي تعد طعام الفطور في المطبخ ، وأسرع إلى الفناء ، منادياً : هندباد. وخرجت ابنته ريحانة من المطبخ ، وحيته قائلة : عمت صباحاً يا أبي . ورد سندباد متلفتاً : عمت صباحاً . ثم تساءل : أين هندباد ؟ وضحكت ريحانة ، وقالت : وأين عساه يكون حفيد السندباد البحري ؟ وهزّ سندباد رأسه ، وقال : أعدي الفطور ، ريثما أذهب ، وأعود به . فردت ريحانة قائلة : لا تتأخر ، الفطور معد تقريباً . واتجه سندباد إلى الخارج ، وقبل أن يفتح الباب ، رج الديك البيت ثانية بصوته المرتفع ، وكتمت ريحانة
ضحكتها ، وهي تسمع أباها يدمدم ، وهو يفتح الباب ، ويخرج : لن أرتاح في هذا البيت ، إذا لم اذبح الديك . ورغم شيخوخته ، مضى سندباد بشيء من السرعة ،إلى شاطىء النهر ، الذي لا يبعد كثيراً عن بيته . ولاح هندباد ، يجلس كعادته ، فوق مرتفع يطل على الشاطىء ، متأملاً القوارب والأكلاك والسفن الشراعية . وإرتقى سندباد المرتفع ، وجلس إلى جانب هندباد ، دون أن يتفوه بكلمة ، فإلتفت هندباد إليه ، وقال : جدي ! ونظر سندباد إلى السفن الراسية قرب الشاطىء ، وقال : ليتني أعرف ما الذي تريده بجلوسك في هذا المكان . فرد هندباد قائلاً : أنت تعرف يا جدي . وقال سندباد بنبرة عتاب : هندباد . وتابع هندباد : أريد .. الرحلة الثامنة . ونهض سندباد ، وقال : هذا محال يا هندباد ، أنا الآن رجل عجوز . ونهض هندباد بدوره ، ورد قائلاً : لا تقل هذا يا جدي ، أنت السندباد البحري . وتنهد سندباد ، وقال : هندباد ، إنني أخاف عليك من حكايات أمك عني . ورد هندباد : إن هذه الحكايات الملاحم هي ما نعتز به أنا وأمي . ولاذ سندباد بالصمت ، فلا فائدة من الحديث مع هندباد ، في هذا الموضوع . والتفت هندباد ، ونظر إلى سفينة ترسو بعيداً عن السفن الأخرى ، وقال : جدي ، لقد رست سفينة جديدة صباح اليوم . وهمّ سندباد بالسير ، والعودة إلى البيت ، وقال : هذا الأمر ليس جديداً ، فالسفن ترسو هنا وتقلع كلّ يوم . فرد هندباد بصوت يوحي بالخطورة : إنها سفينة غريبة يا جدي ، أنظر إليها . وتوقف سندباد ، والتفت على مضض ، وأشار هندباد إلى السفينة ، وقال : تلك هي .. وما إن وقع نظر سندباد على السفينة، حتى اربدت سحنته ، وقال بصوت مضطرب : همام . وسرعان ما استدار ، ومضى مسرعاً ، وهو يقول : هيا .. هيا . ولحق هندباد به متسائلاً : ما الأمر يا جدي ؟ فرد سندباد ، دون أن يتوقف : لا شيء يا بنيّ ، هيا ، إن أمك تنتظرنا على الفطور .
" 2 "
ظلّ هندباد ، يحوم طويلاً حول جده ، لعله يعرف شيئاً عما يشغله ، دون جدوى . وقد رآه ، أكثر من مرة ، يوارب النافذة ، ويختلس النظر إلى السفن ، ثم يغلقها بضيق. وطرق الباب قبيل الظهر ، فخرج سندباد من الغرفة قلقاً . فتطلعت ريحانه إليه ، وتساءلت : ما الأمر ، يا أبي ؟ ولم يلتفت سندباد إليها ، وإنما أشار إلى هندباد ، وقال بصوت خافت : أنظر من بالباب . ونهض هندباد قائلاً : أظنه صديقي .. ياسر. فقال هندباد نافذ الصبر : إذهب ، يا هندباد . وفتح هندباد الباب ، ثم التفت إلى أمه قال : إنه صديقي ، ياسر . ورمقت ريحانة أباها بنظرة خاطفة ، وقالت : اذهب ، يا بني ، والعب معه . وبصوت مضطرب ، سارع سندباد إلى القول : لا ، لا يا هندباد ، أغلق الباب ، وتعال .
ووقف هندباد حائراً ، فخاطبته أمه قائلة : أغلق الباب ، يا بنيّ ، وتعال أجلس إلى جانبي . وأغلق هندباد الباب ، ورمق سندباد بنظرة سريعة ، ثم جلس إلى جانب أمه . وقفل سندباد عائداً إلى غرفته قائلاً : أريد شيئاً من الماء. وهم هندباد بالنهوض ، فنهضت ريحانة ، وقالت : إبق في مكانك ، ياهندباد ، أنا سآخذ الماء إلى جدك. وملأت ريحانة القدح ماء من الحب ، ومضت به إلى الغرفة ، وقدمته لسندباد ، وقالت : تفضل ، يا أبي . وأخذ سندباد القدح ، وشرب ما فيه من ماء ، ثم أعاده إلى ريحانة ، وقال : أشكرك . وجلست ريحانة إلى جانبه ، ممسكة بالقدح الفارغ ، ثم قالت : طمئني ، يا أبي ، ما الأمر ؟ وهزّ سندباد رأسه ، دون أن يتطلع إليها ، وقال : لا شيء ، يا ابنتي . فردت ريحانة قائلة : هذه أول مرة تمنع فيها هندباد من الخروج ، واللعب مع ياسر . وتمدد سندباد في فراشه ، ثم قال : لست مرتاحاً هذا اليوم ، وأريد أن يبقى هندباد إلى جانبي . وتطلعت ريحانة إليه ملياً ، ثم تساءلت : هل تشكو من شيء ، يا أبي ؟ فرد سندباد قائلاً : اطمئني ، إنني بخير .
ثم ابتسم لها ، وقال : اذهبي ، وأعدي لنا غداء طيباً ، وسترين أباك . ونهضت ريحانة مبتسمة ، وقالت وهي تهمّ بالخروج : سأعد غداء يعجبك ، ويعجب هندباد أيضاً .
" 3 "
جلس هندباد ، بعد العشاء ، إلى جانب أمه . ورمق جده بنظرة خاطفة ، وقال : أمي . وأدركت ريحانة من نبرة صوته أنه يريد أن يمازح جده كالعادة ، فابتسمت قائلة : نعم ، هندباد . وتابع هندباد قائلاً : ليتك تحكين لي حكاية " رحلة جدي الثامنة ". وهز سندباد رأسه ، دون أن يبتسم . وضحكت ريحانة ، وقالت :لكن جدك ، يا هندباد ، حسب علمي ، لم يقم إلا بسبع رحلات . ورمق هندباد جده ثانية ، وقال : لعلمك إذن ، إنني رأيت جدي البارحة يقوم بالرحلة الثامنة . وضحكت ريحانة قائلة : في المنام . وتمدد سندباد في فراشه ، وقال : هذه أضغاث أحلام ، والأحلام غيمة تبددها هبة ريح . فرد هندباد قائلاً : لكن الغيوم تمطر أحياناً ، يا جدي ، ومن يدري ، فقد تمطر هذه الغيمة ، وتقوم برحلتك الثامنة . وغطى سندباد رأسه بالفراش ، وقال : أنصحك ، يا هندباد ، أن تتغطى حين تنام . وضحكت ريحانة ، وهم هندباد أن يرد ، وإذا الباب يطرق . فأعتدل سندباد ، وقد ضاقت أنفاسه . وتساءلت ريحانة : ترى من الطارق ؟ وهب هندباد ، منطلقاً إلى الخارج ، دون أن يسمع جده يقول بصوت مضطرب : تمهل ، يا هندباد . وفتح الباب ، وفوجئ برجل ضخم ، أشيب اللحية ، ينحني عليه ، ويقول : أنت هندباد . ولم ينطق هندباد بكلمة، وقد تملكته الدهشة ، فأبتسم الرجل الضخم ، وقال : هذا واضح ، فأنت تشبه جدك ، السندباد البحري . وأبتسم هندباد فرحاً ، وقال : أمي أيضاً تقول ، إنني أشبهه . وأعتدل الرجل الضخم ، وقال : وآمل أنك تشبهه أيضاً في حبك للأسفار . وهزّ هندباد رأسه موافقاً ، فقال الرجل الضخم : حسن ، سنأخذك ، إذا وافق جدك سندباد ، على متن سفينتي ، الإعصار ، ونرحل معاً إلى ..... وهنا ارتفع صوت سندباد منفعلاً : هندباد ، اذهب إلى أمك . وتطلع هندباد إلى الرجل الضخم ، فأبتسم له هذا ، وقال : اذهب ، يا هندباد . وتراجع هندباد ، وهو مازال يتطلع إلى الرجل الضخم ، ثم استدار ، ومضى مسرعاً إلى الداخل . وحدق الرجل الضخم في سندباد ، ثم قال : هذه ليست مقابلة صديق ، يا سندباد . وبدل أن يرد سندباد على عتابه ، قال : لقد رأيت الإعصار صباح اليوم ، راسية بعيداً عن السفن ، وتوقعت أن أراك . وصمت همام لحظة ، ثم قال : حسن ، الحديث قد يطول ، لنتمش قرب الشاطئ . وأغلق سندباد الباب ، ومضى مع همام باتجاه الشاطئ ، وقال :أعرف ما تريد الحديث فيه ، وقد أخبرتك سابقاً برأيي . وقال همام بصوت هادئ : سندباد ، نحن الآن على أعتاب النهاية . فعلق سندباد قائلاً : أنت محق ، فأترك كل شيء ، واركن مثلي إلى الهدوء . وقال همام : هذا ما سأفعله ، بعد أن ننجز هذه المهمة ، أنا وأنت . فرد سندباد : مستحيل . وقال همام متحمساً : ليس هذا من أجلي أو من أجلك ، فكر في حفيدك هندباد ، كما أفكر أنا في ابنتي ياسمين . وتوقف سندباد ، وقال : لو كنت تفكر حقاً في ياسمين ، لتركت البحار ، وبحارة السوء ، وعشت في البصرة مثلما أعيش . فرد همام قائلاً : من أجل حفيدتي وسعادتها ، ورفاهها ، سأذهب إلى آخر الدنيا . وحدق سندباد فيه برهة ، ثم قفل راجعاً ، وهو يقول : اذهب .. حيثما تريد .. وحدك . وصاح همام بنبرة الواثق : لن أذهب وحدي ، يا سندباد ، بل ستأتي أنت معي ، مهما كلفني الأمر .
" 4 "
هبّ سندباد مستيقظاً ، ليس على صياح الديك هذه المرة ، بل على يد مرعوبة ، تهزه وتهيب به أن : انهض . وفتح عينيه ، لا أحد في الغرفة ، لابد أنه يحلم . وإذ لم يجد هندباد في فراشه ، نهض على عجل ، وانطلق إلى الفناء يصيح : ريحانة . وأقبلت ريحانة من المطبخ ، تمسح يديها المبللتين بطرف ثوبها ، وقالت : ها أنا ذي ، يا أبي ، ما .. وقاطعها سندباد متسائلاً : أين هندباد ؟ فردت ريحانة مبتسمة : عند الشاطئ طبعاً . وشهق سندباد : عند الشاطئ ! واقتربت ريحانة منه ، وقالت : أبي ، لا داعي للقلق ، هذه ليست المرة .. وقاطعها ثانية ، مزيحاً إياها عن طريقه ، وانطلق إلى الخارج ، وهو يقول : ابتعدي ، يا ريحانة ، أنتِ لا تعرفين ما يجري . ووقفت ريحانة مذهولة ، لا تدري ماذا تفعل ، وسرعان ما مضت إلى المطبخ صائحة : يا ويلي ، الطعام يحترق على النار . ونسي سندباد شيخوخته ، وأخذ يركض نحو الشاطئ . وتملكه القلق ، حين لم يجد هندباد في مكانه المعهود ، فوق المرتفع المطل على النهر . ووقف فوق المرتفع ، متقطع الأنفاس ، يبحث بعينيه القلقتين، المتوجستين ، عن سفينة همام " الإعصار " ، لكنه لم يعثر لها على أثر . ولم يصدق عينيه ، أول الأمر ، فانحدر عن المرتفع ، وأخذ يسير بمحاذاة الشاطئ ، مفتشاً بين السفن الراسية ، دون جدوى . وتسمر في مكانه ، حين سمع أحدهم يهتف باسمه : سندباد . وتمتم سندباد ، قبل أن يلتفت ويواجهه : قرش ! وكشر قرش عن أسنانه المصفرة ، وقال : نعم ، يا سندباد ، قرش . وأشار إلى عينه ، التي تغطيها عصابة متسخة ، وقال : أتذكرها؟ فرد سندباد قائلاً : لم أنسها .. وقال قرش من بين أسنانه : وكذلك أنا . وحدق سندباد فيه ، وقال : أنت تستحق ما جرى لك . وكشر قرش عن أسنانه المصفرة ثانية ، وقال : وأنت تستحق ما سيجري لك . واستأنف سندباد سيره ، وقال : إنني لم أخف يوماً من أي قرش . فصاح قرش : ستخاف هذه المرة . وتوقف سندباد ، والتفت إليه ، ثم قال : أنصحك أن تمضي، فلن أكتفي بقلع عينك الأخرى ، إذا رأيتك هنا ثانية . وضحك قرش قائلاً : ستراني كثيراً يا سندباد ، ولكن ليس هنا . واستأنف سندباد سيره ثانية ، لكنه سرعان ما تسمر في مكانه ، حين سمع قرش يقول : مهلاً ، لن تجد ما تبحث عنه . والتفت سندباد إليه ، وكشر قرش عن أسنانه المصفرة ، وقال : هذا ما جئت ألقاك من أجله . وتقدم سندباد منه ، وقال مهدداً : ستدفعون الثمن غالياً ، لو مسستم شعرة من هندباد . وابتسم قرش بخبث ، وقال : اطمئن ، إنه بين يدي صديقك .. همام . وانحدر نحو قارب قرب الشاطىء ، وصعد إليه ، وقال : تعال معي ، وسترى هندباد . وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : هندباد فوق السفينة ، سآخذك إليه ، إنها في مكان قريب ، وراء ذلك المنحنى . وجلس في القارب ، وأمسك بالمجذافين ، وقال : هيا ، إن همام ينتظرك . وأسرع سندباد بالصعود إلى القارب ، دون أن يتفوه بكلمة. وعلى الفور ، حرك قرش المجذافين ، وابتعد بالقارب عن الشاطىء ،وراح يجذف باتجاه منحنى النهر. ومن وراء إحدى الأشجار ، أطل بحار فتيّ ،وسرعان ما مضى باتجاه سفينة ترسو وسط السفن الشراعية .
" 5 "
استيقظت ياسمين ، ونهضت متثائبة من فراشها . وعبثاً حاولت أن تقتح باب القمرة ، فقد كان مقفلاً من الخارج . واستدارت متذمرة ، ووقفت أمام الكوة ، المطلة غلى شط العرب . وراحت تتطلع إلى البعيد ، منشغلة عن القوارب والسفن والشمس المعلقة فوق أشجار النخيل . وهنا طرق باب القمرة ، وعرفت ياسمين الطارق ، إنه الطباخ العجوز ، فالتفتت قائلة : أدخل . وسمعت الباب يفتح من الخرج ، ثم أطل الطباخ العجوز ، بوجهه الطيب المترهل ، وقال : بنيتي ، الفطور جاهز. وعلى غير عادتها ، خرجت ياسمين من القمرة ، دون أن تحييه . ورأت أباها يجلس إلى المائدة ، وجلست قبالته عابسة ، ثم قالت : عمت صباحاًً . ورد همام محاكياً لهجتها : عمت صباحاً . ثم ابتسم ، وقال : الصباح اليوم جميل ، ولعل ابتسامة منك تجعله أكثر جمالاً . وتناولت ياسمين رغيف خبز ساخن ، وقطعت منه كسرة فقال همام : كلي من هذه القشطة اللذيذة ، وبعدها ستبتسمين. ووضعت ياسمين كسرة الخبز جانباً ، ونظرت إلى أبيها ، وقالت : سمعت صباح اليوم ، صوت صبي في عمري ، فوق ظهر سفينتنا العاصفة . ورمق همام الطباخ العجوز بنظرة خاطفة ، وقال : أنت واهمة ، كلي . لم تنصع ياسمين لأبيها ، وإنما قالت : وقمت من فراشي لأخرج ، وأعرف ماذا يجري ، لكن باب قمرتي كان مغلقاً من الخارج . وصمتت لحظة ، ثم تساءلت : أخبرني يا أبي ، ماذا يجري؟ فرد همام قائلاً : لا شيء . وهنا فتح الباب ، وأقبل بحار ، وقل مخاطباً همام : سيدي ، جاء قرش . وهب همام من مكانه ، وسار متقدماً البحار ، وهو يتساءل بصوت خافت : أهو وحده ؟ فرد البحار بصوت لا يكاد يسمع : لا يا سيدي ، ليس وحده. وخرج همام والبحار مسرعين ، فرفعت ياسمين عينيها إلى الطباخ العجوز متسائلة : ماذا يجري ؟ أخبرني . وتشاغل الطباخ العجوز برفع بعض الأواني عن المائدة ، وقال : لقد قالها أبوك يا عزيزتي ، لا شيء . وسار همام بخطوات واسعة ، فوق ظهر السفينة ، والبحار يهرول في أثره ، وتساءل بصوت مرتفع : أين القرش ؟ وأسرع مساعده إليه ، ورد قائلاً : إنه يصعد السلم مع سندباد يا سيدي . وقال همام ، وقد بدا الارتياح عليه : تهيأ ، فقد نقلع بعد قليل. وقبل أن يعود إلى مكانه وراء الدفة ، قال المساعد : سنقلع حالما تأمر سيدي . وبرز سندباد مرتقياً الحاجز ، وصعد إلى ظهر السفينة ، ومن ورائه صعد قرش ، وعصابته المتسخة تغطي إحدى عينيه .وابتسم همام بانتصار ، وقال : أهلاً سندباد. واندفع سندباد نحوه متسائلاً : أين هندباد ؟ فرد همام قائلاً : هندباد موجود . وقال سندباد : أريد أن أراه . وقال همام : صبراً ، ستراه . فقال سندباد : لابد أن أراه الآن . وصمت همام لحظة ، ثم قال : حسن يا سندباد . ثم أشار إلى ثلاثة بحارة يقفون قربه ، وقال : خذوه إلى هندباد . وأحاط البحارة الثلاثة بسندباد ، وأخذوه إلى قمرة في نهاية السفينة .والتفت همام إلى قرش ، وقال : قرش . فرد قرش قائلاً : نعم سيدي . وقال همام : أريد أن تقف بباب القمرة ، ولا تغادره أبداً . وقال قرش بارتياح : أمرك سيدي . وما إن مضى قرش نحو القمرة ، ليرابط عند بابها ، حتى أشار همام لمساعده ، وقال : هيا ، أقلع . وعلى الفور ، أشار المساعد للبحارة ، فتراكضوا متسابقين إلى مهامهم . وسرعان ما رفعت المرساة ، ونشرت بعض الأشرعة ، وأقلعت السفينة " الإعصار " منسابة مع شط العرب . ومن وسط السفن ، انسلت سفينة مريبة ، وانسابت منحدرة في أثر " الإعصار " .
" 6 "
أنهت ريحانة إعداد الفطور ، ووضعته في صينية ، وأخذته إلى الغرفة . وخيل إليها أن الباب الخارجي يفتح ، وعبثاً أنصتت منتظرة ، وتنهدت قائلة : سيبرد الطعام . ونهضت من مكانها ، وخرجت من الغرفة ، ووقفت وسط الفناء ، لا تدري ماذا تفعل . ووقع نظرها على حب الماء ، وشعرت بحلقها جافاً ، أهي عطشانة ؟ ورفعت غطاء الحب ، وغرفت قليلاً من الماء ، وشربت جرعة ، ثم سكبت الباقي على الأرض ، وقالت : لقد تأخرا . وشعرت بقواها تخور ، لكنها بدل أن تذهب إلى غرفتها لترتاح ، مضت إلى الباب ، وواربته قليلاً ، وأطلت برأسها من الفرجة،ومدت بصرها حتى شاطىء النهر ، وشعرت بالانقباض ، حين لم تر أثراً لأبيها أو لابنها هندباد . وأغلقت الباب ، وقفلت عائدة إلى الغرفة ، وهي تقول : ترى أين ذهبا ؟ وانتظرت ، انتظرت طويلاً ، حتى لم تعد تطيق الانتظار . فنهضت متحاملة على نفسها ، وأخذت شالها ، ووضعته فوق رأسها ، ثم خرجت من البيت . ووقفت حائرة ، لا تعرف أين تذهب ، وأخيراً ، حزمت أمرها ، واتجهت نحو الشاطىء . وارتقت المرتفع ، الذي يجلس فوقه هندباد ، وتلفتت يميناً ويساراً ، دون أن تعثر لهما على أثر . وتركت المرتفع ، وسارت متلفتة بمحاذاة الشاطىء ، حتى هدها التعب . وتوقفت حائرة ، وقد اغرورقت عيناها بالدموع . وسرعان ما كفكفت دموعها ، وقالت : يا لي من حمقاء ، إنني أبحث عنهما هنا ، وهما على الأغلب ينتظراني الآن في البيت . وعلى الفور ، قفلت عائدة إلى البيت ، ودفعت الباب ، واندفعت إلى الفناء تصيح : هندباد .. هندباد . لم يجب هندباد ، وكذلك أبوها سندباد ، وخطر لها أنهما يمازحانها ، فمن يدري ماذا يدور في دخيلتيهما ؟ واندفعت داخل الغرفة ، وكل أملها أن تراهما يضحكان من مخاوفها وأوهامها ، لكنها لم تجد أحداً منهما . ووقفت مصعوقة وسط الغرفة ، ثم تهاوت منهارة على الأرض ، وارتفع صوتها بالبكاء . وطرق الباب ، فرفعت رأسها ، ومسحت عينيها الغارقتين بالدموع ، لعلهما عادا الآن من جولتهما ، وإلا أين عساهما يذهبان ؟ وهبت إلى الفناء ، وفتحت الباب ، وإذا ياسر يرفع وجهه إليها مبتسماً ، ويقول : أريد هندباد. وأجهشت ريحانة بالبكاء قائلة : هندباد ليس في البيت ، لقد خرج صباحاً ، ولم يعد حتى الآن . ووقف ياسر مذهولاً ، وقد اختفت ابتسامته ، وتراجع إلى الوراء ، وهو يقول : أخبريه .. إذا جاء .. أني أنتظره .. سنلعب سوية . ومضى ياسر ، لا يلوي على شيء . وأغلقت ريحانة الباب، وعادت إلى الغرفة ، وارتمت باكية فوق فراش هندباد . وظلت منطرحة في مكانها ، تنتظر عودتهما ، دون أن تأكل لقمة واحدة . وقبيل المساء ، تحاملت على نفسها ، ونهضت متثاقلة ، ووضعت الشال فوق رأسها ، وخرجت من البيت . ومشت مترنحة تائهة نحو الشاطىء ، وارتقت المرتفع ، وجلست حيث تعود هندباد أن يجلس، وراحت .. تنتظر .
" 7 "
شقت " الإعصار " طريقها في مياه شط العرب ، بين سياجين من أشجار النخيل . وراحت تمخر المياه قدماً باتجاه الخليج ، رغم انحدار الشمس ، واقتراب الليل. وتجول همام فوق ظهر السفينة ، متفقداً سير الأعمال بنفسه. وعند غروب الشمس ، صعد حيث الدفة ، وقال للمساعد : لقد قطعنا مسافة لا بأس بها . فرد المساعد قائلاً : نعم يا سيدي ، وسيظهر القمر بعد قليل، ولن نتوقف حتى يغيب . وتطلع همام نحو الشمس الغاربة ، وقال : نحن في سباق مع الزمن ، أريد أن ندخل الخليج في أسرع وقت ممكن . فقال المساعد : الريح مواتية يا سيدي ، ولن تخذلنا فيما تريد. وسار همام مبتعداً ، وقال وهو ينزل السلم : إنني في قمرتي إذا احتجت إليّ . فرد المساعد قائلاً : أنت متعب يا سيدي ، ليتك تخلد إلى الراحة . ودخل همام جناحه ، ورأى ياسمين تجلس إلى المائدة ، وقد استغرقت في الحديث مع الطباخ العجوز . وجلس قبالة ياسمين ، وقال للطباخ العجوز : هات العشاء ، إن نفسي مفتوحة للطعام . وقال الطباخ العجوز ، وهو يسرع إلى المطبخ : أمرك سيدي . وعلقت ياسمين قائلة : طبعاً ، فأنت طول النهار ، فوق ظهر السفينة، تتمتع بالهواء الطلق . وتطلع همام إليها ، وقال : الجو مطير اليوم يا بنيتي ، ورأيت أن تبقي مرتاحة في القمرة . وأقبل الطباخ العجوز ، ووضع سمكة مشوية على المائدة ، ووقف جانباً . وتساءلت ياسمين ، دون أن تلقي نظرة إلى السمكة : وغداً ؟ وتناول همام رغيفاً من الخبز ، ورد قائلاً : أنت وحظك. وأخذت ياسمين رغيف خبز ، وقطعت منه قطعة بأسنانها ، وقالت : أعرف حظي . ووضع همام قطعة من السمك في فمه ، وقال مازحاً : من جهتي ، فإنني سعيد الحظ بك . ونهضت ياسمين من مكانها ، وجلست إلى جانب أبيها ، وقالت بصوت رقيق : أبي . وأخذ همام قطعة من السمك ، وتأكد بأنها خالية من العظام، ثم قال : افتحي فمك ؟ لم تستجب ياسمين لأبيها ، وإنما قالت متذمرة : لقد مللت حياة البحر. وقال همام ثانية : افتحي فمك . وفتحت ياسمين فمها على مضض ، فدفع همام قطعة السمك فيه ، وقال : إنها سمكة لذيذة ، كلي ، وتمتعي يا بنيتي . ولاذت ياسمين بالصمت ، وأخذت تمضغ قطعة السمك بدون شهية . ومسح همام يديه وفمه ، وقال : اطمئني ، هذه رحلتنا الأخيرة . فردت ياسمين قائلة : هذا ما تقوله دائماً يا أبي . وهز همام رأسه ، وقال : لن تكون بعد هذه الرحلة رحلة أخرى ، سأبيع " الإعصار " ، ونعيش حياة هادئة مستقرة، في بيت صغير ، يطل على شط العرب . ولاذت ياسمين بالصمت ، فنهض همام ، وقال للطباخ العجوز : لا تدعها تنهض عن المائدة ، قبل أن تجهز على هذه السمكة اللذيذة بأكملها . وابتسم الطباخ العجوز ، وقال : سمعاً وطاعة يا سيدي . وخرج همام من الجناح ، وأغلق الباب . فجلس الطباخ العجوز إلى جانب ياسمين ، وقال مازحاً : سمعت ما أمرني به الربان ، إنني طباخ عجوز ، وليس لي إلا الطاعة . وقالت ياسمين بلهجة آمرة : كل معي . وتطلع الطباخ العجوز إليها ، دون أن يرد بكلمة ، فتابعت قائلة : إنني ابنة الربان همام ، وعليك أن تطيعني. فرد الطباخ العجوز قائلاً : سمعاً وطاعة يا ابنة القبطان . وجلس إلى جانبها ، وأخذ قطعة من السمكة ، ثم قال : حديثك مع أبيك ، ذكرني بأمك العزيزة ، رحمها الله . فقالت ياسمين ، وقد غمرها الحزن : أمي المسكينة ، أنا قتلتها . وشهق الطباخ العجوز قائلاً : لا ، يا بنيتي ، لا ، هذا قدرها، كانت على السفينة ، حين جاءها المخاض ، ولم يكن إلى جانبها سوى خادمة عجوز . وصمت لحظة ، ثم قال : طالما حدثتني عن أملها في هجرة حياة البحر ، والاستقرار في بيت صغير يطل على شط العرب . فنهضت ياسمين قائلة : وهذا ما سأحققه أنا ، مهما كلفني الأمر .
" 8 "
سار همام فوق سطح السفينة ، والقى نظرة خاطفة إلى مساعده ، الذي كان في مكانه المعتاد وراء الدفة . ووقف عند الحاجز ، محدقاً في غابات النخيل ، والليل يغطيها شيئاً فشيئاً ، بعباءته السوداء . وتراءت له زوجته بشعرها البني ، وعينيها السوداوين ، وابتسامتها التي لم يفارقها الحزن . المسكينة ، كانت تحلم ببيت صغير يطل على شط العرب ، وها هي ياسمين ، ورثت منها شعرها البني ، وعينيها السوداوين ، وابتسامتها، وحلمها الذي لم يتحقق . وأطل القمر من ذرى النخيل ، فتطلع همام إليه لحظة ، ثم سار مبتعداً عن الحاجز ، واتجه إلى مؤخرة السفينة . واستقبله قرش عند باب القمرة ، وحياه قائلاً : عمت مساء ، يا سيدي . فرد همام : عمت مساء . ثم حدق فيه متسائلاً : كيف حال ضيفي ؟ فأجاب قرش : ليحمد الله ، يا سيدي ، لأنك لم ترفع عنه حمايتك بعد. وعبس همام قائلاً : قرش ، بدون سندباد لا وجود للكنز ، وأنا أريد هذا الكنز . وحاول قرش أن يكظم مشاعره ، دون جدوى . وقال بشيء من الانفعال : إن عيني ، يا سيدي ، تطالبني أن أثار لشقيقتها . فرد همام بحزم : قل لعينك ، أن من الأفضل لها أن تنتظر. وطأطأ قرش رأسه مكرهاً ، وقال : سمعاً وطاعة ، يا سيدي . فقال همام : افتح الباب . وأخرج قرش مفتاحاً من عبه ، أداره في القفل ، ثم قال : تفضل يا سيدي . ودفع همام الباب بهدوء ، ودخل القمرة ، ثم أغلق الباب . وعلى ضوء القنديل الخافت ، رأى سندباد يحدق عبر الكوة . وألقى نظرة خاطفة على المائدة ، وقال : لم تأكل عشاءك بعد ، يا سندباد . والتفت سندباد إليه ، وقال : لا أريد عشاء ، لا أريد أي شيء ، أريد فقط أن أرى هندباد . فرد همام قائلاً : قلت لك مراراً ، إن هندباد في مكان آمن ، وأنا أعنى به شخصياً . وتقدم سندباد منه ، وقال : حذار ، يا همام ، إياك أن تمس هندباد . فرد همام قائلاً : اطمئن ، لن أمسه ، إنه الكنز . وهزّ سندباد رأسه ، وقال : لن ترى الكنز في حياتك . وحدق همام فيه غاضباً ، ثم اتجه نحو الخارج . وتوقف عند الباب ، وقال : سأراه مادمت تريد أن ترى حفيدك .. هندباد. ثم فتح الباب ، ومضى إلى الخارج ، تاركاً سندباد يقف وحده وسط القمرة .
" 9 "
خرج همام من القمرة ، وهو مازال غاضباً . فتطلع إليه قرش ، وقال : رأس سندباد ، يا سيد ، قدّ من حجر . لم يلتفت همام إليه ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول بحزم: أغلق باب القمرة ، واحتفظ بالمفتاح . وأدار قرش المفتاح ، ثم سحبه من القفل ، ووضعه في عبه مدمدماً : ولن أرتاح حتى أكسر هذا الحجر . وتوقف همام ، عند حاجز السفينة ، محدقاً في غابات النخيل ، التي يضيئها القمر ، حتى هدأ غضبه . وغادر مكانه بخطوات متعبة ، وصعد السلم إلى حيث الدفة . ولاحظ المساعد عبوسه ، فأستقبله باشاً ، وقال :القمر رائع اليوم ، يا سيدي . وبدا القمر قرصاً شاحب الضوء ، معلقاً فوق غابات النخيل. وتطلع همام إليه ، ثم قال : من الأفضل أن تجد مكاناً مناسباً ، ترسي السفينة فيه . فرد المساعد قائلاً : القمر في أوجه ، ويمكننا أن نسير مدة أخرى . والتفت همام إليه ، وقال : لا ، أنت متعب ، وأريدك أن ترتاح . وابتسم المساعد قائلاً : سأرتاح ، يا سيدي ، حين نصل الهدف. ومضى همام مبتعداً ، وأخذ ينزل السلم ، وهو يقول : سنصله ، وبأسرع وقت ممكن . وسار همام بخطى متثاقلة ، تحت ضوء القمر الشاحب ودخل جناحه ، وفتح في هدوء باب القمرة ،ورأى ياسمين في فراشها ، تغط في نوم عميق ، فسحب الباب في هدوء وأحكم إغلاقه . واتجه إلى القمرة الصغيرة الملحقة بجناحه وفتح الباب ، واجتاز الممر الضيق المظلم ، وطرق الباب ، ثم دفعه ، ودخل دون أن ينتظر جواباً . وهبّ الطباخ العجوز من فراشه ، حين رأى همام يدخل القمرة ، وقال مرحباً : أهلاً ، سيدي ، تفضل . وألقى همام نظرة خاطفة على هندباد ، الراقد في فراش قرب الكوة . ثم التفت إلى الطباخ العجوز ، وقال : لا ترفع صوتك ، إنه نائم . وهنا فتح هندباد عينيه ، وما إن رأى همام عند الباب ، حتى نهض قائلاً : عمي ! فقال همام : عد إلى فراشك ، يا هندباد ، أنت متعب . لم يعد هندباد إلى فراشه ، وإنما اقترب من همام ، وقال : لقد وعدتني مراراً ، أن أرى جدي .. سندباد . فرد همام قائلاً : وأنا عند وعدي . وتساءل هندباد : متى ؟ إنني مشتاق لرؤيته . فقال همام : لا تستعجل ، ستراه . ولاذ هندباد بالصمت ، وقد استبد به الحزن ، فقال همام : هندباد ، طالما حلمت بالسفر ، وها أنت تسافر على متن أعظم سفينة عرفتها البحار.. " الإعصار " . ورد هندباد قائلاً : إنني سعيد بالسفر ، رغم أني لا اخرج من هذه القمرة ، وأتمنى لو أن معي جدي .. سندباد . فربت همام على كتفه ، وقال : سيكون جدك سندباد معك قريباً ، فقد اتفقنا أن نلتقي ، بعد فترة قريبة ، في جزيرة الكنز . ولاذ هندباد بالصمت ثانية ، فقال همام : هيا ، يا بني ، عد إلى فراشك ، سنصل بعد أيام إلى الجزيرة ، وترى جدك .. سندباد . وعاد هندباد إلى فراشه ، دون أن يتفوه بكلمة . فأحكم همام الغطاء حوله ، وقال : تصبح على خير . وأغمض هندباد عينيه متمتماً : تصبح على خير . وخرج همام من القمرة ، وأغلق الباب وراءه . ووقف الطباخ العجوز وسط القمرة ، يتطلع إلى هندباد ، ثم هزّ رأسه بأسى ، وصعد بتثاقل إلى فراشه .
" 10 "
استيقظت ياسمين ، وقد أشرقت الشمس ، وارتفعت فوق أشجار النخيل . ونهضت متعجبة ، لأن الطباخ العجوز لم يوقظها كالعادة لتفطر مع أبيها . وفتحت باب القمرة ، متوقعة أن ترى أباها أو الطباخ العجوز ، لكنها لم تر أياً منهما . وألقت نظرة على المائدة ، ولاحظت بقايا طعام الفطور فوقها . لقد أفطر أبوها اليوم إذن ، دون أن ينتظرها . من يدري ، لعله كان مشغولاً ، أو أنه رآها مستغرقة في نوم عميق ، فلم يشأ أن يوقظها ، كما يفعل أحياناً . واتجهت إلى المطبخ ، وفتحت بابه بهدوء ، وألقت نظرة إلى الداخل ، عجباً ، أين مضى هذا الطباخ العجوز ؟ وتذكرت ، إنه شكا البارحة ، من صداع شديد في رأسه . وتملكها القلق ، وخشيت أن يكون مريضاً . فأغلقت باب المطبخ ، ومضت باتجاه الخارج . وسرعان ما توقفت ، حين تناهت إليها ضجة خافتة من القمرة الصغيرة الملحقة بالجناح . وخمنت أنه الطباخ العجوز ، فعادت أدراجها مسرعة ، واتجهت نحو القمرة . وفتحت الباب، واجتازت الممر الضيق المظلم ، ثم دفعت باب القمرة قائلة : أين أنت أيها ...؟ وصمتت ياسمين ، حين فوجئت بصبي في عمرها ، يقف وسط القمرة ، محدقاً فيها ، كأنها كائن غريب ، هبط من عالم آخر . وسرعان ما خرجت من صمتها متسائلة : من أنت ؟ فرد هندباد قائلاً : أنا .. واقترب منها ، وقال : لابد أنك مثلي ، احتجزك الربان همام لسبب ما .. فتساءلت ياسمين مذهولة : احتجزني ! وتلفت هندباد حوله ، ثم مال عليها ، وقال بصوت خافت : لا تخافي ، الربان على ما يبدو رجل طيب ، وهو يعاملني معاملة طيبة ، لكن هناك أشياء غامضة ، لا أكاد أفهمها . وتناهى وقع أقدام من الخارج ، فتراجعت ياسمين مضطربة ، ولحقها هندباد قائلا : مهلاً .. مهلاً . فردت ياسمين ، دون أن تتوقف : أسمع وقع أقدام في الخارج ، لابد أن أذهب . وفتحت الباب ، ثم توقفت وقالت : لم أعرف اسمك . فقال هندباد : اسمي هندباد . ثم تساءل : وأنت ، ما اسمك ؟ فتطلعت إليه لحظة ، دون أن تجيب ، ثم خرجت ، وأغلقت باب القمرة . واجتازت الممر الضيق المعتم بخطوات سريعة ، وفتحت باب الجناح ، وإذا هي في مواجهة الطباخ العجوز . وتمتم الطباخ العجوز ، وقد جحظت عيناه : ياسمين ! وأغلقت ياسمين الباب ، وقالت : ظننت أنك مريض ، وقلقت عليك، فذهبت إلى قمرتك . ولاذ الطباخ العجوز بالصمت ، وقد تحشرجت أنفاسه ، فأضافت ياسمين قائلة : رأيت .. هندباد . وانهار الطباخ العجوز ، وقال متوسلاً : أرجوك ، لا تقولي لأحد أنك رأيته . وحدقت ياسمين فيه ، ثم تساءلت : من هو .. هندباد ؟ فرد الطباخ العجوز مرتعباً : لا أدري . وجلست ياسمين إلى المائدة ، وقالت : بل تدري ، لكن لا بأس ، سأعرف بنفسي كلّ شيء . وهمّ الطباخ العجوز أن يرد ، فقالت ياسمين : إنني جائعة ، قدم لي طعام الفطور . فأسرع الطباخ العجوز إلى المطبخ ، وهو يقول : في الحال يا بنيتي،في الحال .
" 11 "
مع الفجر ، رفعت المرساة ، ونشرت الأشرعة ، وأقلعت " الإعصار ". وسرعان ما راحت تمخر مياه شط العرب ، منحدرة نحو الخليج . وعلى المائدة ، جلست ياسمين قبالة أبيها ، تتناول طعام الفطور ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . ورمق همام الطباخ العجوز بنظرة سريعة ، ثم نظر إلى ياسمين ، وقال : نحن هنا . وتململت ياسمين ، لكنها لم ترد ، فتساءل همام : أرى زهرتي صامتة ، ما الأمر ؟ وأشارت ياسمين إلى الطباخ العجوز ، وردت قائلة : اسأله. وأسقط في يد الطباخ العجوز ، واستبدت به حيرة شديدة ، فضحك همام ، وقال : لا عليك ، أعرف أنها تمزح . وحدقت ياسمين في الطباخ العجوز ، وقالت : أرأيت ؟ إنني أمزح . ونهض همام ، وقال : إنني مشغول اليوم ، وقد أتأخر ، تناولي غداءك متى تشائين . واكتفت ياسمين بهزة من رأسها ، دون أن ترد بكلمة . ومضى همام ، يسير بخطواته المتثاقلة ، وخرج من القمرة. وعندئذ انحنى الطباخ العجوز على ياسمين ، وقال :بنيتي ، ارحميني من .. . فقاطعته ياسمين قائلة : أزور هندباد .. متى أشاء . وتساءل الطباخ العجوز محرجاً : وإذا عرف أبوك ؟ فردت ياسمين قائلة : لن يعرف . فطامن الطباخ العجوز رأسه ، وقال : كما تشائين . ونهضت ياسمين ، وقالت : لا تزعل مني . وابتسم الطباخ العجوز إبتسامة حزينة ، فحضنته..ياسمين ، وقالت : إنني أحبك . ورد الطباخ العجوز قائلاً : وأنا أيضاً أحبك ، كما أحببت المرحومة ..أمك . وتلفتت ياسمين حولها ، وقالت : والآن أريد بعض الطعام لأخذه إلى هندباد . فقال الطباخ العجوز : لا عليك ، لقد أفطر . ولاذت ياسمين بالصمت حائرة ، فقال الطباخ العجوز : خذي له شيئاً من شربت الزبيب . وهمت ياسمين أن تمضي إلى المطبخ ، فسبقها الطباخ العجوز إلى ذلك قائلاً: لحظة ، سآتيك بدورق من الشربت . ودخل المطبخ ، وسرعان ما عاد بالدورق ، وقال : خذيه إليه، إنه يحب شربت الزبيب كثيراً . وأخذت ياسمين الدورق ، وقالت بامتنان : أشكرك ، أشكرك جداً . وتطلع الطباخ العجوز إليه ، وقال بنبرة توسل : أرجوك ، يا بنيتي ، لا تتأخري . واتجهت ياسمين إلى الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ، وهي تقول : اطمئن ، لن أتأخر . وفتحت الباب ، واجتازت الممر الضيق المظلم ،وطرقت باب القمرة الصغيرة ، فجاءها صوت هندباد : تفضل. ودفعت الباب ، ودخلت حاملة دورق الشراب ، وقالت : جئتك بشراب تحبه ، شراب الزبيب . ونظر هندباد إليها متسائلاً ، فأجابت قائلة : هذا ما أخبرني به الطباخ العجوز . وأخذ هندباد الدورق منها ، وقال : هذا حق ، أشكرك. وجلس إلى المائدة ، وأضاف : لنشرب معاً . وجلست ياسمين قبالته ، وقالت : أشرب بشرط . وقدمه لياسمين مبتسماً ، وقال : حسن ، اشربي . وآخذت ياسمين القدح ، وقالت : لم تسألني عن الشرط . وتناول هندباد قدحاً آخر ، وملأه بشربت الزبيب، وقال : أقبل شرطك مهما يكن . فقالت ياسمين : أريد أن تحدثني عما جرى لك مع الربان ..همام . ولاذ هندباد بالصمت لحظة ، ثم قال : حسن ، اشربي شرابك أولاً . ورفعت ياسمين القدح ، وشربت ما فيه من شراب ، ثم وضعته على المائدة ، وتطلعت إلى هندباد ، وقالت : ها قد شربت الشراب ، حدثني .
" 12 "
غادرت السفينة " الإعصار " شط العرب ،تاركة غابات النخيل وراءها ، وتوغلت في مياه الخليج . وسرعان ما توارت اليابسة ، وصارت " الإعصار" بين فضاء ين من الزرقة ، مياه الخليج .. والسماء . وكلما مرّت الأيام ، واقتربت الجزيرة ، كان قلق همام وتوتره يتفاقمان ، وصار يقضي معظم وقته فوق ظهر السفينة .وحين كان يضطر للعودة إلى القمرة ليلاً ، كان لا يكاد يغمض له جفن ، خاصة وأنه لم يستطع حتى الآن أن ينتزع من سندباد وعداً بالتعاون معه ، للحصول على الكنز. لا أحد يعرف مكان الكنز غير سندباد ، فقد كان رهينة عند القراصنة ، عندما خبأوا الكنز في الجزيرة . وما إن أقلعوا، وتوغلوا في البحر حتى هبت عاصفة شديدة ، أطاحت بالسفينة ، وغرق كل من عليها ، عدا سندباد وقرش . ولم يعرف قرش أين خبئ الكنز ، لأنه ظل على السفينة ، عندما نزل القراصنة ، ومعهم سندباد ، وخبأوا الكنز . ونفد صبر همام ، حين صارت الجزيرة على بعد ما يقرب اليومين .فحزم أمره ، واتجه إلى قمرة سندباد . ورآه قرش مقبلاً ، فأخرج المفتاح من عبه، دون أن يتفوه بكلمة ، وأداره في قفل الباب. ودفع همام الباب ، ودخل القمرة ، مربد الوجه . ورمقه سندباد بنظرة خاطفة ،وأولاه ظهره ، ووقف يحدق عبر الكوة في البحر . وخاطبه همام بنبرة حاول أن تكون هادئة : سندباد . ولم يلتفت سندباد ، أو يرد بكلمة ، فتابع همام قائلاً : اسمعني ، يا سندباد . وقال سندباد ، دون أن يلتفت: منذ فترة طويلة ، لم أر ياسمين . وتابع همام قائلاً : نحن نقترب من الجزيرة . وتجاهل سندباد ما قاله همام ، وقال متسائلاً : كيف حالها ؟ وصمت همام لحظة ، ثم أجاب : بخير . وقال سندباد : لابد أنها الآن شابة . فرد همام قائلاً : إنها تقريباً بعمر هندباد . والتفتت سندباد إليه ، وقال : أنت لا تستحقها ، يا همام . وصمت همام لحظة ، وقد بدا حزيناً منكسراً ، ثم قال : إنني مريض ، يا سندباد ، وقد لا أعيش طويلاً ، وما أفعله إنما من أجل ياسمين ..وحدها . فقال سندباد : ياسمين بحاجة إليك أنت ، وليس إلى أي شيء آخر ، وخاصة بعد رحيل أمها ، وهي تضعها . واحتد همام قائلاً : دعك من هذا ، يا سندباد . فأقترب سندباد منه ، وقال : همام ، هذه الجزيرة مشؤومة، ولم يطأها أحد ، ونجا من الموت . فرد همام قائلاً : أنت وطأتها ونجوت . ثم أضاف ، وهو يتأهب للخروج : ولابد أن تنجو هذه المرة أيضاً ، فحفيدك هندباد معك . وخرج صافقاً الباب وراءه ، والتفت سندباد منفعلاً ، وراح يحدق ثانية ، عبر الكوة ، في البحر
" 13 "
من أعلى السارية ، صاح البحار المراقب ، مشيراً بيده إلى البعيد : الجزيرة .. الجزيرة . وارتفعت ضجة فوق ظهر السفينة ، وراح البحارة يهللون فرحين . ووقف عدد منهم قرب الحاجز ، يتطلعون إلى حيث يشير البحار المراقب ، الواقف في أعلى السارية . واقبل همام من جناحه ، وصعد السلم على عجل ، ووقف بجانب الحاجز القريب من الدفة . وهتف البحار المراقب من أعلى السارية ، وهو يشير بيده : سيدي ، أنظر ، تلك هي الجزيرة . ونظر همام إلى حيث يشير البحار المراقب ، وإذا خط داكن من قمم الصخور ، وذرى الأشجار ، يلوح في الأفق البعيد ، فقال فرحاً : حقاً هذه هي الجزيرة ، جزيرة الكنز . وتناهت الضجة والتهاليل إلى سندباد ، وهو راقد في قمرته، فنهض بسرعة ، ووقف قبالة الكوة المطلة على البحر ، ونظر إلى البعيد . وعند خط الأفق ، رأى الجزيرة ، تنهض بصخورها وأشجارها ، من أعماق البحار . فهز رأسه ، وقال : إنها هي ، جزيرة الموت ، والويل لمن يطأها . وسمعت ياسمين الضجة ، فخرجت من قمرتها مسرعة . ورأت الطباخ العجوز يرتب الصالة ، فتساءلت بحيرة :ما الأمر ؟ ورد الطباخ العجوز قائلاً : لقد وصلنا الجزيرة ، يا بنيتي. وصاحت ياسمين : الجزيرة! وانطلقت إلى الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ،وهي تقول : لابد أن أخبر هندباد بالأمر . وهتف بها الطباخ العجوز قائلاً : مهلاً يا عزيزتي ، قد يأتي أبوك في أية لحظة . وفتحت ياسمين الباب ، دون أن تلتفت إليه ، واندفعت عبر الممر الضيق المعتم نحو القمرة ، ودفعت بابها وهي تصيح : هندباد ، لقد وصلنا الجزيرة . ونهض هندباد ، وقال بصوت حزين : وما الفائدة ، ما دمنا أنا وأنت حبيسين . وتطلعت ياسمين إليه ، وقالت بحماس : لن نظل حبيسين ، سننزل إلى الجزيرة ، مهما كلف الأمر . وأطرق هندباد رأسه لحظة ، ثم قال : ياسمين . وردت ياسمين مترددة : نعم . فقال هندباد : لقد حدثتك عن نفسي ، وأريد أن تحدثيني .. وقاطعته ياسمين ، وقالت محاولة التهرب : ولكن ليس الآن. ثم اتجهت إلى الخارج قائلة : فلأذهب قبل أن يراني أحد. وفتحت الباب ، وأسرعت تجتاز الممر الضيق المعتم ، إلى قمرتها . وفوق ظهر السفينة ، ووسط ضجة البحارة وتهليلهم ، تقدم همام ، ووقف قرب الدفة ، وصاح : أيها البحارة .. وكف البحارة عن التهليل ، ووقفوا ينصتون ، فتابع همام قائلاً : سنرسو الليلة قرب الجزيرة ، وغداً ، مع شروق الشمس ، سننزل معاً إلى الشاطىء ، استعدوا ، فقد وصلنا الهدف .
" 14 "
أفاقت ياسمين ، قبل شروق الشمس ، وأبوها مازال يغط في النوم . ونزلت بهدوء عن سريرها ، وفتحت الباب، وخرجت من القمرة . وتوقفت لحظة في الصالة ، تنصت إلى الطباخ العجوز ، وتأكدت من انشغاله في إعداد الفطور. فمشت على رؤوس أصابعها ، وفتحت الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ، وأسرعت تجتاز الممر الضيق المعتم ، ثم دفعت بهدوء باب القمرة . واستيقظ هندباد على صوت الباب يدفع ، وفتح عينيه ، وإذا ياسمين تدخل القمرة ، فهب من فراشه متمتماً : ياسمين ! فردت ياسمين هامسة : لا ترفع صوتك . ثم اقتربت منه ، وقالت : لقد أنزل أحدهم قارباً صغيراً إلى البحر ، ربما للاستكشاف ، تعال نأخذه ، ونذهب به إلى الجزيرة . ولاذ هندباد بالصمت حائراً ، فأطبقت ياسمين على يده ، وجرته قائلة : هيا يا هندباد ، وإلا ضاعت الفرصة . ونزل هندباد من سريره قائلاً : هيا . وتسللا من القمرة ، عبر الممر الضيق المعتم ، إلى الصالة وتناهى إليهما وقع أقدام الطباخ العجوز ، فأسرعا بالاختباء خلف المنضدة . وأطل الطباخ العجوز من باب المطبخ ، وتلفت حوله ، ثم عاد إلى المطبخ . وخرجت ياسمين وهندباد من وراء المنضدة ، وأسرعا على رؤوس أصابعهما ،مجتازين الصالة . وفتحت ياسمين الباب الخارجي ، وأطلت برأسها ، متلفتة يميناً ويساراً ، ثم التفتت إلى هندباد ، وهمست قائلة : لا يوجد أحد ، هيا . وخرجت ياسمين من الصالة ، وخرج هندباد وراءها ، وأغلق الباب. ولمحا بحاراً ينزل السلم من حيث الدفة ، فتواريا على عجل، خلف كومة من الحبال . وتوقف البحار عند أسفل السلم ، متلفتاً حوله ، ثم دخل العنبر . وأطلت ياسمين برأسها من خلف كومة الحبال ، وتلفتت حولها ، ثم قالت : البحارة في العنبر ، يتناولون فطورهم ، هذه فرصتنا ، فلنذهب . وخرجا من خلف كومة الحبال ، وركضا بمحاذاة السياج . وتوقفت ياسمين ، عند سلم من الحبال ، يتدلى من أعلى السفينة إلى البحر ، وأطلت من الحاجز ، وقالت : هاهو القارب ، فلننزل من هنا . وقبل أن يرد هندباد بكلمة ، تسورت ياسمين الحاجز ، وأخذت تنزل السلم . وما إن وصلت القارب ، حتى أشارت لهندباد قائلة : هيا يا هندباد ، انزل . وتسور هندباد الحاجز ، كما فعلت ياسمين من قبل ، ونزل السلم ببطء ، حتى وصل القارب ، فقالت ياسمين : لنمض بالقارب إلى الجزيرة بسرعة ، قبل أن يكتشفوا أمرنا ، وتضيع الفرصة . وجلست ياسمين وهندباد جنباً إلى جنب ، وأخذ كلّ منهما مجذافاً ، وراحا يجذفان بقوة ، وابتعدا بالقارب عن السفينة، متجهين إلى الجزيرة .
" 15 "
هب همام من نومه مرعوباً ، فقد سمع زوجته الراحلة تصيح من العتمة بصوت متشنج ، مستغيث : ياسمين . وفتح عينيه ، وكاد يصعق ، حين لم يجد ياسمين في فراشها. فارتدى ملابسه على عجل ، وأسرع إلى الصالة منادياً : أيها الطباخ. وأقبل الطباخ العجوز من المطبخ ، وهو يمسح يديه المبللتين بمريلته ، وقال : سيدي . وتلفت همام حوله قائلاً : أين ياسمين ؟ إنها ليست في فراشها . وجحظت عينا الطباخ العجوز رعباً ، وتمتم : ياسمين ! وتململ حائراً ، ثم دبّ نحو القمرة الداخلية ، وهو يقول : لحظة سيدي ، لعلها في قمرتي . وتساءل همام مستغرباً : قمرتك ! وماذا يمكن أن تفعل في قمرتك ؟ وتوقف الطباخ العجوز ، وقد أسقط في يده ، ثم قال منأتئاً : أقول يا سيدي .. ربما . ثم فتح الباب ، وانطلق متعثراً عبر الممر الضيق المظلم ، إلى قمرته. وسرعان ما عاد ، مكفهر الوجه ، وقال متأتئاً : سـ..سـ..سيدي. فحدجه همام بنظرة غاضبة ، وقال : تكلم . وقال الطباخ العجوز : سيدي .. هندباد أيضاً.. غير موجود. ودمدم همام قائلاً : ماذا ! ثم اتجه بخطى واسعة نحو الباب الخارجي ، وهو يتساءل : ماذا يجري هنا ؟ ومضى إلى الخارج ، وصفق الباب وراءه . ولم يعد الطباخ العجوز ، يقوى على الوقوف ، فتهاوى منهاراً على أقرب مقعد . وخرج همام من جناحه ، وصعد السلم إلى حيث الدفة . ووقف مطلاً على البحارة ، وصاح : أيها البحارة .. . و أقبل البحارة مسرعين ، من مختلف أطراف السفينة ، ووقفوا أمامه منصتين ، فقال بصوت منفعل : ابنتي ياسمين، خرجت من قمرتها ، وربما خرج معها حفيد سندباد ، ابحثوا عنهما في كل مكان ، من السفينة ، هيا . وعلى الفور انطلق البحارة مسرعين ، وبحثوا عن ياسمين وهندباد ، في كل طرف من أطراف السفينة ، دون جدوى. ونزل همام السلم نافد الصبر ، وأقبل بحار من العنبر ، واتجه مسرعاً نحو حاجز السفينة ، فخاطبه همام متسائلاً : هل وجدتوهما ! وأطل البحار من الحاجز قائلاً : لحظة ، سيدي . فصاح به همام : ماذا تفعل أيها الأحمق ؟ والتفت البحار إليه ، وقال : سيدي ، لقد كلفتني ليلة أمس أن أنزل قارباً لاستكشاف الجزيرة ، وقد أنزلته فجر اليوم ، القارب غير موجود ، لقد اختفى . وأسرع همام، وأطل من الحاجز ، ولم يجد للقارب من أثر . ونظر البحار نحو الجزيرة ، ثم صاح ، وهو يشير بيده : سيدي ، أنظر ، القارب هناك ، فوق الشاطئ . ونظر همام ، حيث أشار البحار ، ورأى القارب فعلاً ، فوق الشاطئ .فصاح البحار ، وهو يتجه نحو قمرة سندباد : نادِ البحارة جميعاً ، وانزلوا القوارب ، سنذهب فوراً إلى الجزيرة . وانطلق البحار نحو العنبر قائلاً : سمعاً وطاعة ، سيدي . وما إن رأى قرش همام مقبلاً ، حتى أخرج المفتاح من عبه، وأداره في القفل . ودفع همام الباب ، ودخل القمرة. ونهض سندباد ، محدقاً في همام ، دون أن يخاطبه بكلمة . فقال همام : البحارة ينزلون القوارب، سنذهب بعد قليل إلى الجزيرة . فرد سندباد قائلاً : هذا الأمر لا يعنيني . وقال همام : بل يعنيك بقدر ما يعنيني ، إن هندباد ، وابنتي ياسمين ، فوق الجزيرة وحدهما الآن . وجحظت عينا سندباد متمتماً : ماذا ! فتابع همام قائلاً : لقد أخذا القارب الصغير ، صباح اليوم ، ومضيا به خلسة . وحدق سندباد فيه غاضباً ، وقال : سأقتلك ، يا همام ، إذا أصيب هندباد بمكروه . ثم أسر إلى الخارج قائلاً : هيا ، فلنمض ِ ، قبل فوات الأوان.
" 16 "
قفز هندباد وياسمين من القارب ، حين وصلا إلى الشاطئ . وسحبا القارب الصغير قليلاً فوق الرمال ، حتى لا تجرفه الأمواج . وتراكضا متضاحكين ، متقافزين وسط المياه المندفعة فوق رمال الشاطئ .وتوقفت ياسمين لاهثة ، والريح تطاير شعرها الأسود ، وتوقف هندباد قربها ، متقطع الأنفاس ، ومدّ نظره إلى أعماق الجزيرة ، وقال : لا أعتقد .. أن هذه الجزيرة .. مأهولة . وألقت ياسمين نظرة إلى الأشجار الكثيفة ، وقالت ، وهي مازالت تلهث : من يدري ، لعلها تعج بالحيوانات المفترسة. وضحك هندباد قائلاً : يا لخيالاتك ، إنها جزيرة صغيرة وسط البحر . وتطلعت ياسمين إلى السفينة الراسية بعيداً عن الشاطئ ، وقالت : فلنبتعد ، ونتوغل بين الأشجار ، قبل أن يلحقوا بنا. وأسرعت بالابتعاد ، متجهة نحو أجمة كثيفة الأشجار ، وما لبث هندباد أن أسرع في أثرها . وتجولا بين الأشجار ، متوغلين في أعماق الغابة ، حتى أنهكهما التعب . وتوقفت ياسمين ، لاهثة متقطعة الأنفاس ، وقالت : لنرتح هنا قليلاً. وتوقف هندباد بدوره ، وقال : حسن ، لنجلس تحت هذه الشجرة الضخمة . وتهالكت ياسمين جالسة تحت الشجرة ، وجلس هندباد إلى جانبها . وساد الصمت ، ولم يعد يسمع غير أنفاسهما المتقطعة ، وحفيف أغصان الأشجار، وتكسر الأمواج فوق الشاطئ . وأسندت ياسمين رأسها إلى جذع الشجرة ، وأغمضت عينيها ، وقالت : آه ليتني أعيش هنا . وتساءل هندباد مازحاُ : وحدك . فردت ياسمين دون أن تفتح عينيها : لا . وتساءل هندباد ثانية : ترى من سعيد الحظ الذي سيكون معك ! ولاذت ياسمين بالصمت ، وعيناها مازالتا مغمضتين ،فقال هندباد : لو سألتني هذا السؤال ، يا ياسمين ، لأجبتك على الفور . والتفت إليها ، ثم قال : ياسمين ، افتحي عينيك . فردت ياسمين قائلة ، وقد توردت وجنتاها : لا أستطيع الآن ، يا هندباد . وصمتت برهة ، ثم قالت : هندباد . فرد هندباد قائلاً : نعم . وقالت ياسمين : أنت لا تعرف حتى الآن ، من أكون . فقال هندباد : أعرف أنك ياسمين ، وهذا يكفيني . وفتحت ياسمين عينيها البنيتين ، وتطلعت إليه برهة ، ثم قالت : أنا ابنة .. الربان . وندت شهقة عن هندباد : همام ! فهزت ياسمين رأسها ، وقالت : نعم ، همام . وصمتت لحظة ، ثم قالت : إذا تمنيت البقاء في هذه الجزيرة الآن ، فستتمنى البقاء فيها وحدك . وعلى الفور ، رد هندباد : أنت ِ واهمة ، فلن أتمنى البقاء هنا بدون .. ياسمين . وهربت ياسمين بعينيها البنيتين ، وقد توردت وجنتاها ثانية. وسرعان ما نهضت قائلة : لنستأنف سيرنا ، ونصعد إلى قمة هذا المرتفع . ونهض هندباد بدوره ، وقال : ما رأيك أن نتسابق حتى القمة ؟ وتأهبت ياسمين للسباق قائلة : حسن ، هيا . وانطلقا يتسابقان متضاحكين ، وسبق هندباد ياسمين ، ووقف ينتظرها عند حافة القمة . وتعثرت ياسمين ، قبل أن تصل الحافة ، فمد هندباد يده ، وأطبق على يدها . وصعدت ياسمين لاهثة ، ووقفت إلى جانبه ، وسحبت يدها من يده بهدوء ، وقالت : أهنئك ، لقد سبقتني . وابتسم هندباد ، دون أن يرد بكلمة . وعبت ياسمين الهواء ملء صدرها ، ثم رفعت يديها عالياً ، وراحت تدور حول نفسها قائلة : هندباد .. هذه الجزيرة أصابتنا بالجنون و .. . وسكتت ياسمين ، وقد تشنجت أنفاسها ، فتطلع هندباد إليها ، وتساءل : ما الأمر ؟ فأشارت ياسمين إلى الطرف الثاني من الشاطئ ، وقالت : أنظر . ونظر هندباد إلى حيث أشارت ياسمين ، وإذا سفينة راسية قريباً من الشاطئ ، فتساءل مذهولاً : ترى لمن هذه السفينة! وهنا برز عدد من البحارة ، يتطاير الشر من عيونهم ، وأحاطوا بهندباد وياسمين من كل جانب . وتقدم الربان من بينهم ، وقال : هذه سفينتنا . ولاذ هندباد وياسمين بالصمت ، وقد أذهلتهما المفاجأة ، وقالت ياسمين متوسلة : أرجوكم ، دعونا وشأننا . وتساءل هندباد بشيء من الحدة : ماذا تريدون ؟ فرد الربان قائلاً : اطمئنا ، لا نريد إيذاءكما . ونظر إلى سفينة همام ، ثم قال : إن ما نريده شيئاً آخر .
" 17 "
أنزل البحارة القوارب إلى البحر، واتخذوا أماكنهم فيها ، وقد تدججوا بالسلاح . وأقبل همام وسندباد ، وما إن رآهما المساعد ، حتى نزل السلم ، وأسرع إلى همام ، وقال : سيدي ، لقد نزل جميع البحارة إلى القوارب . وتوقف همام عند حاجز السفينة ، حيث السلم المصنوع من الحبال ، وقال : ابق في السفينة أنت و .. والتفت إلى قرش ، فقال الأخير : لا ، أرجوك سيدي ، لا أريد أن أبقى في السفينة هذه المرة . فرد همام قائلاً : لا بأس ، تعال معنا . والتفت إلى سندباد ، وقال : هيا ، يا سندباد ، انزل قبلي . وتسور سندباد الحاجز ، دون أن يتفوه بكلمة ، ونزل السلم إلى القارب المخصص للربان . ونزل بعده همام ، وأعقبهما قرش . وعندئذ صاح الربان : لنمض الآن إلى الجزيرة ، تحركوا . وتحركت القوارب ، مبتعدة عن السفينة ، يتقدمها قارب الربان ، شاقة طريقها نحو الجزيرة . ولاح القارب الصغير، ونهايات الأمواج تؤرجحه فوق رمال الشاطىء فخاطب همام المجذفين قائلاً : ذاك هو القارب ، اتجهوا نحوه بسرعة . وحالما وصلوا الشاطيء ، قفز همام من القارب ، وتبعه سندباد وقرش . وسرعان ما نزل جميع البحارة من قواربهم ، وسحبوها فوق الرمال ، بعيداً عن مياه البحر . وسار سندباد ، محدقاً في الرمال ، ثم توقف ، وقال : هذه آثار أقدام هندباد وياسمين . وتطلع همام إلى آثار الأقدام ، وقال : نعم ، إنها آثار أقدامهما . ثم التفت إلى البحارة ، وخاطبهم قائلاً : لنبحث عن ياسمين وهندباد ، فلابد أن نعثر عليهما أولاً ، اتبعوني . وسار همام وسندباد ، متتبعين آثار الأقدام ، وسار الجميع وراءهما. وتوقف همام بعد حين ، محدقاً في الرمال ، ثم قال : يبدو أنهما غادرا الشاطىء من هنا ، وتوغلا في الجزيرة . وتتبع سندباد الآثار بدوره ، وقال : أنت محق ، لنتبع آثارهما . وترك همام وسندباد الشاطىء، وسارا يتقدمان البحارة إلى أعماق الجزيرة ، حتى انتهيا بهم إلى الشجرة الضخمة . وتوقف همام في الأرض ، ثم قال : لقد توقفا هنا . وصمت برهة ، ثم رفع رأسه ، وقال : ترى أين عساهما قد ذهبا ؟ وتلفت سندباد حوله ، وتطلع إلى أعلى المرتفع ، ثم قال يبدو لي أنهما صعدا هذا المرتفع ، وذهبا إلى الطرف الثاني من الجزيرة . ونظر همام بدوره إلى الأعلى ، وقال : من يدري ، لعلك على حق ، وإلا فأين هما ؟ وتطلع همام إلى الأعلى ثانية ، ثم التفت إلى سندباد ، وقال : إنني متعب جداً ، لنرتح قليلاً ، قبل أن نصعد هذا المرتفع. وقال سندباد : ارتح أنت ، وسأصعد المرتفع مع بعض البحارة . فرد همام قائلاً : كلا . وجلس في ظل الشجرة الضخمة ، وقال : سنصعد المرتفع جميعاً بعد قليل .
" 18 "
أطل بحار فتيّ ، من وراء صخرة ، في أعلى المرتفع ، وراقب بحذر همام وسندباد وقرش والبحارة الآخرين ، وهم يتسلقون المرتفع لاهثين ، ثم انسل عائداً إلى الربان ، المتواري وراء إحدى الأشجار ، وقد أحاط به بحارته ، وقال بصوت خافت : سيدي ، إنهم يقتربون من القمة . وابتسم الربان بخبث ، وقال : أهلاً بهم ، سيصلون القمة منهكين ،وبذلك يسهل علينا أسرهم ، والتحكم فيهم . ثم التفت إلى البحارة ، وقال : اختبئوا خلف الأشجار ، حتى أشير لكم . وعلى الفور ، اختبأ الجميع خلف الأشجار ، ولزموا الصمت ، حتى لم يعد يسمع فوق المرتفع غير حفيف أغصان الأشجار ، وتكسر أمواج البحر عند صخور الشاطىء . وواصل همام وسندباد صعودهما، ومن ورائهما قرش وبقية البحارة، حتى بلغوا أعلى المرتفع ، وقد هدهم التعب. وتوقف همام متقطع الأنفاس ، وقال : يا إلهي .. سأموت .. من التعب . وهنا برز الربان ، من وراء إحدى الأشجار ، وقال : ستموت يا همام ، ولكن ليس من التعب . ومد همام يده إلى مقبض سيفه ، وقال مذهولاً : عنبر ! وابتسم الربان عنبر ، وأشار لبحارته قائلاً : عنبر .. وبحارته . وبرز البحارة من وراء الأشجار ، وسيوفهم تتلامع في أيديهم . وتابع عنبر قائلاً : لقد سبقتني إلى سندباد ، فتبعتك دون أن تشعر ، من البصرة إلى هذه الجزيرة . وشهر همام سيفه ، وقال بحدة : هذه الجزيرة ستكون مقبرة لك ولبحارتك . ورد عنبر قائلاً : قبل أن تجرب سيفك المنهك ، دعني أريك شيئاً . وأشار بيده ، فبرز بحار من وراء شجرة قريبة ، يدفع أمامه هندباد وياسمين ، وهما مكممان ، وجحظت عينا همام ، وصاح : ياسمين . وفي الوقت نفسه ، صاح سندباد : هندباد . ولوح عنبر بسيفه قريباً من هندباد وياسمين ، وقال : كنزاكما في يدي . وقال همام مهدداً : أطلق سراحهما . فرد عنبر قائلاً : مقابل الكنز . ولاذ همام بالصمت حائراً ، فنظر عنبر إلى سندباد ، وقال : ما قولك أنت يا سندباد ؟ وحدق سندباد فيه ، ثم قال : قولي يا عنبر ، إن هذا الكنز مشؤوم . ورد عنبر قائلاً : لن تخدعني بهذه الخرافات ، الكنز ، أو كنزاكما . ورمق سندباد همام بنظرة خاطفة ، ثم قال : سأدلكم على الكنز بشرط . وتبادل همام وعنبر نظرات مترددة ، دون أن ينطقا بكلمة، فقال سندباد : تقتسمان الكنز ، النصف لكل منكما ، هو وبحارته . فقال همام : أوافق . وقال عنبر: وكذلك أنا . ثم قال لسندباد : وأنت يا سندباد ؟ فرد سندباد قائلاً : يكفيني أن أعود بهندباد إلى أمه . وصمت لحظة ، ثم قال : والآن أطلق سراح هندباد وياسمين . فرد عنبر : لم أر الكنز بعد . وقال سندباد : ستراه يا عنبر . فقال عنبر : حين أراه ستراهما حرين . وسكت لحظة ، ثم قال : هيا يا سندباد ، لا داعي للانتظار ، قدنا إلى الكنز . وألقى سندباد نظرة خاطفة إلى هندباد وياسمين ، ثم سار بعزم ، وأخذ يهبط المنحدر ، وهو يقول : اتبعوني . وسار الجميع في أثره ، همام وبحارته من جهة ، وعنبر وبحارته من الجهة الأخرى .
" 19 "
انحدر سندباد من أعلى المرتفع ، والجميع يتبعون خطاه ، حتى انتهى بهم إلى الشاطىء ، وتوقف عند صخرة غريبة الشكل ، تشبه السلحفاة . وحدق عنبر فيه متسائلاً : لماذا توقفت ؟ فأشار سندباد إلى بقعة بجانب الصخرة ، وقال : إن ما جئتم من أجله .. هنا . وصاح همام وعنبر معاً : الكنز ! فهز سندباد رأسه ، وقال : نعم ، الكنز . وتململ الجميع متحفزين ، وكل مجموعة تراقب المجموعة الأخرى ، وتتهيأ لكل طارىء ، فقال سندباد : مهلاً ، لقد اتفقنا ، ولن ينقض أحد الاتفاق . وحدق عنبر في همام ، وقال : من جهتي ، أنا أعطيت وعداً. وقال همام : وأنا عند وعدي . فقال سندباد : حسن ، أقترح أن يختار كلّ منكما بحارين من بحارته ،ليقوموا بالحفر . وأشار همام إلى بحارين من مجموعته ، وكذلك فعل عنبر ، وتقدم البحارة الأربعة ، وبدؤوا يحفرون ، ويلقون الرمال جانباً . وسرعان ما اصطدمت المجارف بشيء صلب ، فرفع أحد البحارة رأسه ، وصاح : الصندوق . فصاح به همام : احفر . وأعقبه عنبر صائحاً : احفروا ، وأزيحوا الرمال عن الصندوق . وواصل البحارة الأربعة الحفر ، حتى ظهر الصندوق تماماً، فقال سندباد : كفى ، ارفعوا الصندوق من الحفرة. وألقى البحارة الأربعة المجارف ، ورفعوا الصندوق من الحفرة ، ووضعوه جانباً . وحدق عنبر في همام ، ثم خاطب سندباد قائلاً : سندباد ، افتح أنت هذا الصندوق . فتطلع سندباد إليه ، وقال : لا ، أطلق سراح هندباد وياسمين، وليفتحا هما الصندوق . وأشار عنبر إلى البحار ، وقال : فك وثاقيهما . وفك البحار وثاق هندباد وياسمين ، فأشار سندباد إليهما ، وقال : تعالا ، افتحا الصندوق . وتقدم هندباد وياسمين ، وفتحا الصندوق . وجمد الجميع مصعوقين ، فبدل الذهب والفضة والأحجار الكريمة ، كان الصندوق مليئاً بالرمال والحصى . وتساءل همام : ما هذا ! وركل عنبر الصندوق ، وتبعثر ما فيه من رمال وحصى ، وصاح : إنها خيانة . وهنا صاح قرش : وأنا أعرف الخائن وأستل خنجره ، وأندفع نحو سندباد صائحاً : وخنجري .. الذي سيثأر لعيني .. سيدلكم عليه . واندفع همام ، متصدياً لقرش ، وهو يقول : مهلاً ، أيها الغبي ، سندباد آخر من يخون و .. وشهق مصعوقاً ، إذ تلقى طعنة قرش بدلاً من سندباد ، وقال بصوت متحشرج : آه .. قتلتني . وصاح عنبر : اقبضوا عليه . وقبض بحارة عنبر على قرش ، وشدوا وثاقه . وتهاوى همام على الأرض ، مضرجاً بدمائه . وأسرعت ياسمين إليه ، وارتمت عليه تصيح : أبي .. أبي . ورفعها سندباد ، مبعداً إياها عن أبيها . وأسرع هندباد وأخذها جانباً ، وقال : تعالي هنا ، يا ياسمين . وانحنى سندباد على همام ، وسحب الخنجر من صدره ، وألقاه بعيداً ، ثم قال : سآخذك معي إلى البصرة ، يا همام ، وأعالجك حتى تشفى . وتطلع همام إليه بعينين ذابلتين ، وقال بصوت متحشرج : سندباد . ولاذ سندباد بالصمت لحظة ، ثم قال : نعم . وأستطرد همام بصوته المتحشرج : لدي كنز .. لا أستطيع .. أن أعهد به .. إلى أي إنسان .. في العالم .. غيرك . فقال سندباد : ابنتك .. ياسمين . وهزّ همام رأسه ، فتابع سندباد قائلاً : ياسمين .. ابنة أخي. وبدا الارتياح على همام ، وقال : آه .. الآن أستطيع .. أن أرحل .. مرتاح البال . وانطفأت عيناه ، ومال رأسه ، حتى استقر فوق صدره . ونهض سندباد ، وقال بصوت دامع : رحل همام . وارتمت ياسمين ثانية فوق أبيها ، وانخرطت في البكاء . وأستل عنبر سيفه غاضباً ، وقال : الموت للقاتل . وأعترضه سندباد قائلاً : لا ، يا عنبر ، هناك عقاب أكثر عدلاً . وتساءل عنبر وسيفه في يده : ماذا تعني ؟ فرد سندباد قائلاً : هذه جزيرة معزولة ، لا يزورها أحد ، فليبق قرش هنا مع همام .. حتى النهاية .
" 20 "
مالت الشمس للغروب ، فنهضت ريحانة من مكانها المعهود ، فوق المرتفع المطل على شط العرب ، ووقفت عائدة إلى البيت . وقبل أن تعد عشاءها ، قدمت العشاء للديك . والتمعت في عينيها ابتسامة حزينة ، حين تذكرت أباها سندباد ، يفز فجراً على صياح الديك ، ويقول منزعجاً : لن أنام مرتاحاً، إذا لم أذبح هذا الديك . وجلست في الغرفة ، تتناول عشاءها ، دامعة العينين . ولم تكد تأكل بضعت لقيمات ، حتى كفت عن تناول الطعام ، ورفعت الصينية ، وعادت بها إلى المطبخ . وحين خرجت من المطبخ ، سمعت الديك يصيح ، فتوقفت لحظة في الفناء ، وقالت في نفسها : حقاً إنه ديك مجنون . ودخلت الغرفة ، وجلست في فراشها وحيدة ، وسرعان ما أخذتها أفكارها بعيداً . وتراءى لها سندباد .. وهندباد ، فغرقت عيناها بالدموع ، وكادت تنشج ككل يوم ، فنهضت وشربت قليلاً من الماء ، ثم أوت إلى فراشها . وأغمضت عينيها ، لعلها تنام قليلاً ، وترتاح . وككل مرة ، هبت أسئلة مضببة من أعماقها ، حاصرتها بدواماتها ، وطردت عنها النوم . ترى أين ذهبا ؟ أين اختفيا ؟ هل انشقت الأرض وابتلعتهما ؟ أم أن مياه شط العرب قد .. ، وطرق الباب .. فتنحت الأسئلة المضببة جانباً .. أهي تحلم ، وإلا فمن يطرق بابها في مثل هذا الوقت ؟ وطرق الباب ثانية ، فهبت من فراشها ، وفتحت الباب ، وإذا هي وجهاً لوجه مع سندباد.. وهندباد .. وفتاة في عمر هندباد . وفتحت فمها على سعته ، وقد جحظت عيناها ، دون أن تتفوه بكلمة . فابتسم لها سندباد ، وخاطبها كمن يوقظها من النوم قائلاً : ريحانة . واستيقظت ريحانة ، وانفجرت تتساءل بصوت دامع : أبي ! أين كنت ؟ فرد سندباد مازحاً : وأين عساي أكون ؟ لقد قلت لك ، سأذهب وآتيك بهندباد .. واندفع هندباد إلى أمه ، فاحتضنته بقوة ، وراحت تقبله ، فتابع سندباد قائلاً : وها أنا قد أتيتك به ، ومعه .. ياسمين. وتطلعت ريحانة ، من خلال دموعها ، إلى ياسمين ، وتساءلت : ياسمين ! فرد سندباد قائلاً : طالما تمنيت أن يكون لك بنت .. وصمت لحظة ، ثم قال : الحديث يطول ، لندع هذا الآن ، إنني جائع . وهنا رجّ الديك البيت بصوته المرتفع : كو كو .. ريكو . فقالت ريحانة مبتسمة : سأذبح لك هذا الديك .. وتساءل سندباد : أهذا اللعين ما زال حياً حتى الآن ؟ وتنحت ريحانة قليلاً ، وقالت ضاحكة : تفضلوا ، أدخلوا. ودخل سندباد وهندباد وياسمين ضاحكين ، وأحكمت ريحانة إغلاق الباب . في اليوم التالي لم يصح الديك ، بل إنه لن يصيح ثانية ، وكيف يمكن أن يصيح ، وقد انتهى عند نهاية .. رحلة السندباد البحري الثامنة ؟
15/ 8 / 2000
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان المعجزة
...
-
رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال
...
-
رواية للفتيان صخرة آي طلال حسن
-
مسرحية للفتيان اورنينا
...
-
رواية للفتيان الغزالة
...
-
رواية للفتيان السندباد البحري طلال
...
-
رواية للفتيان دروفا ـ نارانا
...
-
رواية للفتيان سامو وسومو
...
-
رواية للفتيان النمر
...
-
رواية للفتيان البديل طلال حسن
-
رواية للفتيان الزواج المقدس
...
-
رواية للفتيان رجل النار
...
-
شجرة الزيتون
-
رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن
-
رواية للفتيان طيف الاهوار
-
اللبوة الجريحة
-
رواية للأطفال حي ابن الإنسان
...
-
رواية للفتيان جزيرة القمر
...
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة طلال
...
-
رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل
المزيد.....
-
قمصان بلمسة مغربية تنزيلا لاتفاق بين شركة المانية ووزارة الث
...
-
“ألحقوا اجهزوا” جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 للشعبتين
...
-
الأبعاد التاريخية والتحولات الجيوستراتيجية.. كتاب -القضية ال
...
-
مهرجان كان السينمائي: آراء متباينة حول فيلم كوبولا الجديد وم
...
-
ركلها وأسقطها أرضًا وجرها.. شاهد مغني الراب شون كومز يعتدي ج
...
-
مهرجان كان: الكشف عن قائمة الـ101 الأكثر تأثيرا في صناعة الس
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة 70 مترجمة باللغة العربية بجودة HD
...
-
السحر والإغراء..أجمل الأزياء في مهرجان كان السينمائي
-
موسكو تشهد العرض الأول للنسخة السينمائية من أوبرا -عايدة- لج
...
-
المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|