أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم ازروال - استشراف المستقبل وإشكاليات الحرية في فيلم -انفصال - لأصغر فرهادي















المزيد.....



استشراف المستقبل وإشكاليات الحرية في فيلم -انفصال - لأصغر فرهادي


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 7708 - 2023 / 8 / 19 - 16:13
المحور: الادب والفن
    


استشراف المستقبل وإشكاليات الحرية
في فيلم "انفصال " لأصغر فرهادي

بقلم: ابراهيم ازروال


يعرض المخرج الإيراني أصغر فرهادي في فيلم "انفصال-2011"،مظاهر القصور في استشراف المستقبل وفهم تعقيدات الواقع والظواهر الاجتماعية والإشكاليات الحافة بالحرية في واقع انتقالي سياسيا و ثقافيا وحضاريا ؛ويستوحي في عرض هذه الإشكاليات وإدارة الصراع الدرامي، الكتابة المسرحية والمنظور التوثيقي والسرد البوليسي.

I-سمات الشخصيات :
1-سيمين /ليلى حاتمي:
الحزم والحسم:
تتميز سيمين/ليلى حاتمي بالحزم والحسم والقطعية؛ فهي مقتنعة كليا بالهجرة، وضرورة التحلل من الروابط مهما كانت قوية، لخدمة مصلحة ابنتها. من اللازم في اعتبارها ،اهتبال الفرصة المتاحة ،والهجرة إلى الخارج ،مهما كانت التضحيات والروابط .ولذلك تضغط على نادر/بيمان معادي ،وتطلب الطلاق ،لتدفع به إلى مرافقتها أو تطليقها .إن الهجرة ،هي الوعد الأوحد ،وكل رغبة في تلافيها باسم الواجب (الأبوي أو الأخلاقي )،هي مجرد تطوح عملي.
تستند إلى أولوية المصلحة في تسويغ اقتناعها الكلي بالهجرة، وترفض كل المسوغات الثقافية الداعية إلى مراعاة التراث المخثر (انقطاع الصلة كليا بالأب المصاب بالزهايمر) أو الواقع الغارق في استعصاءات بنيوية وحضارية.
التوافق والترضيات:
وفيما تحسم وتقطع في أمور، وترفض المفاوضة والمداولة وتميل إلى التصعيد (هجر بيت الزوجية)، فإنها تميل إلى التوافق والترضيات في أمور أخرى .فقد أقنعت راضية/سارة بيات وحجت/شهاب حسيني بقبول الفدية /المال،والموافقة على ترضيات ،أملاها الخوف على حياة ترمه/سارينا فرهادي ،وتوقي شر إنسان يائس ومتهور(مطرود من العمل ومديون وحاقد ثقافيا واقتصاديا على المتعلمين-المثقفين).
التمزق العاطفي:
تكشف سيمين/ليلى حاتمي ،عن ارتباطها العاطفي العميق بنادر/بيمان معادي ،وعن رغبتها العميقة في إيجاد مخرج ،يمكنهما من مواصلة المسار وتفادي الانفصال .كما تفصح عن استيائها من صرامته وعدم التفاته إلى لفتاتها وإشاراتها ومغزى مبادراتها(دفع الكفالة مثلا).
الوضوح الفكري والحس العملي :
لا تميل سيمين/ليلى حاتمي ،كثيرا ، إلى الجدال والسجال، خلافا لنادر/بيمان معادي .والحق أنها منشغلة بتدبر العيش وتحسين أساليبه ،وتوسيع مدارات الحرية الفردية ، بدون إظهار أي اهتمام بالبلاغة الفكرية –الإيديولوجية –السياسية .ومن البين ،أنها منشغلة بالمستقبل ،وباستشراف آفاقه ،وتجويد طرق العيش في فضاء ليبرالي يعترف بأهلية وجدارة وحرية الفرد، ولذلك فهي لا تبدي أي اهتمام بمجابهة ومقارعة ومصاولة الآخر.
2-نادر /بيمان معادي :
البرود العاطفي:
لا يظهر نادر/بيمان معادي أية رغبة في التقرب من سيمين /ليلى حاتمي، وفهم رغباتها وغاياتها ومواقفها. يكتفي بالجدال واتهامها بالجبن والعجز عن تحمل المسؤولية والهروب، في لحظات المواجهة .يفتقر نادر/بيمان معادي ، إلى المرونة النفسانية ،والذكاء العاطفي والتعاطف الوجداني ،ويتمسك بسلامة مواقفه وسلوكياته، دون استحضار تعقد ودقة الوضعيات النفسانية والوجدانية(سعي سيمين إلى ضمان مستقبل الأسرة دون التفريط في ارتباطها الوجداني-العاطفي بنادر) .لا يقابل سيمين/ليلى حاتمي،إلا ليجادلها ويبرز خطل آرائها (رفض دفع الفدية / المال تشبثا ببراءته /اعتباره دفع الفدية / المال ابتزازا)،ويبرز صرامته وقدراته الحجاجية العالية .إنه منشغل كليا بإرضاء ترمه /سارينا فارهادي ،وقبول الترضيات الاضطرارية (قبول دفع الفدية/المال بعد تشدده في الرفض )،لإرضائها والحرص على سلامتها وتماسكها النفسانيين.
الانحياز إلى قطاع تراثي مخصوص:
إن نادر/بيمان معادي ،مقتنع -عمقيا- بإمكان ،نقد الواقع ورفضه (سعيه إلى الهجرة قبل عدوله عن مواصلة الإجراءات بدعوى رعاية الأب الخرف )،دون التخلي عن الجذور والأصول (تمسكه برعاية الأب المصاب بالزهايمر، أي بجزء مخصوص من الذاكرة والتراث ).ومن اللافت للنظر،ارتباطه بالجذور،من جهة ،ورفضه الظاهر للفكر والصياغات والممارسات الشعبية من جهة أخرى.فهو نموذج لليبرالي(الرغبة في الهجرة/العمل في مصرف/ تعاطي هوايات كثيرة :الموسيقى وجمع الفراشات المحنطة وكرة قدم الطاولة... إلخ) ،المتشبث برؤية قومية ،والمحتفظ بآليات المثقف الإيديولوجي وأساليبه في الحجاج والسجال والجدال .فلئن انزاح عن مثاليات الفكر السياسي الثوري(الماركسي أو الماركسي-الإسلامي )،فإنه تشبث بالآليات الحجاجية والاستدلالية الثورية القديمة.
الحسم والجزم:
يتميز نادر/بيمان معادي ،بالصرامة والدوغمائية والجزم(رفض دفع الفدية /المال/ رفض حجج ومبررات سيمين/ليلى حاتمي /رفض ابتزاز حجت/شهاب حسيني وإغفال تهديداته /اتهام سيمين/ليلى حاتمي بالجبن وإدمان الهروب والرغبة في الهروب الكبير :الهجرة /رفض آراء الأستاذة عن أصول بعض الكلمات الفارسية.)
وبينما تتردد سيمين / ليلى حاتمي وتسعى إلى تقديم الفدية / المال لاتقاء شر/حجت/ شهاب حسيني ،فإن نادر/ بيمان معادي ،يرفض تقديم الفدية/المال ،اقتناعا منه ببراءته وعدم مسؤوليته عن إجهاض راضية/سارة بيات .فهو يرفض الترضيات والتوافقات والتسويات ويميل إلى الحسم والمجابهة . وقد برهن على بطلان ادعاء راضية/سارة بيات ،في مجلس حضره الدائنون علاوة على الأسرتين.
إن نادر /بيمان معادي نموذج للمثقف المتحرر من طوباوية الخطاب الإيديولوجي، والمرتهن ،رغم ذلك ، بآليات وإواليات وطرائق إيديولوجية موروثة عن الزمان الإيدولوجي –الثوري(الميل إلى الجدال والمجابهة والجزم بدون مراعاة التعقيد والتركيب الحافين بالظواهر والمواقف والسلوكيات في سياق ثقافي-حضاري انتقالي. ).

II-شخصية راضية و تطور الأحداث الدرامية :
1-مرتكزات شخصية راضية:
إن شخصية وثقافة و وضعية راضية هي المحركات الحقيقة للأحداث الدرامية في الفيلم؛ فما كان المسار الدرامي، ليسلك منعرجات درامية غير متوقعة (التحقيقات المتواصلة /الشكوى والشكوى المضادة/والتهديدات والمجابهات مع حجت / شهاب حسيني الساعي إلى الإنصاف والعدل أولا وإلى الحصول على الفدية / المال ثانيا)،لو لم تتدبر الوقائع و تقرأ تبعات الأفعال والمبادرات استنادا إلى إبدال ثقافي مخصوص.
-شخصية راضية:
إن راضية /سارة بيات خاضعة كليا لحجت /شهاب حسيني ،خلافا لسيمين /ليلى حاتمي المتحررة من سطوة النظام الأبوي .وحيث إنها مفتقرة إلى الاستقلالية وعاجزة عن المواجهة واستشراف تبعات الفعل ،فإنها تركن إلى التحيل بدافع نبيل :الكذب (ادعاء الإصابة بالدوار على الدرج /إخفاء العمل في بيت رجل منفصل عن زوجته /إخفاء التعرض لحادثة سير أثناء سعيها لاستنقاذ الشيخ الخرف التائه في الشوارع).
-ثقافة راضية:
تحتكم راضية / سارة بيات إلى معايير ثقافية صارمة، ولذلك تخضع تصرفاتها وسلوكياتها ومواقفها وعلائقها بالآخرين لتلك المعايير (استشارة رجل الدين في حلية تنظيف رجل خرف/استشارة مقربين في حلية تسلم الفدية /المال بطريق مشبوهة /القسم بالشهداء الأبرار/خشية العقاب واللعنة/الخضوع الكلي للزوج/التحفظ من العمل في منزل رجل منفصل عن زوجه.).
-وضعية راضية:
لم تقبل راضية/سارة بيات بالعمل في شروط غير مواتية (صعوبة التنقل بين مكان السكن وبين مكان العمل /الحمل /ضعف الأجر المتفق عليه/كثافة المهام /العناية بالشيخ الخرف وترتيب البيت والعناية بطفلة فضولية وحيوية.)، إلا لمساعدة زوجها المثقل بالديون والمطارد من قبل الدائنين. تعاني راضية /سارة بيات بمعية زوجها، إذن من ويلات الفقر والبؤس والهدر الاجتماعي والإحساس الممض بالغبن والقهر والإقصاء.
2-البعد التركيبي –التراجيدي لشخصية راضية:
إن شخصية راضية/سارة بيات هي الأكثر درامية والأكثر تعقيدا في فيلم "انفصال" .فهي شخصية مركبة تركيبا عاليا وذات سمات تراجيدية؛ و لذلك فهي تجد نفسها في مواقف معقدة ، لا تقدر أن تستنقذ نفسها منها .
يتجلى هذا التركيب في ما يلي :
-التكيف مع وضعيات مشكلة: تحاول راضية، مضطرة، التكيف مع واقع لا ترتضيه -مبدئيا- ولا تتفق مع مواضعاته ،بحكم قناعاتها ومسلماتها وتوجهاتها الأخلاقية الطهرانية.
-مواجهة الإحراجات والإكراهات :فهي تقبل العمل في منزل رجل منفصل عن زوجته و العناية بأبيه المصاب بالزهايمر ،والقيام بتنظيفه بعد تبوله في ملابسه ،دون أن تخبر زوجها ،الغارق في البطالة والتهميش وملاحقات الدائنين والحقد والتطوح النفساني .كما تضطر إلى ربط الشيخ الخرف ،ريثما تزور طبيبة نساء ،لتطرد من العمل بعد وقوف نادر/بيمان معادي على إهمالها بعد أن أشرف أبوه على الموت.تجد نفسها في وضعيات محرجة ومعضلة (العناية بشيخ خرف يعيش مرحلة التدهور الإدراكي الشديد/البحث عن سند شرعي لتنظيف شيخ خرف/تحميل نادر/بيمان معادي مسؤولية إجهاضها وموت الجنين / التماسها عدم دفع الفدية/المال أيا كان رد فعل زوجها /رفضها قبول الفدية/المال والقسم على القرآن خوفا من العقاب واللعنة ).تكتم أفعالها عن الزوج المعطل والمهتاج نفسانيا ثم تضطر إلى إخباره بما حدث بعد أن تكتشف استحالة توجيه الأحداث لمصلحتها الخاصة (اضطرارها إلى التصريح بتعرضها لحادثة سير أثناء سعيها إلى إنقاذ الشيخ الخرف التائه في الطرق).ففيما تدفعها الإكراهات إلى المرونة (قبول العمل في بيت رجل منفصل عن زوجته/قبولها العناية بشيخ خرف/قبولها تنظيف رجل ليس من محارمها/قبولها الحصول على الفدية/ المال استنقاذا للزوج من ضغوط الدائنين المتطلبين)،فإنها تضطر إلى التراجع ،حين تستحضر المسلمات والبديهيات والمآلات البعدية المتوقعة(الخوف من العقاب ومن اللعنة).
-الرغبة في الاستنقاذ وخشية اللعنة :تحاول التغلب على سلطة وهياج ويأس الزوج بكتمان الأفعال ،إلا أنها تضطر بعد احتداد المشاكل (الإجهاض واتهام نادر بالتسبب في مقتل الجنين و تعقد مسار التحقيق بعد نفي نادر/بيمان معادي معرفته بحملها وقبولها التوافق والترضية أي تقديم الفدية / المال في البداية )،إلا أنها تضطر إلى الكشف عن المخفي (إخفاؤها خبر تعرضها لحادثة سير)، فيزداد حنق وغيظ الزوج المقهور .فهي ترنو إلى إنقاذ زوجها من ورطته المالية ،إلا أنها لا تقوى أيا كانت الإغراءات ،على مخالفة المقررات والموجهات الشرعية ،خوفا من العقاب واللعنة.

- III احتداد التناقضات وتأجج الصراع الدرامي:
من سمات شخصيات الفيلم العجز عن التواصل والتحاور والتبادل والتفاوض. ثمة فجوة نفسانية وذهنية وفكرية كبيرة تمنع بعض شخصيات الفيلم من الإنصات العميق إلى الآخر وفهم مخاوفه ومطالبه ودوافعه العميقة، والبحث بمعيته عن خيارات توافقية أو ترضيات أو تسويات مؤقتة أو دائمة. إن سيمين / ليلى حاتمي ونادر / بيمان معادي عاجزان ،عن التداول العقلاني و التبادل الخصب ،رغم حرصهما على مستقبل ترمه/سارينا فارهادي. فكلاهما ،مستغرق في ذاته ،ومتمسك بتصوراته عن طرق تدبير المصير(المهادنة والتكيف والارتباط بصورة مؤمثلة بالجذور من جهة ،والانحياز الكلي إلى حداثة نفعية، أي تبني خيار الهجرة والتمتع بالحقوق الكونية من جهة أخرى).
وثمة فجوة اجتماعية وثقافية وطبقية ،تحول دون تواصل إنساني ،بين نادر/بيمان معادي من جهة وراضية/سارة بيات وحجت/شهاب حسيني من جهة أخرى .يستفحل الخلاف (إتهام نادر/بيمان معادي راضية /سارة بيات بالتهاون وتعريض أبيه للموت وبالسرقة/دفاع راضية /سارة بيات عن براءتها من السرقة /اضطرار نادر إلى إخراجها من المنزل بعد إلحاحها على الحصول على أجرتها /إجهاض راضية/ إتهام نادر بإجهاض راضية وقتل جنين في أسبوعه التاسع عشر /انبراء الزوج للدفاع عن زوجته والحصول على الفدية /المال) و تنعدم شروط التواصل .ففيما يظهر نادر/بيمان معادي حذرا وصرامة كبيرين في التعامل مع الفئات الشعبية (إرغام ترمه/سارينا فرهادي على استرداد البقشيش غير المستحق /إتهام راضية بالتهاون وطردها من العمل دون الالتفات إلى دواعي مغادرتها المنزل/ رفضه التسوية وتقديم الفدية/المال في البداية )،تصر راضية على براءتها من السرقة ،وتنحو إلى اتهامه بإجهاضها ،دون أن تتأكد كليا من مسؤوليته عن ذلك.
يستفحل الخلاف، إذن، بسبب ما يلي:
-تمحور نادر حول ذاته وقناعاته وتصوره للآخرين؛
-عجزه عن التعاطف أو التقمص العاطفي (يكتفي بالحجاج في وضعيات تستدعي التفهم والتجاوب الوجداني)؛
-عجزه عن تفهم وضعية امرأة بائسة (اضطرارها إلى قبول العمل في شروط تتنافى مع قناعاتها الدينية /تحملها مشاق العمل رغم حملها /قبولها أجرا زهيدا)؛
-تكتم راضية عن دواعي مغادرتها المنزل وربط الأب الخرف ؛
-تركيزها على نفي تهمة السرقة دون توضيح حيثيات وبواعث غيابها عن مكان العمل.
كما يستفحل السجال والجدال والعراك اللفظي بين نادر/بيمان معادي وحجت/شهاب حسيني ،لارتهان كل منهما بوضع نفساني –ثقافي مخصوص ،من سماته ما يلي :
-الحذر من الآخر واتساع الهوة الثقافية بين الفئات الاجتماعية المختلفة؛
-الصدور عن مسلمات ومعايير أخلاقية دون امتلاك القدرة على تنسيبها ؛
-التشبث برؤية أحادية للعالم، ومحاكمة الآخر في ضوئها دون التحقق من خلفياته الفكرية والأخلاقية؛ لم يكتف حجت /شهاب حسيني، بالمحاكمة القانونية، بل يشكك في أخلاقية نادر/بيمان معادي، وصدقية انتسابه الفكري إلى الفكرية المشتركة؛
-غياب قنوات أو وسائط التواصل.
وحين تغيب قنوات التحاور والتداول والتفاوض، تهيمن المناكفات والمجادلات والمبارزات والسجالات العقيمة، ويزداد كل طرف تشبثا بنظرته إلى الأشياء مهما كانت جزئية أو مشوشة أو نسبية.
والواقع أن كل طرف محكوم بوضع نفساني-ثقافي مخصوص، من سماته الدالة ما يلي:
حالة نادر/بيمان معادي :
-صعوبات في التدبير:
تدبير البيت :وجد صعوبات في تدبير البيت بعد غياب سيمين/ليلى حاتمي (البحث عن مكان وضع الشاي /التساؤل عن نظام تشغيل الغسالة...)؛
تدبير العلاقة بترمه/سارينا فارهادي :لا تكتفي ترمه بالملاحظة والتأمل فقط بل تبدي استغرابها من المفارقة ،وتتساءل عن معنى السلوكيات(التورية والكذب والتضليل).
تدبير العلاقة بسيمين/ليلى حاتمي :تزداد علاقته بسيمين توترا وتباعدا ،خاصة بعد إصرارها على تقديم الفدية /المال ،اتقاء لشر حجت /شهاب حسني المهتاج.
تدبير علاقته بالقضاء: فقد اتهم بالقتل غير العمد، واضطر إلى نفي علمه بحمل راضية أمام المحقق. كما اضطر إلى تدبير المستجدات بعد تراجع الأستاذة /ماريلا زارعي عن شهادتها، واستدعاء ترمه للشهادة أمام المحقق.
حالة راضية/سارة بيات:
إخفاء الوقائع: لم تخبر راضية/سارة بيات حجت/شهاب حسيني بعملها في بيت رجل منفصل عن زوجته .كما لم تخبره بتعرضها لحادثة سير.
مسايرة رغبات الزوج: تساير راضية رغبات حجت ،المصر على مقاضاة نادر ،دون أن تخبره بالمخفي والمسكوت عنه .يزداد حجت إصرارا وعنفا وضراوة ،ورغبة في نيل الفدية، دون أن تقدر راضية على امتصاص غضبه ،وإخباره بما غاب عن إدراكه.
الرغبة في استنقاذ الزوج: تقبل راضية/سارة بيات بقبول الفدية /المال،في البداية ،لاستنقاذ الزوج/شهاب حسيني من ضغوط وتهديدات الدانئين .إلا أنها تفاجأ ،باشتراط نادر القسم على القرآن ،للحصول على الشيكات الثلاثة . ولما كانت خائفة من اللعنة ،فإنها تخبر حجت ،وهو في حالة ذهول وانصعاق ،بالحقيقة المخفية.
حالة حجت /شهاب حسيني :
التصلب والدوغمائية :إن حجت /شهاب حسيني ،مقتنع كليا بصحة موقفه ،ولا يبدي أدنى استعداد لفحص آرائه وتفهم وجهة نظر نادر/بيمان معادي.فهو لا يعتبره خصما قانونيا فقط ،بل يعتبره كذلك خصما طبقيا وثقافيا .ومن اللافت للنظر جمعه بين التعالي الثقافي (تعلقه الكبير بالمثل القيمية التقليدية )،والإحساس الكبير بالدونية الثقافية(إشارته إلى افتقاره إلى الهدوء والقدرة على التدليل الهادئ والمتزن).
-الوضعية الاجتماعية البائسة: يطغى التوتر والغضب والغيض والحنق والعنف على حجت/شهاب حسيني ،بسبب وضعيته الاجتماعية المتردية .فقد صار عرضة لمطارة وتهديدات الدائنين ،بعد طرده من العمل وحرمانه من حقوقه.
الاعتماد على رواية راضية :انبرى لمقاضاة نادر/بيمان معادي اعتمادا على رواية راضية لواقعة إخراجها من المنزل. ولذلك اعتبر نادر مسؤولا عن إجهاضها وموت الجنين ،وازداد حنقه بعد إطلاق سراح نادر بكفالة .ولم يكتف بالتعريض بأخلاق نادر ،والتشكيك في نزاهة الشهود ،وجدوى الإجراءات القانونية ،بل انبرى لتهديد الأستاذة في مقر عملها. فهو يزداد جموحا لاقتناعه الكلي ،بسلامة موقفه وسلوكه واستعداده لكل الاحتمالات مهما كانت سيئة.

IV-الكتابة المسرحية والتوثيق والسرد البوليسي في فيلم «انفصال":
سعى المخرج الإيراني أصغر فرهادي إلى المزج بين الكتابة المسرحية والرؤية التوثيقية والسرد البوليسي ، وتحقيق التلاؤم والتناغم بين هذه المكونات الثلاثة في فيلم "انفصال".
1-استيحاء المسرح:
-البناء الدرامي:
يستوحي أصغر فرهادي الكتابة المسرحية في كتابة السيناريو.
ومن مظاهر التأثر بالكتابة المسرحية، في الفيلم، اعتماد مشاهد مستقلة، لكل مشهد زمان وديكور وموضوع مخصوص. فقد التزمت المتتالية الأولى، الخاصة بالزوجين وهما يواجهان القاضي، حسب أصغر فرهادي، بالوحدات الثلاث: وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع/الفعل.
ولذلك تتميز الكتابة السينمائية في هذا الفيلم، بالرهافة والكثافة والفعالية.
-الحوارات:
تذكرنا الحوارات المحتدمة والمتأججة سجالا وعنفا في فيلم "انفصال "، بالتراجيديات المسرحية الكبرى. ينخرط نادر/بيمان معادي وحجت/شهاب حسيني في حوارات محتدمة في المحكمة وعلى الدرج ،منسوجة من قماشة الحقائق و أنصاف الحقائق والأوهام الصريحة ،ومحكومة بمقاصد خيرة في الغالب . ينافح نادر/بيمان معادي عن براءته وشرفه، فيما يدافع حجت/شهاب حسيني عن ضرورة إنفاذ القانون ومعاقبة الجاني.
الحوار التراجيدي:
وفيما يحاور نادر/بيمان معادي راضية/سارة بيات وحجت / شهاب حسيني ويساجلهما ،فهو يحاور نفسه ويستشكل وضعه ،معرفيا وأخلاقيا ،مثل الأبطال التراجيديين. فليس واثقا كليا من براءته ،ولا يرضيه ،أن تشتبه ترمه/سارينا فرهادي في صدقه وصدقيته وسويته الأخلاقية .والحقيقة ،أنه يواجه ثلاث تهم :
-تهمة قانونية: يتهمه الزوج بالتسبب في إجهاض راضية وارتكاب جريمة قتل، تؤدي إلى السجن (ثلاث سنوات سجنا).
-تهمة أخلاقية :تتهمه ترمه/سارينا فرهادي ،ضمنيا ، بمخالفة مقتضى الأخلاق والكذب أمام المحقق.
-تهمة معرفية :فهو متشكك ومتردد رغم صرامته ودوغمائيته ،إلا أنه لا يتوخى الإنصاف والاعتراف بالقصور بحكم ارتهانه الكلي بالكبرياء(طلبه سحب الكفالة من سيمين /ليلى حاتمي حتى لا يكون مدينا لها بشيء) والتعالي على الأغيار(اعتزازه بقدرته على المواجهة وتحمل المسؤولية/إخفاء جهله بجزئيات التدبير المنزلي/الاعتداد بمعارفه اللغوية.).
الفعل التراجيدي:
لا تتحكم راضية/سارة بيات في نتائج جزمها بمسؤولية نادر/بيمان معادي عن إجهاضها .لقد راهنت على العدالة أولا والتوافق ثانيا ،إلا أنها اكتشفت أن العدالة من جهة والترضيات والتوافقات من جهة ،لا تحمي الذات من التطوح في المهاوي .فقد اصطدمت ،قبل انفراج الأوضاع ونيل الفدية /المال،بذاتها وقناعاتها الخاصة .لا يقود الخطأ التراجيدي (إخفاء الحقيقة )،هنا ،إلا إلى الانسداد و اتساع الشروخ واستعصاء البدائل .ومهما عانت الشخصيات من تبعات أخطائها التراجيدية ،فإنها لا تقع في السقوط التراجيدي الكلي.
-التباعد والتأكيد على ذكاء المشاهد:
يوضع المشاهد دوما في مقام الرصد والتأمل والتحقق والمراجعة وإعادة الفحص.
يقدم الزوجان في اللقطة الثابتة الأولى، حججهما أمام الكاميرا، ويبرران مسوغات مواقفهما المتعارضة، بتكافؤ وتساو؛إن المشاهد مطالب ،هنا ،بتدبر وفهم وتأويل ما قدم أمامه ،ووضع فرضيات تأويلية قابلة للدعم أو التعديل أو التبديل ، تبعا للنقلات والتحولات الدرامية.
2-الرؤية التوثيقية:
نتعرف -بتلاحق المشاهد والمتواليات السردية-على شخصية راضية /سارة بيات،وعلى مرتكزاتها وموجهاتها الثقافية .تكتفي هذه الشخصية بالتحرك في هامش يضيق تدريجيا ،كلما ساءت الأحوال (البطالة والحرمان من الحقوق وغياب التأهيل والتمهير واتساع الفروق بين الفقراء والأغنياء)وضاقت مساحات العدالة .كما أنها تبحث عن مخارج مقبولة من معضلاتها الاقتصادية والاجتماعية ،دون أدنى تحديث لمنظورها الثقافي .إن راضية محكومة ،نظريا بثلاثة إبدالات :
-إبدال الأبوية (اتضاعها وخشيتها من زوجها وائتمارها بأوامره مهما كانت مجانية للصواب)؛
-إبدال التقليد :(حرصها على الالتزام بمقتضيات ومعايير التقليد (النظرات/الهندام/التحفظ والتحرز من الآخر/استشارة العالمين بخبايا التراث الديني-الثقافي)؛
-إبدال الأخلاق المعيارية:(لا تقدم على الفعل إلا متى كان مطابقا للمعايير الأخلاقية المتوافق عليها في نسقها الاجتماعي –الثقافي الخاص.).
إلا أنها تصدر في الممارسة عن ثلاثة موجهات/معايير:
معيار الاستنقاذ: ويقتضي استنقاذ الذات من معضلات الفقر والبطالة و الفاقة ؛وبناء على هذا المعيار ،أخفت الكثير من الحقائق على زوجها .يفرض المقصد هنا ،شروطا لا تتوافق مبدئيا مع المقررات النظرية .وهذا التخالف ،هو مصدر ثر للتوتر والكثافة الدراميين.
معيار التكيف: حاولت أن تتكيف مع المستجدات بدافع الخوف والمسايرة، والانخراط في مسار التحقيق دون الجهر بالمخفي.ولذلك تقدم ما يخدم تظلمها/مظلوميتها ،وتخفي ما يبرز براءة المعتدي/الجاني المفترض /نادر.يقود التكيف هنا ، ومسايرة إيقاع الأحداث ،إلى التورية والكذب والتضليل .
معيار التوافق: لقد قبلت أخذ الفدية/المال، إلا أنها تراجعت عن ذلك بعد اقتناعها بعدم حلية تسلم مال مشبوه وإصرار نادر على قسمها على القرآن.
ثمة توتر حاد يغمر الشخصية نتيجة التناقض الحاد بين المقررات والموجهات النظرية وبين السلوكيات المحكومة -إجمالا- بالغايات الظرفية. و حيث إن الشخصية ملزمة بالتكيف لحماية الذات ،فإنها تخالف المنظومة الأخلاقية المعيارية الصارمة ؛فينشأ عن تلك المخالفة إحساس درامي بالاهتزاز والتوتر والخوف والهلع الوجودي(الذنب والخوف من اللعنة).
إننا لا نتعرف هنا ،على شخصية ذات سمات وقسمات تراجيدية فقط ،بل كذلك على رصد ونظرة توثيقيين ،لنمط من الوعي والسلوك و التعامل مع إشكاليات المجتمع الحديث.
يتجلى المنحى التوثيقي كذلك في اختيار الممثلين ولا سيما الجد المصاب بالخرف/الزهايمر. فقد اختار أصغر فرهادي ممثلا هاويا ،علي أصغر شهبازي ،لتوثيق ارتباط المشاهد بالدور والاقتناع بصدقية الأداء.
السرد البوليسي:
تتسارع الأحداث، وتتوالى المفاجآت، وتحتد الشخصيات دفاعا عن صدق وبراءة ونزاهة الذات، وتشكيكا في نوايا وترتيبات ومبادرات الآخر. يؤول الانشغال بالطلاق إلى الظل، لتحتل مسؤولية نادر/بيمان معادي عن إجهاض راضية/سارة بيات بؤرة الأحداث. ينشغل القضاء بالتحقيق وتفاصيل المجابهة بين الطرفين المتخاصمين والاستماع إلى الشهادات، للفصل في قضية بسيطة ومعقدة في ذات الآن.
تغيم الرؤية تبعا لتقدم التحقيق، وتتالي المستجدات؛ فلا يملك المشاهد إلا الترجح والتنقل الدائم بين التحقق تارة والتحير تارة أخرى. وتسهم النقلات المفاجئة وكل مظاهر الحذف والتشويق في تعميق الحيرة، وفي الدفع بالمشاهد إلى مراجعة فرضياته التأويلية.
علاوة على الحذف (حذف واقعة الحادثة) والمخفي والمسكوت عنه، ينطوي المنطوق به والمعلن، على قدرة كبرى على التورية والتمويه والتتوية.
تنثال التفسيرات على المشاهد، وهو يتدبر الحذف والإخفاء والتورية، ويهفو إلى حقيقة متماسكة، تنقذه من الترجح بين:
-إنكار نادر/بيمان معادي معرفته بحمل راضية/سارة بيات؛وقد دعمت شهادة الأستاذة /مريلا زارعي أقواله ؛
-إجراء المعاينة :معاينة مكان الحادثة والاستماع إلى الجيران ؛
-التشكيك في صدق نادر/بيمان معادي :بعد تراجع الأستاذة عن شهادتها بعد اصطدامها بحجت/شهاب حسيني اللجوج والعنيف واستماع المحقق إلى شهادة ترمه/سارينا فرهادي ؛
-إقرار راضية/سارة بيات بتعرضها لحادثة سير.
تضيع الحقيقة ،في لجة الأكاذيب والتضليلات والتمويهات و المناكفات والمحاولات المحمومة لاستنقاذ الذات والأقرباء من المخاطر الداهمة ؛ ويصير من الصعب التحقق من صدق الأدلة والحجج المقدمة ،وتبين الطريق اللاحبة وسط متاهات المشاحنات والملاسنات والاتهامات.

- V المثلثات الدرامية في فيلم "انفصال":
1-المثلث العاطفي:
تجد ترمه/سارينا فرهادي نفسها في وضعية نفسانية –وجدانية دقيقة: هي المفاضلة الاضطرارية بين أبيها وبين أمها .وترفض مرافقة أمها ،إلى بيت جدتها ،بعد امتناع القاضي عن إقرار الطلاق بين الأبوين لإجبار أمها عن العدول عن رغبتها في الطلاق. يحاول الزوجان ،شعوريا أو لا شعوريا، استمالة ترميه/سارينا فرهادي التائهة بين أب متفهم وحنون وعطوف(يساعدها في مراجعة دروسها ويشركها في اللعب ويحرص على إرضائها وإقناعها بسلامة سلوكه وقراراته أمام المحقق)و بين أم حنون ورحوم حريصة على سلامة ابنتها(قبول أداء الفدية/المال خشية الإساءة إلى ترمه/سارينا فرهادي ).تحس بالتيه بين شخصين حاسمين في قراراتهما وآرائهما ورغباتهما ،ولا يقبلان التوافق أو التسوية ،مراعاة لمصلحتها .كما يساورها القلق جراء سلوكيات الأب ( إنكار معرفته بحمل راضية أمام المحقق )الملتبسة والمخالفة –ظاهريا-لبديهيات ومعايير الأخلاق .وعلاوة على التمزق النفساني ،الناتج عن صعوبة تبين النهج الواضح وسط لجة الانفعالات السلبية و اليقينيات الذاتية المغلقة ،تعاني ترمه /سارينا فرهادي، من خلخلة ذهنية ،ناتجة عن اكتشافها نسبية الحقائق والأخلاق ، وقدرة الناس على التكيف مع الوضعيات المستعصية. لقد اكتشفت ترمه /سارينا فرهادي ،لا نسبية القيم فقط ،بل نسبية العواطف، وسلطة الأنانيات.

2-المثلث الاجتماعي –السياسي:
يجد نادر/بيمان معادي نفسه في كل أطوار الفيلم، في محاورة أو مساجلة مع القاضي والمحقق من جهة وحجت/شهاب حسيني، الميال إلى التصعيد والمناكفة والمنازعة من جهة أخرى.
وفيما يبحث عن حل لخلافه مع زوجته المصرة على الهجرة ، أيا كانت الإكراهات ،يجد نادر/بيمان معادي نفسه في وضعيات عصيبة غير متوقعة (الاتهام بإجهاض راضية/سارة بيات وقتل الجنين /التهديد بالسجن/إطلاق سراحه بكفالة قدمتها زوجته /الملاسنات والاشتباكات الدائمة مع حجت/شهاب حسيني العنيف واللجوج).ولئن أعد عدته لمواجهة المحقق/بابك كريمي (التأكيد على الواجب /إخفاء القناعات الفكرية والسياسية)،فإنه فوجئ بمواجهة غير متوقعة :مواجهة حجت /شهاب حسيني الغارق في الهدر الاجتماعي والقهر والحنق والعنف الرمزي والمادي .ولئن تمكن من إدارة علاقته بالقاضي والمحقق/بابك كريمي (حالة الطلاق/وحالة الاتهام بإجهاض راضية / سارة بيات )بطريقة عقلانية،فإنه اضطر إلى بذل جهد كبير ، في مساجلة ومواجهة ومصاولة ،إنسان كادح فقد القدرة على العيش بكرامة ،وازداد حنقا ،بعد طرده من العمل وحرمانه من حقوقه وخضوعه المستمر لملاحقات الدائنين .يجد نادر/بيمان معادي صعوبات جمة ،في محاورة حجت/شهاب حسيني ،الرافض مبدئيا والعاجز عمليا عن المحاورة العقلانية ،بدافع وضعه المعرفي والاجتماعي ،أي بسبب:
-نظرته الناقمة على الوضع الاجتماعي –السياسي بعامة ،وحقده الطبقي على الطبقة الوسطى بخاصة ؛
- تمسكه باختلافه الثقافي-الفكري عن الأغيار.
يجهد نادر/بيمان معادي نفسه ،للخروج من معضلات المحاكمة و تبديد الشكوك المحيطة به خاصة بعد تراجع أستاذة ترمه/مريلا زارعي عن شهادتها ،والتعامل بحصافة مع المحقق النبيه/بابك كريمي ،إلا أنه يصطدم بخصم ثقافي-طبقي ،يعلن جهرا ،يأسه من الوضع الاجتماعي واستعداده للانتقام ،وتمايزه الثقافي –الفكري (ملامسة الاختلاف في موضوع الإيمان والشرف وطرق إدارة الحوار وآليات الإقناع )عن ثقافة ويقينيات نادر/بيمان معادي .
وبينما يلتزم القاضي، بمراعاة القواعد القانونية وسلامة الإجراءات، ويتعامل مع المتقاضين من منظور براني يتعالى عن انشغالاتهم العميقة (التقليل من أهمية مطالب الطبقة الوسطى/استهانته برغبة سيمين/ليلى حاتمي في الطلاق )،فإن حجت/شهاب حسيني يرفض كل المعايير فيما عدا المعايير الأخلاقية ،ويشكك في ثوابت نادر الفكرية ومسلماته الثقافية صراحة .فهو لا يراعي مقتضيات المجاملة والكياسة ،ولا يهفو إلى الترضية والموافقة ،بل يميل إلى المناكفة والتصعيد والصدام والعنف.
وعلى حين يمكن إجراء حوار عقلاني ومتزن مع القاضي، رغم اختلاف المنطلقات والتوجهات، يصعب تدبير الحوار مع حجت/شهاب حسيني،الحريص في غمرة تطوحه النفساني-الاجتماعي ،على المواجهة الثقافية (التعريض بأخلاقيات الطبقة الوسطى)،علاوة على الحقد الطبقي والنقمة على نادر/بيمان معادي.
وبدلا من الانشغال بالقضية الجوهرية ،أي الحرص على هناءة ومستقبل ترمه/سارينا فرهادي ،يجد نادر نفسه غارقا في متاهات المساجلة والمناكفة والمبارزة مع حجت الباحث عن طوق نجاة (الحصول على الفدية /المال مهما كانت الشبهات الحافة بها)من ضغوط الدائنين.

- VI رهافة التشخيص وقوة الأداء :
- تعبيرية الصورة واستقراء الممكنات الدلالية:
إن المشاهد مطالب لا بمتابعة السرد والحبكة الدرامية فقط، بل بتتبع وتأمل التفاصيل المرصودة، والنظرات المتأملة والمستغربة، وتعابير الجسد الدالة، وتقاسيم الوجوه ووضعيات الجسد المعبرة. يزدان الفيلم، بصور موحية، تحفز على استقراء الممكنات الدلالية للقطات والعلامات البصرية المتوالية (ركوب المصعد وهو في وضعية نزول/نظرات سمية /كيميا حسيني المعبرة/لعب كرة قدم الطاولة ..إلخ).
لا تكتفي سمية/كيميا حسيني، بمصاحبة أمهما، أينما اتجهت (مكان العمل/المحكمة /موقف الحافلات / الحافلة/المنزل العائلي)، بل ترصد التصرفات والسلوكيات والانفعالات (انهماك نادر/بيمان معادي في حلق ذقن أبيه/قيام أمها بتنظيف الشيخ الخرف/دفع أمها خارج المنزل وسقوطها على الدرج /ابتسام المعتقل المسلسل الأيدي والأرجل/نظراتها بعد تعذر إتمام الاتفاق وتسلم الفدية/المال )وتراقب بكثير من الدهشة والاستغراب والتأمل ،كثيرا من المستغربات(قنينة الأوكسيجين /لوحة الفراشات المحنطة/الأب/علي أصغر شهبازي الذاهل عن الحال والمآل).
ترصد سمية /كيميا حسيني، المفارقات والمآسي والفواجع بعين متأملة ومستفهمة.
وتفصح نظراتها، عن إدراك قوي ولماح للمفارقة والفرادة والغرابة.
أدت سارينا فرهادي دورا رهيفا مشبعا بشحنات عاطفية عالية .كيف تفتتح طفلة ،مسارها الحياتي ،بالمفاضلة بين أب ترتبط به عاطفيا ،و بين أم تبدي رغم كل الصعاب ارتباطا كبيرا وحدبا عاطفيا تجاه ابنتها ؟كيف يمكن لطفلة ،تشبعت بقيم ومعايير أخلاقية عالية ،أن تقبل كذب وتحيل وتحايل الأب؟
وبينما تكتفي سمية بالرصد المشفوع بالاستفهام والاستغراب والاستنكار، فإن ترمه/سارينا فرهادي ،تخضع لمسارة صعبة وقاسية ،تكتشف بموجبها نسبية القيم وقدرة الإنسان على التكيف والتلاؤم مع كل الوضعيات وتسويغ كل المواقف العملية مهما نأت عن مرتكزات الأخلاق المعيارية.

- VII استشراف المستقبل وقصور الرؤية الاجتماعية :
يطرح فيلم "انفصال" ،إشكالية استشراف المستقبل وبناء البديل الثقافي-الحضاري في سياق مطبوع بنزعة قانونية مجردة وتدبير سياسي آني من جهة (حرص المحقق على سلامة الإجراءات/عدم تفطن القاضي إلى دواعي الرغبة الملحة في الهجرة )وتخبط الطبقات الشعبية ،ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا ،في نفق مظلم (غياب الأفق الاجتماعي/ الاقتصادي الواعد /غياب آليات التوسيط /ضعف بنيات التضامن /الاستلاب الثقافي/الهدر الاجتماعي والكياني).فثمة فئات اجتماعية ترنو إلى مستقبل مختلف ،دون أن تضحي بالجذور والأصول الثقافية (تشبث نادر/بيمان معادي برعاية أبيه المصاب بالخرف)،وثمة فئات أخرى تهفو إلى ضمان مستقبل الفرد (حرص سيمين /ليلى حاتمي على مستقبل ابنتها ترمه/سارينا فرهادي )،في فضاء ثقافي-حضاري ،متحرر من العوائق والكوابح المانعة من تحرير المبادرة الحضارية والإبداعية. لا يختلف التوجهان في استشكال الواقع ومواضعاته وحقائقه، بل يختلفان في البديل، وكيفية استنقاذ الإنسان من الاستعصاء الثقافي-الحضاري القائم.
يصطدم الزوجان(نادر وسيمين) ،في معرض بحثهما عن البديل الأفضل ،والحسم في أمر الهجرة ،بمشكلات غير متوقعة، ووضعيات غير منتظرة ،كادت تؤدي بنادر إلى السجن(تهمة إجهاض امرأة حامل وقتل جنين).يكتشف الزوجان أن حاضرهم ومستقبلهم مرتبط ، مباشرة أو مداورة ، بواقع أسرة ينخرها الفقر والبؤس والغبن واليأس والحقد الطبقي. يقضي نادر/بيمان معادي ،أيامه ،لا في إقناع سيمين /ليلى حاتمي بالعدول عن حلم الهجرة ،أو إيجاد صيغة توفيقية مرضية للطرفين ، بل في إيجاد مخرج من معضلة غير متوقعة: الاتهام بإجهاض امرأة و تفادي إحراجات المحقق وتساؤلات وملاحظات وتنبيهات الابنة ترمه/سارينا فرهادي والتعامل مع تهديدات زوج عاطل وموتور وحاقد ،اقتصاديا وثقافيا ، على الطبقة الوسطى .
ففيما يتقاسم الزوجان الانشغال بالمستقبل وتوسيع نطاق الحرية الفردية ،فإنهما ينفصلان ،بعد اختلافهما في طرائق النظر إلى الماضي وتدبر العلائق بالفئات الشعبية ،المنشغلة لا بالحرية و تحديث الوعي وتطوير طرق فهم الموروث بل بإقامة العدل و إنفاذ القانون دون التفريط في الفهم التراثي للتراث.
لا نعرف الكثير عن أفكار وآراء نادر/بيمان معادي و سيمين/ليلى حاتمي الحرصين -مهما اشتد السجال مع خصومهما- على التحفظ وتلافي النزال الفكري-الإيديولوجي-السياسي (تكتم ليلى عن دوافع الرغبة في الهجرة أمام القاضي). وهما يتلافيان، بحكم تكوينهما الثقافي وحرصهما على مراعاة المحاذير والممنوعات، الكشف عن توجهاتهما الفكرية-الإيديولوجية-الصريحة.
وعلى حين يتوق حجت /شهاب حسيني إلى الإنصاف والعدل عموما والعدالة الاجتماعية خصوصا ،فإن نادر /بايمان معادي ،مهموم بالحرية الفردية.والمفارقة هنا ،أن حجت/شهاب حسيني يعاني ويئن تحت وطأة الخصاصة والديون المتراكمة وغياب الأفق الاجتماعي-الاقتصادي الواعد ،دون أن يمتلك مفردات الوعي الاجتماعي ولا آليات المرافعة والحجاج والإقناع، ويركن في غمرة احتقانه إلى العنف الرمزي والمادي ،ونادر/بيمان معادي ،يجد نفسه في وضعية حرجة (استعصاء العلاقة بالزوجة/تشكك ابنته في سويته الأخلاقية بعد كذبه أمام المحقق/عجزه عن إقامة علاقة متوازنة مع حجت الفقير )،دون أن يدرك أن الحرية لا تتحقق بدون امتلاك وعي دقيق بإشكاليات العدل والعدالة الاجتماعية.

- VIII تركيب :
يصير الانفصال، المصير الأوحد في الفيلم. فلما غابت القدرة على التواصل والتفاعل، وعلى التدبر العقلاني للعلائق والإدراك العميق لغايات وإكراهات الذات، والتعاطف مع الآخر، صار من الطبيعي ،أن تتسع نطاقات الاختلاف ،ويتكرس التباعد والتنائي والتنافر(انفصال الزوجين /انفصال ترمه عن أبيها/انفصال الطبقة الوسطى عن الفئات الشعبية الفقيرة).



أكادير-المغرب



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لمحات عن السيرة الذاتية للمختار السوسي -الجزء الثاني
- لمحات عن السيرة الذاتية للمختار السوسي الجزء الأول
- الذات والتاريخ في -رحلة من الحمراء الى إيلغ -لمحمد المختار ا ...
- نبيلة قشتالية –برتغالية في القصر السعدي بتارودانت
- الدراسات التراثية : إشكاليات المنهج والتداول
- إفريقيات -موانع المأسسة السياسية
- موزار والإشهار
- حكايات حارتنا : حكايات التوت والنبوت
- ميرامار : شخصيات باحثة عن موقف.
- معاصر السكر بسوس في عصر المنصور الذهبي . قراءة في (أخبار أحم ...
- جماليات في عالم بلا خرائط : هوامش على -شارع الأميرات-
- مسخرة بوجلود : نحو تاريخية للكرنفال الأمازيغي
- حتى لا ننسج جوارب-للعقول-!
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 4
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 3
- أصول المراقبة في الفضاء الثقافي الإسلامي 2
- أصول الرقابة في الفضاء الثقافي الإسلاميّ 1
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 4
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 3
- في نقد فصام الفكرية الإصلاحية -نموذج نضال الصالح 2


المزيد.....




- فيلم سعودي يحصد جائزة -هرمس- الدولية البلاتينية
- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...
- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم ازروال - استشراف المستقبل وإشكاليات الحرية في فيلم -انفصال - لأصغر فرهادي