أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله عيسى - ليف تولستوي النبيذ الروسيّ المعتّق















المزيد.....



ليف تولستوي النبيذ الروسيّ المعتّق


عبدالله عيسى

الحوار المتمدن-العدد: 7649 - 2023 / 6 / 21 - 22:53
المحور: الادب والفن
    


أ-الذات القدِّيسةُ القلقةُ

في أواخر تشرين الثاني من عام 1910 غادرت روح "ليف تولستوي" عالمنا الأرضيّ هذا، مخلّفةً إبداعاتٍ عظيمةً قيّضت لها خلوداً سيُذكر طويلاً.
إذ لا يزال "ليف تولستوي " من أهمّ مُبدعي عصرنا ، و أكثر كتّابه انتشاراً، وما تزال نتاجاته تلقى حفاوة خاصّة لدى قرّاء العالم بما طرحت من أسئلة أقلقت إنساننا المعاصر، ولامست بعُمقٍ عوالمه الداخليّة.
و لعلّ هذه العبقرية اكتسبت هذه الأهمية كونها امتلكتْ حساسيّة وقلق روح خصوصيّين كثّفت في شخصيّة تولستوي أسئلة عالمه الداخليّ المُثيرة، وانشغلتْ ببحثها الدائم عن جوهر وجودها و تفاعلاته مع كونه؛ و من هنا تكمن أهمية دراسة شخصيَة تولستوي كمدخل إلى فهم عوالمه الفنيّة.
***
ولد ليف نيقولايفتش تولستوي في أيلول عام 1828 في ضيعة ياسنايا بوليانا في ضواحي العاصمة التتريّة قازان .
كان أبوه ضابطاً في الجيش القيصريّ الروسيّ ، و أحد أحفاد الكونت بُطرس تولستوي المُقرّب من القيصر الروسيّ "بطرس الأول" ،و كانت أمّه سليلة عائلة عريقة بنبالتها أيضاً، فقد ورثتْ ضيعة ياسنايا بوليانا، و أقنانها الّذين تجاوز عددهم الثلاثمائة.
وكذلك شهد لعائلة الأمّ بنفوذها وجاهه، فقد كان معظم أفرادها من الضبّاط الأمراء الّذين استبسلوا في مواجهة جيوش نابليون عام 1812، وشارك بعضهم في انتفاضة الديسمبريّين التحرريّة عام 1825 متأثِّرين بفلسفة الأنوار و أفكار الثورة الفرنسيّة الداعية إلى العدالة والمساواة، كما ربطت الأميرة ماريا أمّ ليف تولستوي علاقة قرابة بشاعر روسيا الأكبرألكسندر بوشكين: فقد كان الأميرغولفين جدّاً مشتركاً لهما.
لكنّ الأميرة الفاتنة ماريا الّتي كانت تجيد خمس لغات ، و تعزف بمهارة فذّة على البيانو، وشُهد بخُلقها الحسن، و أدبها الرفيع ،كما يذكر فلّاحوها وأقنانها و أقرباؤها، تُغادر الحياة بعد ولادة ابنتها ،ماريا ، ويم يكن عُمْرُ ليف تولستوي قد تخطى عتبة العام والنصف.
وتشاء الظروف ألا تحتفظ العائلة بصورة الأميرة الشّابة ممّا جعلها غائبة في ذاكرة كاتب المستقبل
ليف تولستوي الّذي كتب فيما بعد :
"و لا أتذكّر أمّي. كان عمري عاماً ونصف عندما فارقت الحياة. و لأنّ مصادفة عجيبة قدّرت ألا يُحتفظ لها بصورة أو بورتريه مرسوم ، فإنني لا أستطيع رسم طيفها الآدميّ في ذاكرتي. إنّ أقصى ما يُمكن لخيالي تصوّره هو صورتها الروحية.كما أنّ جُلَّ ما أعلمه عنها نبيل وطيّب ورائع. لقد انطوت روحها على مزايا الفضيلة والخير."
و على الرغم من رحيل الكونت نيقولاي تولستوي ، وليف تولستوي لا يزال في ربيعه التاسع، إلا أنّ صورة الأب تبقى حاضرة في ذاكرته: ملامحه القاطعة، وحركاته خفيفة الظلّ الّتي جاهدت لإدخال الغبطة إلى نفوس أبنائه الخمسة، وحكاياته الشيِّقة المُسليِّة الّتي جهدت لإبعاد الأسى عن عوالمهم الطافحة بحنين غامض ومفقود إلى الأم الغائبة، وكذلك هيبته الراسخة أمام فلّاحيه و أقنانه ؛على الرغم من العلاقة الإنسانيّة التي أقامها معهم.
و هكذا تحتضن الخالة تاتيانا ليف تولستوي طفلاً.
لم تكن هذه المرأة الطيّبة من أصل نبيل، لكنّها تملّكت قلب الكونت نيقولاي الّذي عقد العزم على الزواج منها بعد إطلاق سراحه من السجن الفرنسي، لكنّها نصحته بالزواج من نبيلة غنيّة لتحسين وضعه الماديّ الّذي أُصيب بسوء أقصى بعد أن أُحيل الكونت، وهو شاب، على التقاعد، وعَمَّ بلاء الفرنسيّين أملاكه تلفاً وتخريباً.
و مرة أخرى ، ترفضُ هذه القدّيسة ،كما وصفها ليف تولستوي فيما بعد، عرض الكونت بالزواج منها بعد موت الأميرة ماريا مُتخيِّرةً التفاني في تربية صغاره.
يكتب تولستوي عنها:
" خلفت العمة تاتيانا في ذاتي أعظم الأثر. لقد علّمتني، ومنذ نعومة أظفاري، كيف تمتلئ النفس غبطة حين يعمّها الحبُّ الروحانيّ.
لقد لقنتّني هذه الغبطة ليس كلاماً وحسب ، بل غمرتني بكيانها كلّه حبّاً. كنتُ أتحسّسُ ببصري وبصيرتي كيف كانت غبطة الحبّ تُمتِّع روحها.آنذاك أدركتُ معنى بهجة الحبّ. كان هذا أوّل ما علّمتني. ثمّ تعلّمت منها، و أيضاً منذ الطفولة,،فردوس حياة السكينة والطمأنينة".
و مع عام1841، العام الذي خلدت فيه القديسة تاتيانا إلى نومها الأبديّ، تُختتم المرحلة "الرائعة" كما أسماها القدّيس ليف تولستوي، وهي المرحلة الأولى من حياته العاصفة التي قسّمها إلى مراحل أربع وفق ما اقترفه من خير وشرّ وفجور.
***
و على الرغم من احتشاد الموت على عائلته ، ذلك الّذي ذهب بروح أمّه و أبيه ومربيّته في هذه المرحلة ، " مرحلة الطفولة البريئة والركض خلف أسرار السرور"، إلا أن القدّيس ليف تولستوي يسمّيها بالرائعة حين يتصدّى لكتابة "اعترافاته" في عامه الثاني والسبعين.
و منبع هذه التسمية أنّ الكاتب لم يرتكب، مقارنة مع المرحلة الثانية الفاجرة، إثماً يتلوّى بعذاباته ضميرُه.
لم يشغل الدين روح ليف تولستوي في المرحلة الرائعة هذه، ولم يتعامل مطلقاً، مع الدين بجدّية معهودة ، كما يذكر في "اعترافاته":
"ولدت من أبوين مسيحيّين ، وتربّيت على عقيدة الأرثوذكس. ومنذ عهد الطفولة المبكّر و أيام الصبا والشباب بدأت أتلقى تعاليمها. عندما بلغت الثامنة عشر من عمري، و كنت آنذاك في منتصف المرحلة الجامعيّة، لم أعد أؤمن بشيء ممّا تعلّمْتُه في الصغر".
و يذهب القدِّيس ليف تولستوي في اعترافاته إلى أن سعادةً طاغية عَمّتْهُ، وهو في العاشرة من عمره، حين أخبره صديق أخوته الكبار فلاديمير مليوتين، في أحد أيّام الآحاد، أنّهم توصّلوا في المدرسة إثر اكتشاف مثير أن الربّ غير موجود، و أنّ كلّ هذه التعاليم الدينيّة من صنع المعلّمين "الملاعين".
ويتذكّر ليف تولستوي" أنّه اتفق مع أخوته ،باستثناء المُتدِّين دمتري، أنَّ هذا الحدث غاية في الجلالة، و أنّ دعوى عدم وجود الرب جائزة؛ ثمّ أخذوا يغمزون من أخيهم دمتري الذي لقّبوه "بالنبي نوح".
وفي هذه "الاعترافات" يعترف "ليف تولستوي" أنّه كان يتعاطف مع لغة التهكّم والسخرية من أخيه والمُتديِّنين الآخرين ليخلص إلى فكرة حكمت رؤياه لاحقاً:
"لزاماً على المرء أن يتعلّم أمور الدين، ويؤدِّي الصلوات في الكنيسة؛ لكن ليس ضروريّاً تماماً أن يقوم بهذا وهو جادّ تمام الجدّة".
و في هذه الفترة المبكِّرة يطلّع ليف تولستوي على أعمال الفيلسوف الفرنسي فولتير ، فيتحمّس بشدّة لأفكار هذا الفيلسوف الذي سخر من المسيحيّة ، ويُعجب كثيراً بلغة تهكّمه على العقيدة المسيحيّة ورجالاتها، حتى أنّ أفكاره كانت تبثُّ في ذات تولستوي فرحاً غامراً وغامضاً، فيغفل نهائيّاً عن الإيمان بالعقيدة الدينيّة.
و يفسّر تولستوي في " اعترافاته" سبب هذا العدول ببساطة وحيويّة حين يقول:
"إنّ هذا الانحراف عن تعاليم الدين يجد صدى واسعاً في ذوات الشباب الّذين بلغوا مرحلة خاصّة من التعليم. إذ أنهم يعيشون بأفكار لا تنسجم وتعاليم الدين، وبقوانين حياتيّة لا يلعب الدين دوراً عميقاً فيها، حتّى أن العقيدة لا تشكّل معياراً حاسماً لصلات البشر،فهي تتّصل بالحياة ولا ترتبط فيها بعمق.
و هكذا، يعدل ليف تولستوي عن دراسته للغة العربيّة والتركيّة في جامعة قازان- قسم اللغات الشرقيّة ،الأمر الّذي كان سيؤهله لاحقاً للعمل في السلك الدبلوماسي، وينتسب إلى كلية الحقوق، ثم يعرض عنها ، وينكبُّ على دراسة فولتير، و جان جاك روسو، والفلسفة الألمانيّة الّتي تركت في شخصيّته أعظم الأثر، وشكّلت سبباً حاسماً في إعلان أسباب القطيعة نهائياًّ مع الدين وتعاليمه.
ولا شكّ أنّ ليف تولستوي تأثّر عميقاً باعترافات جان جاك روسو، و بروايته ذائعة الصيت هلويزا الجديدة، فيما أخذت تصوّرات الفيلسوف العظيم تخلق مجالاً حيويّاً تعمّق فيه أسئلة تولستوي الوجوديّة والإبداعيّة في آن. وهذا ما يؤكّده في اعترافاته :
" قرأت أعمال روسو. عشرين مجلداً بالتمام والكمال، من الغلاف إلى الغلاف، و من ضمنها معجم الموسيقى أيضاً. فأحسست بحماس خاصّ تجاهه، و أصبحت مديناً له بالحبّ العظيم.
و منذ الخامسة عشر من عمري صرتُ أحملُ صورة " روسو" في وسامٍ بدلاً من الصليب على عنقي. لقد ألِفْتُ الكثير من مقاطعه النثريّة من أعمال مختلفة له لدرجة أنّه أصبح يخيّل لي أنّني كتبتُها. وبهذا أخذتْ تتلاشى فيَّ العـقيدة الدينيّة الّتي تعلّمْتُها في صغري، كما أخذت تضمحلُّ في غيري، مع فرق هام بيني وبينهم، وهو أنّني بدأت، في الخامسة عشر من عمري، أقرأ كتب الفلسفة، و بي إحساس بالنفور من المواعظ والتعاليم الدينيّة.
و حين بلغت السادسة عشر من عمري انقطعتُ تماماً عن تأدية الصلاة وزيارة الكنيسة، وبرغبةٍ منّي أحجمْتُ عن الصوم . في هذه السن لم أعد أؤمن بكل ما تعلّمْتُه في صغري".
و مع تعمّق ليف تولستوي في البحث الفلسفيّ أخذتْ روح الشكّ تتملك من روحه ،ولعل تأملَّه في أسئلة عصره المثيرة هو ما دفعه للنفور من الدراسة الجامعيّة ، لأنّها، كما يقول ، غير متعدّدة ، أحاديّة الجانب و مُنغلقة على أفقها، ولا تسمح للعقل الإنسانيّ بتجاوز ذاته.
و من الطبيعي أن يبدو ليف تولستوي المتأمّل دائماً في قضايا العصر، و الغارق في أسئلته الفلسفيّة كائناً غريباً منعزلاً عن محيطه الأرستقراطيّ و أجوائه المخملّية ،معرضاً عن حفلاته الصاخبة و عوالمه الباهرة.حتىّ أنهم أطلقوا عليه في الجامعة لقب الفيلسوف ، أوالمتأمل .
ويُذكَرُ أنّ تولستوي كان كثير الشرود في الحفلات الموسيقيّة، يرقص مع النساء دون رغبة أو متعة، غارقاً في تفكير بعيد، ذاهلاً في عوالم أخرى،حتّى اعتبرته نساء عديدات مُمِلّاً. لكنهنّ لم يتخيّلْن مطلقاً أن هذا الفتى الوسن سيغدو ، ذات يوم، عبقريّاً روسيّاً، مشهوداً لعبقريّته هذه في أنحاء العالم أجمع.
هكذا، تتذكّر مربيّته المخلصة الخالة تاتيانا في يومياتها:
"كان ليف تولستوي كائناً غريباً حقَّاً، وغير مفهوم الطبع والتفكير. لقد أغرق ذاته في قراءة الكتب الفلسفيّة ليل نهار. كان سبْرُ عمق سرِّ الوجود يحتلّ جلّ تفكيره. لقد انحصرت سعادته في تلك الأوقات التي يلقى فيها إنساناً مماثلاً يستمع إليه، وهو يناقش تأملاته الفلسفيّة الّتي أخذت تتطوّر معه باندفاعات كبيرة".
***
وأخيراً، أزمع ليف تولستوي هجرة قازان حاثّاً الخطى إلى ضيعته النائية ياسناسا بوليانا .الضيعة الّتي أصبحت بأقنانها مُلكاً شخصيّاً له. إضافة إلى قرى أربع أخرى في مدينة تولا كحصة له من تركة أبويه.
ولا بدّ أنّ ذكريات الطفولة في مسقط رأسه،وامتنانه لضيعته الّتي جسّدت مفردات ذاكرته وباكورة معرفته بالعالم، جعلته يُصِرّ على امتلاكها خائضاً جولات حادة مع أخوته لإقناعهم.
هناك، في الضيعة وبتأثير روسو، نبيّ تولستوي الجديد، أصبح الاهتمام بالزراعة أهمّ معاني تسخير الجهد والطاقة الإنسانيّة وصولاً إلى الخير المثمر والكمال، وكذلك النيّة الصالحة لتحسين أوضاع فلّاحيه وأقنانه، وعلى طريقة روسو نفسه ، حيث الرغبة الجامحة في احتضان الطبيعة و تحّسس نعيمها الخالد هي الّتي كانت تعتري ذاته المتوقّدة .
لقد كتب تولستوي إلى خالته :"سأصبح ملّاكاً صالحاً. و حتّى أحقق هذا لا حاجة بي إلى شهادة الدكتوراه، والمناصب السامية الّتي كنت أطمح إليها و أتمنّاها"، ظانّاً أن قراره هذا سيكون ارتقاء لأولى الدرجات وصولاً إلى الكمال.
" كنتُ مؤمناً، في تلك المرحلة، بضرورة السمو بنفسي سدّة الكمال . جرّبْتُ الوصول إلى الكمال العقليّ، فدَرستُ ما باستطاعتي، وجَرّبْتُ بلوغَ الكمال الجسديّ فمارستُ شتى التدريبات البدنيّة لتنمية قوى جسدي، والحفاظ على رشاقته، ومارستُ على نفسي شتّى أنواع الحرمان لكي تتعوّد على الصبر والجَلَد، ظنّاً منّي أنّ هذا كله سيبلِغُها الكمال.
و من الطبيعي أنّني حاولت، أولاً، بلوغ الكمال الأخلاقيّ، لكنّ رغبة الارتقاء بمستواي ، لا في عينيّ ولا لدى الربّ ، سرعان ما اجتاحتني. فتحوّل جُهدي إلى رغبة في أن أصبح أقوى من الآخرين ، و أسماهم مرتبةً، و أطيبهم صيتاً، و أجدرهم مكانةً، و أكثرهم مالاً.
هكذا ، كتب ليف تولستوي في اعترافاته.
وحقّاً، لقد استنفر كل طاقاته و إمكاناته ناشداً بلوغ مرحلة الكمال كتعبير عن عقيدة فلسفيّة آمن بها وأخلص لها.لقد حاول كسر الجدار التاريخيّ الّذي كان يفصل بينه كنبيل وبين فلاحيه و أقنانه. وإيماناً منه بضرورة تحسين أوضاعهم الحياتيّة وصولاً إلى الكمال الأخلاقيّ، بدأ فعلاً ببناء مساكن قرميديّة جديدة لهم، لكنهّم تطلّعوا إلى نواياه بعين من الشكّ، و إلى مشاريعه بحذر، ولم يروا من المساكن القرميديّة الجديدة سوى سجون ذات طراز حديث.
و لأنّ خيبة ليف تولستوي بعد تحطم مشاريعه الخيّرة هذه كانت عميقة الأثر في كيانه قررّ الانغماس في حياة الغجر الماجنة ، وغدا زبوناً دائماً لصالات الخمر والقمار في محاولة للتخلّص من وطأة الصدمة ونسيانها؛ وبهذا أصبحت الضيعة الهادئة الطيّبة ساحة حفلات غجريّة يستمرّ رقصها ومجونها حتّى نهايات الصباح.
ثمّ يحمل ليف تولستوي معه رغبة المجون هذه إلى موسكو ، ثمّ إلى بطرسبورغ الّتي غرق فيها بديون ظلّ يسددها أخوه سيرغي سنوات عديدة.
و هكذا ، خيّمت حياة الاستهتار والفجور على ليف الشابّ ذي الخامسة عشر، لتعلن بداية مرحلة استمرت عشرين عاماً كما يؤرِّخ لها في اعترافاته:
"لا يمكنني مُطلقاً ، تذكُّر تلك السنوات دون أن يجتاحني الإحساس بالخوف الرهيب، والشعور بالتقزُّز : و دون أن يعمّني ألم نفسي فظيع . لقد قتلت رجالاً في الحروب، وتحدّيت الكثيرين بالمبارزة كي أنهي حياتهم، ولعبت القمار، وخسرتُ كثيراً،و عملت على استغلال جهود فلاحيَّ المعدمين ،وحكمتُ عليهم بعقوبات قاسية.
لقد عشت حياة ماجنة خادعاً الناس، مُقترفاً شتّى ضروب الخطايا من كذبٍ وقسوة ،وممارسة الزنا بألوانه جميعاً ،وشرب الخمر، واستخدام شتّى أساليب القسوة لتعذيب النفس البشرية و إزهاقها.بهذه الصورة عشت عشر سنوات".
بهذه المرارة العاتية، والصدق الإنسانيّ الحار يكتب القدّيس ليف تولستوي، في الثانية والسبعين من عمره في الاعترافات .
و في هذه الفترة عانى تولستوي من شعور المقت الّذي انتابه لدى إصابته بمرض نجم عن معاشرته العشوائية للغانيات ، وبقائه في المشفى فترة علاج غير قصيرة.
هذه السنوات العشر الّتي انتهت في ذات العام الّذي أصبح فيه ليف تولستوي ضابطاً في الجيش القيصريّ الروسي كانت قاسية على روحه، والتصقت المعاناة بها الّتي كان تأنيب الضميرفيها يقضّ مضجعه، ومزّقها عجزها عن تحقيق حلمها في بلوغ الكمال المنشود، وفعل شيء خيِّر للآخرين.
***
لم تقتصرْ حياة ليف نيقولايتش الضابط على الفعاليات العسكريّة، ذلك أنّه التفتْ إلى الأدب، ومارس نشاطاً إبداعيّاً مكثّفاً.
فقد أكمل، بشكل نهائيٍّ، قصّة الطفولة ، واعتكف على ترجمة رواية شتيرن الشهيرة رحلة عاطفيّة في محاولة لتطويع قلمه على الجلَد وامتلاك أسلوب فنيٍّ متميّز، لكنّه لم يكمل ترجمة الرواية.
و أخذ يكتب دراسات في الفلسفة والاقتصاد والأخلاق ، لم يُتمّ معظمها أيضاً . كانت هذه الدراسات مُعَدّة على شكل مؤلفات مثل "ملاحظات أوليّة في الاقتصاد"،"و العمل من أجل روسيا"، "تحقيق الأخلاق الروسيّة" ،و"التناقض".
و لاشكّ أنّ هذه الدراسات كانت تجسيداً لروح البحث لدى الشاب ليف تولستوي الّتي بدأت تتشكّل منذ اللحظة الّتي كلّفه بها البروفيسور الديمقراطيّ الثوريّ مايربكتابة بحث مقارن بين كتاب روح الشرائع للفيلسوف التنويريّ الفرنسيّ مونتسيكون وبين مجموعة القوانين والتشريعات الّتي جمعتها القيصرة الروسية يكاترينا في كتابها"الإرشاد".
ولا بُدّ من التوكيد أن قصّة"الطفولة"شكّلت منعطفاً مهمّاً في حياة الشاب ليف تولستوي.
و على الرغم من أنّ ليف تولستوي قد منح بطل "الطفولة" نيقولاي أرتينيف بعض مزايا شخصيّته، إلا أنّه ، وبشكل عمليّ، كان يهدف للكتابة عن حيوات أصدقاء طفولته.
ولعلّ هذا السبب بالذات هو الّذي جعله يمتعض كثيراً حين نشرت القصة بعنوان"تاريخ طفولتي" في مجلة "المعاصر " المهمّة والرائدة آنذاك ،والّتي كان يرأس تحريرها الشاعر الكبير و الناقد المتميز نيكراسوف ، ممّا دفعه لكتابة رسالة غاضبة إلى المجلة كتب فيها:" لقد أزعجني جدّاً أن أقرأ في" المعاصر" قصة بعنوان "تاريخ طفولتي" تبيّنت فيها عملي "الطفولة" المُرسل إليكم. إنّ عنوان "الطفولة " ومقدمتها يفسِّران العمل و غايته.أما عنوان"تاريخ طفولتي" فيعارض العمل الّذي أنجز لأجله. مَن ، بالله عليكم، يُعنى بتاريخ طفولتي أنا؟".
لكنّ فرحاً طاغياً اعترى ذات ليف تولستوي بعد أن لمس الأثر الّذي تركه مؤلَفه"الطفولة" ، في نفوس القرّاء، و أوساط الأنتلجنسيا الروسيّة، خاصّة أنّه نشره موقّعاً بالأحرف الأولى من اسمه"ل.ن.ت" تجنّباً لفشل قد يعتري العمل.
إنّ نجاح "الطفولة" هو الّذي دفعه لنشر الجزء الثاني من ثلاثيّته"الصبا" في المجلة نفسها. وفي ضوء الإطراء الكبير الّذي لاقته قصّة "الصبا" في الأوساط الثقافيّة الروسيّة، والاحتفاء النقديّ غير المُنتظر الّذي تنبّأ بولادة كاتب ذي مستقبل أدبي جدير ، أنجز الجزء الأخير من ثلاثيّته تحت عنوان "الشباب".
عندئذٍ أخذ الضابط ليف تولستوي يعي دوره وأهميّته ككاتب، فكتب مجموعة قصص اشتهرت باسم " قصص تولستوي الحربيّة" جسّدت تجربته العسكريّة في القفقاز والقرم، تلك الّتي خاضها كضابط في الجيش الروسيّ القيصريّ.
لا شكّ أنّ هذه التجربة مهّدتْ للكاتب الشاب التصدِّي لمواضيع وشخصيات مثيرة، وملامسة عوالمها برؤى جديدة، شكّلت حالة تجديد تُذكَر طويلاً في الأدب الروسي. هذه المعايشة لعوالم الحرب وفظائعها، وبطولات و إخفاقات المُحاربين ،كانت وراء جعل رواية "الحرب والسلم" من عيون الأدب العالميّ المُعاصر.
و لأنّ عالم الحرب كان جديداً على عوالم الأدب الروسي ، فقد لاقت هذه القصص اهتماماً عريضاً في أوساط المثقفين والقرّاء الروس اختلف عن ذاك الذي أثارته ثلاثيته"الطفولة و "الصبا" و"الشباب". فمن موقعه في البرج الرابع للحصن المطلّ على البحر الأسود عبّر ليف تولستوي في عمله "سيفا ستوبول في شهر ديسمبر 1854 " عن وضع المدينة المحاصرة ، و أحوال أهلها مدنيّين وعسكريّين ،القابعين تحت رحمة القصف المدفعيّ المتواصل على مقربة من جثثٍ أخذتْ تتفسّخ ، وتنبعث منها روائح نتنة ممزوجة بالأوساخ المتراكمة.
لقد أحسن تولستوي رسم الأمير البحري كورنيكوف الّذي تفانى في الدفاع عن مدينته المحاصرة طائفاً بين الجنود يشحن فيهم قوّة الإرادة و البأس، صارخاً: "هنا. سوف نموت أيها الرجال البواسل، لكنّنا لن نُسلِّم أبداً سيباستوبول".و يردّد جنوده خلفه "أورا".
"إن القصص الّتي يرجع عهدها إلى تلك المرحلة تصبح الآن في نظرك ذات معنى بليغ، وليست أساطير جميلة فقط. إنّ معناها وقوّة تأثيرها كامنان في معنى قوّة الواقع الحيِّ والوقائع الأصيلة.وسيمكنك بسهولة الآن أن تتصوّر أولئك الرجال الّذين ستجدهم أبطال تلك المرحلة. فتراهم يرفضون السماح للعدو بصرعهم . إنّهم ينهضون بعزة وكبرياء، ويستعدّون بغبطة روحيّة كبيرة للموت لا في سبيل مدينةٍ، بل من أجل وطنهم . ملحمة سيفاستوبول التي كان الشعب الروسيّ بطلها
لا بّدّ ستحيا زمناً طويلاً في ذاكرة هذا الشعب، وهذه الذكريات العظيمة لن تفنى أبداً".
بهذه الكلمات المؤثّرة و الجمل الحيوية ينهي ليف تولستوي قصته الّتي أثّرت بعمق في نفس القيصر الكسندر الثاني،فأمر بترجمتها إلى الفرنسيّة، و طبعها في أوروبا كونها عكست صمود روسيا في وجه جيوش و أساطيل انكلترا وفرنسا.
ثمّ يُلحق ليف تولستوي قصته عن حصار سيفا ستوبول بقصّتين: ستيفا ستوبول في شهر مايو 1855" ، و "سيفاستوبول في شهر آب1855" ،موقّعاً الأخيرة باسمه الحقيقي . لقد تركت هذه القصّة أعظم الأثر في نفوس القرّاء ،خاصّة أنّ جيوش الإنكليز والفرنسيين والأتراك قد تمكنت من السيطرة على المدينة واغتصابها عنوة بعد صمود دام إحدى عشرة شهراً.
لقد كتب تولستوي بإخلاص عن سبب هذا السقوط كاشفاً عن جبن بعض الضباط الّذين أخذوا يتظاهرون بالبسالة بهدف الحصول على الأوسمة والسيوف المذهّبة ، كما أنّه عبّر بصدق عن المآثر والبطولات المخلصة الّتي شكلت حافزاً راسخاً لصمودها . لقد كان تولستوي نفسه أحد الضبّاط المُشاركين في صياغة ملحمة صمودها.
"إن قصة تولستوي عن حصار سيفاستوبول رائعة من الروائع. لقد اعتراني البكاء و أنا أقرأها، ولشدّة تأثيرها عليَّ لم أستطع تمالك نفسي . فأخذت أصيح "أورا". أي "برافو".
هكذا عبّر الكاتب الروسي الكبير إيفان تورغينيف عن حجم تأثّره بعد قراءة "حصار سيفا ستوبول"مكثّفاً برأيه هذه الأحاسيس ذاتها الّتي اعترت غالبية قرّاء هذا العمل الفنّي الرائع.
و أخيراً، يكتشف تولستوي أنه لم يُخلق لممارسة النشاطات الحربيّة ؛فيطالب بإحالته على التقاعد بعد نقل خدمته إلى بطرسبورغ، و يقرّر التفرّغ نهائياً لكتابة الأدب.
و يُستقبل في بطرسبورغ بحفاوة لائقة من الأوساط الثقافيّة والفكريّة الروسيّة.
"حان الوقت لأقول ملء فمي: لقد تعتّق هذا النبيذ الروسي وغدا شراباً يليق أن يقدّم للآلهة".
هذا ما كتبه ايفان تورغينيف في في إحدى رسائله عن تولستوي إلى الناقد فاسيلي بوتكين.







ب- الشرق في وعي الكاتب ليف تولستوي

لا شكّ أن علاقة ليف تولستوي بالشرق لم تكن طارئة، فقد احتفظت لنفسها بذائقيّة وموضوعيّة استثنائيّتين حتّى أواخر أيام هذا الكاتب العظيم.
بدأت علاقة ليف تولتستوي بالشرق منذ الطفولة،إذ كان مولعاً بالأغاني والحكايات والأساطير الشرقيّة.و لقد فسّر فيما بعد، تحمّسه الشديد لهذه الضروب الفنيّة على اعتبار أنها آداب أصيلة تتمتّع ببساطة الأسلوب وحرارة التعبير، وتنبع من عمق الروح الإنسانيّة، وتعبّر عن حكمة الإنسان،كحصيلة لتجربته الطويلة،بلغة حيوية قريبة إلى النفس.
هذا التعلّق والولع بالثقافة الشرقيّة السحريّة دفعا ليف تولستوي للانتساب إلى قسم اللغات الشرقيّة في جامعة قازان،بعد فترة تمهيديّة حضّر لها مدّة سنتين، قُبل على أثرها في قسم اللغات الشرقّية -العربية والتركية، وهو في السادسة عشر من عمره.
لكنّه لم يُكمل دراسته في قسم اللغات الشرقيّة ،على الرغم أن هذا القسم كان يُؤهّلُ أبناء النبلاء الروس للعمل في السلك الدبلوماسيّ.و هو ما كان يطمح إليه ليف اليافع.
و على الرغم عن عُزوفه عن دراسة اللغات الشرقيّة ،إلّا أن اهتمامه بالحضارة والثقافة الشرقّية لم يَخْبُ، ولم تنقطع أواصر علاقته بها، وخاصة بالثقافة العربيّة الإسلاميّة.
لقد ظلّ ليف تولستويمسحوراً بعوالم العمل الخالد ألف ليلة وليلة الّتي قرأها ،و هو في الرابعة عشر من عمره ، وظلّ تأثير قصص "علاء الدين والمصباح السحري" ، و "علي بابا والأربعين حرامي"، و "الأمير قمر الزمان" شديداً في مخيلّته و وجدانه.
إنّ تأثّر الكاتب بعوالم ألف ليلة وليلة الّتي ترجمت إلى الروسيّة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، وصدرت بعد طبعات عدّة في موسكو، تجلّى فيما بعد، في أعماله . فقد نشر بعض أعمال ألف ليلة و ليلة للأطفال بعد أن صاغها بلغة بسيطة و جذّابة ،و أسلوب سرديّ عذب يلامس عوالم الطفل ويقتربُ من مداركه.
كما أعاد صياغة حكاية "الملك والقميص" المعروفة ، وكذلك اقتبس العديد من قصصه الّتي كتبها للأطفال من الأدب العربيّ ، وأعاد صياغتها باللغة الروسيّة، ممّا استلزم تبديل الأسماء العربيّة، وتغيير الأماكن مع الاحتفاظ بالمحور القصصيّ، و العامل التخييليّ لهذه القصص.
وتشهد مكتبة ليف تولستوي على اهتمام الكاتب بالأدب العربيّ ، حيث احتفظت بمؤلفات نادرة منه.
و لا شكّ أنّ ليف تولستوي ظلَّ مُخلصاً لعلاقته مع الشرق، وجسّد هذا الوفاء في وعيه، وتعاطفه مع الهمّ الإنسانيّ الشرقيّ ، وخاصّة العربيّ، وبناء علاقات ثقافيّة وفكريةّ وطيدة مع رجالات فكر وثقافة آسيا و إفريقيا مُستفيداً من زخم هذه الحضارات و رجالاتها الّتي أمدّت فعله الإبداعيّ بطاقات فنيّة و إبداعيّة.
لقد تضامن هذا الكاتب الكبير مع قضايا هذه الشعوب التائقة ، آنذاك ،للتحرّر من ربقة المستعمر، بحثاً عن مكانٍ لائقٍ لها في ركب الحضارة الإنسانيّة.و تشهد النداءات والمقالات المتعدّدة الّتي كتبها في تلك الفترة عن هذا التضامن العميق.
ففي كتاباته النثرية " ماذا نعمل؟" ،"حربان" ، "عودوا إلى رشدكم "، "عبودية عصرنا"،
"إلى الطليان" ،و " رسالة إلى الصينييّن" يعبّر تولستوي بفهم عميق وصراحة جليّة عن تضامنه مع إنسان الشرق المكبّل بقيود من الاضطهاد والتعسّف التاريخيّ.
و امتناناً من شعوب الشرق ،وخاصة العرب ، فقد قُوبلت كتابات تولستوي هذه بحماسة وترحيب كبيرين ، فأخذتْ أعماله تترجم إلى العربيّة، وقد لعبت المدارس الروسيّة في كل من فلسطين ولبنان و سوريا دوراً كبيراً ، و على وجه التحديد، دار المعلمين في مدينة الناصرة في تطوير حركة ترجمة الأدب الروسي ، وخاصّة أعمال تولستوي.
لقد كان لخريجي هذه المدارس كميخائيل نعيمة، و نسيب عريضة ،وخليل بيدس، و سليم قبعين وهو من أوائل مترجمي تولستوي إلى العربيّة، الفضل الأكبر في نقل هذا التراث الأدبيّ الروسيّ المهم.
ولعلّ ترجمة الدكتور سامي الدروبي لمؤلفات تولستوي من الفرنسيّة ،والّتي نشرت في خمسينيّات القرن الماضي من عيون الأعمال الأدبية الروسية المُترجمة إلى العربية بشكل لائق.

كما قام الأستاذ صياح الجهيم بترجمات مؤلفات البعث ، و آنا كارنينا، و الحرب والسلم، بلغة جماليّة .
و من المؤكد أن مؤلفات تولستوي قد تركت أثراً يُذكر على حركة القصّ والنثر العربيّ المُعاصر، وهذا ما يستحق الدراسة بشكل جدّي.
لقد لاقت أعمال تولستوي المترجمة إلى العربيّة صدى واسعاً لدى القراء و المثقفين العرب، آنذاك، أضف إلى ذلك فقد وجدت أفكاره من يؤيّدها ويقوم بالدعاية لها في الأوساط العربيّة ،سيما أنّها اهتمت بالانتفاضات التي قامت في الوطن العربي الرازح تحت نير الاحتلال. لكنّ تولستوي المؤيّد فكريّاً لمثل هذه الانتفاضات لم يلتقِ معها في حال قيامها تحت تأثير الفكر الدينيّ الغيبيّ، وهذا ما جعل بعض زعماء هذه الحركات يلتقون فكريّاً معه، ويقومون بالترويج لأفكاره ، كما فعل قادة هذه الحركات بزعامة عباس الأفندي في بلاد الشام.
ج- القدّيس تولستوي والإمام محمد عبده

لا بدّ أنّ خير شاهد على نضوج علاقة التواصل الفكري بين ليف تولستوي وقادة الفكر العربيّ ذاك الخطاب الّذي أرسله الإمام محمد عبده إلى تولستوي، حيث يؤكّد للكاتب أهميّة الأفكار الإنسانيّة التي طرحها في كتاباته، والّتي أدركت معنى وسر وجود الإنسان على الأرض.
كان هدف هذه الرسالة هو التواصل الفكريّ بين الإمام والقدّيس من جهة، و من جهة أخرى حضّ الكاتب على مزيد من التعاطف مع قضايا التحرّر والنهضة العربية ، وطلب النصح والتأييد.
و ممّا جاء في خطاب الإمام مايلي:
"سطع علينا نور من أفكارك ، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك، ألّفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى سرّ الفطرة التي فُطر الناس عليها، و وفقك إلى الغاية التي هدى البشر إليها. فأدركتَ أنّ الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل ، و لأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه، وسعياً يبقى ويرقى به جنسه.
فكما كنت بقولك هادياً للعقول ، كنت بعملك حاثّأً للعزائم والهمم ، وكما كانت آراؤك ضياءً يهتدي به الضّالون ، كان مثالك في العمل إماماً يقتدي به المتشردون".
الشيخ محمد عبده
8-4-1904

بعث خطاب الإمام محمد عبده هذا سروراً خاصاً في نفس الكاتب ليف تولستوي الّذي كان على إدراك ومعرفة وافيين بأهمية أفكار الإمام في العقل العربيّ كشخصيّة مُستنيرة ورائدة، و أثرها على حركة النهضة و التحرّر العربيّين.و لهذا قدّر الكاتب خطاب الإمام وتمّنى عليه مواصلة تبادل الأفكار على الرغم من اختلاف العقيدة.
و إذا كان الإمام محمد عبده قد أرسل خطابه إلى تولستوي ملتمساً المساندة والتعاطف فقد وجد
في استجابة تولستوي ضالته .
و مما تضمّنه خطاب القدّيس تولستوي إلى الإمام محمد عبده:
" تلقيتُ خطابك الكريم، وها أنذا أسارع في الردِّ عليه مؤكّداً امتناني الكبير من هذا الخطاب الّذي أتاح لي الاتصال برجلٍ مُستنير رغم اختلاف عقيدته عن العقيدة التي نشأتُ وتربّيْتُ عليها.و لكن من نفس الديانة ،حيث أن العقائد تختلف وتكثر ،لكن ليس هناك سوى دين واحد هو دين الحقّ. وأعتقد أنّه كلّما ازدادت العقائد في الأديان ،وامتلأت بالمعجزات ساعدت على تفرّق البشر و خلقت بالعداوات. وعلى العكس، كلّما كانت الأديان بسيطة اقتربت من هدفها الثاني، و هو وحدة الناس جميعاً. وهذا ما جعلني أقدّر خطابك و أودّ استمرار اتصالي بك".
من ليف تولستوي
إلى الشيخ محمد عبده
14-5-1904



#عبدالله_عيسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكسندر بلوك :مغنّي الضوء
- الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : تساؤلاتُ أيمن عودة في ح ...
- في مديح أنثى الضاد
- الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : خطبة خضر الظفيري في حضر ...
- الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : جرعة ٌ زائدةٌ من الوقت ...
- الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : زيارة أخرى لعابر أعمى آ ...
- الشاعر الفلسطيني عبداله عيسى يكتب: أشجار تتألم
- اغفري لي
- ذاك هو الحب
- سماء أخرى نظيفة
- آنا أخماتوفا : في ذلك الوقت ، ضِفتُ على الأرض .
- الشاعر الفلسطيني من بين ثلاثة شعراء حول العالم في كتاب عام ا ...
- الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : في ذكرى النكبة : مازلنا ...
- وسام الثقافة والعلوم والفنون الفلسطيني يمنح لعدد من الكتاب ا ...
- المركز الروسي - القدس- متضامناً مع الشعب الفلسطيني : الممارس ...
- الرئيس الفلسطيني محمود عباس : المسجد الأقصى حق إسلامي خالص
- سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل : المجلس الوطني الفلسطي ...
- سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل : نثق بدور روسيا ، وندع ...
- الشاعرالفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : علي دوابشة ، النبي ابراه ...
- الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : أنا النهاية أروي لأبقى


المزيد.....




- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...
- اصدار جديد لجميل السلحوت
- من الكوميديا إلى كوكب تحكمه القردة، قائمة بأفضل الأفلام التي ...
- انهيار فنانة مصرية على الهواء بسبب عالم أزهري
- الزنداني.. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان
- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله عيسى - ليف تولستوي النبيذ الروسيّ المعتّق