|
آنا أخماتوفا : في ذلك الوقت ، ضِفتُ على الأرض .
عبدالله عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 5752 - 2018 / 1 / 9 - 17:02
المحور:
الادب والفن
لم تكن حياة آنا أخماتوفا في ضيعة " تسارسكوي سيلو " حتى ربيعها السادس عشر طارئة على ذاكرتها المبدعة . فهناك ، حيث هذه الضيعة شبه منسيّة كانت إلى جهة الشمال من مدينة " أوديسا " المتاخمة للبحر الأسود ، واضطر والدها مهندس الميكانيك المتقاعد للإقامة فيها قبل حول من ولادتها في ٢٣ من حزيران من عام ١٨٨٩، تلمست روحها مكامن الجمال الذي أصبح فيما بعد متن طاقتها الإبداعية البكر ، كما تروي في سيرتها " باختصار عن نفسي " : " الحدائق الخضراء الندية الباهرة ، المراتع الممتدّة حيث كانت تأخذني مربّيتي ، ميدان سباق الخيل حيث تحجل المهور الصغيرة ، ومحطة القطارات القديمة ، وأشياء أخرى تجلّت كلّها فيما بعد في مجموعة جنة تسارسكوي سيلو " . في ذلك المكان الذي ظلّ موحياً و قصيّاً في ملكاتها الإبداعية ، تفتحّت مدارك آنا أخماتوفا على عبقرية الطبيعة بأسمائها وألوانها ومفرداتها المتعددة على الأوصاف ، وعكفت لسبب لم تجد دونه سبيلاً على تعلّم القراءة متهجيّة ، كما تذكر ، كتابات الروسي العظيم ليف تولستوي ، ودونما لأي شرع لسانها آنذاك يلدغ بالفرنسية . وإذ تتجوّل في سيرتها تذكر أنها صاغت بواكير أشعارها في الحادية عشر من عمرها ، لكنها تعترف " لم يبدأ الشعر ، بالنسبة لي ، مع بوشكين وليرمنتوف ، بل مع ديرجافين ونيكراسوف اللذين كانت أمي تحفظ جلّ شعرهما عن ظهر قلب " . كانت دراستها في المدرسة القيصرية متعثرة ، وعلى الرغم من أن تحسناً ما قد شابها بشكل غير منتظر ، ولم تكن قد عهدته من قبل ، إلا أن آنا كانت تقدم على الدراسة دونما أية رغبة تتقدم بها إليها ، كما تتذكّر . وظلّت تدوّي في ذاكرتها ساعات افتراق والديها عام ١٩٠٥ ، وتنوء بها دروب رحيلها مع أمها إلى الجنوب ، إلا أن حنيناً عارماً بقي يعود بها إلى هناك ، حيث الضيعة الأولى ، وبدأت تكتب شعراً ينذر بالانطلاق ، وإن بدا لها ، كما تذكر ، متعثراً . ولم تكن هتافات ثورة ١٩٠٥ قد وصلت إلى يفتابورا المعزولة عن العالم ، حيث عاشت العائلة ، إلا خرساء . وبعد عصف الثورة بالمشهد الروسي بعامين أنهت أخماتوفا المدرسة في كييف ، وانتسبت إلى كلية الحقوق فيها . تروي في سيرتها : " كنت سعيدة جداً ، ونحن نتصفّح تاريخ الحقوق ، وخاصة اللاتيني ، لكن علاقتي بالكلية بردت تماماً حين شرعنا بدراسة مواد القانون . ثم تزوجت من نيقولاي غوميليوف ، فسافرنا إلى باريس لشهر واحد ، وحين عدنا إلى بيتربورغ أخذت بدراسة تاريخ الأدب " . لابد أن زواج الشاعرة آنا أخماتوفا بالشاعر المبدع نيقولاي غوميليوف ، صاحب الثقافة الواسعة ، والإطلاع العميق على الحضارات الإنسانية ، وخاصة الشرقية ، بما فيها العربية والإسلامية ، قد منحها طاقة إبداعية وحياتية ذات قابلية كبيرة ، ففي هذه الآونة أنجزت شعراً مختلفاً ، أخاذاً وعميقاً في آن ، ضمته مجموعة " أمسية " ( منها اخترنا قصيدة " جنازة " ) . وفي أعقاب الأزمة التي لمّت بالمدرسة الرمزية عام ١٩١١، ابتعدت عنها أخماتوفا ، أسوة بسواها من الشعراء الشباب ، والتحقت بالمدرسة الأكميزية مع عدد منهم ، بينما انضم آخرون إلى المدرسة المستقبلية . وكان احتفاء النقد بمجموعة المساء التي صدرت بثلاثمائة نسخة فقط مفاجئاً وملفتاً عام ١٩١٢ ، العام نفسه الذي ولدت فيه ابنها ليف غوميليوف الذي اعتبر فيما بعد من أبرز المؤرخين المعاصرين في روسيا والعالم . لكن النقاد والقراء لم يكونوا عادلين مع مجموعتها " السرب الأبيض " التي نشرتها عام ١٩١٧ ( منها اخترنا " خلوة " ، المدينة القاتمة " ، " شُلّ عن الابتسام فمي " ، " صلاة " ، و " مباركاً بالربّ " ) ، مقارنة مع مجموعتها " سبّحات " ( منها اخترنا " إلى م. لوزينسكي" و " إلى بلوك " ) ، فقد اعتقد الكثير منهم أن السرب الأبيض لم تحتفظ لذاتها بالمُنجَز الإبداعي الذي امتازت به سبّحات ، فيما علّلت أخماتوفا سرّ هذا الأمر بما أوردته في سيرتها باختصار عن نفسي ": " لقد ظهرت مجموعة السرب الأبيض في ظروف مخيفة ، كانت حركة المواصلات قد شُلّت تماماً ، ولم يكن بالمقدور إرسالها إلى موسكو . كل نسخها بيعت في بيتربورغ . الجرائد أغلقت ، والمجلّات أيضاً . ولهذا لم يكن لمجموعة السرب الأبيض ما كان لمجموعة سبّحات من الضجيج الإعلامي . الجوع والإنحطاط كانا يتفاقمان كل يوم " . لكنّ أخماتوفا أخلصت لعملية تطوير أدواتها الفنيّة ، وطرح أسئلة إبداعية ، مع كل مجموعة جديدة . ومع أنها ارتبطت بجماعة الأكميزيين بروابط إبداعية وشيجة ، إلا أن حدود عوالمها ظلت تتحرك في مناخات أكثر اتساعاً وقابلية : فالتقديس الجليل للطبيعة ، وللذات الإنسانية ، ولروحها التي اتخذها الأكميزيون مذهباً ، ارتبط بلغة طيّعة ابتعدت عن التعددية التعبيرية التي اعتمدها الرمزيون الروس . فاللغة التي هي مادة الصنعة الإبداعية هي أساس الشعر ، وينبغي أن تتحرّر من ضبابيّتها ، وتداعياتها التجريديّة ، وهذا ما تميزت به أعمال أخماتوفا المتأخرة . وإذ تطل أخماتوفا في سيرتها على مسيرتها الشعرية تضيف : " عملت بعد ثورة أكتوبر في مكتبة كلية الزراعة ، وفي عام ١٩٢١ خرجت إلى النور مجموعتي الشعرية " مزمار" ( منها اخترنا " مثل كنسر فتيّ" ، " أبداً " ، " و انتظرته " ، و" في الليل " ) ، وفي عام ١٩٢٢ ، أصدرت مجموعة " آنا ديموني" ( اخترنا منها " كيف لي أن أدبّ الصوت " ، " وليكن أن يعصف الأرغن " ، و " إلى كثيرين " ) ، ومنذ منصف العشرينات تقريباً بدأت أمارس باهتمام شديد المعمارية القديمة لمدينة بيتربورغ ، وقراءة حياة وإبداع بوشكين ، لكن لم تنشر أشعاري الجديدة ، في تلك الفترة " ، بينما أعيد نشر القديم منها . لا شك أن الصلة الفنية لعوالمها مع التراث الشعري الروسي ، خاصة مع إنجازات الكسندر بوشكين ، أخذت تتأصل في ذلك الوقت ، على الرغم من اقتراب عالمها من إبداعات الكسندر بلوك ، فأصدرت مجموعات شعرية شكّلت إضافة فنيّة كبيرة للشعر الروسي ، مثل مجموعة " اليراع " ( منها اخترنا " الشاعر " ، " بالمراتع يفوح العسل البريّ " ، صور الكائن " ) ، ثم مجموعة " الكتاب السابع " ( منها اخترنا " موت"، " وكما في الألبوم " ، وكذلك مجموعة " وِتر" ( اخترنا منها " إلى ذكرى بولغاكوف " ، ومن ملاحمها " موسيقى قدّاس " ، إضافة إلى " مختارات " ، و" عدو الزمن " . وظلت أخماتوفاً حتى النفس الأخير الذي داهمها في عام ١٩٦٦ مخلصة للشعر ، بالاشتغال في مختبره الإبداعي ، واكتشاف الإيقاعات الخلاقة فيه ، لتصبح من أبرز شعراء روسيا والعالم . هكذا تختتم الشاعرة سيرتها : " لم أتوقف عن كتابة الشعر ، أجد في الشعر علاقتي مع الوقت ، مع الحياة الجديدة لشعبي . عندما كتبت أشعاري عشت تلك الإيقاعات التي عُزفت في تاريخ وطني البطوليّ . أشهد أني سعيدة ، كوني عشت في هذه السنوات ، ورأيت تلك الوقائع التي لا مثيل لها " .
جنازة : ألوّب عن بقعةٍ ما لقبرٍ . أترى أيّها المسكونة أكثر بالضوء ؟ . كمْ رطِبٌ أديمُ الأرض ، ومكتئباتٌ على حوافِ البحر صدورُ الصخرِ .
وهْيَ المجبولةُ دوماً على الطمأنينةِ ، المولعةُ بالشعاعِ الوهّاج . سوف أبني على قبرها صومعةً تكون لنا ، لسنين طوال ، كبيتٍ .
ويكون ثمّة معبرٌ بين الشبابيكِ في جوفه نوقدُ السراجَ فيغدو كقلبٍ مُعتمٍ فيه حمراء تندلع النار .
وهْيَ تهذي ، أتعْلمُ ، من هوَسٍ بأشياء أخرى ، بالسماويّ القصيّ ، لكنّه ، لائماً ، لقّن الراهبُ : " ليست لكم . ليستِ الجنّةُ للآثمين " .
آنذاك ، مُبيضّةً من الوجعِ العَتِيّ ، رغتْ : " سوف أمضي معك " . ها نحن وحيدان ، طليقان وعند أقدامنا تضطربُ الأمواجُ الزرقاء . ١٩١١ *** إلى م . لوزينسكي النهارُ الكهرمانيّ الكتيمُ يطولُ إلى غيرِ خاتمةٍ كحزنٍ مستحيلٍ ، كانتظارٍ بلا محض جدوى . والأيّلُ ، ثانيةً ، في المتحفِ الوحشيّ ، بصوتِه الفضيّ ، يحنّ إلى الشروقِ الشماليّ . وأنا التي آمنتُ ثمّةَ ثلجٌ أشدّ صقيعاً لأولئك الفقراء جُرنُ المعموديّةِ الأزرق ، والمرضى والمزالقُ الصغيرةُ للسباقاتِ الطويلةِ تحت رنينِ أجراسِ القريةِ النائية . ١٩١٢ *** إلى ألكسندر بلوك (١)
ضائفةً حللتُ على الشاعرِ منتصفَ اليوم ، تماماً ، الأحد . السكونُ الكهلُ يقطنُ غرفتهُ وخلفَ الشبابيكِ ينمو الجليد وشمسٌ قرمزيّةٌ على الضبابِ الأزرقِ المنعوثِ . ياللصاحبِ الصموت بما ينجلي يتقرّاني !
هكذا عيناهُ محالٌ على أحدٍ أن يمرّ ، كما يشتهي بهما، بنعمةِ النسيانِ ، ومن وجسٍ ، يهيء لي ، ألا أرنو فيهما ذاكَ أجدى ، وفيما حولهما .
فيما يظلّ محفوظاً في لوحِ ذاكرتي كلامي معه منتصفَ اليومِ الضبابيّ ذاك ، الأحدْ في البيتِ الرماديّ ، العالي عند مصبّاتِ " النيفا" (٢) في البحرِ . كانون الثاني ١٩١٤. *** خلوة
مرميّة فيّ ، هكذا ، أحجارٌ لا تحدّ ، ومهملةٌ حتى لم يعدْ يمسسني خوفٌ عليّ من سواها . والبرجُ المُشادُ ، عالياً ، بين البروجِ العالياتِ صار شِركاً . شكراً لبانيهِ دعِ اكتئاباتها ، وانكساراتها تمرّ من قبلُ ، من هناكَ ، كُنتُ أرى مطلعَ الفجرِ وهنا يحتفلُ الشعاعُ الأخيرُ وعادةً ، تهبّ من شبابيكِ غرفتي ، نسائمُ البحارِ الشماليّةُ ، وتأكل الحماماتُ من بين يديّ حبوبَ القمحِ . فيما ، هناكَ صفحةٌ لم تكتملْ بعدُ سوف تكتبها ، بطمأنينةٍ وبساطةٍ إلهيةٍ ، يدُ الوحيِ السمراء . ١٩١٤ *** المدينةُ القاتمةُ عند البحرِ الواجمِ جذلى ، كانت بأرجوحتي ، وبسريريَ الزوجيّ المُحتفى وقد رفعتْ فوقه ملائكتُكَ الفتيّةُ ضفائِرَ الزهورِ بحبّي المرير ِ المدينةُ معشوقتي . معبدُ ابتهالاتي كُنتُ هادئةً ، بالصرامة ذاتها ، سرابيّةً حين تمثّل لي ، للمرةِ الأولى ، عروسي مرشداً روحي لصراطٍ من الضوء ثم قادني ، مثل عمياء ، وحيي . ١٩١٤ *** وشُلّ عن الإبتسامِ فمي وبالبردِ ريحُ الشمالِ تعضّ على شفتيّ . وبي أملٌ ما أقلّ وأغنيةٌ أكثرُ .. الآن . سوف أعرّضُها للشماتةِ والدنٓس هاذيةً إنّ بي ألماً لا يُطاقُ إذا مسّ روحي عن الحبّ شيء من خرَس ١٩١٥ *** صلاة :
هبني سنيّ العليلِ المريراتِ، الأرقَ المستبيحَ ، الحريقَ الداخليّ ، ولوعة َ الآهات . وخذِ الطفلَ ، خذهُ ، والصديقَ عطيّتَكَ السريّة ٓالمشتهاة َ هذا دُعائي خلفَ صلاتكَ الكنائسيّة ، وفي أثر الأيامِ المثقلاتِ بالبلوى هذه كلّها ، أدعو كي تبقى المُزنةُ في أعالي روسيا القاتمة غيمةً في مجدِ الشعاع . ١٩١٥ *** مبارَكاً بالربّ ، الشعاعُ الأوّل سحّ على الوجهِ الحبيبِ الذي مأخوذاً بالنعاسِ مسّهُ الشحوبُ القليلُ لكنه ، بأقصى السكينةِ تلكَ ، غفا. يُخالُ ، للقبلةِ دفء الشعاعِ السماويّ وكما لو أن شفتيّ ، منذ دهرٍ ، لم تطأ شفتين بهذي النداوةِ ، ولم تمسّ كتفاً أسمر . والآن ، أرواحٌ متوفاةٌ ، في سِفري الذي لا عزاءَ له أحثّ إليه الأغاني وأهدهدُ الشعاعَ الصباحيّ . ١٩١٦ *** إلى م . لوزينسكي
يطير ، لا يزال ، في الطريقِ الطويلِ كلامُ الحبّ ، والانعتاق . أنا التي في رعشِ ما قبل الغناءِ أشدّ برودةً من جسدِ الصقيع فمي . وقريباً ، هناك ، حيث يلتصقُ البتولا الشفيفُ بالشبابيكِ سوف يفحّ اليباسُ وتنعقدُ الورودُ على الأكاليلِ اليانعة ثم ّ تقرعُ الأصواتُ الرقيقةُ ، وبعدُ الضوءُ سخيّ حدّ الجنون ِ كنبيذ ساخنٍ قانٍ وهاهي الريحُ المعطّرةُ الدافئة وهجُ حواسي . ١٩١٦ *** مثل نسرٍ فتيّ بعينين سوداوانِ ، بتوحّدٍ سريّ مع الأعالي ، مضيتُ بخفّةِ الروح كما لو أني في حديقةِ زهورِ ما قبل الخريفِ هناك الورودُ الأخيرةُ ، والهلال الشفيفُ تهاوى على الغيومِ الشهباءِ الغزيرة . ١٩١٧ *** أبداً أسمعُ صفيرَ صوتٍ حزينٍ وأحتفي بغَرْمِ الصيفِ الجليلِ ، بينما ، بأزيزِ الثعابينِ ، يجتثّ منجلٌ السنبلةَ الملتصقةَ ، معتصمةً ، بأخواتها. فتُنثرُ في الريح ، كالراياتِ في الأعيادِ ، خلفَ أذيالِ الحاصداتِ المكيناتِ . والآن ، هاهو ذا رنينُ الأجراسِ المغتبطة يعبرُ الرموشَ المغبرّة للنظرة الطويلة . لستُ على انتظارِ مغازلةٍ ، ولا أنتظر الزلفَ المحبّبَ حتى في هاجسِ عتمةٍ لاحدّ لها ، ولامفرّ منها . فقط تعالَ ، وانظر إلى الجنّة حيث كنّا مغتبطَين ، وبريئَين ١٩١٧ *** وانتظرتهُ ، عبثاً ، كلّ هذي السنين كما لو أنها غفوة مرّت بي . لكن الضوء الذي ليس يُطفأ ، ثلاثَ سنين في السبت المقدّسِ ، توهّج ، صوتي تجرّح ، وساكناً بابتسامته ظلّ عروسي منتصباً أمامي .
وعلى مهَلٍ ، خلف الشبابيكِ مضى ملأٌ بالشموع . آهِ ، أيها المساءُ الورِع ! خفيفاً ، قرقعَ جليدُ نيسانَ الرقيق ودوّى فوق الحشودِ رنينُ النواقيسِ مثل عزاءاتٍ سامية، وترنّحتِ النارُ في الريحِ السوداء . وكما لو أنّي ، في انبلاجِ السديمِ ، رأيتُ النرجساتِ البيض على الطاولة، النبيذَ الأحمرَ ، بارداً ، في الكأس . يدي المبقّعةُ بالشمعِ ارتعشتْ ، وهي تحتضنُ القبلةَ ، فغنّى دمي : أيتها الجذلى ! ابتهلي . ١٩١٦ *** في الليل : بالكادِ حيّاً ، يقف الهلالُ في السماء بين السحبِ الصغيرةِ المنسابةِ ، والساعةُ العابسةُ عند القصرِ تنظرُ ، بضيقٍ ، إلى عقاربِ البرج .
تعودُ إلى البيتِ الزوجةُ المسكونةُ بالخطيئةِ بوجهها الشاردِ ، المتيبّس بينما تلهبُ الهواجسُ المتوقدةُ ، الطاهرةَ في أحضانِ الأحلامِ المضطربة . مالي ، ولها؟ اليوم السابع ولّى زافراً صعداءهُ ، قلتُ ، بالكلام البسيط ، للكونِ كلّه . لكنّ الهواءَ ، هناكَ ، خنّاقٌ تسللتُ إلى الروضِ ثم رنوتُ إلى النجومِ وتحسّستُ القيثارة . ١٩١٨ *** كيف لي أن أدبّ الصوتَ من حبّكَ الغامضِ باللوعاتِ . صيّرني شاحبةً مثل اصفرارٍ متعجّلٍ ، أوهنَ العظمَ مني ، بالكادِ أقودّ قدميّ . فلا تشدُ بالأغاني الجديدةِ . أتخادعُ الأغنياتُ طويلاً ، والأظافرُ الهائجاتُ تنهشُ صدري.
ولكي يطفحَ الدمُ من حنجرتي ، ويطفّ ، سريعاً ، على السريرِ ، وينسلّ الموتُ من القلبِ ، سأبقى إلى أبدٍ طافحةً بسُكري اللعين . ١٩١٨ *** وليكن ، أن يعصفَ الأرغنُ ، ثانيةً ، كأولِ رعدِ الربيعِ : من وراء كتِفَيْ عروسِكَ ، عينايَ نصف الموصودتينِ ، تحنوانِ عليك َ .
وداعاً ، وداعاً ، واثملْ بالسعادةِ يا صديقي الأَلُوف ، أردّ إليكَ عهدكَ اللذيذَ. وإياكَ ، إيّاكَ أن تقصّ على صديقتكَ الولهانةِ شيئاً من هذياني الفذّ ، حتى ينفذَ ، بِسُمّهِ الكاوي ، فيما بعدُ توحّدكما المبروكَ السعيد
وأنا غاديةٌ لأحظى بالروضِ المُعجَزِ حيثُ حفيفُ الأعشابِ ، ونداءاتُ آلهةِ الشعر . ١٩٢١ *** إلى كثيرين
أنا صوتكمْ ، وذؤاباتُ أنفاسكمْ وملامحكمْ في المرايا ، وما فاضَ من رعَشاتٍ لأجنحةٍ فائضاتٍ سدىً ، وسأبقى إلى أبدٍ معكم .
فحقّاً ، لماذا إذن نهِمِينَ تحبّونني أن أظلّ مخضّبةً بالخطايا ، وبالسَقَمِ المُرّ . حقّاً لماذا ، بلا محضِ انتباهٍ ، تخصّونني دون غيري بأجملِ أبنائكمْ ، ولماذا، إذنْ، أبداً ماسألتمونني عنه ؟. حقاً وكنتمْ كمدخنةٍ ، بالمديحِ كثيرِ الدخانِ، تلفّون بيتي المهدّم ، مثلي . أبداً ، تقول الأحاديثُ ، أحاديثكمْ : ليس لزاماً توحدّنا بالذي اعتصمتْ به روحان ، لا ينبغي أن نحبّ بكلّ مزايا الجنون .
وكما يشتهي الظلّ أن يتحرّر من جسَدٍ ، أو كما يشتهي جسدٌ أن يفارقَ روحاً أشتهي الآن منسيّةً أن أكون . ١٩٢٢ ***
الشاعر
باريس باسترناك (٣):
هوذا ، ذاتُهُ أشبه بعيني مُهرٍ ، يرمُقُ ، من زاويتَي لحظِهِ ، يرنو ، يرى ، يُدركُ ، وبالألماسِ المُذابِ تضاءُ الغدائرُ ، والجليدُ ينوءُ .
وفي الغيهبِ الليلكيّ ترقدُ الأشياءُ وراء البيوتِ ، الأرصفةُ الوحيدةُ ، قُرَمُ الأشجارِ، الأوراقُ ، والسحابةُ ، صفيرُ الحافلاتِ ، خشخشاتُ قشورِ البطّيخ ، واليدُ الوجلى في روائحِ " لايكا" .
كموجٍ مضطربٍ على شاطئٍ يلطُمُ ، أو يدوّي يرعدُ ، أو يزبِدُ ، ثم يهدأ ، في خلسةٍ عنه . ذاكَ يعني أنهُ يتحسّسُ ممرّاً بين الصنوبرِ ، بحذاقةِ الخوفِ ، لكي لا يجفلَ أفقُ الحلُمِ المُرهف . أو ذاك يعني أنّهُ يعدّ الحَبّ في سنابلَ فارغةٍ ، أو ذاك يعني أنه عادَ للتوّ إلى موقدِ الطبخِ الأسودِ الملعونِ من جنازةٍ ما .
ومن جديدٍ ، يلدغُ الفتُورُ الموسكوفيّ ، والأجراسُ البعيدةُ المميتةُ تجلجلُ في الأقاصي .. من تاهَ على بُعْدِ خطوتينِ من البيت ِ أين الثلجُ على حزامِ الأرضِ ، هل انتهى كلّ شيء؟ . ولهذا كلّه أشبّهُ الدخان " بلاوكون" (٥) والآسُ تشبّبَ بالمقابرِ . ولهذا كلّه يطفحُ ، بالرنينِ المنذِرِ ، العالم كلّه في المسافةِ البكرِ لأصداءِ السطور.
وهو المُجازى بطفولةٍ لا تنتهي به نوّرتِ العطايا ، وجهاتُ الانتباه ،. وكانتِ الأرضُ كلّها تِركتٓهُ فتقاسمها مع المخلوقاتِ جميعاً . ١٩ كانون ثاني ١٩٣٦ *** بالمراتِعِ يفوح العسلُ البريّ ، والغبارُ بالشعاعِ المرسوم بالضوء ، وبالبنفسجِ يعبقُ الفمُ البكرُ ، فيما بالفراغ يلمع الذهب . وبالماءِ تتضوّع الخزامى والحبّ بالتفّاح .
لكنّنا ، منذ بدءِ الخلقِ ، نرى أن الدم لايفحّ إلا بالدم . وسدىً ، غسل نائب روما يديه في أعين الشعبِ وسط صيحاتِ الرعاع المشؤومةِ . عبثاً ، مسحتِ الملكة الأسكوتلنديّة ، براحتيها الضيّقتينِ ، الرذاذ الأحمر في القصر المخنوق بالظلمات . ١٩٣٣ *** صورُ الكائنِ ، حينَ يموتُ ، تتبدّلُ، ترنو بعينينِ أخريين ، وتحوكُ شفتاهُ ابتسامةً أخرى . ذاك الذي أرى كلّما عدتُ من جنازةِ شاعرٍ . وكثيراً ما تيقّنتُ . قد ثبُتتْ رؤيايَ . ١٩٤٠ *** موت :
على حافّةِ شيء ما كُنتُ شيء ليس له اسماً حقاً .. سلطانُ النومِ الغلّاب الهاربُ منكَ . ... وواقفة على مشارفِ شيء ما مشارف كلٌّ واردُها ، لكن بأوزارِهِ .. لي حجرةٌ على هذه السفينةِ الريحُ على الأشرعة ، ولحظةُ الوداعِ الرهيبةُ للوطنِ الأمّ ١٩٤٢ ... والغرفةُ لي ، حيثُ أبتلى آخر مرّةٍ ، على هذه الأرض ، يطأني المرضُ الأعمى . كأنّما يتسنّدُ على سيقانِ الحورِ البيضاء العالياتِ في الممرّ . إنّه الأولُ ، الأعلى شأناً، كم ينضجُ ، في حكمهِ الجليلِ ، وينعمُ بالغبطةِ الأوّل ، الأعلى في شأنه ، عندما يعبرُ الشبّاكَ الأغبرَ تحلّقُ روحي لتحتضنَ الشمسَ ، وتُهلك النومَ المميت . كانون ثاني ١٩٤٤ . طشقند ... عندما يستلقي البدرُ ، مثلَ كِسَرِ البطّيخِ الأصفرِ ، على شفيرِ الشبّاكِ ، ويعمّ الإختناقُ . عندما يوصدُ البابُ ، والبيتُ المسحورُ بأغصانِ النباتاتِ الرشيقةِ الزرقاء المتسلّقةِ الجدرانِ ، ويطفّ الماءُ الباردُ في الفنجانِ الطينيّ ، والمنشفةُ الثلجُ ، والشمعةُ الطويلةُ توهّجُ ، كما في الطفولةِ ، تستدرجُ فراش الليل ، الهدوءُ يسقطُ مدويّاً ، ولا يُسمعُ صوتُ كلامي . عندها ، يتصاعدُ مضفرّاً شيء ما من إطار لوحات " ريمبراند" (٦) ، ويختفي ، هناكَ، فيها . لكنني لستُ موطوءة بمسّ من خوف ، ولا تأخذني الرعشة ُ ، أيّما رعشةٍ . هنا التقطتني ، بطُعمها، الوحدة الغلّابة . صاحبة القطّ الأسودِ تمسّده ، كعيني قَرنٍ ، فيما قرينيَ في المرآةِ ليس يُغيثُ . سوف أنامُ بكلّ أوصافِ اللذّةِ . أيّتها الليلة ! تصبحينَ على خير . طشقند ١٩٤٤. *** ١ كما في الألبوم تقريباً :
تُنصِتُ للبرقِ ، تذكرُني تفكّر : اشتهتْ عاصفةَ الرعدِ . تُصيّرُ رقعةُ السماءِ أرجواناً عاتياً ، فيما القلبُ يبقى ، كعهدهِ ، في النارِ . سوف يمضي هذا أيضاً ، ذاك اليومُ الموسكوفيّ حين ، في اقتفاءِ خُطى المشتهى ، أهجرُ المدينةَ إلى الأبدِ تاركةٍ ظلّي بينكم .
٢ بلا عنوان :
وسط جليدِ موسكو الكرنفاليّ ، حيث ينسكبُ الوداع ، وداعنا ، وحيث قد تقرأون الطبعة الأولى لأغاني فراقِ عيونٍ مندهشةٍ قليلاً . - ماذا ؟ مستحيل ؟ - بالطبع . طاهرةٌ فيروزاتُ السمواتِ القدُسيّةُ ، والأشياءُ من حولنا طيّبةُ النفسِ . لم يفترقْ أحدٌ ، هكذا، عن أحدٍ . هذا وسامُ بطولتنا.
٣ نخبٌ آخر بعدُ . من أجلِ ثقتكَ العمياءِ بي ، من أجلِ إخلاصيَ الأبدِيّ لك ، من أجل الذي قادنا إلى هذه الحافّة !
فلنكنْ ، أبداً ، مأخوذَين بالسحرِ . لكنّ الأرضَ لم تجئنا بشتاءٍ حاذقٍ بالروعةِ ، ولم تكنِ الصلبانُ مزخرفةً في أقاصي السماء . سلاسلُ الهواء أطولُ من الجسورِ .. من أجلِ جاعلِ الأشياءِ تسبحُ ، منزلقةً ، بلا محضِ صوتٍ . من أجلِ من قضى أنّ لزاماً علينا ألا نلتقي . ١٩٦١١٩٦٣ *** إلى ذكرى بولغاكوف (٧)
هاأنذا ، لكَ ، بدلاً من زهراتِ القبرِ ، وإشعالِ البخورِ . هكذا عشتَ بصرامةِ الكفافِ القليلِ ، وحتى النهايةِ ، ببلاغةِ الإزدراءِ الأخّاذِ ، بلّغتَ .
وشربتَ النبيذَ ، وليسَ كما يتفكّهُ الآخرون ، مزحتَ ، وكنتَ ، بين جدرانٍ موصَدٌ عنها الهواءُ ، تختنقُ ، أنتَ الذي أذِنتَ للضيفةِ الرهيبةِ أن تبقى وحدها معك . وها أنتَ لم تعدْ بيننا ، وكلّ شيء موطوءٌ ، عن هذه الحياةِ العاليةِ الكئيبةِ ، بالصمتِ الأعمى . وحدَهُ صوتي ، مثل نايٍ ، يجلجلُ حتى في وليمةِ دفنكِ الخرساءِ .
ومن تجرّأ ، أنا شبهُ المصابةِ بالجنونِ ، أن يصدّقني ، أنا الناشجةُ الآن أيّامَ القتلى ، وأعمارَ المفقودينَ والمنسيّينَ ، المتقلبّةُ على نارٍ هادئةٍ .
من ، بملء قواه وفيضِ إرادته ، من ، بنواياه البيضاء ، كأنما حدثني أمس ، وقد وارى رعشاتِ آلامِ ما قبلَ الموت . ١٩٤٠ *** موسيقى قدّاس
١٩٣٥١٩٤٠
لا .. ليس تحتَ قبّةِ سماءٍ أخرى دخيلةٍ وليس في كنفِ أجنحةٍ غريبةٍ كُنتُ ، آنذاكَ ، مع شعبي هناك ، حيثُ ، لسوءِ الحظّ ، كان .. ١٩٦١
بمثابة مقدّمة : سبعة عشر شهراً ، في سنيّ القمعِ الرهيبةِ ، قضيتُ في طوابيرِ سجنِ لينينغراد . مرةً ما ، أحدٌ ما وشى بي. حينذاك ، كانت امرأة بشفتين زرقاوينِ تقفُ خلفي ، ومن المؤكّد أنها لم تكنْ قد سمعتْ باسمي قط . صحتْ من الذهولِ الإعتياديّ الذي كان يعمّنا هناك ، وسألتني في أذني ( هناك همساً يُختلسُ الحوارُ ) : - هل تستطيعينَ تصويرَ كلّ هذا. وقلت : - أستطيع .. آنذاك ، انسابَ شيء أشبه بابتسامة على وجهها الذي لم يكن ، من قبلُ ، هذا .
١ أبريل ١٩٥٧. مدينة لينينغراد .
إهداء :
تنحني ، في حضرةِ الأسى هذا ، الجبالُ ، ولا يندلعُ النهرُ الجليلُ . وحدها ، ترابيسُ السجنِ الفتّاكةُ ، وجحورُ الأشغالِ الشاقّةِ ، خلفها ، والحسرةُ القاتلة .
لمنْ ، طازجاً ، يرفّ النسيم ُ ، الغروبُ لمنْ يرِقّ ؟
نحنُ لا نعرفُ ، نحنُ في كلّ أرضٍ كما نحنُ .
لانسمعُ غيرَ صريرِ المفاتيحِ المقيتةِ ذاتها ، وخطى العسكريّ الثقيلات . نهضنا كما لو أننا إلى صلاةِ الفجرِ ، مستوحشينٓ ، ندبّ في العاصمة ، هناك التقينا ، أنفاس قتلى هامدة ، شمس أدنى ، والنيفا الضبابيّ ، فيما أملٌ ما ينشدُ في الأفقِ .
النطقُ بالحكمِ .. على عجلٍ تهطلُ الدموعُ من مآقي الجمعِ ، الدموعُ تجري فرادى . كما لو أنها ، بأقصى وجعِ العمرِ ، استُلّتْ من القلبِ ، وكأنها هائجةً انكبّتْ على ظهرها ، لكنّها تمضي ، مرتجّةً ، وحدها .
أينهنّ اللواتي اضطررتُ أن أصادقهُنّ في سنتيّ المسعورتينِ ؟ مالذي يلوحُ لهنّ في عاصفةِ الثلجِ السيبيريّ ، مالذي يتراءى لهنّ في قرصِ القمر ؟
لهنّ أرسلُ تحيّةَ الوداعِ .
آذار ١٩٤٠
فاتحة :
كان هذا ، عندما ابتسم ٓ لكنّه ميّتاً كانَ ، مغتبطاً بالسكينةِ . بما فاضَ من ثرثرةٍ ، تداعى على مقربةٍ من أسوارِ سجونِ مدينتهِ لينينغراد . كان هذا ، عندما مضتْ الأفواجُ المدانةُ ، مخبولةً من الألمِ الفتّاكِ ، زفرتْ صفّاراتُ القاطراتِ أغنيةَ الفراقِ القصيرةَ ، وانتصبتْ ، فوقنا ، نجومُ الموتِ ، وتلوّت روسيا البريئةُ تحتَ البساطيرِ الدمويّةِ ، والعجلاتِ السُودِ لناقلاتٍ محملاتٍ بالمساجين .
١ قادوكَ ، مع مطلعِ الفجرِ ، وخلفكَ ، كما في تشييعِ جثمان ، سِرتُ ، انتحبَ الأطفالُ في الغرفةِ المعتمةِ ، وعندَ الضريحِ نطفتْ شمعةٌ ، على شفتيكَ برودةُ الأيقونة ِ ، وعلى جبينكَ عرقُ الموتِ .. ليس يُنسى ! وسأبقى ، كزوجاتِ المعدومينَ بالرصاصِ الفتيّاتِ ، أنوحُ على أبراجِ الكرملين .
خريف موسكو ١٩٣٥.
٢ مطمئناً ، ينسكبُ الدونُ الهادئُ ، الهلالُ الأصفرُ يلجُ البيتَ ، يدخلُ في قبٌعةٍ مائلةٍ على جانبٍ رأسٍ . الهلالُ الأصفرُ يُبصرُ ظلاً . هذه المرأة مُعتلّةٌ، وحيدةٌ هذِهِ المرأةُ . صلّوا ، إذنْ ، لأجلي .
١٩٣٨
٣ لا . إن هذه ليستْ أنا . هيَ أخرى تتمرّغُ بالآلامِ . ليس بي ما يُطيقُ كلّ هذا . بينما هِيَ .. مالذي يجري ؟ دعِ الأجواخَ السوداءَ تُغشي ولتحملِ المصابيح .. الليلة .
١٩٣٩
٤
أأُريكِ ، أيتها الساخرةُ المعشوقةُ من كلّ الأصدقاءِ ، آثمةُ " تسارسكوي سيلو" (٩)الجذلى ، مالذي سيجري لحياتكِ كما أنتِ - الرقمُ الثلاثمائة في الطابورِ مع النقلِ ستظلّين واقفةً تحت الصلبانِ ، تلهبينَ ، بدموعكِ الساخناتِ ، جليدَ العامِ الجديدِ . هناكَ ، حيثُ يرتجّ حَورُ السجنِ ، ولاصوتَ كم من الأرواحِ البريئةِ تُجتثّ .
١٩٣٨
٥ بأشهريَ السبعةَ عشرَ أعوي ، أناديكَ حتى تعودَ إلى البيتِ . أنتَ ابني ، وروعي . مختلطٌ كلّ شيء إلى آخرِ الدهرِ ، وليسَ بي ما يُدرِكُ : من الوحشُ الآن ، ومن الآدميّ . أيطولُ انتظارُ اعدامكَ . وحدها الورودُ التي تعفّرتْ بالغبارِ ، ورنينُ البخورِ، وآثارُ تمضي إلى غيرِ ما جهةٍ ، والنجمةُ العظيمةُ ، قاصدةً ، تتفرّسُ في عينيّ تنذرُ بمقتلكَ الوشيكِ . النجمةُ العظيمةُ .
١٩٣٩
٦
تطيرُ الأسابيعُ العجولاتُ . ماذا جرى . ولا عِلمَ لي . كيفَ تجري حياتكَ ، بنيّ ، في قبضةِ السجنِ . أطلّتِ الليالي البيضاءُ كيفَ أمكنَها أن تعودَ ثانيةً ، بمُقلتيْ باشقٍ حرّاقتينِ وتروي الأحاديثَ عن صليبكِ العالي ، وموتكَ ذاكَ . ربيع ١٩٣٩
٧
الحُكم :
وقعتِ الكلمةُ الحجريّةُ على صدري الذي مازالَ حيّاً . لاشيءَ ، لاشيءَ . وحسبي تحسّبتُ من قبلُ . سأعبرُ هذا على كلّ حالٍ . لديّ ، اليومَ ، أعمالُ أخرى جمّةٌ : ينبغي محوُ ذاكرتي كلّها ، وعليّ ، لكي تتحجّرَ روحي ، من جديدٍ أن أتعلّمَ كُنْه الحياة .
ليس هذا كما كانَ حفيفُ الصيفِ القائظِ كما لو أنّه احتفالٌ خلف نافذتي . وبي ، منذ وقتٍ بعيدٍ ، نذيرَ شؤمٍ اختلجَ اليومُ المُشمِسُ والبيتُ المهجورُ .
صيف ١٩٣٩.
٨
إلى موت :
مادمتَ ستأتي لا محالةَ ، فلماذا لا تجيء للتوّ ؟ إني على انتظاركَ . شاقّ عليّ ، ولاطاقةَ لي . أخمدتُ الضوءَ ، وأشرعتُ البابَ ..لكَ . جئْ كما أنتَ : بسيطاً ، وغريباً . كُنْ على أيةِ هيئةٍ تشاءُ . مقتحماً ، كقنبلةٍ موبوءةٍ ، أو متسللاً ، بصولجانكَ الحديديّ ، كمجرمٍ حاذقٍ ، أو مسمّماً بأعقابِ التيفوس .
أو خُرافيّاً ، خالقاً نفسكَ بالذي سوّتْ يداكَ ، كما أنتَ مألوفاً للخلقِ حدّ التقيئٍ . كي أرى سقفَ القبّعةِ الزرقاءِ (١١)، والبوّابَ الشاحبَ بالرعبِ . سيّانَ ما سوفَ يجري الآن . يعلو " ينيسي" (١٢)متضفّر الأمواجِ ، يبرقُ النجمُ القطبيّ ، والألقُ الأزرقُ في المقَلِ الحبيبةِ تواري الكابوسَ الأخير .
١٩ أغسطس ١٩٣٩
٩
هوذا الجنونُ ، بجناحهِ ، يغمرُ نصفَ روحي ، يجرّعني النبيذَ الناريّ ، ثمٌ يجرّني إلى وادٍ من الظلماتِ . ووعيتُ . آن لي أن أسلمّهُ قوسَ النصرِ ، مستسلمةً لما هو بي ، كما لوأنه هذيانُ آخرٍ ، غريب . ولا شيء يشفعُ عندهُ . الجنونُ هذا يقتادُني معهُ . ولا يكلّف نفسهُ وسعاً بالتفاتةٍ لتوسّلي وضراعاتي الحانية .
لا الألمُ الأصمّ في عيني ابني المرعوبتينِ ، ولا يومَ حلّتْ عاصفةُ الرعدِ ، ولا ساعةُ الزيارةِ في السجنِ ، ولا الأكفّ الرقيقةُ المندّاة ، ولا بقايا الظلالِ المضطربةِ ، ولا الصوتُ الخفيفُ السحيقُ - كلمةُ العزاءِ الأخير .
٤ مايو ١٩٤٠.
١٠ الصلب:
" لا تنحبي عليّ ، يا أمّ في قبري "
تمجّدُ جوقةُ الملائكِ الساعةَ الجللَ ، السمواتُ انصهرتْ في السعيرِ . قالَ للأبِ : لماذا تركتني !" وللأمّ : " لاتنحُبيني" .
١٩٣٨
بكتِ المجدليّةُ لاطمةً ، وتحجّرَ التابعُ الحبيبُ . بينما ، إلى هناكَ حيثُ تسمّرتِ الأمّ مأخوذةً بالصمتِ ، لم يجرؤ أحدٌ أن يرمي نظرةً ما .
١٩٣٠١٩٤٣
خاتمة :
عرفتُ ، كيفَ تسقطُ الوجوهُ ، كيفٓ يختلسُ الرعبُ التحديقَ من تحت الجفونِ ، كيفَ تُربّي الصفحاتُ المسماريّةُ الغلّابةُ الوجعَ المرّ على الوجناتِ ، كيفَ تشتعلُ خصلاتُ الشَعرِ التي جُعلتْ من الرماديّ أو الأسودِ ، في خلسةٍ عنها ، بالفِضيّ . كيفَ تذوي الإبتسامةُ على الشفاهِ المُذعناتِ ، ويرتجفُ الرعبُ في الضحكةِ اليابسةِ . وأنا أصلّي ، ليس لي وحدي ، بل لَكُمْ ، كلّكمْ . لمن وقفَ ، هناكَ ، مثلي في البردِ اللدودِ ، في قيظِ تموز، تحتَ جدارٍ أحمرَ أعمى .
أصلّي ، ليس لأجلي ، بل لأجلكمْ كلّكمْ .
٢
ثانيةً ، أقبلتْ ساعةُ الغائبِ . إنّي لا أزالُ أراكُنّ وأسمعكُنّ ، وإنيّ أحسّ بكنّ : تلكَ التي بالكادِ جُرّتْ إلى الشبّاكِ ، وتلكَ التي لم تعدْ تدُبّ على الأرضِ ، وتلكَ التي هزّتْ رأسَها الجميلَ ، وقالتْ : " أجيء هنا ، وكأني آتي إلى البيتِ " . إن بي رغبة أن أسميكنّ جميعاً بأسمائكنّ . لكنّهمْ سرقوا القوائمَ ، ولايُعرفنَ في أيّ أرضٍ . حِكتُ لهنّ غطاءً وسيعاً من كلماتهنّ الطائعةِ البائسةِ . وسأبقى ، أبداً ، أتذكرهنّ ، حيثما حللتُ ولن أنساهنّ في فجيعتيَ الآتية .
وإذا كبتوا فميَ المكلومَ بالذي يصرخُ شعبيَ المضنيّ ، دعهنّ يحتفلنَ بي عشيّةَ يومِ ذكرايَ .
وحين يفكّرون ، ذاتَ وقتٍ في بلدي ، بنصبِ تمثالٍ لي ، سوف أعطي موافقتي باحتفاليّةٍ . فقطْ ألا يشيدوهُ على مقربةٍ من البحرِ ، حيثُ ولدتُ . انقطعتْ آخرُ أوصالي مع البحرِ . ولا في الحديقةِ القيصريّةِ عند جذموريَ المنشودِ ، حيثُ يبحثُ عني الظلّ الذي لاسلوانَ عنه . بل هنا ، حيث وقفتُ ثلاثمائة ساعةٍ ، وقد غُلّقتْ دونيَ الأقفالُ . وأخشى ، بعد هذا ، في موتيَ المباركِ نسيانَ دويّ العجلاتِ السُودِ للناقلاتِ حاملاتِ المساجين َ ، نسيانَ كيفَ أُوصِدَ البابُ الممقوتُ ، وعوتْ عجوزٌ كوحشٍ جريحٍ .
وليكنْ أن هذا الثلج الذائبَ يجري كالدموعِ ، من القرنِ البرونزيّ الجامد . وليكنْ .. حماماتُ السجنِ تنوحُ في الأفقِ البعيدِ . وليكنْ .. تمضي السفنُ في النيفا هادئة . آذار ١٩٤٠
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر الفلسطيني من بين ثلاثة شعراء حول العالم في كتاب عام ا
...
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : في ذكرى النكبة : مازلنا
...
-
وسام الثقافة والعلوم والفنون الفلسطيني يمنح لعدد من الكتاب ا
...
-
المركز الروسي - القدس- متضامناً مع الشعب الفلسطيني : الممارس
...
-
الرئيس الفلسطيني محمود عباس : المسجد الأقصى حق إسلامي خالص
-
سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل : المجلس الوطني الفلسطي
...
-
سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل : نثق بدور روسيا ، وندع
...
-
الشاعرالفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : علي دوابشة ، النبي ابراه
...
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : أنا النهاية أروي لأبقى
-
سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل في يوم القدس العالمي :
...
-
المالكي في موسكو : الشعب الفلسطيني فرض شرعيته
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يرثي - نهاية - الكنعانية
-
دفاعاً عن السلطة والمنظمة ، دفاعاً عن فلسطين
-
كمن ينتظر الأبدية خلف السياج
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب تحية للشاعر الفلسطيني الم
...
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب عن معلولا
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب في الذكرى 67 للنكبة
-
في ذكرى النكبة : ولهذا ما زلنا أحياء
-
الساكت عن الإرهابي إرهابي أخرس
-
السيد الرئيس : جل ّشعراء وكتاب فلسطين في الموسوعة الروسية إس
...
المزيد.....
-
في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي
...
-
-بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي
-
لنظام الخمس سنوات والثلاث سنوات .. أعرف الآن تنسيق الدبلومات
...
-
قصص -جبل الجليد- تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخسارات
-
اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
-
الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث
-
الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم
...
-
رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو
...
-
قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان
...
-
معرض -حنين مطبوع- في الدوحة: 99 فنانا يستشعرون الذاكرة والهو
...
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|