أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر؟















المزيد.....

لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر؟


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 7613 - 2023 / 5 / 16 - 07:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بدأت حركة النهضة الحديثة فى كل من تركيا ومصر فى نفس الوقت تقريباً فى بدايات القرن التاسع عشر على يد السلطان سليم الثالث والسلطان محمود الثانى بعده وعلى يد محمد على وخلفائه فى مصر ولكن بينما نجحت تركيا فى مسيرة نهضتها وأصبحت فى نهاية الأمر دولة علمانية ديموقراطية متقدمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً تعثرت مصر وسقطت قبل أن تبلغ غايتها فلماذا حدث هذا وكيف؟. يحاول هذا البحث المختصر الإجابة على هذا السؤال.
فى القرن التاسع عشر أصبحت الإمبراطورية العثمانية رجل أوربا المريض بسبب ضعفها المتزايد وتخلفها عن ركب الحضارة الأوربية الصاعدة ولكن فى عام 1789م وقع حدثان ساعدا على كسر عزلة العثمانيين وهما قيام الثورة الفرنسية وصعود السلطان المصلح سليم الثالث إلى العرش. كان سليم الثالث مهتماً بالأفكار الخارجية الجديدة وكان شديد الإعجاب بالثقافة الفرنسية وبمبادئ الثورة الفرنسية فأخذ بإدخال النظم الفرنسية الحديثة إلى الإمبراطورية.وفى سنة 1798م غزا نابوليون بونابرت إبن الثورة الفرنسية مصر وبذلك بدأت مصر بدورها تتعرض للمؤثرات الفرنسية فى نفس الوقت تقريباً الذى كانت فيه هذه المؤثرات تخترق قلب الإمبراطورية العثمانية فى تركيا.
بدأت قصة تركيا الحديثة مع سليم الثالث ولكن وفى سنة 1807م قام الإنكشارية فى إحتجاجهم على الإصلاحات والتحديثات الأوربية التى أدخلها بموجب نظامه الجديد بخلع السلطان وإحلال إبن عمه مصطفى مكانه والذى مالبث أن ألغى جميع الإصلاحات. وبعد أربعة عشر شهراً من ذلك التاريخ أغتيل مصطفى وخلفه أخوه الذى تسمى بمحمود الثانى. كان محمود الثانى مصلحاً مثل سليم الثالث وفى النهاية مضى حتى أبعد من سليم أثناء حكمه الطويل الذى بلغ واحد وثلاثين سنة. ولكن فى العقد الأول من حكمه كان عليه أن يتحرك بحذر حتى يستطيع تدعيم سلطته الشخصية ولم يستطع إلا فى سنة 1826م مواجهة مشكلة الإنكشارية وقضى عليهم فى مذبحة إستطاع بعدها فقط أن يمضى فى إصلاحاته التحديثية - تماما كما فعل محمد على مع المماليك فى مصر - وذلك بإستيراد الخبرات الأوربية وإصلاح الجيش ونظام التعليم وإرسال بعثات الطلاب إلى جامعات أوربا. هكذا بدا وكأن حركة النهضة الحديثة فى كل من تركيا ومصر قد بدأت فى نفس الوقت تقريباً.
وبعد وفاة السلطان محمود الثانى تولى السلطان عبدالمجيد الذى حكم من سنة 1839م إلى سنة 1861م تابع أثنائها مواصلة إصلاحات أبيه. وفى بداية عهده عين وزير الخارجية مصطفى رشيد باشا ليكون مسئولاً عن البرنامج الإصلاحى وفى نوفمبر 1839م تم إعلان الخط الشريف التاريخى الذى سمى بخط (الغرفة الحمراء) وكان الأول فى سلسلة من المراسيم التى عرفت بشكل عام فى مجموعها بإسم (التنظيمات) وكانت تهدف إلى تحديث القوانين فى الإمبراطورية على غرار النماذج الأوربية. كانت المعارضة الدينية لإصلاحات التنظيمات قوية لإن الإصلاحات كانت ثورية فى الهدف والمضمون. وكان إثنان من هذه التغييرات ثوريين فعلا وكان مجرد إعلانهما صادماً للرأى العام التقليدى المحافظ. كان واحد منها يقول بأن كل المواطنين العثمانيين يجب أن يتساووا بالكامل أمام القانون بصرف النظر عن جنسهم أو عقيدتهم والآخر كان هو إدخال نظام قانونى جديد يتميز عن نظام الشريعة الإسلامية الذى يشرف عليه القضاة المسلمون. كانت مساواة جميع المواطنين أمام القانون مبداً علمانياً غير إسلامى نبع من حركة الإستنارة الأوربية والمثل القومية للثورة الأمريكية والثورة الفرنسية وكان أمراً مختلفاً تماماً عن النظام الملى السائد فى الإمبراطورية العثمانية آنذاك. لم يكن التغيير فورياً فقد حاربته الجهات الدينية ومع ذلك فإن عملية علمنة القوة الإسلامية الكبرى فى العالم كانت قد بدأت. وتبع ذلك إطلاق مشروع كبير لإنشاء جامعة وطنية- تم إفتتاحها بالفعل فى أخريات عهد السلطان عبدالحميد الثانى سنة 1900 - وشبكة مركزية من المدارس الإبتدائية والثانوية وأنشئت وزارة للتعليم وبدأ نظام من التعليم العلمانى يتأسس تدريجياً.
أعطت حرب القرم التى نشبت بين روسيا وتركيا سنة 1854م وإنتهت سنة 1856م بتدخل إنجلترا وفرنسا إلى جانب تركيا قوة دفع أكبر لإصلاحات التنظيمات. فقد نشبت الحرب أساساً بسبب رغبة القيصر الروسى فى فرض حمايته على الرعايا المسيحيين الأرثوذكس فى الإمبراطورية العثمانية وعندما رفض السلطان العثمانى ذلك نشبت الحرب ولذا فعندما إنتهت الحرب بمعاهدة باريس فى مارس 1856م كان عليه أن يقدم شيئاً مقابل تأييد الدول الأوربية الكبرى له ضد روسيا فأعلن عن مرسوم إمبراطورى جديد كمقدمة للمعاهدة معيداً التأكيد على إصلاحات التنظيمات ماضياً بالإصلاحات إلى مرحلة أبعد. فقد أعاد ذلك المرسوم الإمبراطورى فى بنود أقوى وأوضح ، التأكيد على المساواة الكاملة لكل الرعايا العثمانيين بدون تحيز للطبقة أو للعقيدة وذلك فى كل مايتعلق بالضرائب والملكية والتعليم والعدالة وأدخل المرسوم قوانين تجارية وبحرية وقوانين عقوبات جديدة كانت مؤسسة على القانون الفرنسى إلى حد كبير وإنتهت بذلك سيطرة الشريعة الإسلامية على كثير من مناحى الحياة.
توفى السلطان عبدالمجيد فى عام 1861م وخلفه أخوه عبدالعزيز. كان عبدالعزيز ذا شخصية قوية ورغم أنه مبداياً كان قد أعلن نفسه مصلحاً فسرعان ماأظهر تعاطفه مع الرجعيين. ومع ذلك فقد كان عاجزاً عن إيقاف عملية الإصلاح التى أسفرت عن ظهور طبقة هامة من شباب الأتراك المثقفين بثقافة عصر الإستنارة فى أوربا والذين كانوا يفهمون حاجات بلادهم فهماً حقيقياً ولم يعد المصلحون مجرد حفنة صغيرة من الرجال المعزولين. وقد خلص بعض هؤلاء الشباب إلى أن الضرورة الأولى لاتكمن فى مجرد إدخال بعض النظم والقوانين الأوربية وإنما تكمن فى إدخال المبادئ الغربية للحكومة الدستورية. وفى سنة 1860م إتفق مؤيدوا هذا الإتجاه على الحاجة الملحة لتقليص السلطات المطلقة للسلطان. وفى عام 1865م تكونت جماعة سرية ثورية عرفت بإسم (الشباب العثمانى) كانت فى الواقع أول حزب سياسى فى الإمبراطورية العثمانية. وفى الجزء الباقى من القرن التاسع عشر تعرضت الإمبراطورية لسلسلة من النكبات – خاصة فى منطقة البلقان - جعلت من عملية إصلاح وتحديث الإمبراطورية مسألة حياة أوموت. وقد جعل ذلك مدحت باشا - أعظم رجال الدولة الأتراك فى أخريات القرن التاسع عشر- يشارك الشباب العثمانيين قناعاتهم فى ضرورة إدخال المبادئ الغربية الدستورية وجعل وزراء السلطان مسئولين أمام مجلس وطنى حقيقى يخلو من التمييز الطبقى والدينى. نجح مدحت باشا فى عزل السلطان عبدالعزيز وإستبداله بمراد - والذى كان يحظى بسمعة جيدة كمؤيد للإتجاهات الدستورية الليبرالية. ولكن مراد كان يعانى إضطراباً عصبياً فتم عزله بأخيه الأصغر عبدالحميد. كان عبدالحميد الثانى آخر سلطان ذا أهمية فى التاريخ العثمانى وقد أدى حكمه البالغ ثلاثة وثلاثين عاما (1876-1909م) إلى المراحل النهائية للإمبراطورية العثمانية وظهور تركيا العلمانية الحديثة.
وبمجرد توليه الحكم - وفى مواجهة المشاكل التى كانت تثيرها روسيا ضد الإمبراطورية فى البلقان - أصدر السلطان الشاب دستوراً جديداً. نص ذلك الدستور الذى أوصى به مدحت باشا وأُسس على الدستور البلجيكى لسنة 1831م على إنشاء برلمان منتخب ونص على مبدأ معاملة كل الرجال من مختلف العقائد بالتساوى وكان الأول من نوعه فى أى دولة إسلامية. لكن السلطان عبدالحميد لم يكن مخلصاً فى إصلاحاته الدستورية فسرعان ماأبعد مدحت باشا وأرسله إلى المنفى. وفى سنة 1878م عينه حاكماً على سوريا ولكن فى سنة 1881م تم إبعاده مرة أخرى. وبعد السماح له بالعودة إلى تركيا بعد ضغط بريطانى قُدم للمحاكمة بتهمة التآمر ضد السلطان وحُكم عليه بالسجن المؤبد لكنه قُتل بعد ذلك فى سجنه بالجزيرة العربية. وبعد ذلك قام عبدالحميد بحل البرلمان وتعليق الدستور. وقد إستمر هذا التعليق لحوالى ثلاثين سنة. وبذلك سُحقت مؤقتا حركة الإصلاح العلمانية التى قادها الشباب العثمانى. ومع ذلك فلم يكن من الممكن بعد كل هذه الرحلة الطويلة عزل تركيا عن الأفكار الثورية العلمانية التى كانت قد ترسخت فى وجدان الطبقة الوسطى المثقفة والتى عادت إلى الظهور حوالى نهاية القرن فى حركة ثورية عرفت بإسم (تركيا الفتاة) وقد إنتشرت تلك الحركة بسرعة بين الطلاب فى الكليات الطبية والقانونية فى العاصمة والولايات. وقد قام هؤلاء بتأسيس جمعية سرية أطلقوا عليها إسم (جمعية الإتحاد والترقى) أكدت على مبدأ الوحدة والمساواة لكل الأجناس والمعتقدات داخل الإمبراطورية. وفى سنة 1896م حاول الأتراك الشباب القيام بإنقلاب لكن تم قمعه بسهولة ولكن ضعف الإمبراطورية المخزى فى علاقتها مع الدول الأوربية جعلت بعض ضباط الجيش أمثال أنور بك وجمال باشا ومصطفى كمال (أتاتورك فيما بعد) يلتحقون بالحركة الجديدة واضعين قيادة الوحدات العسكرية فى الجيش المقدونى تحت إمرتها. وفى سنة 1908م رفع الأتراك الشباب لواء الثورة فى سالونيك - العاصمة المقدونية - والتى أصبحت المقر الرئيسى لجمعية الإتحاد والترقى ومنها إنتشر التمرد إلى جميع أنحاء البلاد وطالب الشباب الأتراك – يقودهم أنور بك - بإسترداد الحكم الدستورى وإضطر السلطان للتراجع عندما إكتشف أن شيخ الإسلام وأغلبية وزرائه كانوا يتعاطفون مع الثوار وقبل بإسترجاع الدستور قصير العمر الذى كان قد سبق وألغاه قبل حوالى ثلاثين عاما. لكن عبدالحميد لم يكن صادقاً فى قراره فقد راح يشجع سراً العناصر الرجعية الغاضبة التى عارضت النظام الجديد. وفى إبريل عام 1909م تمردت قوات حامية إسطنبول وذبحت ضباطها وإقتحمت البرلمان وعندما عفى عبدالحميد عن قادة الثورة وشكل مجلس وزراء جديد أرسل الأتراك الشباب جيشاً من سالونيك لإعادة النظام ومعاقبة المتمردين وإسترجاع سلطة جمعية الإتحاد والترقى. وبعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ إجتمع البرلمان وأعلن خلع عبدالحميد عن الحكم ثم أُعلن أخوه رشاد سلطاناً حاملاً لقب محمد الخامس . وكان رشادالبالغ من العمر 64 سنة مستعداً لإن يقبل بدور الملك الدستورى.
وقد قام السلطان عبدالحميد بمحاولة إنقلاب غير ناجحة أخرى سنة 1909م أصبحت بعدها جمعية الإتحاد والترقى منفردة السيادة فى الإمبراطورية لكن الغريب أنها أخذت تنفذ سياساتها التحديثية بالقوة فعملت على إحياء الروح الوطنية التركية على حساب الروح الإسلامية وعلى عثمنة الإمبراطورية وتتريك التعليم وأغلقت نوادى وجمعيات الأقليات وقضت على تجمع الإتحاد الليبرالى الذى تشكل فى مواجهة إستبداد جمعية الإتحاد والترقى. لكن الجماعة نجحت مع ذلك فى وضع تركيا على طريق الحداثة وكانت أكبر نجاحاتها فى مجال التعليم. فقد قاموا بقطع شوطاً أبعد فى خلق نظام تعليمى حديث متقدم على كل المستويات بما فى ذلك تأسيس كليات جديدة لتدريب المدرسين ومعاهد متخصصة كما كانوا أول حكام لدولة إسلامية مستقلة يعملون على خلق نظام تعليمى وطنى يفتح أبوابه للبنات. وفى نوفمبر 1914م وبعد موقف متردد قررت جمعية الإتحاد والترقى الإنحياز إلى ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى وأعلنت الحرب على الحلفاء.
كانت نتيجة الحرب كارثة على الإمبراطورية العثمانية لكنها كانت البداية الفعلية لخلق تركيا الحديثة. فقدت الإمبراطورية العثمانية كل أملاكها فى أوربا والمشرق العربى والتى تم توزيعها على الحلفاء المنتصرين لكنها تمكنت من الإحتفاظ بأملاكها فى الأراضى التركية المركزية داخل هضبة الأناضول وفى الجزء التركى من أوربا وذلك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الذى قاد الحرب ضد الحلفاء وتمكن من الحفاظ على إستقلال تركيا بموجب معاهدة لوزان فى يوليو 1923م.
كان مصطفى كمال قومياً علمانياً خالصاً وقد إعتقد أنه يجب هجر كل تراث الإمبراطورية العثمانية وأن تركيا يجب أن تتحول إلى دولة أوربية عصرية. ولم يبدو أن ذلك كان إنفصالاً مفاجئاً عن الماضى. كانت إصلاحات التنظيمات (1839م) قد وضعت الأسس لدولة علمانية كما كان الأتراك الشباب حتى وهم يحاولون الحفاظ على الإمبراطورية قد أعطوا قوة دفع كبيرة لقضية القومية التركية. وأثناء سنوات الحرب إزدادت علمنة التعليم كما فُتحت أبواب الجامعات والمناصب العامة للنساء ووضعت بعض المحاكم التى كانت تخضع للسلطات الدينية تحت سلطة وزارة العدل كما ساعد قانون صدر فى عام 1916م على تحديث قوانين الزواج والطلاق. وقد حمل مصطفى كمال عملية التحديث إلى حدود أبعد. وفى نوفمبر 1922م تقرر إلغاء السلطنة وفى أكتوبر 1923م أعلنت تركيا جمهورية وكمال رئيساً لها وفى مارس 1924م تم إلغاء الخلافة الإسلامية وحل نظام قانونى جديد تأسس على تنويعات من الأنظمة القانونية الأوربية محل الشريعة الإسلامية. وفى سنة 1924م أصبح الدستور رسمياً علمانياً وحُذفت منه – فيما بعد - الفقرة التى تنص على أن الإسلام هو عقيدة الدولة التركية وإعتبر فصل الدين عن الدولة واحداً من المبادئ الرئيسية للدولة وضمن الدستور المساواة أمام القانون وحرية التفكير والكلام والنشر والإجتماع ، كما إستبدلت الحروف العربية التى كانت تستخدم فى تركيا العثمانية بأبجدية ترتكز على اللاتينية وبسبب تأثير مصطفى كمال القوى على شعبه كانت هذه الإصلاحات عميقة وبعيدة الأثر. وفى عام 1924م جمع مصطفى كمال مؤيديه فى حزب الشعب الجمهورى الذى سيطر تماماً على الحياة السياسية فى تركيا وظل يحكم لمدة سبع وعشرين سنة تمكن خلالها من ترسيخ الثقافة العلمانية فى قطاع كبير من الشعب التركى و تمكن من القيام بالعديد من المشروعات الاقتصادية الكبرى ذات الطابع القومى كما تمكن من القضاء على المعارضة الإسلامية التى أثارها الشيخ سعيد بيران وتلميذه بديع الزمان النورسى وذلك بإعدام الأول ونفى الثانى . ولكن وبعد وفاة أتاتورك سنة 1938م قويت حركة المعارضة ضد إحتكار حزب الشعب الجمهورى للسلطة فسمح خليفته عصمت إينونو بتأسيس نظام متعدد الأحزاب فظهر الحزب الديموقراطى كمنافس رئيسى لحزب الشعب الجمهورى منادياً بحرية النشاط الاقتصادى وبالنظام المتعدد الأحزاب. وبدأ يكتسب شعبية بشكل ثابت حتى حصل على نصر كبير فى إنتخابات سنة 1950م وظهرت أصالة الديموقراطية العلمانية التركية عندما سمح إينونو بالإنتقال السلمى للسلطة. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم صمدت الديموقراطية العلمانية التركية فى مواجهة التحديات الكثيرة التى واجهتها كان أهمهما قيام الجيش بالقضاء على محاولة رئيس الوزارء عدنان مندريس بإحياء تيار الإسلام السياسى فى البلاد وإعدامه سنة 1960م ثم مواجهة الجيش لحزبى السلامة و حزب الرفاه الإسلامى الذى أسسهما نجم الدين أربكان فى السبعينيات والثمانينيات ونجاحه بعد ذلك فى الحفاظ على علمانية الدولة أثناء حكم حزب العدالة والتنمية الحالى بقيادة رجب طيب أردوغان.
لم تختلف قصة مصر الحديثة كثيراً عن قصة تركيا فبعد خروج الفرنسيين من مصر إستطاع محمد على الوصول إلى حكم مصر فى مايو 1805م وبدوره كان محمد على معجباً بالنظم وبالثقافة الفرنسية وبنابوليون بونابرت شخصياً فأخذ يستورد الخبرات الفرنسية خاصة فى مجال إصلاح الجيش كما قام بإرسال عدة مئات من الشباب المصرى إلى باريس وعدد أٌقل إلى العواصم الأوربية الأخرى وذلك لدراسة الصناعة والهندسة والطب والزراعة كما ساعد مستشاروه الفرنسيون على تأسيس نظام تعليمى وطنى جديد . وبذلك بدأ غرس بذور مصر العلمانية الحديثة وتابع خلفائه نفس السياسات على مدى نحو قرن ونصف وساعد إفتتاح قناة السويس على ربط مصر بالعالم الخارجى وإزدياد نزوح الأوربيين إليها كما جعل وجود الإنجليز فى مصر منها محوراً لسياسات الدول الأوربية فى الشرق الأوسط فإزداد تأثر مصر بثقافة العالم المتقدم وخاصة فى عهد إسماعيل حيث أنشأ مجلس شورى النواب فى نوفمبر 1866م وفى مايو تم إقرار دستور يخول للمجلس سلطة البرلمانات الحديثة وفى سنة 1908م تأسست الجامعة المصرية. ولذا فقد إصطبغت ثورة 1919م بصبغة قومية ليبرالية تأثراً بالثقافة القومية الليبرالية الأوربية وعلى نحو ماحدث فى تركيا تماماً وقد تم تم تكريس هذه الثقافة الوطنية الليبرالية فى دستور 1923م الذى جعل من مصر رسمياً دولة وطنية علمانية. ولكن مصر العلمانية الحديثة واجهت تحديات خطيرة لم تستطع مواجهتها بعكس ماحدث فى تركيا . ففى سنة 1928م أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين رداً على حركة التحديث المصرية لكن حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس إستطاع السيطرة على قوة دفع تيار التحديث وعلى الثقافة الديموقراطية الليبرالية الذى أصطبغ بها المجتمع فى أعقاب ثورة 1919م لكن الضربة القاصمة جاءت بعد ذلك مع إنقلاب الجيش سنة 1952م بقيادة جمال عبدالناصر والذى تصرف - وبرغم حسن نياته - بعكس مافعل مصطفى كمال وخلفائه فى تركيا فبدلاً من المضى بالنظام الليبرالى إلى حدود أبعد فقد قام بالقضاء على ذلك النظام برمته والذى كان قد تأسس خلال نحو قرن ونصف من الإصلاح والتحديث وألغى معه كل منجزاته الكبرى وعلى رأسها تأصيل الديموقراطية ومبدأ تداول السلطة وثقافة حرية الرأى وأسس لنظام الحزب الواحد وحكم الفرد الواحد وإستبدل القومية الوطنية المصرية التى واكبت حركة التحديث بقومية أخرى عربية لاتعدو أن تكون – فى الواقع – سوى الوجه الحداثى للقومية الإسلامية فقضى بذلك على منجزات عصر كامل وأفسح المجال – ورغم صراعه الشرس مع حركة الإسلام السياسى - لعودة الثقافة الأصولية العروبية الإسلامية مرة أخرى بعد هزيمة تجربته السياسية ورحيله سنة 1970، تلك الثقافة التى تسيطر على المجتمع المصرى الآن وتدفع به إلى حافة الهاوية. وهكذا وفى حدود هذا التحليل ، يمكن الإجابة على ذلك السؤال الملح ، لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر؟ ففى نفس اللحظة التاريخية التى قررت فيها تركيا الحفاظ على الديموقراطية والعبور إلى المستقبل سنة 1950م قررت مصر قتل الديموقراطية والعودة إلى الماضى سنة 1952م.
أهم المراجع :
1-تاريخ الشرق الأوسط / بيتر مانسفيلد
ترجمة/عبدالجواد سيد عبدالجواد
مطبعة الفتح/توزيع منشأة المعارف/ الإسكندرية
2- تاريخ مصر الحديث والمعاصر
د. عمر عبدالعزيز عمر
دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية
3- The Middle East- Bernard lewis
Phoenix Giant-London.



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فاجنر والجاسوس والزحف على ليبيا والسودان
- سره الباتع وتزوير التاريخ
- يسوع الناصرى بين المسيح العبرى واللوجوس الإغريقى
- رمضان كريم
- مابعد الجاسوس
- الجاسوسان
- الشرق الأوسط مابعد محمد والمحرمات الثلاث
- العصر الرومانى والثورة المسيحية - مقتطفات من الطبعة الثانية ...
- كأس العالم الإخوانجى ومصافحة الديكتاتور والجاسوس
- حراك نوفمبر بين مبارك والإخوان
- الجاسوس
- أركان الليبرالية الأربعة - ديموقراطية علمانية سلام حقوق إنسا ...
- إتحاد المتوسط- نحو تحالف دفاعى وعصر جديد
- أهمية تعزيز الديموقراطية فى المتوسط الجنوبى - المعهد الأوربى ...
- أهمية دعم وسائل الإعلام المستقلة فى الجوار الجنوبى-المعهدالأ ...
- إلى عبدالفتاح السيسى- مقتطفات من كتابى قصة مصر فى العصرالإسل ...
- نعم لترشيح الجيش لجمال مبارك، نبارك ونؤيد
- ترجمة تقرير موقع جافاج الإستخباراتى الإسرائيلى عن ضجر الجيش ...
- ترجمة تقرير موقع جافاج الإستخباراتى الإسرائيلى عن محاولة إغت ...
- تأملات فى فوز ماكرون


المزيد.....




- -يديعوت أحرونوت- تتساءل: هل تحالف نتنياهو مع غالانت؟
- نظرية السباغيتي الكونية: ماذا سيحدث لو اقتربنا من ثقب أسود؟ ...
- إسبانيا ترفض استقبال سفينة محملة بالأسلحة متجهة إلى إسرائيل ...
- شاهد: لقطات جديدة لحادث مرعب يُظهر لحظات سبقت تدلي شاحنة من ...
- مقال: الفيزيائيون على بعد خطوة واحدة من -إثبات وجود الرب-
- تحذيرات في إسرائيل من تدهور العلاقات و-انفجار الشعب المصري- ...
- الصحف الغربية تعلق على زيارة بوتين إلى الصين
- -واينت-: سقوط صاروخ بالخطأ من مقاتلة حربية إسرائيلية على مست ...
- هنغاريا تستخدم حق النقض ضد قرار مجلس أوروبا الاعتراف بخطة زي ...
- بيسكوف: إجراءات حماية بوتين بعد محاولة اغتيال فيتسو تظل عند ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر؟