أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد احمد الغريب عبدربه - إمكانات النقد في فلسفة ميشيل فوكو الكاتب: محمد الغريب















المزيد.....


إمكانات النقد في فلسفة ميشيل فوكو الكاتب: محمد الغريب


محمد احمد الغريب عبدربه

الحوار المتمدن-العدد: 7571 - 2023 / 4 / 4 - 22:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مدخل:
مهارة النقد احد المهارات الرئيسية في التفكير الفلسفي، وهى التى تحدد قوة أو ضعف الفكرة الفلسفية التي تثير ذهن الفيلسوف، حيث لا يوجد فيلسوف إلا وأستخدمها بشكل كبير، فيتم نقد الأفكار الفلسفية السابقة من جانب الفيلسوف وذلك لأنه يري وجهات نظرية فلسفية أخري يريد أثباتها بشكل فلسفى، أو يقوم الفيلسوف بأستخدام المهارة النقدية في تفسير الاشياء والواقع، ونقد واقع معين، مثل قيام مدرسة فرانكفورت بنقد الحضارة الغربية ومبادئ الرأسمالية، وقد سميت بالمدرسة النقدية لأنها نقدت واقع مسيطر على الانسان وعلى العالم، ورأت ان الانسان أصبح يعيش وفقا لمبدأ التشيؤ بسبب زيادة البعد التقني والأداتي في كل شئ، وأشارت فرانكفورت أيضا الى صناعة الثقافة وصناعة الادب، وتحويل كل شئ إلى سلعه تباع وتشترى دون الأخذ فى الأعتبار الأنسان الفرد وصفاته الذاتية وحريته في تحديد وجوده واحتياجاته، فالفرد في هذه الحضارة يسير كأنه ترس في آله صناعية ليس لديه أي قرار أو هوية، فهو شئ مثل الاشياء الاخرى، فحدثت وفقا لذلك هيمنة صناعية ورأسمالية علي ماهية الانسان‏.
ويعرض المفكر الن هاو في كتابه النظرية النقدية كثير من الشروحات لهذه المدرسة بشكل تفصيلي وتحليلي ويعرض اقتباسات كثيرة لهم دليلا علي كلامه، وفي بداية الكتاب يعرض رأي لفيلسوف المدرسة هربرت ماركوزه في كتابه الانسان ذو البعد الواحد وهو كتاب يوضح البعد العام لسيطرة التقنية والصناعة على الأنسان ونعرض الاقتباس التالي لماركوزه وهي مفارقة علي قيم الفرد أمام التقدم التقني ويقول ماركوزه " ثمة غياب للحرية ناعم، سلس، معقول وديمقراطي يسود في الحضارة الصناعية المتقدمة، أمام التقدم التقني. حقا ما الذي يمكن أن يكون أكثر معقولية من قمع الفردية الذي تنطوي عليه ميكنه ضروب الأداء المؤلمة إنما الضرورية اجتماعيا، وتركيز المشروعات الفردية في شركات أشد فاعلية، وأكثر إنتاجية وتنظيم التنافس الحر بين ذوات اقتصادية متفاوتة في العدة والمؤهلات، والحد من الامتيازات ضروب السيادة القومية التي تعترض سبيل المنظمة الدولية إلي الموارد". ( النظرية النقدية، 2010) (1) .
هذا الرأي النقدي الفلسفي لمدرسة فرانكفورت مثال قوى علي أهمية وظيفة مهارة النقد في القدرة علي التفلسف وتفسير الاشياء والواقع والأنسان والعلاقات المتشابكة بينهم.
ويحاول هذا البحث معرفة الى أي حد تم توظيف مهارة النقد الفلسفية لدي الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في كتبه ومؤلفاته وافكاره النظرية والتطبيقية الفلسفية، وهو فيلسوف فرنسي (1926 - 1984) يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه "تاريخ الجنون", وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون. وابتكر مصطلح "أركيولوجية المعرفة". وأرّخ للجنس أيضاً من "حب الغلمان عند اليونان" وصولاً إلى معالجاته الجدلية المعاصرة كما في "تاريخ الجنسانية". وتأثر كثيرا بكتابات كل من الفلاسفة نيتشه وهيدجر وليفي شتراوس في صياغة فلسفته ورؤيته الفكرية القائمة على تجاوز الخطاب الانساني او النزعه الانسانية من خلال العمل على تقويضها. وفلسفته تقف بالتضاد المباشر مع الفلسفة الغربية القائمة على الحداثة والنزعة الانسانية والفكر الجدلي التطوري الذي يأخذ بنظر الاعتبار التاريخ والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تطور المجتمعات البشرية. (وليد المسعودي، 2005) ( 2).
وكما ذكرنا يحلل البحث الي اي مدي قام ميشال فوكو بتوظيف مهارة النقدة في أفكاره الفلسفية، وذلك بقيامه بعرض وتحليل ونقد النقد الفلسفي لكانط للحداثة والتنوير العقلانى، وقيام فوكو بنقد الليبرالية الغربية، والأبعاد العلمية والنقدية لدى فوكو، ونقده لمفهوم السياسي والسلطة والمثقف وأبعاد نقدية أخري وذلك في سياق عدة محاور في السياق التالى:
فوكو يحلل النقد الفلسفي لدي كانط
يلاحظ ان ميشال فوكو أثار إشكالية كبرى حول مسألة التنوير في الحضارة الغربية وأفكار الحداثة، وذلك من خلال أفكار الفيلسوف الالماني كانط، وهذا السؤال المعرفي والحضاري حول التنوير هو من مهام النقد الفلسفي، فالعقلانية النقدية هي اساس التنوير العقلي، وهو ما شهدته الحضارة الأوربية في بداية عصر التنوير، فيري فوكو أن الفيلسوف كانط قد أسس التقليدين الكبيرين للنقد واللذين تقاسما الفلسفة الحديثة، فعن طريق عمله النقدي أسس كانط التقليد الأول للفلسفة الذي يضع سؤال الشروط الممكنة لإقامة معرفة حقيقية، وهنا يمكن رؤية انفتاح قناة فلسفة منذ القرن 19م وتطورها كعملية تحليلية للحقيقة. وهذه مهمة تتعلق بقدرة العقل علي التفكير والوصول الي الحقيقة، وهو ما شرحه كانط في كتبه النقدية، وهو سؤال معرفي للعقل يتم اثارته بشكل نقدي، فيتم نقد العقل نفسه لمعرفة قدرته علي الوصول الي الحقيقة، ونقد الحقيقة وعلاقتها بالعقل.
والتقليد الثاني الذي يشير له فوكو في سعي كانط لفهم سؤال التنوير، هو محاولة وضع سؤال : ما هي حالتنا الراهنة؟ وهو الحقل الحالي لتجاربنا الممكنة؟، ويشير كانط ان الانوار ومرحلة التنوير هي اللحظة التي تسعي فيها الإنسانية إلى استعمال فكرها الخاص دون الخضوع لأي سيطرة، وهذه اللحظة بالذات هي التي يكون فيها النقد ضروريا، ذلك أن دور النقد هو أن يحدد الشروط المشروعة لاستعمال العقل لكي يحدد ما يمكن معرفته وما يمكن فعله وما يمكن انتظار وقوعه. ( علي حرب، 2015) ( 3) .
وذلك يتيح للفرد وعقله التفريق بين الأوهام في تفسير الأشياء والمعرفة والحقيقة، وبين القدرة الغير الزائفة للعقل فى الوصول إلى الحقيقية، فيجب البعد عن الاستعمال الغير المشروع للعقل لتجنب الدوغمائية والتبعية، والسيطرة من الأخرين، ومن أشياء غير حقيقية، فدائما لحظة التنوير هي لحظة تحرر العقل من الاوهام، وقدرته علي الاستقلالية في التفسير والفهم والوصول إلي الحقيقة، فعصر الأنوار الاوروبي هو عصر النقد. ( الكلمات والاشياء، ص119 ). ( 4).
نقد فوكو لليبرالية الغربية
أثار فوكو أسئلة كثيرة نقدية حول الافكار الليبرالية وتحركها في الفكر الحضاري الحداثي الغربي، وهذه الاسئلة تأتي في نظرياته وأطروحاته حول السلطة والمؤسسات الأنطباطية ونظم العقاب في عصر الحداثة الاوروبية، ويذهب فوكو إلى أن مؤسسات مثل المدرسة والجيش والسجن والمستشفى هي التي تعمل على تكوين الفرد، أو بالأصح على إنتاجه، وبالتالي فلا يمكن الحديث عن هذا الفرد باعتباره أساسا لعقد اجتماعي أو لنظرية سياسية. فالفرد في هذا الاطار جزء من سلطة تقوم بمراقبته وضبطه اجتماعية وسياسية واقتصادية، وذلك يؤكد علي رؤية فوكو النقدية لليبرالية وتحطيم لمسلماتها الأساسية حول الفرد. كما أن فوكو يضع العناصر المكونة للنظرية الليبرالية مثل نظرية الحق ونظرية العقد ومفهوم الفرد إزاء الصورة الحقيقية للمجتمع الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ويفندها باكتشاف آليات ممارسة السلطة الانضباطية التي تكذب جميع مسلمات الفكر الليبرالي. ( اشرف منصور، 2009) ( 5) .
ومن التطبيقات علي نقد قيم الليبرالية الغربية وقيمها نجد مثالين لميشال فوكو حول سلطة الطب والطبيب، وسلطة السجن، فيما بمثال سلطة الطب في أخضاع الفرد لسلطة الدولة، يري فوكو ان المستشفيات أصبحت مزدحمة، ورعاية المريض صارت مكلفة ولا شخصية، كما قد تصيب الظروف غير الصحية بعض المرضي بأمراض معدية، أسهمت الملاحظات التجريبية والنفعية في جعل الأطباء يدافعون عن الرعاية المنزلية تلك التي عملت أيضا لصالح الدولة، بما أن مرضي المستشفي ( وهم فقراء ايضا) يستطيعون أكل المرق من اللحم المخصوص لذويهم من الاصحاء وهي حقيقة كشف عنها فوكو من واقع بحثه لوثائق عديدة. وفي الوقت نفسه وبسبب من رعاية المرضي منزلياً، أخذ الأطباء –علي حد قوله- في إجراء الزيارات المنزلية، وهذا لم يسمح لهم فقط بملاحظة العلاقة بين الفقر وأمراض شتي، بل وتغير المكان الطبي، فالأمراض خرجت من المستشفيات، وأصبحت الأخيرة خاصة بالابحاث وسنت الدولة لها القوانين، وقدمت لها التمويل ومنهج البحث مما دعا لقيام مستشفيات البحث التي يصبح فيها الفقراء، كالحال في المصحات، خنازير غينية. ( التحليل الثقافي، 2008، ص 216) (6).
وفيما يتعلق بسلطة السجن والتحكم ومراقبة الفرد والمحكوم عليه، يقدم فوكو طرحا مفصلا حول السجن في كتابه المراقبة والمعاقبة، فالمجتمع الانضباطي ليس مجرد تفريع لشبكيات من السلطة، تتنزل كلها من السلطة العليا الحاكمة أي الدولة. بل هو يقوم علي مبدأ تنويع السلطات، وليس تفريع سلطة واحدة. فمثلاً في سلطة البوليس أنها بالرغم منها أنها تمثل جهاز الرقابة والضبط المباشر للدولة، إلا أن نموذج السلطة الذي تمارسه هذه المؤسسة، والميكانيكات التي تسخدمها والعناصر التي تطبقها أنما هي خاصة. فالسجن ليس مصدره القانون الجنائي، بل هو سبق القانون، فالسجن له مؤسسته الخاصة، وطريقة نشوئه وهيكلته المتعلقة به وحده، كما لو كان سلطة مضافة الي الدولة والمجتمع. (المراقبة والمعاقبة 1990، ص 32) (7).
ويأتي هذا النقد الفوكوني للفكر الليبرالي في أطار مشروع النقدي العام للحضارة الغربية والحداثة، والبحث عن ماهية ووضع الانسان في اللحظة الآنية، فهو ينقد بداية المشروع الحداثي الغربي وصولا إلي آنية الانسان في الوقت المعاصر، لذا وصل الي مفهوم موت الانسان، وهو ليس بالمعني المادي الفيزيائي، أنما بالمعني ماهيته وقدرته علي التحرر والاختيار وتحديد أطار وجوده ورغباته وقدرته علي الشعور بذاته بشكل كامل في كل تفاصيل حياته.
العلمية والقدرة النقدية لدي فوكو
الفكر النقدي من خلاله يمكن التحقق من اليقين، والوصول الي الحقيقة والمعرفة الصادقة، والفكر النقدي دائما ما يفك الارتباط العاطفي بأي فكرة أو اي معتقد. (التفكير الفلسفي، 2013، ص 125) (8).
وقد ابتعد ميشال فوكو في مشروعه النقدي للسلطة والقيم الليبرالية الغربية، عن التأثير العاطفي في تحليل هذه الاشكاليات، وقد أتبع مناحي علمية ومحددة ومنطقية في التفكير النقدي في تحليل ظواهر السلطة والثقافة، والانسان والطبقة، والتحولات الاجتماعية، والجرائم، والجنون والجسد. وقد استفاد من الماركسية بشكل علمي، فاستفاد من الجانب الاصطلاحي والعلمي في الفكر الماركسي في تحليله للتحولات الاقتصادية والاجتماعية كرأس المال، الاقتصاد، وقد رفض الذات المتفردة التي تدعو لها النظريات المثالية ومنها فكرة الماركسية خاصة اخلاقات الفلسفة الماركسية التي تتحسم للذات المتفردة للانسان، وذلك ما رفضه فوكو بشكل كبير في تحليلاته. وقد تأثر بتوجه علمي وذا منحي في نظرية المعرفة، حيث وقع تحت تأثير الفيلسوف الماركسي لوي التوسير الذي قدمه للبنائية الماركسية بالاضافة الي جان هيبوليت وهو فيلسوف بارز تميزت أعمال باتجاهاتها الهيجلية الفلسفية، وجورج كلانغيلام من علماء تاريخ الافكار. ( التحليل الثقافي، ص 30) (9) .
وقد تبني فوكو طريقة التفكير النقدي المحكم الذي يطبق الاسئلة النقدية على كل الافكار والمعتقدات بما فيها معتقدات وافكار المفكر النقدي ذاته، وهذا التفكير النقدي المحكم لا يرغم بالضرورة التخلي عن المعتقدات المبدئية، فهو يحمس المفكر الي نقد كل شئ واخضاعه للتحليل ومدي صدقه وقربه من اليقين والحقيقة. ( التفكير الفلسفي، سبق ذكره، ص 126) ( 10).

الحيوية الفلسفية لفوكو والقدرة النقدية
كثير من الفلسفات تتصف بالحيوية، حيث تصبح افكار الفيلسوف ذو سمة متجددة للتفسير والقراءة وتناسب حقب زمنية متعاقبة مثل الفكر الارسطي والافلاطونية والماركسية وفلسفات نيتشة. الأمر هنا يتوقف عن جدية ووجاهة الفلسفة وقدرتها بالأساس علي مهارة التحليل ومهارة النقد والالمام بتفسيرات مفتوحة تسبق النسق والسياق الواقعي وتتحاور مع التاريخ بصيغ مغايره ولا تري شئ ثابت الا بقانون يحتمل التغير.
هذه التمثلات لمهارة الحيوية لدي الفيلسوف تعتبر متناثرة لا تأخذ منحي فلسفي رئيسي ومحدد مثل مهارة الدهشة او مهارة الشك هي مظلة شبكية لذهنية الفيلسوف ومن يتصف بها من فلاسفة يعتبر الامر اشبه بالحالة الثورية والاستثنائية مثل ثورية فرويد وثورية ماركس. والاقرب لهذه المهارة من مهارات التفلسف هي مهارة النقد، فالحيوية الفلسفية لابد ان تتسم بالنقد، حيث يقوم الفيلسوف دائما بنقد اقكاره، ويأتي اخرون لنقد افكار هذه الفيلسوف دون الاخلال بفلسفته، انما تجددها يتيح مزيد من النقد والقراءة والتنوع والتأويل لزيادة مساحات جديدة من الاضافات الفلسفية ووجهات النظر الجديدة لهذه الفلسفة. (التفكير الفلسفي، 2013) (11).
ويأتي الفيلسوف ميشل فوكو في هذا السياق حيث تتصف فلسفته بالحيوية والقدرة الدائمة علي النقد والتطوير والأضافة والشروحات عليها، فأسمه يذكر في معظم الدراسات والأبحاث والكتب والرسائل العلمية والجامعية بشكل كثيف في حقل العلوم الانسانية والأجتماعية، فلا أحد يستطيع الجدل حول أن أفكار هذا الفيلسوف شغلت ساحات الفكر وميادين النضال بأفكاره ومواقفه وسجالاته، طوال مسيرته الفكرية. فدائما هناك اهتمام كبير بنشر ما لم ينشر له من نصوص مكتملة أو دروس جامعية أو أحاديث صحفية، كما تجلى في الكتابة عن فكره وسيرته في معظم المجلات والصحف الأسبوعية والشهرية. هذا فضلاً عن كم هائل من الأوراق التي دوّن عليها المعلومات والمواد الأولية التي استند إليها في تأليف ما ألفه على مدى أربعين عاماً. والجميع يتفق أن فوكو الأكثر تأثيراً والأقوى حضوراً، كما تشهد نصوصه ومصطلحاته التي يجري تداولها على نطاق واسع، لدى المختصين والقراء عامة، في فرنسا وفي العالم. ولا مبالغة في القول بأننا إزاء مؤلف استثنائي من حيث قوة أثره وانتشار نصوصه. ودائما كتبه تشكل مادة لا تنضب لقراءة ما لم يُقرأ فيها مما هو جديد وثمين؛ تماماً كما أن حياته، بأسرارها وألغازها، تشكل مادة لكتابة ما لم يُكتب عنها مما هو ملغز ومثير. ( علي حرب، 2015) (12) .
ويعود الأثر الخارق لفوكو، لكونه أحدث تغييراً جذرياً في المشهد الفكري والفلسفي، سواء من حيث الحقل والمنهج، أو من حيث الأطروحة والعُدّة، فضلاً عما أحدثه من تحول في أسلوب الكتابة وفي طريقة ممارسة الفلسفة. لقد افتتح فوكو آفاقاً جديدة لعمل الفكر غير مسبوقة، بقدر ما استخدم طريقة مختلفة في التفكير تجددت معها مشكلات الفلسفة ولغة الفهم، بقدر ما تغيرت خرائط المعرفة وعلاقات السلطة.
النظرية المعرفية الغربية
حلل فوكو نظرية المعرفة في العصر الكلاسيكي وعصر النهضة في اوروبا واستطاع فهم اشكال التفكير في المعرفة، وقد وجد فروق في تطور المعرفة، وتميز كل عصر بخصائص معينة عن الأخر ويعد ذلك سعى الي تأسيس علم تاريخ الافكار، فقد رأي أن مقولة «التشابه» قد مثّلت في عصر النهضة الأوروبي النظام الغائر أو الصورة الأولى للمعرفة التي وقفت وراء تكوين خطاب الإنسان بقدر ما كان ينظر إلى العالم من خلال مفردات التماهي والتمرأي، وبقدر ما كانت العلامات تعكس طبيعة الأشياء. هنا تكون الأولوية للمعنى على اللفظ وللمدلول على الدال. بمعني أن فهم ومعرفة الأشياء يتطلب فكرة التشابة، يعني لابد من البحث عن أوجه التشابه بين الاشياء لمعرفتها وفهمها وفهم العلاقات بين الأشياء، وذلك يعنى عدم تركيب وتعقيد العقل علي الفهم، وزيادة مساحات التأويل، ويضيف فوكو أنه مع الدخول في العصر الكلاسيكي، عصر الفيلسوف ديكارت وأفكاره عن الفلسفة العقلانية، حلت محل مقولة " التشابة" مقولة " التمثيل" المركبة، أي قابلية التمثيل لأن يتمثل الشيء ذاته، أو كون الشئ الذي يمثل شيئا أخر يتضمن فكرة التمثيل ذاتها. أي يمكن الاعتماد علي الشئ نفسه من أجل فهم هذا الشئ والأشياء الاخرى، فأصبح الأمر أكثر تركيباً وتعقيداً وأصبح منهج النقد والتحليل له مكان في الفهم والتفسير، وذلك يؤكد علي تحديد فوكو لمهارة النقد في الثقافة الفكرية الاوربية في العصر الكلاسيكي، وهي مهارة تؤكد علي تقدم الفكر والفلسفة الغربية. (علي حرب، مرجع سابق) ( 13).
وفي هذا السياق يقول فوكو " شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، حدوث قطيعة بحجم تلك التي أطاحت بفكر عصر النهضة في مطلع القرن السابع عشر، فتصدعت الأشكال الدائرية الكبري التي كان يقبع التشابه داخلها متقوقعاً علي نفسه، فاسحة بذلك المجال أمام ظهور جدول التماثلات، لينبسط كجدول، وهذا الجدول الآن سينحل بدوره ويتفكك، والمعرفة ستنشأ علي تربة جديدة، أنها قطيعة تشبه في غرابه مبدئها وانفطارها الأصلي، تلك التي تفصل دوائر برسيلز عن النظام الديكارتي. فيكف تبدلت فجأة، وعلي نحو غير مرتقب، القواعد الأبستمولوجية؟ كيف حدث أن انسحب الفكر من رحاب كان يقطنها فيما قبل، وهي : النحو العام والتاريخ الطبيعي وتحليل الثروات، ليدينها علي أنها خطأ وضلال ولا علم، بعدما كان يعتبرها، قبل أقل من عشرين سنة علي أنها هي العلم عينة والمعرفة ذاتها؟" . ( الكلمات والاشياء، مصدر سابق، ص 189) (14).
ويحاول فوكو تحديد مهارة النقد في المعرفة والتفلسف ايهما في العصر، ويؤكد علي وجودها وتفعليها في العصر الكلاسيكي، فاستطاع العقل الأوروبي نقد الاشياء وظهرت علي أثر ذلك فلسفات نقدية وتركيبية لفهم وتحليل وتفسير الاشياء.


نقد فوكو للسياسي
دائما ما اهتم فوكو بنقد كثير من الافكار والنظريات السياسية ونظر لها من منظور مغاير ومختلف أذهل الكثيرين، ومثل ذلك له خصوصية فلسفية حول مفاهيم سياسية كثيرة من أهمها مفهوم السلطة ومفهوم السياسي والخطابات الثورية، والخطابات المثالية في السياسة، وفيما يتعلق بموقفه اليساري دائما ما وضع هذا الموقف موضوع تساؤل مستمر معيداً التفكير فيه، ينتقد فوكو الخطاب الطوباوي والخطاب الثوري. وانتقد فوكو مفهوم السلطة في شكلها التقليدي،وسعي لتوسيع مفهوم السلطة واهتم بتعدد بؤر السلطة، فالسلطة أذن تمارس بشكل سري في مواقع ومواقف كثيرة يصعب الإمساك بها، أي لم تعد السلطة تشتغل أنطلاقا من مركز، سيهتم فوكو إذا بالأشتغال السفلي للسلطة. وحول فرض السلطة على الفرد وخلال حديثه عن العهد اليوناني، وتفسيره ونقد لمفهوم السياسي والسلطة في هذا العصر، وضح أن هناك سلطة لتقويم سلوك الفرد والتحكم في أهتمامته وحياته وفقا لمبادئ وافكار سلطوية لا تصب في مصلحته ولا تنبع من داخله حيث سرد قائلا " فكما أن الرجل، في البيت، هو الذي يحكم، وكما أن في المدينة ليس ليس العبيد ولا الأطفال ولا النساء هم الذين يمارسون السلطة، بل الرجال والرجال فقط، كذلك يجب علي كل واحد أن يبرز علي نفسه مزاياه كرجل. إن التحكم في الذات هو كيفية لأن يكون الرجل رجلا بالعلاقة مع نفسه، أن يتحكم في ما يجب أن يكون محكوما، ويجبر علي الخضوع ما ليس قادرا بذاته علي أن يقود ذاته، ويفرض مبادئ العقل علي من لا توجد لديه، وإجمالا فإنه طريقة في أن يكون المرء فاعلا بالعلاقة مع ما هو بالطبيعة منفعلا ويجب أن يظل كذلك. ( انظر : تاريخ الجنسانية، 2004، ص81) ( 15).
وهذا نقد كلي لمفهوم السلطة، من جانب ميشيل فوكو استخدم فيه مهارة النقد واختلف جذريا عن المفهوم الكلاسيكي للسلطة في الفلسفة السياسية، وبذلك يهتم فوكو بالبحث عن المسكوت عنه في التاريخ ويسعي لتعريته، فالأمر هنا يتعلق بالحفر على حواشي السلطة وكيفية استغلالها في فضاءات متعددة. مثل الاهتمام بتاريخ الجنون والعيادة والعقاب والسجن والمراقبة والخطابات، فهو يسعي لتحليل هذه الظواهر في التاريخ والتي كانت مهمشة لتفسيرو متوسيع مفهوم السلطة وتاريخ السياسة وانظمة المراقبة والانتظامات الإكراهية.
وينتقد فوكو الايدولوجيا بشكل كامل، ويتخلى عنها شيئا فشيئا، وذلك يتشابه مع الفيلسوف الفرنسي التوسير الذي اهتم بالتحليل البنيوي العلمي للماركسية، في موقفه من الأيدولوجيا، فيري أنها عبارة عن وهم وخطأ أو وعي مسلوب أو مستلب، وذلك يتناسب مع مواقفه من المفاهيم الأنسانوية والذات المتفردة وذلك فيما يتعلق مثلاً بالفلسفة الاخلاقية الماركسية، فهو يرفض ذلك، ويري أنها مفاهيم سلبية لتفسير أفعال الأنسان والأشياء والصراعات. وأيضا فكان فوكو علي طرف النقيض من الماركسيين الإنسانيين، ممن يتنبأون بثورة تختفي بعدها أزمات الرأسمالية العديدة، فجاءت توقعاته أكثر دقة منهم وغير مباشرة، وبإمكان المرء القول إنه لم ينتظر ثورة . ( التحليل الثقافي، سبق ذكره، ص 206) ( 16).
نقد مفهوم المثقف
يحاول فوكو نقد مسألة المثقف ووضعه في سؤال حقيقي في السياق الجديد الذي فسره ووضعه فوكو لمفهوم السياسي والسلطة، ويتسائل حول دوره ومكانته داخل هذا التدفق الهائل من الاشكال الجديدة للسلطة. وانتقد فوكو دور المثقف كحارس للحقيقة وحارس للقيم الأنسانوية، والمبادئ المتعالية، وبذلك انتقد وقلب مفهوم المثقف بالشكل الكلاسيكي له، ويدعو فوكو المثقف بعدم أصدار الأحكام والتحفظ عليها وعدم الإدعاء كما لو كان ” ضمير الأمة ” أو ” لسان الجماهير ” أو ” المعبر عن الحس الشعبي والجماهيري ” أو ” ممثل طبقة اجتماعية ” أو ” المنقذ من الضلال “، إن هذه الدعوة تستقيم بدعوة أخرى للمثقف مفادها تخليه عن الخطاب الكوني والشمولي، الذي يشكل فولتر أحد أبرز نماذجه قوة في الفكر الكلاسيكي. ( حسن إغلان، ب ت) ( 17)
سيتمحور دور المثقف حسب فوكو في كيفية كشفه الحقيقة باعتبارها مجالاً للصلح وللتصادمات والصراع والمعارك وهي بالضرورة انتاج حقيقة اخرى. ويحول الدور الأساسي والمركزي للمثقف الكوني إلى دور ثانوي. ومن المثقف العضوي – الكوني إلى المثقف المتميز كما يسميه. إن المثقف بالشكل الذي يحدده فوكو يرتبط جدلاً بالحقيقة والسلطة، فهو من وجهة النظر التقليدية مالك الحقيقة ومروجها، ومن جانب أخر المثقف المتميز محدد هذه الحقيقة، هذا هو القالب الذي مارسه جينالوجياً على موضوع المثقف. ويقول فوكو "ليس دور المثقف هو أن يقول للآخرين ماذا يتعين عليهم فعله". ( هم الحقيقة، 2006، ص116) ( 18).

----------------------------------------------------
المصادر والمراجع
1- آلن هاو، النظرية النقدية : مدرسة فرانكفورت، المركز القومي للترجمة، ترجمة ثائر ديب، القاهرة، 2010ـ، ص18.
2- وليد المسعودي، ميشيل فوكو والنزعة الانسانية، موقع الحوار المتمدن، 2005 / 8 / 31.
3- علي حرب، كنز وطني: هكذا أقرأ ميشال فوكو، مجلة نزوي، 13/7/ 2015.
4- انظر : ميشيل فوكو، الكلمات والاشياء، مركز الانماء القومي، بيروت، 1990، ص119 .
5- أشرف حسن منصور، نقد فوكو للنظرية الليبرالية في السلطة، موقع الحوار المتمدن، العدد 2808، 23/10/ 2009.
6- إيديث كريزويل وآخرون، التحليل الثقافي، المركز القومي للترجمة، ترجمة فاروق احمد مصطفي وأخرون، القاهرة، 2008، الطبعة الاولي، ص 216.
7- ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة : ولادة السجن، مركز الانماء القومي، ترجمة علي مقلد، بيروت، 1990، ص32.
8- مصطفي النشار، التفكير الفلسفي ( المبادئ، المهارات وتطبيقاتها)، الدار اللبنانية المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 2015، ص 125 .
9- التحليل الثقافي، مرجع سبق ذكره، ص 30.
10- مصطفي النشار، سبق ذكره، 126.
11- انظر مصطفي النشار، سبق ذكره.
12- علي حرب، مرجع سبق ذكره.
13- علي حرب مرجع سبق ذكره
14- الكلمات والاشياء، مصدر سبق ذكره، ص 189.
15- انظر : ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية، افريقيا الشرق، ترجمة محمد هشام، الدار البيضاء، 2004، ص81.
16- التحليل الثقافي، مرجع سبق ذكره، ص 206.
17- د. حسن إغلان، ميشال فوكو في مواجهة السياسة/ المثقف/ السلطة، ب. ت، مدونة سراح منير.

18- ميشال فوكو، هم الحقيقة، مختارات، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2006، ص116.



#محمد_احمد_الغريب_عبدربه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهاب ناجي ينتظر موتاه عند الترزي الاخير
- ثلاثة إضاءات فلسفية في سينما لوك جودار الفرنسي
- في فلسفة جماليات السينما: دلالات وملامح
- ملاحظات تشكيلية وجمالية حول لوحات عصام معروف
- اعترافات الجسد وكوابيس الكلمة عند -أن سكستون-
- جماليات الصورة التشكيلية والنقد الاقتحامي في نصوص الزعيم احم ...
- شربل داغر يقابل شارلي شابلن المريوطية ويفرض عليه طفولته وحبا ...
- الديناصوري يحاور عاملون الليل الظالم ويمنحهم رسائله المشفرة ...
- ماركس وفوكو في جدليات الذات المتفردة ودورها في الصراع
- رمزية السلطة والخوف.. -في غرفة العنكبوت-
- الوعي والاستعمالية بين فوكو وكانط وماركس ومدرسة فرانكفورت
- مقهي ماركس : شاعرية حكي أنثي الخفة الباحثة عن عزلة البهجة ال ...
- عوالم نفسية وثقافية تخيلية تحلق في روح الكاتبة اريج جمال
- في كنائس لا تسقط في الحرب بحث دائم عن أطياف الموت والحياة بأ ...
- علامات سردية وجمالية في فيلم الاب الروحي
- ايديولوجيا الخطاب الثقافي والسينمائي والادبي المعاصر
- ابعاد متعددة في خطاب جماليات السينما
- أبعاد تشكيلية للصورة السينمائية فى أفلام طلبه رضوان
- قراءة سيمولوجية أولية في فيلم - الآزرق هو أدفئ الألوان: حياة ...
- ملامح ودلالات للتذوق الفني في السينما


المزيد.....




- تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا ...
- تركيا تعلن دعمها ترشيح مارك روته لمنصب أمين عام حلف الناتو
- محاكمة ضابط الماني سابق بتهمة التجسس لصالح روسيا
- عاصفة مطرية وغبارية تصل إلى سوريا وتسجيل أضرار في دمشق (صور) ...
- مصر.. الحكم على مرتضى منصور
- بلينكن: أمام -حماس- اقتراح سخي جدا من جانب إسرائيل وآمل أن ت ...
- جامعة كاليفورنيا تستدعي الشرطة لمنع الصدام بين معارضين للحرب ...
- كيف يستخدم القراصنة وجهك لارتكاب عمليات احتيال؟
- مظاهرة في مدريد تطالب رئيس الحكومة بالبقاء في منصبه
- الولايات المتحدة الأميركية.. احتجاجات تدعم القضية الفلسطينية ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد احمد الغريب عبدربه - إمكانات النقد في فلسفة ميشيل فوكو الكاتب: محمد الغريب