أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد رضوان - الثورة المجهولة ( فولين )















المزيد.....



الثورة المجهولة ( فولين )


محمد رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 7546 - 2023 / 3 / 10 - 00:56
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


الثورة المجهولة

تأليف/ فولين
ترجمة / محمد رضوان

الجزء الأول : الثمار الأولى

الفصل الأول: روسيا في بداية القرن التاسع عشر وولادة الثورة

الحجم الهائل للبلاد وعدد السكان المتناثر الذي يجعلها فريسة سهلة للغزاة والسيطرة المغولية لأكثر من قرنين والحروب المستمرة والكوارث المتنوعة وغيرها من العوامل غير المواتية تسببت في التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الهائل لروسيا فيما يتعلق بالدول الأوروبية الأخرى.

من الناحية السياسية، دخلت روسيا القرن التاسع عشر تحت حكم ملكية مطلقة ("القيصر" الاستبدادي) التي كانت تعتمد على أرستقراطية ضخمة من الأراضي والعسكرية وبيروقراطية مطلقة ورجال دين متدينين واسعي الانتشار وكتلة فلاحية تتكون من 75.000.000 من النفوس -البدائية الأمية التي تسجد أمام "والدها الصغير" القيصر.

من الناحية الاقتصادية، وصلت البلاد إلى مرحلة نوع من الإقطاع الزراعي. باستثناء العاصمتين (سانت بطرسبرغ وموسكو) وبعض المدن في الجنوب، فلم تكن المدن متطورة مع ركود التجارة والصناعة على وجه الخصوص، فقد كانت القاعدة الاقتصادية للبلاد هي الزراعة التي تدعم 95 ٪ من السكان، ولم تكن الأرض ملكًا للمنتجين المباشرين، أي الفلاحين، ولكنها كانت ملكًا للدولة أو لأصحاب الأرض الكبار"البوميشيك". كان الفلاحون المرتبطون قانونًا بالأرض وبمالكها عبيدًا له وكان أكبر الملاك يمتلكون إقطاعات حقيقية ورثوها عن أسلافهم الذين تلقوها بدورهم من المالك الأول، فمقابل الخدمات المقدمة (العسكرية أو الإدارية أو غيرها)، حدد "الرب" حياة وموت أقنانه. لم يجعلهم يعملون كعبيد فقط، بل يمكنه أيضًا بيعهم ومعاقبتهم (يمكنه قتلهم دون إزعاج نفسه). كانت هذه العبودية ل 75.000.000 شخص، هو الأساس الاقتصادي للدولة .

من الصعب الحديث عن التنظيم الاجتماعي لمثل هذا "المجتمع"، وكان على رأسهم السادة المطلقون: القيصر وأقاربه وبلاطه الإستعبادي والنبلاء السامين والبيروقراطية العسكرية ورجال الدين الكبار. في الأسفل، العبيد: الفلاحون الأقنان في الريف والطبقة الدنيا في المدن، الذين يفتقرون إلى كل مفاهيم الحياة المدنية، كل الحقوق، كل الحريات. بين الاثنين، كانت هناك طبقات وسيطة معينة: التجار والبيروقراطيون والموظفون والحرفيون وغيرهم .

من الواضح أن المستوى الثقافي للمجتمع لم يكن عالياً جداً. ومع ذلك، فعلينا أن نجري تحفظًا مهمًا في هذه الفترة: التناقض المذهل الذي سنصفه مرة أخرى لاحقًا، كان موجودًا بين السكان غير المتعلمين والفقراء في المدن والقرى والفئات ذات الامتيازات التي كان تعليمها وتدريبها متقدمًا جدًا.
كانت عبودية الجماهير هي وباء البلاد، وكان عدد قليل من النبلاء قد احتجوا بالفعل على هذا الرجس في نهاية القرن الثامن عشر . كان عليهم أن يدفعوا ثمنا باهظا مقابل لفتتهم الكريمة. من ناحية أخرى، تمرد الفلاحون بوتيرة متزايدة ضد أسيادهم إلى جانب الانتفاضات المحلية ذات الطبيعة الفردية إلى حد ما (ضد زعيم أو آخر ذهب بعيدًا جدًا)، أدت جماهير الفلاحين إلى ظهور حركتين واسعتين (انتفاضة رازين في السابع عشر وانتفاضة بوغاتشيف في الثامن عشر ) والتي على الرغم من فشلها، خلقت مشاكل هائلة للحكومة القيصرية وأطاحت بالنظام بأكمله تقريبًا. ويجب الإشارة، مع ذلك، إلى أن هاتين الحركتين العفويتين كانتا موجهتين بشكل أساسي ضد العدو المباشر: طبقة النبلاء والأرستقراطية الحضرية والإدارة الفاسدة، لم تتم صياغة أي فكرة عامة عن الإطاحة بالنظام الاجتماعي برمته واستبداله بنظام آخر أكثر إنصافًا. فباستخدام الخيانة والعنف و بمساعدة رجال الدين والعناصر الرجعية الأخرى، نجحت الحكومة في إخضاع الفلاحين كليًا حتى "نفسيًا" لدرجة أن أي حركة تمرد واسعة النطاق أصبحت شبه مستحيلة لفترة طويلة من الوقت.

ظهرت أول حركة ثورية واعية موجهة ضد النظام في عام 1825 بعد وفاة (ألكسندر الأول) الذي لم يترك وريثًا مباشرًا وانتقل التاج الذي رفضه شقيقه قسطنطين إلى شقيقه الآخر نيكولاس. اجتماعيا، كان برنامج هذه الحركة يهدف إلى إلغاء القنانة. سياسياً، كان لإقامة جمهورية أو على الأقل نظام دستوري.
انبثقت هذه الحركة ليس من بين المظلومين، بل من الطبقات المتميزة، و بدأ المتآمرون، مستغلين انشغال الحكومة بمشاكل الأسرة الحاكمة، في تنفيذ المشاريع التي كانوا يعدونها منذ فترة طويلة. ففي الثورة التي اندلعت في سانت بطرسبرغ، تم دعمهم من قبل بعض الأفواج في العاصمة. (على رأس الحركة كان هناك بعض ضباط الجيش الإمبراطوري). وهُزم التمرد بعد معركة قصيرة في ميدان مجلس الشيوخ بين المتمردين والقوات التي ظلت موالية للحكومة. تم القضاء على العديد من الانتفاضات التي تم التخطيط لها في المقاطعات في مهدها.

تركت الثورة انطباعًا عميقًا على القيصر الجديد نيكولاس الأول، وأشرف شخصيًا على تحقيق شامل للغاية، فسعى المحققون واستبعدوا حتى أبعد المتعاطفين الأفلاطونيين مع الحركة. فالقمع، في رغبته في أن يكون نهائيًا و "نموذجيًا" لذلك لم يتوقف عن القسوة. مات المحرضون الخمسة الرئيسيون على السقالة. تم سجن المئات أو نفيهم أو الحكم عليهم بالأشغال الشاقة.
منذ اندلاع الثورة في ديسمبر، أصبح المشاركون يعرفون باسم الديسمبريست. جميعهم تقريبًا ينتمون إلى طبقة النبلاء أو إلى طبقات متميزة أخرى. تلقى جميعهم تقريبًا تدريبًا مهنيًا أو تعليمًا عاليًا. منفتحين وعاطفيين، تألمهم مشاهد شعب مثقل بنظام تعسفي وظالم بسبب الجهل والفقر والعبودية.

قاموا برفع الاحتجاجات في القرن الثامن عشر وترجمتها إلى أفعال، وما أعطاهم الزخم اللازم إلى حد كبير، هي الرحلة التي قطعها العديد منهم إلى فرنسا بعد حرب 1812 والتي مكنتهم من مقارنة المستوى المرتفع نسبيًا للحضارة في أوروبا بالظروف المعيشية الهمجية للسكان الروس. عادوا إلى روسيا بعد أن اتخذوا قرارًا حازمًا بالنضال ضد النظام السياسي والاجتماعي المتخلف الذي اضطهد أبناء وطنهم. لقد حشدوا العديد من المتعلمين من أجل قضيتهم. بل إن بستل، أحد قادة الحركة، قد طور بعض الأفكار الاشتراكية الغامضة في برنامجه، وتعاطف الشاعر الشهير بوشكين (مواليد 1799) مع الحركة رغم أنه لم ينضم إليها.

وبمجرد إخماد الثورة، دفع الإمبراطور الجديد الخائف نيكولاس الأول، بالحكم الاستبدادي والبيروقراطي والشرطي للدولة الروسية إلى أقصى درجاته.
يجب التأكيد على أنه لم يكن هناك تناقض بين ثورات الفلاحين ضد مضطهديهم من جهة وتبجيلهم الأعمى لـ "الأب الصغير القيصر" من جهة أخرى، فثورات الفلاحين، كما قلنا سابقًا، كانت دائمًا موجهة ضد : ملاك الأرض، النبلاء، الموظفون، الشرطة، ولم يخطر ببال الفلاحين أن يبحثوا عن مصدر الاضطهاد أكثر في النظام القيصري نفسه الذي جسده القيصر الحامي الأكبر للنبلاء اصحاب الامتياز الأول والأكثر امتيازًا. بالنسبة للفلاحين، كان القيصر نوعًا من المعبود، أعلى من البشر العاديين، فوق مصالحهم الصغيرة ونقاط ضعفهم ويقود المصائر العظيمة للدولة. لقد بذلت السلطات والبيروقراطيون وفوق كل ذلك الكهنة ("الباباوات") كل ما في وسعهم لنقش هذه الفكرة في رؤوس الفلاحين. قَبِلَ الفلاحون الأسطورة أخيرًا وبعد ذلك أصبحت لا تتزعزع. قالوا لأنفسهم إن القيصر لا يريد سوى رفاهية "أبنائه". لكن الوسطاء المميزون يهتمون بالمحافظة على حقوقهم ومزاياهم ويقفون بين القيصر وشعبه ويمنعونه من معرفة بؤسهم. (كانت جماهير الفلاحين مقتنعة بأنه إذا تمكن الشعب والقيصر من مواجهة بعضهما البعض بشكل مباشر، فإن القيصر الذي يضلله صاحب الامتياز مؤقتًا، سيرى الحقيقة وسيتخلص من مستشاريه السيئين وغيرهم من الأشخاص غير الشرفاء وسوف يتعامل مع معاناة الفلاحين و سيحررهم من نيرهم ويعطيهم كل الأرض الصالحة التي يجب أن تنتمي إلى أولئك الذين يعملون فيها) وهكذا، بينما يثوروا أحيانًا ضد أسيادهم الأكثر قسوة، انتظر الفلاحون بأمل، اليوم الذي يُهدم فيه الجدار الذي يفصلهم عن القيصر ويعيد القيصر إقامة العدالة الاجتماعية لهم، لقد ساعدهم تصوفهم الديني على قبول فترة الانتظار والمعاناة كعقاب ومحاكمة فرضها الله عليهم، لقد استسلموا لها بقدرية بدائية.

كانت هذه النظرة مميزة للغاية لجماهير الفلاحين الروس، وقد أصبح أكثر وضوحًا خلال القرن التاسع عشر، على الرغم من الاستياء المتزايد وأعمال التمرد الفردية أو المحلية المتكررة بشكل متزايد، بدأ صبر الفلاحين ينفذ، لكن كلما نفد صبرهم كلما انتظروا بحماس "محررهم"، القيصر.

كانت "أسطورة القيصر" سمة مركزية للحياة الشعبية الروسية في القرن التاسع عشر، و عدم أخذها في الاعتبار سيجعل من المستحيل فهم الأحداث التالية، توضح هذه الأسطورة بعض الظواهر التي لا يمكن تفسيرها لولا ذلك، ويُقطع شوطًا طويلاً نحو شرح التناقض الروسي الذي ذكرناه سابقًا، وهو التناقض الذي صدم الكثير من الأوروبيين، والذي لم يختف حتى اندلاع ثورة 1917: من ناحية، هناك العديد من الأفراد المثقفين والمتعلمين التقدميين الذين يريدون أن يروا شعبهم أحرارًا وسعداء ومدركين لأفكار عصرهم، ويناضلون من أجل تحرير الطبقات العاملة و من أجل الديمقراطية والاشتراكية.
على الجانب الآخر، هناك أناس لا يفعلون شيئًا من أجل تحريرهم (باستثناء بعض الثورات الصغيرة وغير المهمة) الناس الذين يظلون يسجدون بعناد أمام معبودهم وحلمهم، أناس لا يفهمون حتى لفتة من يضحى بنفسه من أجلهم. هؤلاء الناس غير المبالين ، والعميان عن الحقيقة ، والصم عن كل النداءات ، ينتظرون المحرر القيصر تمامًا كما انتظر المسيحيون الأوائل المسيح .

الفصل الثاني: القمع والعنف والفشل؛ استمرار التطور (1825-1855)
استمر حكم نيكولاس الأول من عام 1825 إلى عام 1855. من وجهة نظر ثورية، لا يوجد شيء مذهل يميز هذه السنوات ومع ذلك، فإن فترة الثلاثين عامًا هذه ملحوظة من عدة جوانب مهمة.

بعد أن صعد إلى العرش في ظل ثورة الديسمبريين، تعهد نيكولاس الأول بإبقاء البلاد في حالة إضمحلال حديدية لإخماد أي تعبير عن الليبرالية في مهدها، فعزز الحكم المطلق إلى أقصى حد ونجح في تحويل روسيا إلى دولة بيروقراطية وقمعية!

كانت الثورة الفرنسية والحركات الثورية التي هزت أوروبا فيما بعد، كوابيس بالنسبة له، ليتخذ إجراءات احترازية استثنائية، تمت مراقبة جميع السكان عن كثب، تعسف البيروقراطية والشرطة والمحاكم لم يعد له حدود، أي تعبير عن الاستقلال وأي محاولة للتملص من قبضة الشرطة الحديدية تم قمعها بلا رحمة.
بطبيعة الحال، لم يكن هناك حتى ظل لحرية التعبير أو التجمع أو تكوين الجمعيات وازدهرت الرقابة كما لم يحدث من قبل وتمت معاقبة جميع مخالفات "القوانين" بأقصى درجات الصرامة.

أدت الانتفاضة البولندية عام 1831 (التي غرقت في الدماء بضراوة نادرة) بالإضافة إلى الوضع الدولي، بالإمبراطور إلى زيادة إبراز عسكرة البلاد لتتم تنظيم حياة الناس كما هو الحال في الثكنات والعقاب الشديد ينزل على كل من حاول تجنب التأديب المفروض بقوة القانون .

استحق هذا الملك حقًا الاسم: نيكولاس الشرس!
فعلى الرغم من كل الإجراءات - أو بالأحرى بسببها وآثارها الشائنة التي لم يأخذها القيصر بعين الاعتبار - أعربت البلاد (أي قطاعات معينة من السكان) عن استيائها في كل فرصة سنحت لهم، أما نبلاء الأرض الذين دللهم الإمبراطور الذي اعتبرهم دعمه الرئيسي، استغلوا الأقنان مع الإفلات من العقاب وعاملوهم بقسوة مشينة، فأصبح الفلاحون غاضبين بشكل ملحوظ لتصل أعمال التمرد ضد " البوميشيك " (اللوردات) وضد السلطات المحلية إلى مستويات مقلقة، لأن التدابير القمعية قد فقدت فعاليتها، ونما الفساد وعدم الكفاءة ونزوة الموظفين بشكل لا يطاق، وبما أن القيصر احتاج إلى دعم الموظفين وعنفهم "لإبقاء الناس في الصف"، فلن يسمع شيئًا وليرى شيئًا، وازداد غضب أولئك الذين عانوا من هذا الوضع بشكل أكثر حدة، ولم تتحرك القوى الحيوية للمجتمع، فقط الروتين الرسمي السخيف والعاجز كان مسموحا به.
كان هذا الموقف يؤدي بشكل حتمي إلى التحلل المستقبلي للنظام بأكمله، كان قوياً في المظهر فقط، كان "نظام السكين" فاسداً من الداخل و كانت الإمبراطورية الهائلة تتحول بالفعل إلى "عملاق بأقدام طينية".

أصبحت قطاعات متزايدة من السكان على دراية بهذه الحالة وكانت روح المعارضة ضد هذا النظام المستحيل تصيب المجتمع بأسره.
وفي ظل هذه الظروف، بدأ التطور الرائع - السريع والمهم - لطبقة المثقفين الشباب، ففي بلد كبير وغزير الإنتاج مثل روسيا، كان الشباب متعددًا بين جميع طبقات السكان، فما هي نظرتهم العامة؟

إذا تركنا الشباب الفلاحين جانبًا، يمكننا أن نلاحظ أن الأجيال الشابة المتعلمة إلى حد ما قد أعلنت أفكارًا تقدمية إلى حدا ما و لم يقبل شباب منتصف القرن التاسع عشر بسهولة استعباد الفلاحين، ليصدمهم الحكم المطلق القيصري، و إن دراسة العالم الغربي التي لا يمكن لأي قدر من الرقابة أن يمنعها (على العكس من ذلك أدت الرقابة إلى تذوق الفاكهة المحرمة)، حفزت خيالهم. كان لصعود العلوم الطبيعية والمادية أثر قوي عليهم، فخلال هذه الفترة نفسها، ازدهر الأدب الروسي مستوحى من المبادئ الإنسانية، وكان له تأثير قوي على الشباب على الرغم من الرقابة التي تم التحايل عليها بنجاح، في الوقت نفسه، من الناحية الاقتصادية، لم يعد عمل الأقنان وغياب جميع الحريات يستجيبان للإحتياجات الملحة في ذلك الوقت، ولكل هذه الأسباب، تحرر المثقفون ولا سيما الشباب، نظريًا في نهاية عهد نيكولاس الأول.

خلال هذه الفترة وُلِدَ التيار العدمي المعروف وكذلك الصراع الحاد بين "الآباء" المحافظين و "الأبناء" التقدميين بشدة وهو صراع صوره تورجينيف بشكل رائع في روايته "الآباء والأبناء".

خارج روسيا، يرافق سوء فهم واسع النطاق وعميق الجذور لكلمة "العدمية" التي نشأت منذ حوالي 75 عامًا في الأدب الروسي والتي بسبب أصلها اللاتيني انتقلت إلى لغات أخرى دون أن تتم ترجمتها، ففي فرنسا وأماكن أخرى، تُفهم "العدمية" عمومًا على أنها عقيدة سياسية واجتماعية ثورية، اخترعت في روسيا حيث كان لها أو كان لديها العديد من الاتباع ولا يزال الناس يتحدثون عن "حزب عدمي" وعن أعضائه "العدميين"لا شيء من هذا دقيق!

تم إدخال مصطلح "العدمية" في الأدب ثم إلى اللغة الروسية من قبل الروائي الشهير إيفان تورجينيف (1818-1883) في منتصف القرن التاسع عشر، ففي إحدى رواياته، استخدم تورجينيف هذه الكلمة لوصف تيار من الأفكار - وليس العقيدة - ظهر بين المثقفين الروس الشباب في نهاية عام 1850 لينتشر المصطلح وسرعان ما أصبح جزءًا من اللغة.

كان لتيار الأفكار هذا طابعًا فلسفيًا وأخلاقيًا إلى حد كبير وكان مجال تأثيره دائمًا محدودًا لأنه لم يتجاوز أبدًا الطبقة الفكرية بل كان موقفه دائمًا شخصيًا ومسالمًا ولم يمنعه من أن تكون متحركًا بروح الثورة السخية ويسترشد بها حلم السعادة للبشرية جمعاء .

الحركة التي أطلقها هذا التيار (إذا كان بوسع المرء أن يتحدث عن حركة) لم تتجاوز مجالات الأدب والعادات ( moeurs ) فقد كان أي نوع آخر من الحركة مستحيلًا في ظل نظام ذلك الوقت ومع ذلك، في هذين المجالين لم تتردد في استخلاص الاستنتاجات المنطقية التي لم تصوغها فحسب، بل سعت أيضًا إلى تطبيقها بشكل فردي كقواعد للسلوك، وضمن هذه الحدود مهدت الحركة الطريق أمام تطور فكري وأخلاقي قاد الشباب الروسي نحو بعض المفاهيم الواسعة النطاق والتقدمية و كانت إحدى النتائج تحرر النساء المتعلمات، وهو إنجاز يمكن أن تفتخر به روسيا في أواخر القرن التاسع عشر.

على الرغم من طابعه الفلسفي والفردى الصارم، فإن هذا التيار الفكري بسبب روحه الإنسانية والتحرر، حمل بذرة المفاهيم الاجتماعية اللاحقة التي أدت إلى نشوء حركة ثورية حقيقية كانت سياسية وكذلك اجتماعية لتمهد " العدمية " الأرضية لهذه الحركة التي ظهرت فيما بعد في ظل تحفيز الأفكار الأوروبية وكذلك الأحداث الداخلية والخارجية.
اما خارج روسيا، يتم الخلط بشكل عام بين التيار "العدمي" والحركة اللاحقة التي قادتها أحزاب أو مجموعات منظمة مع برنامج عمل وأهداف ملموسة، ولكن لا ينبغي تطبيق مصطلح " عدمي " إلا على تيار الأفكار الذي كان نذيرًا لهذه الحركة، كمفهوم فلسفي كانت العدمية قائمة على المادية والفردية و مفهومة بأوسع معانيهما، بل وحتى المبالغ فيهما.

تُرجم القوة والمادة، العمل الشهير لبوشنر (الفيلسوف المادي الألماني ، 1824-1899) إلى اللغة الروسية ، وتم طبعه سراً بالطباعة الحجرية ووزعت آلاف النسخ على الرغم من المخاطر، ليصبح هذا الكتاب هو بمثابة الكتاب المقدس للشباب المثقف الروسي في ذلك الوقت، كما كان لأعمال مول شوت وتشارلز داروين والعديد من المؤلفين الماديين والطبيعيين تأثير كبير وتم قبول المادية على أنها حقيقة مطلقة لا جدال فيها، فبصفتهم ماديين، انخرط العدميون في حرب لا هوادة فيها ضد الدين وضد كل ما يفلت من العقل الخالص أو الدليل الإيجابي، ضد كل شيء يتجاوز الواقع المادي أو يتجاوز القيم بلا فائدة عملية - باختصار، ضد كل ما هو روحي أو عاطفي أو مثالي.

لقد احتقروا الجماليات والجمال والراحة والمتعة الروحية والحب العاطفي والموضة والرغبة في الإرضاء، لقد ذهبوا إلى حد رفض الفن تمامًا باعتباره مظهرًا من مظاهر المثالية، وصاغ إيديولوجيهم العظيم، اللامع (بيساريف)، رأى بيساريف أن أي إسكافي كان أكثر إثارة للإعجاب بلا حدود من (تيان رافائيل)، لأن الأول ينتج أشياء مادية مفيدة بينما لوحات الثاني لا تخدم أي غرض. في كتاباته، طبق بيساريف بشدة المبادئ المادية والنفعية لخلع الشاعر العظيم بوشكين، ويقول العدمي بازاروف في رواية تورجينيف: "الطبيعة ليست معبدًا بل هي مختبر، والإنسان موجود ليعمل".

عند الحديث عن "الحرب التي لا هوادة فيها" التي يشنها العدميون، يجب على المرء أن يفهم الحرب الأدبية واللفظية وليس أكثر من ذلك. اقتصر نشاط العدمية على الدعاية المستترة لأفكارها في المجلات وبين المثقفين ولم يكن من السهل نشر هذه الدعاية لأنه كان من الضروري مراعاة الرقابة وكذلك الشرطة القيصرية التي قمعت "البدع الأجنبية" وكل الفكر المستقل، وتتألف المظاهر "الخارجية" للعدمية بشكل أساسي من ارتداء الملابس بشكل واضح للغاية والتصرف بلا قيود، على سبيل المثال، كان لدى النساء العدميات شعر قصير بشكل عام وغالبًا ما يرتدين النظارات ليجعلن أنفسهن قبيحات ويؤكدن على ازدرائهن للجمال والأناقة، مرتدين ملابس خشن تتحدى الموضة، يمشون مثل الرجال ويدخنون من أجل إعلان المساواة بين الجنسين وإظهار ازدرائهم لقواعد الأعراف، لم يقلل هذا الإسراف بأي حال من جدية الحركة، فلقد فسرت استحالة أي نوع آخر من "الاستكشاف الخارجي" لها وإلى حد كبير تبررها، ففي عالم الأخلاق الشخصية، مارس العدميون صرامة مطلقة لكن المبدأ الرئيسي للعدمية كان شكلاً من أشكال الفردية المحددة .

في الأصل رد فعل طبيعي للغاية ضد كل شيء قمعته روسيا في تلك الفترة، انتهت هذه الفردانية بإدانة، باسم الحرية الفردية المطلقة وجميع القيود والالتزامات والعقبات وجميع التقاليد التي يفرضها المجتمع على الإنسان؛ الأسرة والعادات والأخلاق والمعتقدات والأعراف الراسخة، اما التحرر الكامل للفرد، رجلاً كان أم امرأة، من كل ما قد يمس باستقلاليته أو حريته في التفكير : كانت هذه هي الفكرة الأساسية للعدمية، أنها دافعت عن حق الفرد المقدس في الحرية الكاملة وحرمة حياته.

يمكن للقارئ أن يفهم سبب تسمية تيار الأفكار هذا بالعدمية . تم استخدام هذا المصطلح لوصف أنصار أيديولوجية لم تقبل شيئًا (باللاتينية ، nihil ) مما كان طبيعيًا ومقدسًا للآخرين: الأسرة، المجتمع، الدين والتقاليد. عندما سأل أحدهم مثل هذا الشخص : "ماذا تعترف، ما الذي توافق عليه في البيئة المحيطة بك والتي تدعي أن لها الحق بل وواجب السيطرة عليك؟" أجاب: لا شيء! "( نيهل ). لقد كان عدميا.

على الرغم من طابعها الفلسفي واللاحقاني (دافعت عن حرية الفرد بطريقة مجردة بدلاً من الاستبداد الحاكم)، فقد مهدت العدمية الأرضية للنضال الملموس ضد العائق الحقيقي والفوري، لأجل آفاق سياسية واقتصادية وعملية ملموسة، من أجل التحرر الاجتماعي، لكنها لم تخوض هذا النضال بنفسها ولم يطرح حتى سؤال: "ما الذي يمكن فعله لتحرير الفرد فعليًا؟" فحتى النهاية، بقيت في مجال المناقشات الأيديولوجية البحتة والإنجازات الأخلاقية البحتة، اما السؤال الآخر، مسألة العمل المباشر من أجل التحرير طرحه الجيل القادم خلال الفترة ما بين 1870 و 1880، عندها تشكلت أولى الجماعات الثورية والاشتراكية في روسيا ليبدأ العمل، لكن لم يعد لها أي شيء مشترك مع "العدمية" التي كانت سائدة في الأيام السابقة، فحتى الكلمة تم تجاهلها وبقيت في اللغة الروسية كمصطلح تاريخي بحت من بقايا وتذكار الحركة الفكرية ل1860-1870.

حقيقة أن الناس في الخارج يستخدمون بالخطأ "العدمية" للإشارة إلى الحركة الثورية الروسية بأكملها قبل "البلشفية" والتحدث عن "حزب عدمي"، ترجع إلى نقص المعرفة بالتاريخ الحقيقي للحركات الثورية في روسيا.

رفضت حكومة نيكولاس الرجعية الفظيعة الاعتراف إما بالوضع الحقيقي أو التخمر الفكري وبدلاً من ذلك، تحدت المجتمع من خلال إنشاء شرطة سياسية سرية ( أوكرانا المعروفة : "الأمن") وقوات خاصة من الشرطة لتدمير الحركة.

أصبح الإضطهاد السياسي كارثة حقيقية. قد نتذكر أنه خلال هذه الفترة كاد الشاب دوستويفسكي أن يُعدم وسُجن لانتمائه إلى مجموعة دراسة غير ضارة تمامًا مستوحاة من بيتراشيفسكي؛ وأن أول ناقد وناشر روسي كبير ( بيلينسكي ) بالكاد نجح في إيصال صوته؛ أن دعاية كبيرة أخرى أُجبرت على أن تصبح مغتربة؛ ناهيك عن الثوار البارزين والنشطاء مثل باكونين.

كل هذا القمع لم ينجح في تهدئة الانفعالات التي كانت أسبابها عميقة الجذور، لقد نجح حتى أقل في تحسين الوضع، كان علاج القيصر هو تقوية الجهاز القمعي والبيروقراطي أكثر،في الوقت نفسه دخلت روسيا في حرب القرم (1854-1855) وكانت هذه كارثة أظهرت تقلبات الحرب في الواقع، إفلاس النظام والضعف الحقيقي للإمبراطورية و أفسحت "الأقدام الطينية" الطريق لأول مرة. (بطبيعة الحال ، لم يخدم الدرس أي غرض مهم). وقد تم الكشف عن الاضطرابات السياسية والاجتماعية للدولة، فنيكولاس الأول، المهزوم توفي عام 1855 بمجرد خسارة الحرب، فقد كان مدركًا تمامًا للإفلاس ولكنه غير قادر على مواجهته، ربما مات بسبب الصدمة الأخلاقي، حتى أن البعض أصر على أنه انتحر بتسميم نفسه. هذا التفسير معقول للغاية ولكن لا يوجد دليل عليه!

ويجب أن نصر على حقيقة غير معروفة لمساعدة القارئ على فهم ما يلي، وعلى الرغم من كل نقاط الضعف والعقبات، إلا أن الدولة خلال هذه الفترة حققت تقدمًا ثقافيًا وتقنيًا كبيرًا، فبدافع الضرورات الاقتصادية التي لا مفر منها، ولدت الصناعة "الوطنية" وفي نفس الوقت ولدت طبقة عاملة "البروليتاريا"، تم إنشاء مصانع كبيرة في عدة مدن وفتح الموانئ وبدأت مناجم الفحم والحديد والذهب في العمل وتوسيع وتحسين شبكات النقل إنشاء أول خط سكة حديد سريع يربط بين سانت بطرسبرغ (لينينغراد) وموسكو، عاصمتا هذا البلد الهائل. تعتبر هذه السكة الحديد أعجوبة هندسية، حيث أن المنطقة الواقعة بين هاتين المدينتين غير مناسبة لهذا النوع من البناء فالأرض ليست صلبة وتتكون في كثير من الأحيان من مستنقعات والمسافة بين سانت بطرسبرغ وموسكو حوالي 600 فيرست (400 ميل)، اما من وجهة نظر البناء العقلاني اقتصاديًا، لا يمكن أن يكون هناك طريق مستقيم. يقال أن نيكولاس الأول، الذين اهتموا شخصيًا بالمشروع (كانت الدولة تقوم بالبناء)، قد أمر العديد من المهندسين بوضع وتقديم المخططات مع التقديرات وهؤلاء المهندسين المستفيدين من الموقف قدموا للإمبراطور طرقًا متوقعة كانت معقدة للغاية وتنطوي على العديد من عمليات التبديل وما إلى ذلك، فهم نيكولاس بإلقاء نظرة خاطفة على المخططات فدفعها جانبًا وأخذ قلم رصاص وقطعة من الورق ورسم نقطتين وربطهما بخط مستقيم وقال: "أقصر مسافة بين نقطتين هي خط مستقيم". لقد كان أمرًا رسميًا بدون استئناف. كان على المهندسين فقط تنفيذ ذلك وهو ما فعلوه وبذلك حققوا إنجازًا حقيقيًا، لقد كانت مهمة شاقة تم إنجازها بتكلفة لا تصدق، وتسببت في معاناة مدمرة لآلاف العمال.
فمنذ اكتماله،كان خط سكة حديد "نيكولايفسكايا" (نيكولاس) أحد أشهر خطوط السكك الحديدية في العالم: يوجد بالضبط 609 فيرست (405 أميال) من السكة في خط مستقيم مثالي تقريبًا.
يجب أن نلاحظ أن الطبقة العاملة الناشئة استمرت في الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع الريف الذي أتت منه والذي عادت إليه بمجرد انتهاء العمل "الخارجي"، علاوة على ذلك كما رأينا، فإن الفلاحين المرتبطين بأرض أسيادهم لا يمكنهم تركها بشكل دائم قبل أن يتم توظيفهم في المشاريع الصناعية، كان لا بد من إجراء ترتيبات خاصة مع ملاك الأراضي، كان العمال الحقيقيون في المدن - في ذلك الوقت الحرفيون المتجولون - يمثلون مجموعة صغيرة جدًا. وهكذا فإننا لا نتعامل بعد مع "بروليتاريا" بالمعنى الصحيح للمصطلح لكن الدافع لإنشاء مثل هذه البروليتاريا كان موجودًا بالفعل، كانت الحاجة إلى عمال موثوقين ومنتظمين أحد الأسباب الاقتصادية الملحة التي طالبت بإلغاء القنانة، جيلان أو ثلاثة أجيال ومن هنا جاءت طبقة العمال المأجورين، كان هناك أيضًا تقدم كبير في المجال الثقافي، أراد الآباء الأثرياء أن يتعلم أطفالهم، وأجبر العدد المتزايد بسرعة لطلاب المدارس الثانوية والكليات الحكومة على زيادة عدد المدارس الثانوية ومؤسسات التعليم العالي باستمرار، كما تطلبت الحاجات الاقتصادية والفنية والتنمية العامة للبلاد لإنشاء مؤسسات تعليمية، ففي نهاية عهد نيكولاس كان لدى روسيا ست جامعات: في موسكو ودوربات وخاركوف وكازان وسانت بطرسبرغ وكييف (مدرجة بترتيب تواريخ تأسيسها) بالإضافة إلى العديد من المدارس للدراسات التقنية المتقدمة أو الخاصة.

وهكذا فإن الأسطورة المنتشرة بأن روسيا كلها في ذلك الوقت كانت غير متعلمة وبربرية وتقريباً "متوحشة" فكرةخاطئة تماما، كان السكان الفلاحون تحت نظام القنانة بالفعل غير متعلمين و "متوحشين" لكن لم يكن لدى سكان المدن أي سبب يحسدهم على الإنجازات الثقافية لنظرائهم الغربيين باستثناء بعض المجالات التقنية البحتة، أما بالنسبة للشباب المثقف، فقد كانوا في بعض النواحي أكثر تقدمًا من شباب الدول الأوروبية الأخرى.

وسبق ذكر هذه الفجوة الهائلة والمتناقضة بين عقلية السكان المستعبدين والمستوى الثقافي للطبقات المتميزة سابقًا.
الفصل الثالث: الإصلاحات؛ استئناف الثورة "فشل القيصرية" وفشل الثورة ورد الفعل (1855-1881)

كان ابن وخليفة نيكولاس الأول، الإمبراطور ألكسندر الثاني الذي كان عليه أن يواجه الوضع الصعب للبلاد والسخط العام والضغط من الطبقات الفكرية التقدمية والخوف من انتفاضة جماهير الفلاحين، وأخيراً الضرورات الاقتصادية لتلك الفترة، أجبرت القيصر على الاستسلام والشروع بحزم في طريق الإصلاح على الرغم من المقاومة المريرة للأوساط الرجعية فقرر وضع حد للنظام البيروقراطي البحت والتعسف المطلق للمسؤولين الإداريين وأجرى تغييرات بعيدة المدى في النظام القضائي لكن قبل كل شيء، واجه مشكلة القنانة.

من عام 1860 فصاعدًا، اتبعت الإصلاحات بعضها البعض في تتابع سريع ومتواصل، أهمها: إلغاء القنانة (1861) و إنشاء محاكم الجنايات مع هيئات محلفين منتخبة ( 1864 ) والتي حلت محل محاكم الولاية السابقة المكونة من موظفين وإنشاء ( في عام 1864 ) وحدات الإدارة الذاتية المحلية في المدن والريف ( gorodskoe samoupralenie و zemstvo : أشكال البلديات الحضرية والريفية)، مع الحق في الحكم الذاتي في مجالات معينة من الحياة العامة ( بعض فروع التعليم والصحة والنقل وما إلى ذلك).
اتجهت جميع القوى الحيوية من السكان وخاصة المثقفين، نحو المشاريع التي أصبحت ممكنة الآن وكرست البلديات نفسها بحماس لإنشاء شبكة واسعة من المدارس الابتدائية ذات الميول العلمانية، ومن الواضح أن هذه المدارس "البلدية" و "الحضرية" كانت تحت إشراف وسيطرة الحكومة، فقد كان التعليم الديني إلزاميًا ولعب "البابا" دورًا مهمًا، ومع ذلك تمتعت المدارس بقدر معين من الاستقلالية حيث يتم تعيين أعضاء هيئة التدريس من قبل “zemstvos” والمجالس الحضرية من بين المثقفين التقدميين،كما تم تكريس قدر كبير من الاهتمام للظروف الصحية في المدن ولتحسين وسائل النقل.

الأن تتنفس البلاد حرية أكبر، ومع ذلك على الرغم من أهميتها فيما يتعلق بالوضع السابق، كانت إصلاحات ألكسندر الثاني خجولة للغاية وغير مكتملة فيما يتعلق بتطلعات الطبقات المتقدمة والإحتياجات المادية والمعنوية للبلاد لكي تكون فعالة، ولإعطاء الناس دفعة حقيقية يجب أن تكون الإصلاحات مصحوبة بمنح بعض الحريات والحقوق المدنية: حرية التعبير والصحافة والحق في التجمع وتكوين الجمعيات وما إلى ذلك، ومع ذلك لم يتغير شيء، كانت الرقابة بالكاد أقل سخافة، فقد ظل الكلام والصحافة تحت ظلال القمع، لم يتم منح أي حريات، الطبقة العاملة الناشئة ليس لها حقوق وكان النبلاء وملاك الأراضي والبرجوازية هم الطبقات المهيمنة. قبل كل شيء، ظل النظام المطلق على حاله (كان الخوف من تغيير النظام بالتحديد هو الذي دفع ألكسندر إلى إلقاء عظم "الإصلاح" على الشعب، بينما منعه من تنفيذ هذه الإصلاحات حتى النهاية وهكذا فشلت الإصلاحات في إرضاء السكان).

توفر الظروف التي ألغيت فيها القنانة أفضل توضيح لما نقوله، وهذا يشكل أضعف نقطة في الإصلاحات.

فبعد أن كافح ملاك الأراضي عبثًا ضد أي تغيير في الوضع الراهن، اضطروا إلى الانحناء أمام القرار الأعلى للقيصر (الذي توصل إلى هذا القرار بعد تذبذبات طويلة ومثيرة تحت الضغط النشط للعناصر التقدمية)، لكن الملاك فعلوا كل ما في وسعهم لجعل هذا الإصلاح في حده الأدنى، كان من الأسهل عليهم القيام بذلك لأن ألكسندر الثاني نفسه بطبيعة الحال لم يرغب في التعدي على المصالح المقدسة لـ "النبلاء المحبوبين"، كان الخوف من الثورة هو الذي فرض أخيرًا لفتته، كان يعلم أن الفلاحين سمعوا بنواياه وبالخلافات التي أحاطت بهذا الموضوع في البلاط، كان يعلم أن صبرهم هذه المرة قد انتهى فعلاً وأنهم كانوا يتوقعون تحريرهم وأنهم إذا علموا بتأجيل الإصلاح فالتحريض الذي سيأتي بعد ذلك يمكن أن يثير ثورة واسعة ومروعة، لذلك في مناقشاته الأخيرة مع معارضي الإصلاح، عبّر القيصر عن هذه الجملة المعروفة التي تقول الكثير عن مشاعره الحقيقية: "من الأفضل إعطاء الحرية من فوق بدلاً من الانتظار حتى يتم أخذها من الأسفل"، لذلك فعل كل ما في وسعه لجعل هذه "الحرية"، أي إلغاء القنانة، غير ضارة قدر الإمكان بمصالح النبلاء المالكين، ليكتب الشاعر نيكراسوف في قصيدة مدوية: "انكسرت السلسلة الحديدية أخيرًا"، "نعم لقد انهارت، يد أصابت الرب والاخرى أصابت الفلاح " .

من المؤكد أن الفلاحين حصلوا أخيرًا على الحرية الفردية، لكنهم دفعوا ثمنها غاليًا، لقد حصلوا على قطع صغيرة من الأرض (من الواضح أنه كان من المستحيل "تحريرهم" دون منحهم قطع أرض كانت على الأقل كبيرة بما يكفي لمنعهم من الموت جوعاً)، علاوة على ذلك و بالإضافة إلى الاضطرار إلى دفع ضرائب للدولة على مدى فترات طويلة، فقد كان مطلوب منهم دفع رسوم كبيرة للأراضي المأخوذة من ملاك الأراضي السابقين، ويجب الإشارة إلى أن 75 مليون فلاح حصلوا على أكثر من ثلث الأرض بقليل واحتفظت الدولة بثلث آخر، وما يقرب من الثلث بقي في أيدي أصحاب الأراضي، هذه النسبة حكمت على جماهير الفلاحين بحياة المجاعة، لقد ظلوا تحت رحمة "البوميشيك" ثم بعد ذلك تحت رحمة "الكولاك" الفلاحين الذين أصبحوا بطريقة أو بأخرى، أثرياء، ففي كل "إصلاحاته"، كان ألكسندر الثاني حريصًا على منح أقل قدر ممكن: فقط الحد الأدنى الضروري لتجنب كارثة وشيكة، وبالتالي فإن عيوب ونواقص هذه "الإصلاحات" يمكن الشعور بها بحلول عام 1870، كان السكان العاملون في المدن عُزّل ضد الإستغلال المتزايد.

إن غياب أي حرية للتعبير والصحافة فضلاً عن الحظر المطلق لجميع اللقاءات ذات المحتوى السياسي أو الاجتماعي، جعل من المستحيل كل نقد وكل دعاية وكل نشاط اجتماعي وتداول كل الأفكار، باختصار، كل تقدم.
لم يكن "الشعب" أكثر من مجرد "رعايا" في ظل السلطة التعسفية للحكم المطلق الذي ظل على حاله بالرغم من كونه أقل شراسة مما كان عليه في عهد نيكولاس الأول، أما بالنسبة لجماهير الفلاحين فقد ظلوا وحوشًا مثقلة بالأعباء محصورة في الأشغال الشاقة المتمثلة في إطعام الدولة والطبقات المتميزة، وسرعان ما أدرك أفضل ممثلي الشباب المثقفين هذا الوضع المؤسف، كانوا أكثر حزنًا لأنه في هذه الفترة كان لدى دول الغرب بالفعل أنظمة سياسية واجتماعية متقدمة نسبيًا، حوالي عام 1870 كانت أوروبا الغربية في خضم نضالات اجتماعية، لقد بدأت الاشتراكية دعايتها المكثفة وبدأت الماركسية مهمة تنظيم الطبقة العاملة في حزب سياسي قوي.

كما كان من قبل، استمرت أفضل الدعاية في تلك الفترة في تحدي الرقابة والالتفاف حولها، الذين لم يكونوا متعلمين جيدًا ولا أذكياء بما يكفي لفهم براعة الإجراءات وتنوعها (على الرغم من أن تشيرنيشيفسكي دفع في النهاية ثمن جرأته من خلال العمل الجبري)، فقد نجح الدعاة في إيصال الأفكار الاشتراكية إلى الأوساط الفكرية من خلال مقالات المجلات المكتوبة بالأساليب التقليدية وبهذه الطريقة قاموا بتثقيف الشباب وإطلاعهم بانتظام على حركة الأفكار وكذلك الأحداث السياسية والاجتماعية في الخارج وفي الوقت نفسه كشفوا بمهارة عن الجانب السفلي لما يسمى بإصلاحات ألكسندر الثاني ودوافعها الحقيقية ونفاقه الصريح وأوجه قصوره وفشله المتزايد، وبالتالي، فمن الطبيعي تمامًا أن تكون الجماعات السرية قد تشكلت في روسيا خلال هذه الفترة من أجل النضال النشط ضد هذا النظام الحقير وقبل كل شيء لإيصال فكرة التحرر السياسي والاجتماعي للطبقات العاملة، فقد كانت هذه المجموعات مكونة من شباب من كلا الجنسين كرّسوا أنفسهم بروح سامية من التضحية لمهمة "تسليط الضوء على الجماهير العاملة".

وهكذا تشكلت حركة واسعة من الشباب المثقف الروسي الذين تركوا بأعداد كبيرة العائلات ووسائل الراحة والوظائف وألقوا بأنفسهم "تجاه الشعب" من أجل تنويرهم، في الوقت نفسه بدأت الأنشطة الإرهابية ضد الموظفين الرئيسيين للنظام و بين عامي 1860 و 1870 كانت هناك عدة محاولات اغتيال لأرواح العديد من كبار المسؤولين الحكوميين وكانت هناك أيضًا بعض المحاولات الفاشلة ضد القيصر نفسه!

انتهت الحركة بالفشل وتم القبض على جميع الدعاة تقريبًا من قبل الشرطة (في كثير من الأحيان على أساس إدانات الفلاحين أنفسهم) و تم سجنهم أو نفيهم أو إرسالهم إلى الأشغال الشاقة، فالنتائج العملية للحركة كانت معدومة، وأصبح من الواضح بشكل متزايد أن القيصرية تمثل عقبة كأداء أمام تعليم الناس، كان من الضروري المضي قدمًا خطوة واحدة فقط للوصول إلى الاستنتاج المنطقي بأنه، بما أن القيصرية تمثل مثل هذه العقبة، يجب تدميرها تماما!

وهذه الخطوة في الواقع اتخذها شباب ممزق ويائس كان هدفهم الأساسي اغتيال القيصر وعوامل أخرى أدت أيضا إلى هذا القرار، كان لابد من معاقبة الرجل الذي خدع الناس بما يسمى بـ "إصلاحاته" علانية، كان لابد من فضح الخداع أمام الجماهير الغفيرة، كان لابد من جذب انتباههم من خلال عمل دراماتيكي وفظيع، باختصار، كان القضاء على القيصر ليُظهر للناس هشاشة النظام وهشاشته هو شخصيا وليُظهر الطابع العرضي والمؤقت للنظام، وهكذا كان من المقرر قتل "أسطورة القيصر" مرة واحدة وإلى الأبد، فذهب بعض أعضاء المجموعة إلى أبعد من ذلك: فقد رأوا أن اغتيال القيصر يمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق والتي في سياق التطور العام ستنتهي بالثورة والسقوط الفوري للقيصرية.

المجموعة التي أطلقت على نفسها اسم نارودنايا فوليا (إرادة الشعب)، بعد استعدادات مفصلة نفذت المشروع: قُتل القيصر ألكسندر الثاني أثناء سفره في سانت بطرسبرغ في 1 مارس 1881، ألقى إرهابيون قنبلتين على العربة الإمبراطورية و دمرت الأولى العربة وأصابت الثانية الإمبراطور بجروح قاتلة ، وأزالت ساقيه فمات على الفور تقريبا.

لم يُفهم هذا الفعل من قبل الجماهير، الفلاحون لم يقرأوا المجلات (لم يتمكنوا من القراءة على الإطلاق.) تجاهلوا تمامًا الغرباء لجميع الدعاية مفتونين لأكثر من قرن بفكرة أن القيصر كان يتمنى لهم الخير ولكن النبلاء أحبطوا نواياه الحسنة، واتهم الفلاحون النبلاء باغتيال القيصر بدافع الإنتقام من إلغاء القنانة وعلى أمل استعادتها (وجد الفلاحون دليلاً آخر على ذلك في مقاومة النبلاء لتحريرهم وأيضًا في الدفع الإجباري لرسوم كبيرة مقابل قطع أراضيهم والتي ألقوا باللوم عليها في مكائد النبلاء).

قُتل القيصر لكن ليس الأسطورة، (سيرى القارئ بعد أربعة وعشرين عامًا أن التاريخ نفسه دمر الأسطورة).

لم يفهم الناس ولم يتحركوا، صرخت الصحافة المستعبدة بشأن "المجرمين الدنيئين" ، "الأوغاد الرهيبين" ، "الحمقى".

لم يكن هناك الكثير من الفوضى في البلاط، تولى الوريث الشاب ألكسندر الابن الأكبر للإمبراطور المغتال، السلطة على الفور، وسرعان ما تم العثور على قادة حزب نارودنايا فوليا، الذين نظموا ونفذوا الاغتيال واعتقلوا وحوكموا وقتلوا، أحدهم الشاب Grinevetski - الذي ألقى القنبلة التي قتلت القيصر - أصيب بجروح قاتلة من جراء الانفجار وتوفي على الفور، تم شنق صوفيا بيروفسكايا وجيليابوف وكيبال شيش (الفني الشهير للحزب الذي صنع القنابل) وميخائيلوف وريساكوف، وسرعان ما أدت إجراءات الاضطهاد والقمع الشديدة والواسعة النطاق إلى إعاقة الحزب تمامًا.

كل شيء "عاد إلى النظام".

لم يجد الإمبراطور الجديد ألكسندر الثالث، الذي تأثر كثيرًا باغتيال والده، شيئًا أفضل من العودة إلى مسار رد الفعل الكامل الذي تم التخلي عنه مؤخرًا، فبدت له "إصلاحات" والده غير الملائمة مفرطة ومؤسفة وخطيرة، اعتبرهم خطأ مؤسفًا، فبدلاً من فهم أن الاغتيال كان نتيجة لعدم كفايتهم وأنه يجب توسيعهم، على العكس من ذلك رأى فيهم سبب الشر واستغل مقتل والده لمعارضة "الإصلاحات" بكل طريقة ممكنة، لقد شرع في تشويه أرواحهم والتصدي لآثارهم وخلق عقبات أمامهم من خلال سلسلة طويلة من القوانين الرجعية، استعادت الدولة البيروقراطية والقمعية حقوقها وتم خنق كل حركة وكل تعبير عن الفكر الليبرالي.

من الواضح أن القيصر لم يستطع إعادة نظام القنانة، لكن الجماهير العمالية حُكم عليها بالبقاء أكثر من أي وقت مضى في حالتها كقطيع غير واضح صالح للإستغلال ومحروم من جميع حقوق الإنسان، أصبح أدنى اتصال بين طبقة المزارعين والناس مرة أخرى مشبوهًا ومستحيلًا "المفارقة الروسية"، فالفجوة التي لا يمكن ردمها بين المستوى الثقافي وتطلعات الطبقات العليا والحياة الكئيبة وغير المفكرة للناس، بقيت على حالها وتم حظر النشاط الاجتماعي من أي نوع مرة أخرى، كل ما نجا من إصلاحات ألكسندر الثاني الخجولة تحول إلى صورة كاريكاتورية.

في ظل هذه الظروف، كان ولادة النشاط الثوري من جديد أمرًا لا مفر منه، كان هذا في الواقع ما حدث لكن شكل هذا النشاط وجوهره قد تغير كليًا بفعل عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية جديدة.

الفصل الرابع : نهاية القرن؛ الماركسية؛ التطور السريع ورد الفعل (1881-1900)

بعد فشل الحملة العنيفة لحزب نارودنايا فوليا ضد القيصرية، ساهمت أحداث أخرى في التحول الأساسي للحركة الثورية الروسية. الأهم كان ظهور الماركسية .

كما هو معروف، عبرت الماركسية عن مفهوم جديد للنضال الاجتماعي: مفهوم أدى إلى برنامج ملموس للعمل الثوري ، وفي أوروبا الغربية، إلى حزب سياسي للطبقة العاملة يسمى الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

بالرغم من كل العوائق، فإن الأفكار الاشتراكية ومفاهيم وإنجازات الماركسية كانت معروفة ودُرِسَت وعُظِّت ومارست سراً في روسيا؛ حتى الأدب القانوني برع في فن التعامل مع الاشتراكية بلغة محجبة، عادت "المجلات الكبيرة" المعروفة إلى الظهور بحماس كبير. كان من بين المساهمين فيها أفضل الصحفيين والمعلمين في ذلك الوقت الذين حللوا بانتظام المشكلات الاجتماعية والمذاهب الاشتراكية ووسائل تحقيقها، لا يمكن المبالغة في أهمية هذه المنشورات للحياة الثقافية للبلد، لا يمكن لعائلة فكرية أن تكون بدونهم. في المكتبات ، كان من الضروري وضع اسم المرء على قائمة الانتظار للحصول على أحدث إصدار، فقد تلقى أكثر من جيل من الروس تعليمه الاجتماعي من هذه المجلات، وهكذا جاءت الأيديولوجية الماركسية القائمة فقط على العمل المنظم للبروليتاريا لتحل محل الآمال المخيبة للآمال لدوائر التآمر السابقة.

الحدث المهم الآخر كان التطور السريع المتزايد للصناعة والتكنولوجيا، مع كل عواقبهما بعيدة المدى.

فشبكات السكك الحديدية ووسائل النقل الأخرى والتعدين والتنقيب عن النفط والتعدين والمنسوجات وصناعات الأدوات الآلية - كل هذه الأنشطة الإنتاجية تطورت بخطوات كبيرة لتعويض الوقت الضائع، نشأت المناطق الصناعية في جميع أنحاء البلاد وتغيرت بيئة العديد من المدن بسرعة بسبب المصانع الجديدة وتزايد عدد العمال، تم دعم هذه الطفرة الصناعية من قبل قوة عاملة تتكون من حشود كبيرة من الفلاحين البائسين الذين أجبروا إما على التخلي عن قطع أراضيهم غير الملائمة بشكل دائم أو البحث عن عمل إضافي خلال فصل الشتاء، كما في أي مكان آخر، وكان التطور الصناعي يعني تطور الطبقة البروليتارية وكما هو الحال في أي مكان آخر، بدأت هذه الطبقة في تجهيز وحدات للحركة الثورية.
وهكذا ، فإن انتشار الأفكار الماركسية ونمو البروليتاريا الصناعية التي يعتمد عليها الماركسيون، كانت العناصر الأساسية التي حددت الوضع الجديد.

فالتنمية الصناعية ومستوى المعيشة المرتفع بشكل عام مطلوبان في جميع مجالات المتعلمين والمهنيين والفنيين والعمال المهرة، تزايد عدد المدارس على اختلاف أنواعها - الرسمية والبلدية والخاصة - بشكل مستمر في المدن والأرياف؛ نشأت الجامعات والمدارس الفنية الخاصة وغيرها من المؤسسات العليا والمدارس الابتدائية والدورات المهنية في كل مكان. (في عام 1875 كان 79٪ من المجندين أميين ؛ وبحلول عام 1898 انخفض هذا الرقم إلى 55٪).

حدث هذا التطور برمته خارج إطار النظام السياسي المطلق وحتى في معارضته، تمسك النظام بعناد - جثة جامدة وعبثية ومتطفلة بشكل متزايد على قمة الجسم الحي للبلاد وبالتالي، على الرغم من القمع الوحشي، انتشرت بشكل متزايد الحركة المناهضة للملكية وكذلك الدعاية الثورية والاشتراكية، حتى السكان الفلاحون - الأكثر تخلفًا واضطهادًا - بدأوا في النزوح مدفوعين بالفقر والاستغلال اللاإنساني بقدر ما دفعهم أصداء التحريض على نطاق واسع. تم نقل هذه الأصداء إلى القديسين من قبل العديد من المثقفين الذين عملوا في "Zemstvos" (في ذلك الوقت كان هؤلاء الناس يعرفون باسم "zemstkii rabotniki": "عمال zemstvo" من قبل العمال الذين لديهم روابط عائلية مع الريف ومن قبل العمال الموسميين والبروليتاريا الزراعية، كانت الحكومة عاجزة ضد هذه الدعاية.

قرب نهاية القرن، واجهت قوتان واضحتان بعضهما البعض بشكل لا يمكن التوفيق فيه، كانت إحداها هي القوة القديمة للرجعية التي كانت تتألف من الطبقات ذات الامتيازات العالية التي تجمعت حول العرش: النبلاء والبيروقراطية وملاك الأراضي والطبقة العسكرية ورجال الدين الأعلى والبرجوازية الناشئة، كانت القوة الثانية هي القوة الثورية الشابة التي تألفت في 1900-1890 بشكل رئيسي من كتلة الطلاب ولكنها بدأت بالفعل في التجنيد من بين العمال الشباب في المدن والمناطق الصناعية.

في عام 1898، أنشأ التيار الثوري ذو الاتجاه الماركسي حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (تأسست أول مجموعة اشتراكية ديمقراطية تسمى "تحرير العمل" في عام 1883).

بين هاتين القوتين المتعارضتين بوضوح، كانت هناك قوة ثالثة تتكون أساسًا من ممثلين عن الطبقة الوسطى وعدد معين من المثقفين "المتميزين": أساتذة الجامعات والمحامون والكتاب والأطباء، كانت حركة ليبرالية خجولة وعلى الرغم من أنهم قدموا دعمًا سريًا وحكيمًا للغاية للنشاط الثوري، إلا أن هؤلاء الناس كان لديهم ثقة أكبر في الإصلاحات على أمل أنه في ظل تهديد الثورة الوشيكة (كما في عهد ألكسندر الثاني) قد يمنح النظام المطلق تنازلات كبيرة مما يؤدي في النهاية إلى تأسيس نظام دستوري.

فقط جماهير الفلاحين استمرت في البقاء خارج هذا الهياج.

توفي الإمبراطور ألكسندر الثالث في عام 1894 وأخذ مكانه ابنه نيكولاس، آخر آل رومانوف.

ادعت أسطورة غامضة أن القيصر الجديد أعلن أفكارًا ليبرالية، حتى أنه قيل إنه كان على استعداد لمنح "شعبه" دستوراً من شأنه أن يحد بشكل جدي من السلطات المطلقة للقيصر.

أخذوا رغباتهم في الواقع وقُدمت بعض المجالس الليبرالية "zemst-vos" (المجالس البلدية) للقيصر الشاب التماسات طلبوا فيها بخجل بعض حقوق التمثيل.

في يناير 1895 بمناسبة زواج نيكولاس الثاني، استقبل القيصر في سانت بطرسبرغ وفودًا مختلفة من النبلاء والجيش و "Zemstvos"، ولدهشة مندوبي البلديات العظيمة، غضب السيد الجديد وهو يقبل التهاني فجأة، طرق على قدمه وصرخ بهستيريًا ودعا "Zemstvos" للتخلي عن "أحلامهم المجنونة" إلى الأبد، وتم التأكيد على هذا المطلب على الفور من خلال الإجراءات القمعية ضد بعض "المحرضين" على الموقف "التخريبي" لـ "zemstvos". وهكذا عاد الاستبداد ورد الفعل، التأكيد على نفسه مرة أخرى ازدراءه للتطور العام للبلاد.

الفصل الخامس: القرن ال 20، تنمية متسارعة، تقدم ثوري، النتائج (1900–1905)

أصبحت الأحداث والخصائص التي ذكرناها للتو أكثر وضوحًا في بداية القرن العشرين.

فمن ناحية، بدلًا من الاعتراف بتطلعات المجتمع ، قرر النظام المطلق الحفاظ على نفسه بكل الوسائل الممكنة وقمع ليس فقط كل الحركات الثورية، ولكن أيضًا أي تعبير عن المعارضة، فخلال هذه الفترة قامت حكومة نيكولاس الثاني بتحويل السخط المتزايد للسكان عن طريق الدعاية المعادية للسامية واسعة النطاق التي أعقبها التحريض - وحتى التنظيم - للمذابح اليهودية .

ومن ناحية أخرى، استمرت التنمية الاقتصادية للبلاد بوتيرة متسارعة لمدة خمس سنوات من عام 1900 إلى عام 1905 حققت الصناعة والتكنولوجيا قفزة هائلة ليصل إنتاج البترول (في باكو) والفحم (في دونيتز) وإنتاج المعادن بسرعة إلى مستوى البلدان الصناعية الأخرى، تم توسيع وتحديث الطرق ووسائل النقل (السكك الحديدية و النقل بالسيارات والنقل النهري والبحري)، انتشرت أو توسعت مصانع البناء الكبيرة التي توظف الآلاف وحتى عشرات الآلاف من العمال في ضواحي المدن الكبيرة و نشأت مناطق صناعية بأكملها أو تم توسيعها. على سبيل المثال، يمكننا إدراج مصانع بوتيلوف الكبيرة وأحواض بناء السفن الكبيرة في نيفسكي ومصنع البلطيق الكبير بالإضافة إلى مصانع أخرى في سانت بطرسبرغ و الضواحي الصناعية للعاصمة التي يعمل بها عشرات الآلاف من العمال مثل كولبينو وتشو خوفو وسيستروريتش والمنطقة الصناعية في Ivanovo-Voz-nessensk بالقرب من موسكو والعديد من المصانع المهمة في جنوب روسيا: خاركوف وإيكاترينوسلاف وأماكن أخرى. لم يكن هذا التطور السريع معروفًا جيدًا في الخارج خارج المجموعات المهتمة (هناك الكثير ممن يعتقدون ، حتى اليوم أنه قبل صعود البلشفية لم تكن هناك صناعة تقريبًا في روسيا ؛ تم إنشاء هذه الصناعة بالكامل من قبل الحكومة البلشفية.) ومع ذلك كان التطور كبيرًا، ليس فقط من وجهة نظر صناعية بحتة ولكن أيضًا اجتماعيًا، أدى التصنيع إلى النمو السريع للعناصر البروليتارية، فوفقًا لإحصاءات تلك الفترة، كان هناك حوالي ثلاثة ملايين عامل في روسيا عام 1905.

في الوقت نفسه، حققت البلاد تقدمًا سريعًا في الأمور الثقافية كما كان تعليم الكبار يتقدم بسرعة.

في عام 1905، كان هناك حوالي ثلاثين جامعة ومدرسة للتعليم العالي في روسيا للرجال والنساء، اعتمدت جميع هذه المؤسسات تقريبًا على الدولة (باستثناء القليل منها التي كانت مدعومة من أموال البلدية الخاصة)، و باتباع تقليد قديم ولكن بشكل أساسي كنتيجة لإصلاحات ألكسندر ، كانت قوانين الجامعات متحررة تمامًا وسمحت بقدر كبير من الاستقلال الداخلي (الاستقلالية)! حاول الكسندر الثالث ونيكولاس الثاني التقليل من هذه الاستقلالية لكن كل محاولة من هذا النوع أثارت اضطرابات كبيرة و في النهاية تخلت الحكومة عن مثل هذه المشاريع.

تم اختيار أساتذة الجامعات والمدارس العليا من بين خريجي الجامعات وفق إجراءات محددة، كانت جميع المدن تقريبًا حتى وإن كانت غير مهمة ، بها مدارس ثانوية ومدارس إعدادية للبنين والبنات، تأسست مدارس الثانوي من قبل الدولة أو الأفراد أو "zemstvos". في جميع الحالات الثلاث كانت البرامج التعليمية التي نشأت محددة من قبل الدولة وكان التدريس متشابهًا بشكل ملموس، كان تعليم الدين واجبا.

تم تعيين أعضاء هيئة التدريس في المدارس الثانوية من مجتمع الجامعة مع استثناءات طفيفة و استمر برنامج الدراسات المؤدية إلى الحصول على الدبلوم ، والذي يمنح القبول للجامعة لمدة ثماني سنوات، يمكن للطلاب الذين تم إعدادهم لـ UIF قضاء عام في الفصل التحضيري بالإضافة إلى السنوات الثماني الإلزامية، وازداد عدد المدارس الابتدائية في المدن والريف بشكل سريع- أسست الدولة بعضها- اما الآخرين حسب البلديات و "zemstvos". كل هؤلاء كانوا تحت رقابة وسيطرة الدولة، كان التعليم الابتدائي مجانيًا لم يكن اجباريا، فرضت الدولة بطبيعة الحال التعليم المسيحي في المدارس الابتدائية، وكان على الرجال والنساء الذين درسوا في المدارس الابتدائية أن يكونوا حاصلين على دبلوم لمدة أربع سنوات من المدرسة الثانوية على الأقل.

الدورات المسائية للكبار وبعض "الجامعات الشعبية" جيدة التنظيم والتي كان حضورها جيداً ، تعمل في جميع المدن الكبرى، كرست البلديات وخاصة الأفراد أنفسهم لهذه المؤسسات بحماس كبير.
كان من الواضح أن أبناء العمال والفلاحين نادرون في المدارس الثانوية والجامعات وكانت تكلفة هذا التعليم مرتفعة للغاية، ومع ذلك وخلافًا للأسطورة المنتشرة، لم يكن دخول هذه المدارس محظورًا سواء على أبناء العمال أو أبناء الفلاحين، لقد جاء غالبية الطلاب من عائلات المثقفين من المهن الحرة والموظفين ورجال الدين ومن العائلات البرجوازية.

إن حقيقة اعتراف الدوائر الفكرية لعقيدة كانت على الأقل ليبرالية جعلت من الممكن لدعاية لأفكار تقدمية إلى حد ما أن تتم خارج المناهج الدراسية في العديد من المدارس والمؤسسات البلدية والشعبية على الرغم من مراقبة الشرطة.
المحاضرين في "الجامعات الشعبية" ومعلمي المدارس الابتدائية يأتون غالبًا من الدوائر الثورية، بعض المخرجين عادة ذوي الميول الليبرالية يتسامحون معهم، كانوا يعرفون كيفية "ترتيب الأشياء" في ظل هذه الظروف و كانت السلطات بالكاد قادرة على معارضة هذه الدعاية، بالإضافة إلى التعليم والمحادثة والتعليم من خلال الكتابات.

ظهرت في السوق كمية هائلة من الكتيبات الشعبية التي كتبها العلماء بشكل عام أو تتكون من مقتطفات من الكتاب العظماء، تناولت هذه الكتيبات جميع العلوم وحللت المشاكل السياسية والاجتماعية بروح تقدمية للغاية، كانت الرقابة الرسمية عاجزة عن مواجهة هذا الفيضان المتصاعد و اكتشف المؤلفون والناشرون طرقًا عديدة لخداع يقظة السلطات.

إذا أضفنا الانتشار الواسع للأدب الثوري والاشتراكي السري في الدوائر الفكرية والطبقة العاملة ، فسنكون لدينا فكرة جيدة عن الحركة الواسعة للتعليم والإعداد الذي يميز الفترة ما بين 1900 و 1905.

لقد سمحنا لأنفسنا بتقديم تفاصيل معينة ضرورية لفهم المدى والطابع التقدمي للحركات الثورية التي تلت ذلك، يجب أن نؤكد أن هذه الحركة الزيتية لتطلعاتها السياسية والاجتماعية قد اكتملت بملاحظة تطور أخلاقي قدير.

لقد حرر الشباب أنفسهم من كل الأحكام المسبقة: الدينية والوطنية والجنسية، ففي بعض النواحي، كانت الدوائر الطليعية الروسية لفترة طويلة أكثر تقدمًا من تلك الموجودة في الدول الغربية و كانت المساواة بين الأجناس والأمم والمساواة بين الجنسين والزواج الحر ( الاتحاد الحر ) ، ونفي الدين، حقائق موروثة في هذه الدوائر، لقد كانوا يمارسون ذلك منذ زمن "العدميين"، في كل هذه المجالات، أنجز الكتاب الروس (بيلينسكي ، هيرزين تشيرنيشيفسكي ، دوبرولوبوف ، بيساريف ، ميخائيلوفسكي) مهمة هائلة، لقد علموا عدة أجيال من المثقفين معنى التحرر الكامل وقد فعلوا ذلك على الرغم من التعليم الإلزامي بمحتوى معاكس) الذي فرضه النظام القيصري للتعليم الثانوي.

أصبحت روح التحرر هذه في نهاية المطاف تقليدًا مقدسًا ثابتًا للشباب الروسي، فأثناء خضوعهم للتعليم المفروض رسميًا، خرج الشباب من تحت ساطه بمجرد حصولهم على الدبلوم.

"لا تذهب إلى الجامعة!" صرخ الأسقف أو أبرشيتنا عندما كانت الشهادات مزدحمة بيننا، طلاب متخرجين من المدرسة الثانوية، لأن الجامعة هي لمثيري الشغب ... ". (إلى أين يريدنا أن نذهب؟) لقد كان يعلم ما يحدث هذا الأسقف المحترم، في الواقع، مع استثناءات قليلة جميع الشبان والشابات الذين ذهبوا إلى الجامعات ثوريين محتملين بين الناس وكلمة "طالب" تعني "متمرد".

بعد ذلك، عندما كبروا، هؤلاء المتمردون الذين كانوا ذات مرة محطمين بسبب مشاكل الحياة ومصائبهم ، نسوا أنهم غالبًا ما ينكرون دوافعهم الأولى. لكن شيئًا ما استعاد بشكل عام: عقيدة ليبرالية وروح معارضة، وأحيانًا شرارة حية كانت جاهزة للاحتراق في أول مناسبة جادة ومع ذلك، ظل الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للسكان العاملين دون تغيير.

تعرض العمال للاستغلال المتزايد للدولة والبرجوازية دون أي وسيلة للدفاع ، وافتقارهم إلى جميع الحقوق في التجمع ، والاستماع ، وفرض مطالبهم ، والتنظيم ، والنضال ، والإضراب ، وكان العمال غير راضين ماديًا ومعنويًا.

في الريف، استمر الفقر واستياء جماهير الفلاحين في النمو. تم التخلي عن الفلاحين - 175 مليون رجل وامرأة وطفل - واعتبروا نوعًا من "القطيع البشري" (كانت العقوبة البدنية حقيقة بالنسبة لهم حتى عام 1904، على الرغم من أنها ألغيت قانونًا في عام 1863). الافتقار إلى الثقافة العامة والتعليم الابتدائي ؛ أدوات بدائية وغير كافية ؛ عدم وجود الائتمان أو أي شكل آخر من أشكال الحماية أو المساعدة ؛ ضرائب عالية جدا المعاملة التعسفية والازدراء والقاسية من قبل السلطات والطبقات "العليا" و التقسيم المستمر لقطع أراضيهم نتيجة لتقسيم الأرض بين أفراد العائلات الجدد ؛ المنافسة بين "الكولاك" (الفلاحون الأثرياء) وطبقة النبلاء - كانت هذه هي الأسباب المتنوعة لبؤسهم، حتى "مجتمع الفلاحين" - الروسي الشهيرmir - لم يعد قادرًا على دعم أعضائه، علاوة على ذلك، قامت حكومة ألكسندر الثالث وحكومة خليفته نيكولاس الثاني بكل ما في وسعهما لتقليص المرآة إلى هيئة إدارية بسيطة تراقبها الدولة عن كثب وهي هيئة كان هدفها الأساسي إجبار الفلاحين على دفع الضرائب و مصاريف.

وبالتالي كان من المحتم أن تحقق الدعاية والنشاط الاشتراكي والثوري نجاحًا معينًا. وجدت الماركسية التي انتشرت سرًا ولكن بقوة، أتباعًا كثيرين، خاصة بين الطلاب ولكن أيضًا بين العمال. كان تأثير الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي تأسس عام 1898 محسوسًا في العديد من المدن وفي مناطق معينة على الرغم من أن هذا الحزب كان غير شرعي (مثله مثل جميع الأحزاب الأخرى).

أصبحت شدة الحكومة ضد المسلحين وحشية بشكل متزايد. كانت هناك محاكمات سياسية لا حصر لها. إجراءات القمع الإداري والشرطي ضربت بوحشية! الآلاف من "المعتقلين" امتلأت بهم السجون والنفي ومعسكرات الأشغال الشاقة ومع ذلك على الرغم من أن السلطات! كانت قادرة على الحد من نشاط وتأثير الحزب إلى الحد الأدنى لم ينجحوا في خنقها كما نجحوا في خنق الجماعات السياسية الأولى.

بعد عام 1900 ، وعلى الرغم من كل جهود السلطات ، نمت الحركة الثورية بشكل كبير. أصبحت الاضطرابات بين الطلاب وبين العمال أحداثًا يومية. في الواقع ، تم إغلاق الجامعات في كثير من الأحيان لعدة أشهر قبل التحضير بحزم بسبب الاضطرابات السياسية. كان رد الطلاب ، بدعم من العمال ، هو تنظيم مظاهرات مدوية في الأماكن العامة. في سانت بطرسبرغ أصبحت ساحة كاتدرائية كازان المكان الكلاسيكي لهذه المظاهرات الشعبية حيث تجمع الطلاب والعمال وهم يغنون! اغاني ثورية وفي بعض الاحيان تحمل الرايات الحمراء وأرسلت الحكومة مفارز من الشرطة والقوزاق على الجياد "لتنظيف" الميدان والشوارع المجاورة بالسيوف والسياط ( ناجيكاس ).

بدأت الثورة في احتلال الشوارع.

ومع ذلك ، لكي نعطي القارئ فكرة دقيقة عن الوضع العام ، يجب أن نتحفظ مرة أخرى لدقيقة على الصورة التي رسمناها للتو ولكن بالإشارة إلى هذه الصورة فقط دون إجراء عمليات تقييم مرجعية رئيسية و دون الرجوع باستمرار إلى الكلية الكبيرة للبلد والشعب، فإننا سنخاطر بالمبالغة وسننتهي بإجراء تقييمات عامة خاطئة لن تؤدي إلى فهم الأحداث اللاحقة.

يجب ألا ننسى أنه من بين الكتلة الهائلة التي يزيد عدد سكانها عن 180 مليون شخص ، كانت المجموعات المتأثرة بالحركة الفكرية التي وصفناها تتكون من طبقة صغيرة جدًا: في الواقع ، كانت تتألف من بضعة آلاف من المثقفين ، معظمهم من الطلاب ، و النخبة من الطبقة العاملة في المدن الكبرى. بقية السكان: جماهير الفلاحين التي لا حصر لها وأغلبية سكان المدينة وحتى غالبية السكان العاملين ، كانت لا تزال خارج الهيجان الثوري وغير مبالية بل ومعادية لها. لقد زاد أعضاء الدوائر المتقدمة بسرعة من عام 1900 على عدد العمال الذين فازوا بالقضيةباستمرار ؛ وصل الانفجار الثوري أيضا إلى جماهير الفلاحين البائسة على نحو متزايد لكن في الوقت نفسه، فإن الكتلة الهائلة من الناس -الكتلة التي يحدد نشاطها وحده التغيرات الاجتماعية الكبرى - احتفظت بنظرتها البدائية. ظلت "المفارقة الروسية" على حالها تقريبًا واستمرت "أسطورة القيصر" في إبهار الملايين من البشر. فيما يتعلق بهذه الجماهير، لم تكن الحركة المعنية أكثر من خميرة صغيرة وسطحية (شارك أربعة عمال فقط في المؤتمر الاشتراكي الديمقراطي في لندن ، 1903).

في ظل هذه الظروف كان كل اتصال بين من كانوا في المقدمة والذين كانوا متقدمين وبين جماهير السكان الذين ظلوا متخلفين كثيرًا، مستحيلًا.

يجب على القارئ أن يضع ذلك في الاعتبار باستمرار من أجل فهم الأحداث التي تلت ذلك، في عام 1901 ، تم إثراء النشاط الثوري بعنصر جديد: إلى جانب الحزب الاشتراكي الديموقراطي ، نشأ الحزب الاشتراكي الثوري، سرعان ما لاقت دعاية هذا الحزب نجاحًا كبيرًا.

اختلف الطرفان عن بعضهما البعض في ثلاث نقاط أساسية:

1. من الناحية الفلسفية والاجتماعية ، اختلف الحزب الاشتراكي الثوري مع المذهب الماركسي.

2. بسبب معاداة الماركسية ، وضع هذا الحزب حلاً مختلفًا لمشكلة الفلاحين (الأهم في روسيا). بينما الحزب الاشتراكي الديموقراطي ، المعتمد فقط على الطبقة العاملة ، لم يعتمد على جماهير الفلاحين(لقد انتظر الحزب البروليتاري السريع) ، وبالتالي أهمل الدعاية الريفية ، كان الحزب الاشتراكي الثوري يأمل في كسب جماهير الفلاحين الروس للقضية الثورية والاشتراكية. ورأى الأخير أنه من المستحيل انتظار بروليتارية الفلاحين. وبالتالي قامت بدعاية واسعة النطاق في الريف. لم يتوقع البرنامج الزراعي للحزب الاشتراكي الديموقراطي أكثر من توسيع مخططات الفلاحين وإصلاحات طفيفة أخرى ، في حين أن الحد الأدنى من برنامج الحزب الاشتراكي الثوري تضمن التنشئة الاجتماعية الكاملة والفورية للأرض.

3. انسجاماً تاماً مع عقيدته ، رفض الحزب الاشتراكي الديموقراطي ، المعول على عمل الجماهير ، كل نشاط إرهابي وكل الاغتيالات السياسية باعتبارها غير مجدية اجتماعياً و من ناحية أخرى ، أعطى الحزب الاشتراكي الثوري منفعة عامة معينة لمحاولات اغتيال كبار المسؤولين القيصريين الذين كانوا مفرطين في الحماسة والقسوة. حتى أنها أنشأت هيئة خاصة أطلق عليها "الجهاز القتالي" ، والتي كلفت بإعداد وتنفيذ الاغتيالات السياسية تحت إشراف اللجنة المركزية.

باستثناء هذه الاختلافات ، كانت البرامج السياسية والاجتماعية قصيرة المدى للحزبين هي نفسها تقريبًا: جمهورية برجوازية ديمقراطية تمهد الطريق للتطور نحو الاشتراكية.

من عام 1901 إلى عام 1905 قام الحزب الاشتراكي الثوري بعدة محاولات اغتيال كان لبعضها تداعيات كبيرة. في عام 1902 اغتال الطالب بالماتشيف ، وهو شاب مناضل في الحزب ، سيبياجين وزير الداخلية. في عام 1904 وقتل طالب اشتراكي-ثوري آخر سازونوف وفون بليهف ، الخليفة المعروف والقاسي لسيبياجين ؛ في عام 1905 ، قتل الاشتراكي الثوري كالاييف الدوق الأكبر سيرج حاكم موسكو ("المرزبان البشع").

بالإضافة إلى الحزبين السياسيين ، كانت هناك أيضًا حركة أناركية صغيرة. كانت ضعيفة للغاية وغير معروفة من قبل السكان ، وتتألف من مجموعات من المثقفين والعمال (الفلاحين في الجنوب) دون اتصال دائم. ربما كانت هناك مجموعتان أناركيتان في سانت بطرسبرغ وحوالي ذلك العدد في موسكو (كانت الأخيرة أقوى وأكثر نشاطًا) ، وكذلك مجموعات في الجنوب والغرب. اقتصر نشاطهم على دعاية ضعيفة (وإن كانت صعبة للغاية) ، وبعض محاولات الاغتيال ضد خدام النظام المتحمسين ، وبعض أعمال "الانتقام الفردي". تم تهريب الأدب التحرري من الخارج. تألف هذا إلى حد كبير من كتيبات كتبها كروبوتكين ، الذي أجبر هو نفسه على الهجرة بعد انهيار نارودنايا فوليا.، واستقروا في إنجلترا.

أدت الزيادة السريعة للنشاط الثوري بعد عام 1900 إلى إثارة قلق الحكومة. أكثر ما أزعج السلطات هو حقيقة أن الدعاية لقيت استحسان السكان العاملين. على الرغم من وجودهما غير القانوني وبالتالي الصعب ، كان لكل من الحزبين الاشتراكيين لجان ودوائر دعائية ومطابع سرية ومجموعات عديدة إلى حد ما في المدن الكبرى. ونجح الحزب الاشتراكي الثوري في ارتكاب اغتيالات نالت تداعياتها قدرًا كبيرًا من الاهتمام وحتى الإعجاب. قررت الحكومة أن أساليبها الدفاعية والقمعية - التجسس والاستفزاز والسجن والمذابح - غير كافية. من أجل إبعاد الجماهير العمالية عن نفوذ الأحزاب الاشتراكية وسائر] النشاطات الثورية ، لقد وضع خطة ميكيافيلية كان من المنطقي أن تؤدي إلى سيطرة الحكومة على الحركة العمالية. قررت إطلاق ملفمنظمة عمالية قانونية ومصرح لها بأمر من الحكومة نفسها. وهكذا كانت ستقتل عصفورين بحجر واحد: فمن جانب ستجذب نحو نفسها تعاطف وامتنان وتفاني الطبقة العاملة ، وتجذبها بعيدًا عن الأحزاب الثورية ؛ من ناحية أخرى ، ستكون قادرة على قيادة هذه الحركة العمالية حيثما تريد ، بينما تراقبها عن كثب.

لم يكن هناك شك في أن المهمة كانت دقيقة. كان من الضروري استقطاب العمال إلى أجهزة الدولة ، وتهدئة شكوكهم وإثارة اهتمامهم وتملقهم وإغرائهم وخداعهم دون علمهم بذلك كان من الضروري التظاهر بإرضاء تطلعاتهم والتغلب على الأحزاب وتحييد دعايتها وتجاوزها - خاصة مع الأعمال الملموسة. لتحقيق النجاح ، ستكون الحكومة ملزمة بالذهاب إلى نقطة الموافقة على تقديم تنازلات معينة لنظام اقتصادي أو اجتماعي ، مع إبقاء العمال تحت رحمتها باستمرار ، والتلاعب بهم حسب الرغبة، كان لا بد من تنفيذ مثل هذا "البرنامج" من قبل رجال تثق بهم الحكومة المطلقة ، رجال ماكرون وماهرون وذوي خبرة ، وكانوا على دراية بعلم نفس العمال والذين يعرفون كيف يفرضون أنفسهم على العمال ويكسبون ثقتهم.

اختارت الحكومة أخيرًا عميلين للسياسة ؛ المباحث ( أوكرانا ) الذين كلفوا بمهمة تنفيذ هذا المشروع، واحد كان زوباتوف من موسكو، والآخر قسيسًا في سجن سانت بطرسبرغ ، الأب جابون.

أرادت حكومة القيصر أن تلعب بالنار وسرعان ما أحرقت نفسها بقسوة.



#محمد_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة الفرنسية العظمى ( الفصل 3, 4 )
- الثورة الفرنسية العظمى ( كروبوتكين )
- العون المتبادل
- المعونة المتبادلة ( بيتر كروبوتكين )
- القانون والسلطة 2 ( بيتر كروبوتكين )
- القانون والسلطة ( بيتر كروبوتكين )
- روس وين
- قوة المثل الأعلى
- آثار الإضطهاد (بيتر كروبوتكين )
- دورتي مات، لكنه ما يزال حي! ( إيما جولدمان )
- الوطنية : تهديد للحرية .
- الأيدولوجية الرائعة ( إيما جولدمان )
- مكسيم جوركي ( بيتر كروبتكين )
- الأناركية والثورة ( بيتر كروبتكين )
- هل كانت حياتي تستحق العناء ؟
- لماذا ينبغي أن اكون أخلاقيا ؟
- النظام ( Order )
- دعونا نذهب إلى الناس ( إريكو مالاتيستا )
- رسالة الي لينين من ( بيتر كروبوتكين )
- تصرفوا لصالكم!


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد رضوان - الثورة المجهولة ( فولين )