أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شادي الشماوي - فالا بسكوفا ( قصّة بطلة شيوعيّة ثوريّة من بلغاريا )















المزيد.....



فالا بسكوفا ( قصّة بطلة شيوعيّة ثوريّة من بلغاريا )


شادي الشماوي

الحوار المتمدن-العدد: 7543 - 2023 / 3 / 7 - 00:50
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


1889- 1925

[ كلمة للناسخ و الناشر على الأنترنت : العنوان الأصلي هو فالا بسكوفا ، لا غير . ما وُضع بين قوسين في العنوان يُلقى شيئا من الضوء على مضمون النصّ . و ليكن واضحا للجميع أنّ هذا العمل ليس لنا، لم نؤلّفه و لم نقم بترجمته، كلّ ما قمنا به هو نسخه و نشره على الأنترنت بإعتباره عملا يعرّف بقائدة شيوعيّة ثوريّة ( مثل عدد من الأعمال الأخرى في كتبنا السابقة ) و بإعتباره عملا يزخر بالعبر و الدروس و ينسحب عليه وصف ملهم أيضا .
بلغتنا نسخة مكتوبة بحرف اليد و كي يكون هذا النص القيّم في تقديرنا في متناول عدد لا بأس به من القرّاء ، إرتأينا نشره في نسخة ألكترونيّة . و طبعا لا يسعنا إلاّ تقديم الشكر لمن بعث لنا بهذا العمل من تراث الحركة الشيوعيّة العالميّة و من قام بترجمته . ولعلّنا بنفض الغبار عن هذا المصنَّف نساهم في إثراء المكتبة الشيوعيّة الثوريّة بسيرة ثوريّة وُسمت في التوطئة بانّها " ثوريّة رائعة " وللقرّاء الحكم على مدى صواب هذا التوصيف ، بطبيعة الحال إثر الإطّلاع على القصّة بأكملها ...]
-------------------------------------------------------------------------------------------------
توطئة :
تذكّر هذه المحاولة بالشخصيّة الجذّابة لبطلة الشعب فلابسكوفا التي كرّست أحلامها و شبابها و كلّ قواها و حياتها للنضال الكبير و للشعب البلغاري من اجل الحرّية و السعادة .
لقد تميّز طبع فالابسكوفا بالسّمات النبيلة و النقيّة و كانت لها الشجاعة للوقوف ضد كلّ حيف بصدقها و إقدامها و بإجتماعيّتها كانت تندمج بسهولة و تخاطب الناس العاديّين و المثقّفين بلغة واحدة .
فهي متعظّشة للتعلّم و معرفتها جدّ واسعة و متنوّعة و موهوبة إذ تعزف على الكمان و الكمان الكبير و تغنّى بصوت شجيّ و لها مقدرة شاعريّة و إلقاؤها جدّ مؤثّر .
لقد كانت متميّزة عن محيطها بفضل سعة إطّلاعها و مواهبها الطبيعيّة و لم يوح لها ذلك في أيّ لحظة من حياتها بالغرور أو التكبّر بل بالعكس من ذلك فقد كانت تشعّ بسخائها و ببساطتها و لم تكن تفعل ذلك بهدف المكافأة و لم تكن تدفعها خلفيّة حبّ الظهور بل حبّها العميق و إخلاصها للشعب هنا اللذان يدفعانها لذلك فقد كانت فلا تبدىي النصائح للصغار و لأبائهم و كانت أقوالها تنفذ إلى أعماق كلّ ما يتّجه إليها سواء كان فلاّحا بيديه المتصلّبة أو صانعا صغيرا أو بعض الشيوخ ، أو شابا ثوريّا . لقد إحتفظ كلّ الذين عرفوا فالا بسكوفا بأروع ذكرى مؤثّرة .
لقد كانت متوسّطة القامة ، رشيقة تمتلئ حيويّة ، عيناها تميلان إلى الزرقة و تضيئان وجهها و تنسجمان مع شعرها الكستنائيّ و كانت متميّزة – رغم بساطة لباسها – لطيفة ، طبيعيّة التصرّفات ، ذات قُدرة كافية على التحكّم في أوقاتها الضروريّة لمشاغلها المتنوّعة .
بيتها ينمّ عن ذوق سليم للإمرأة منزل ، فهي تعدّ بنفسها لباس أبنائها . و مع ذلك فهي تجد الوقت لنجدة صديقة مريضة أو زيارة رفيقة أنجبت مولودا أو إعطاء دروس في العزف على الكمان ، كما تجد الوقت لإعطاء بعض دروس في اللغات الأجنبيّة و لمشاغلها العلميّة ، و كانت فالا ، قبل كلّ شيء ، ثوريّة رائعة أيضا فهي الصورة الأكثر إرتباطا بتاريخ النضال المسلّح للشعب البلغاريّ ضد الفاشيّين سنة 1925 عندما كانت تقاوم عدوّا ضخما .
إنّ ذكراها هي ذكرى أوّل امرأة وقفت ضد الفاشيّة في بلغاريا فهي غالية على كلّ بلغاريّ. و إنّها في نفس الوقت ، ذكرى لصديقة مخلصة و لإمرأة ذات إرادة قويّة لا تتزعزع وهي قبل كلّ شيء ، ذكرى لعملها البطوليّ ، و خلود الأفكار العظيمة التي ضحّت من أجلها بحياتها العزيزة علينا .
-----------------------------------------------

العاصفة تنبئ بقدومها

تبدو السماء قريبة ، كأنّها ستسقط و تغطّى الأرض ( بشال ) رماديّ و ندائف الثلج الكبيرة تتساقط و الصوف الأبيض يملأ الوديان و يشكّل أكداسا يغطّى خطوط السكّة الحديديّة و الطرقات بطبقة غليظة و أغصان الأشجار تنحنى تحت ثقل لباسها الشتويّ الأنيق .
و تبدأ ريح الشمال تنفخ مثل دابّة مجروحة و تحطّم في طريقها كلّ ما تحدثه الثلوج ، و تدور في كلّ الإتّجاهات و تكنس الثلج في هيجان و تقتلع جذور الأدغال و تكسّر أغصان الأشجار .
لقد دامت تلك العاصفة في هيجانها ثلاثة أيّام بلياليها ،فالمدينة لم تعد تعرف حوانيتها المعتادة لا حياة في السوق ، التجّار يتدفّقون في حوانيتهم و يترقّبون الحرفاء دون جدوى و بعض النسوة يعبرن بعجالة الشوارع الخالية و هنّ ملفوفات في شال كبير لشرا خبز أو حليب ...
صمت كئيب يخيّم على أكبر مقهى في تيرونوفو (1) مقهلى فاسيل أخمكوف الجاثم فوق هضبة السوق و كان مقهلا فاسيل رغم ذلك يشهد حركيّة بصفة دائمة أمّا اليوم فلا أحد يأتي في هذا البرد الثلجيّ لشرب كأس قهوة أو شاي أو للإلتقاء بأصدقائه ليلعب لعبة النّرد فالمرء في مثل هذا الطقس يختار البقاء بالبيت بجانب المدفأة .
و لم يعد الحرفاء يشغلون بل ( فاسيل أخمكوف ) منذ مدّة فقد أصبح يختار البقاء في البيت تاركا أعماله في ذمّة معينته و لا عجب في ذلك إنّه ينتظر مولودا جديدا .
و في الثامن و العشرين من تشرين الثاني ( نوفمبر ) سنة 1889 إنطلق من البيت صوت المولودة الحاد ، تلك المولودة التي سُمّيت فالا .
كانت الثلوج تتساقط في حين كانت المدفأة تبعث في البيت حرارة منعشة . و قالت القابلة بصوت رخيم :
- تهانيّ أتمنّى للصغيرة عمرا طويلا لتكن بهجة أيّامك .
و همهمت الأمّ :
- لتكن حياتها سعيدة مشرقة .
و قال الأب ملاطفا شعر زوجته :
- أنا أريد أن أعلّمها و سأبعث بها إلى المدرسة في أسطنبول .
و في ذلك الوقت بالذات ، إجتاحت العاصفة المكان كما لو أنّها تريد أن تنبئ بحياة الطفلة المرعدة .
و إستسلم الأب للأحلام متأثّرا و توجّه لزوجته نادا قائلا :
- هناك شيء ما يضايقنى في ترنوفو لا أريد البقاء فيها فالأعمال لم تعد تكفي و سيكبر الأطفال و يطيرون كالعصافير من عشّها و إنّه من الأحسن لو نستقرّ في صوفيا فالوضع هناك في العاصمة مختلف و الإمكانيّات متعدّدة و فضلا عن ذلك هل درست في المعهد ( روبرت كوليدج ) في إسطنبول لأسيّر مقهى ؟ ألهذا الغرض درست ؟
سيكون الوضع مختلفا في صوفيا ستروين .
كانت زوجته تصغى إليه وهي متعبة لأنّ الظّرف لم يكن يدفعها إلى النقاش و ألقت نظرة مفعمة بالحبّ إلى صغيرتها و قالت لزوجها :
- إذهب و ضع شيئا من الحطب في الموقد أخشى أن تصاب الرضيعة بالبرد .
كان ( فاصيل أخمكوف ) رجلا مثقّفا ذكيّا مقداما ذا مزاج مرح إلاّ انّه كثيرا ما ينقاد وراء مشاريع غريبة تكون جريئة صعبة التحقيق في بعض الأحيان . كان في إعتقاد كلّ من يعرفونه أنّه رجل لا يملك حسّا عمليّا وهو غريب الأطوار شيئا ما .
و كانت زوجته ( نادا بينا فاستوينوفا ) هي الأخرى متعلّمة كثيرا مثابرة كادحة إلاّ أنّها كانت عمليّة أكثر ، نيّرة تملك ذوقا سليما أكثر من زوجها .
و سترث فالا حبّ العمل و المثابرة و المهارة عن أمّها في حين سترث التعطّش للتعلّم و روح المبادرة من أبيها .

السيّارة

ذهب ( أخماكوف ) قلقا للإستقرار في صوفيا منجذبا نحو الحياة الثقافيّة النشيطة في العاصمة بعد أن مات أبوه و ورث عنه بعض المال . و عمل موظّفا في البداية لكنّه رفت على إثر أزمة وزاريّة فخامرته تلك المرّة فكرة شراء سيّارة لنقل الركّاب من محطّة القطار إلى منازلهم إلاّ انّ زوجته عارضته و إعتبرت فكرته تلك مخاطرة و غير مربحة و لكنّه كان متشبّثا بفكرته فدافع عنها بكلّحماس و توجّه إليها قائلا :
- نادا إنّ المستقبل للتكنولوجيا .
و جلب ( أخماكوف ) إلى بلغاريا أولى العربات ذات المحرّك و في سنة 1889 ظهرت في شوارع صوفيا سيّارة حمراء تشبه في وقفتها على عجلاتها عربة خيل فاخرة وهي من نوع ( لندولى دي ديون بوتون ). و كان محرّكها من الخلف و سياقتها جدّ معقّدة و عجلاتها ذات أحزمة و دواليبها من خشب و كانت ذات أضواء بالأسيتيلان . و كانت العربات ذات المحرّك في تلك الفترة قليلة جدّا في بلغاريا و كانت أقصى سرعتها لا تتعدّى 35 كلم في الساعة .
و أثارت سيّارة ( أخماكوف ) فضول الأطفال فأصبحوا يلاحقونها تارة و يسبقونها تارة أخرى و يتفحّصونها و يتسلّون حولها .
و كان الحوذيّة في البداية ينظرون إليها بتسامح . لقد كان هناك العديد من العربات المجرورة بأحصنة فتيّة قويّة تسابق السيّارة جاعلة منها أضحوكة المارّين لكنّهم بدؤوا شيئا فشيئا يعون بخطورة الوضع و بأنّ تلك السيّارة الجديدة هي مزاحم يجب أخذه بعين الإعتبار لأنّ سرعتها مهما يكن الأمر أكثر وهي قادرة على نقل عدد أكبر من المسافرين و هكذا إنتشرت إشاعة بتغذية الحاسدين مفادها أنّ التنقّل مضرّ جدّا بالصحّة لأنّها تسير بسرعة و انّ الإنسان لا يمكن له أن يتحمّل تلك السرعة و أصبح الكثير من الأشياء المروّعة يحكى حول تلك السيّارة الغريبة .
و ذات يوم ، ذهب جميع سوّاق العربات لتقديم شكوى ضدّ ( اخماكوف ) معلنين أنّ سيّارته تحدث الكثير من الضجيج و تجفّل أحصنتهم و هكذا سمع أخماكوف في يوم صيفيّ على إثر عودته إلى المنزل طرق الباب .
- أبى هناك شرطيّ يريد رؤيتك ، قالت له إبنته (مارا ) الموجودة آنذاك في الساحة .
كانت أحذية الشرطيّ تدوّى فوق البلاط فتوجّه إلى أخماكوف و سلّمه إستدعاء و قال :
- يا سيّد أخماكوف إنّ مفوّض الشرطة يطلب منك الذهاب إليه على الساعة الثالثة، كن في الموعد من فضلك ، أمض هنا.
و ذهب أخماكوف إلى المفوّضيّة في الوقت المحدّد فإبتسم المفوّض و طلب منه الجلوس و قال له متظاهرا بأنّه أذنب في حقّه :
- سامحنا إذا كنّا أقلقناك يا سيّد أخماكوف و لكنّنا إتّصلنا بشكوى ضدّك . سائقو العربات قدّموا عريضة بشأن سيّارتك .
- كيف هذا ! قال أخماكوف محتجّا .
- إنّهم يقولون إنّ سيّارتك تحدث الكثير من الضجيج و تجفّل أحصنتهم .
- و لكنّها تسير على أحزمة و هذا لا يحدث أيّ ضجيج .
- المحرّك يا سيّد أخماكوف ، إنّه ضجيج المحرّك ، كلّ المصيبة تأتى منه و يقولون كذلك إنّك تحرمهم من قوتهم و إنّك تنقل الكثير من المسافرين .
- القانون لا يمنع جولان السيّارات و عريضتهم في نظريّ ليست قانونيّة . إنّ شيئا ما هنا ليس إعتياديّا .
- نعم يوجد شيء غير مطابق للقانون حقّا ولكنّ الناس يشتكون هكذا قل لسائقك أن يقود بأقلّ سرعة و يُنقص من الضجيج، نحن متّفقان ، أليس كذلك ، إلى اللقاء .
سخط أخماكوف و تضايق و لكن لم تعد له الرّغبة في الاهتمام بالمفوّض لأنّه أصبح يعتقد أنّ كلّ محاولة جديدة سوف تعكّر الوضعيّة أكثر . يجب أن لا يستفزّ غضبه لأنّه قادر في كلّ لحظة على منع السيّارة من الجولان و ماذا سيفعل بعد ذلك ؟
و أُصيبت السيّارة بعد زمن قصير بعطب و لم يكن هناك في تلك الفترة تقنيّون محنّكون لإصلاح السيّارات فشرع بعض الشبّان دون تكوين و لكن بحبّ إطّلاع في إصلاحها يعنى تفكيكها قطعة قطعة لمعرفة ما تحتويه و وقع بالطبع بعد هذا الفحص التأكّد من انّ الدي ديون بوتون لم تعد تصلح لشيء فباعها أخماكوف و لقد حوّلها صاحبها الجديد إلى لندو و هكذا توصّل سائقو العربات إلى تحقيق مآربهم في حين لم ينل فشل تلك المحاولة من عزيمة صاحبنا المتفائل و طمأن أخماكوف زوجته لمّا لا مته على إستخفافه :
- لا تقلقى يا نادا سأتدبّر الأمر .
- قلت لك كم مرّة يا أخماكوف ماذا سنفعل بهؤلاء الصغار الأربعة ( في تلك الفترة كان لعائلة أخماكوف أربعة أطفال ) و أردفت نادا :
- لو كان لنا دكّان لإستطعنا تأمين الأكل على الأقلّ ، و لكن …

من جديد سوء الحظّ

أصبح أخماكوف بعد مدّة شريكا لأحد أصحاب مصنع للورق المقوّى و لكنّ الشركة الجديدة لم تتطوّر نظرا لأنّ إنتاجها ليس بإمكانه الوقوف في وجه مزاحمة المواد الأجنبيّة التي تستورد بأثمان زهيدة و من جهة أخرى كان صاحب المصنع خبيثا فهو يبحث بكلّ الطرق لخداع شريكه الجديد . و هكذا و في وقت قصير خسر أخماكوف كلّ ما ساهم به في تلك الشركة . هكذا مرّة أخرى ، يلازمه سوء الحظّو لم يعد يملك الوسائل لتحقيق مخطّطاته .
و ذات ليلة لمّا غادر لآخر مرّة المصنع للإلتحاق بمنزله ، كان منهوكا ، مضطربا ، حائرا في المستقبل ، و كانت العائلة قلقة لتأخّره تنتظره بإنشغال لا أحد يمكن أن يتوقّع ما حدث ، قالت له زوجته لمّا إجتاز العتبة :
- فاسيل لماذا تأخّرت ؟ الأطفال جائعون و إضطررت إلى إعطائهم شيئا من الأكل و لكنّه لم يسمعها . كان خائر القوى مثقلا بمصابه . تساءلت نادا التي لم تتعوّد رؤيته في تلك الحالة عن السبب قائلة :
- و لكن ماذا حدث يا فاسيل ؟ مذا هناك ؟ تكلّم .
- إنتظرىي سوف تعرفين كلّ شيء ...
فحملت نادا الأطفال إلى الغرفة المجاورة و قد توقّ‘ت حصول أمر غير سار ،و قالت دون إسترجاع أنفاسها :
- قل لى ماذا حدث إذن ؟ هل إتّصلت ببرقيّة تحتوى على مصيبة حلّت بأهلنا في المقاطعة ؟
- لا يا نادا إنّ المصيبة حلّت بن نحن لقد أفلست أتفهيمن لقد أفلست .
و أجابها في الأخير مشدّدا على كلّ حرف فإمتقع وجه نادا و بقيت صامتة لمدّة و لم تفسّر لها تلك الكلمة كلّ شيء فطلبت توضيحا :
- و لكن كيف وقع ذلك ؟ كيف حصل هذا ؟ ماذا سنفعل الآن ؟
- هدّئي من روعك لا بدّ أن نجد مخرجا ، يجب أن أفعل شيئا لن نموت جوعا هيّا لا تخافى و لكن المهمّ الآن هو أنّني أفلست . لقد سرقنى هؤلاء السفلة ، نعم لقد سرقوني . أيّ شركاء هم ! إنّهم لصوص .
- فاسيل ، لقد أنذرتك من قبلب ، هذه الأعمال ليست لك و لكنّك لم تسمعنى ( لقد عزمت على تكوين مصنع ، مصنع ورق مقوّى ، سوف أستورد الآلات و سنربح العمليّة ) كنت تقول هذا . أرأيت الآن النتيجة ؟ أين نحن من هذا ؟
- إسمعى يا نادا لا تجزعيني ، المهمّ أن تكون الصحّة جيّدة ، سأعرف كيف أتدبّر الأمر ، لن أترككم للفقر .
و هكذا أصبح من العسير إعالة العائلة المتكوّنة من أربعة أطفال : نيقولا و فالا و مارا و بنتشو و أصبح المنزل تحت تصرّف الدّائنين الذين باعواه بأبخس الأثمان لتغطية ديون العائلة و إضطرّت هذه الأخيرة إلى الإنتقال إلى بافلوفو في أحواز صوفيا و إشتغل الأب مراقبا في مصنع للبيرة .
كان نيقولا و فالا و مارا يزاولون تعلّمهم في مدرسة بصوفيا و عليهم قطع خمس كيلومترات مشيا على ألأقدام كلّ يوم مرّتين فلا بدّ من الاقتصاد إذا بحيث لا يقع صرف القرش الذى يدفع في ذلك الوقت ثمن تذكرة الترامواي .
و كان الأطفال في كلّ وجبة يحملون معهم قطعة من الخبز يأكلونها في منتصف النهار مع قليل من اليوغرت . كانت فالا دائما هي الأولى في القسم و كان خطّها جميلا جدّا و إذا سئلت فهي تنال رضاء معلّميها دائما .
كان أخماكوف لا يتقاسم أبدا مع أيّ أحد مشاعر الإنهيار التي يعانى منها منذ التجربة المؤسفة مع مصنع الورق المقوّى و كان يتحفّظ قبل كلّ شيء من الحديث مع أطفاله حول تلك المصيبة و في المساء عندما يعود منهكا يلتفّ حوله أبناؤه و يحكون له بالتناوب ما فعلوه طوال النهار و كان الصغار ينتظرون بفارغ الصبر عودة أبيهم فيسألهم قائلا :
- و أنت يا مارا ماذا طلبوا منك في المدرسة ، ما هو الدرس الجديد ؟
و تحكى مارا بالتفصيل عمّا حدث في المدرسة .
- فالا أرنى كرّاس الخطّ .
- أنظر يا نيقولا ، غنظر كم هي جميلة أحرفها ، غنّها تشبه الجواهر ، غنّه شيء يسرّ في حين أنّ حروفك لا تقف على قدميها . أنظر إليها ، يخيّل إليّ أنّها ستسقط ، إذهب و أعد كتابتها .
و تأتى الأم أيضا بعد أن تعدّ المائدة فيتوجّه إليها قائلا :
- نادا هل تريدين غناء أغنيتى المحبوبة ؟
و يعلو في البيت الصغير صوت رخيم و تغنّى الأم الأعنية الشعبيّة للبنت الصغيرة النائمة في مهدها و يردّد الأب معها بصوته الخافت و يندمج الأطفال و تصبح العائلة كلّها تغنّى بصوت واحد .
- ما هذا ؟ كان ثرثارو الحيّ يقولون
- إنّهم يمرحون لا شيء هناك كأنّ كلّ شيء عندهم على أحسن ما يرام .
- إنّهم مفلسون و هم بالرغم من ذلك سعداء .
و في الإجتماعات العائليّة ، يبقى الأب بجانب الطفل الذى بقي هادئا طوال النهار سواء في المنزل أو في المدرسة و يعتبر الأطفال ذلك الإمتياز تعويضا عن حسن سيرتهم . و لقد كانت الأم هي التي تقرّر ذلك و في أغلب الأحيان كانت فالا هي التي تتمتّع بذلك الإمتياز .
فوق ميدان التزحلق

كانت فالا يقظة شجاعة و بجانب منزلها هضبة يستعملها الأطفال و يحوّلونها إلى ميدان تزحلق و كان الأطفال طوال النهار يصعدون الهضبة و ينزلون منها . كانت فالا غالبا ما تتأخّر في اللعب مع رفاقها إلى أن تأتىي أمّها لتأخذها إلى المنزل . و ذات يوم ، أراد طفل جديد الإلتحاق بالأطفال – و كان طفلا صغيرا – يحمل نظّارتين و جهه مغطّى بالنمش و حينما إنساق هذا الأخير مع زلاّجته دفعه فانكو وهو الشاب القويّ البنية و قائد زمرة الصبية في الحيّ و المعروف بمشاغبته فسقط على ألرض في حين تدحرجت زحّافته على الممرّ و إنفجرت كلّ العصابة ضحكا و لم يقدر أحد على أن يعارض فانكو و بقي الصغير صاحب النظّارتين في الثلج دون حراك خوفا من أن يضرب و لا أحد كان قادرا على الذهاب ناحيته سوى فالا التي أسرعت نحوه و ساعدته على الوقوف و أخذت بيده و إتّجهت مباشرة نحو فانكو فطلبت منه الإعتذار لكنّه بطبيعة الحال تجاهل معرفة ما وقع و إنفجر ضحكا و يداه في جيبيه مركّزا نحو خصمه نظرة كلّها تحدّ في حين كان الطفل يضمّ فالا إليه و يرتعش مثل عصفور حائطيّ ربّما من البرد و لكن على ما يبدو كان يرتعش من الخوف .
و طلبت فالا مرّة ثانية من فانكو الإعتذار مستنكرة سيرته المتعجرفة و لم يعد فانكو قادرا على الصّبر فما طلبته فالا أمام جموع العصابة كان بالنسبة إلى قائد مثله إستفزازا جعله يحمرّ غضبا . و صاح بكلّ صوته : كيف أعتذر لهذا المصاب ؟
- نعم هذا ما يجب أن تفعله ، ردّت عليه فالا ، بحزم و مرّت بعض الدقائق في صمت رهيب . كان فانكو لا يزال ساكنا فإقتربت منه فالا و إستقامت على أطراف أصابعها و صفعته فبقيت كلّ المجموعة خرساء منتظرة ما سيحدث ، كان القائد معروفا جيّدا و كانت الجماعة تعرف أنّه لا يمكن له أن يقبل بمثل تلك الشتيمة و صرخ أحدهم :
- أإنجى بجلدك يا فالا و أراد طفلان حمايتها و لكنّها أبعدتهما .
كان فانكو ينظر إليها مذهولا و ووقفت أمامه بالرغم من أنّها صغيرة ضعيفة و لكنّها كلّها إقدام و كانت قادرة على كلّ شيء عيناها تحدّقان في عينينه. إنّها المرّة الأولى التي ترفع فيها يدها لتضرب أحدا و لكنّها لم تعد تخشى شيئا فالحقّ إلى جانبها ، ثم قالت لفانكو :
- هيّا ماذا تنتظر أيضا أطلب منه العفو أم إنّك تريد أن يتواصل هذا في المدرسة ؟
و سبّبت تلك الكلمات لفانكو إضطرابا كاملا كان يخشى أن يؤدّي الحادث إلى ما لا يحمد عقباه و لكنّه ضغط على شفتيه و لم يقدر على قول أيّ شيء . عند ذلك أخذت فالا يد فانكو و وضعتها على يد الصبيّ و أدّت تلك المصافحة إلى إنفراج الوضع و ظهرت الإبتسامة على شفاه الأطفال و قال فانكو للطفل :
- حسنا أعتذر و لكن إنتبه من أن تقلقنى مرّة أخرى اليس كذلك ! ...
و تواصلت الألعاب بسرعة فائقة .
انا الجانية

و ذات يوم ربيعيّ كان الأطفال يلعبون لعبة الشرطيّ و السارق و الفرحة تملأ قلوبهم و كان إثنان من الأطفال منقادين باللعب فإرتميا على أحد المارة وهو يحمل سلّة مليئة بالفراولو فإنقلب الرجلّ و سقطت السلّة على ألرض و تبعثر الفراولو في الغبار فحاول الرجّل اللحاق بالجناة و لكنّهم تمكّنوا من الفرار و غابوا في الساحات المجاورة أمّا فالا فهي الوحيدة التي لم تتحرّك ثمّ إقتربت من الرجل بخطى ثابتة و قالت له :
- أنا الجانية ، انا التي ...
- لست أنت ، لقد رأيت جيّدا من الذى دفعنى و أوقع الفراولو في الغبار .
- لا ، لا . أنا التي ...
- إسمعى أيّتها الصغيرة إنّ لك قلبا طيّبا . لقد لاحظت ذلك و الشجاعة لا تنقصك أيضا و لكن لا يمكنك أن تتحمّلى أخطاء الآخرين لكلّ ما يستحقّ قولى لي ما إسم هذين الطفلين الذين دفعاني سأذهب لأرى أبويهما و سأستخلص ثمن فراولي و سأطلب معاقبتهما .
فصمتت فالا و أرخت عينيها :
- هيّا لم أطلب منك سوى إسميهما .
و هدّدها الرجل بعد صمتها من جديد :
- إذا لم تخبريني سأمسكك من أذنيك و أوصلك إلى أبويك ...
- حسنا هيّا بنا ...
- آه ! ما هذا ! لماذا تتحمّلين أخطاء الآخرين إذا بقيت هكذا فحياتك لن تكون سهلة هيّا لا تخافي ، أخبريني عن إسميهما .
و لكنّ فالا أصرّت على صمتها و لم تخبر عن رفاقها .
في المنزل

لقد ربّت الأم أطفالها على حبّ العمل فهم الذين يعدّون المائدة و يساعدون أمّهم على العمل المنزليّ كلّ واحد منهم يخصّص يوما للعمل في المنزل و لم تتخلّف فالا عن أداء واجباتها أبدا وهي تقوم بعملها بكلّ وعي . و ذات يوم ، لمّا كان أصدقاؤها ينتظرونها في الرواق كدّست جميع الصحون الواحد فوق الآخر و حاولت حملها كلّها لأنّها تريد القيام بكلّ شيء دفعة واحدة و لكنّ الحمل كان ثقيلا فإنزلقت الصحون و تكسّرت . و كانت أمّها لا توبّخها إذا كسّرت صحنا و لكنّ الأم في تلك المرّة عندما شاهدت كدس النفايات لم تمتنع عن تأنيبها بعنف فإنفجرت فالا باكية و إمتنعت في المساء عن تناول العشاء و نامت دون أن تأكل شيئا و هكذا فرضت على نفسها العقوبة المستحقّة .
المأساة
كان أخماكوف نحيل الجسم متوعّكا في أكثر الأحيان منهوكا لسوء حظّه فمرض و عصف به مرض السلّ السريع الفتك وهو في سنّ÷ الثالثة و الثلاثين و غابت الضحكة و البهجة عن المنزل و حلّت الأزمة محلّها و لم تقدر العائلة على الحصول على الخشب و الفحم للشتاء إلاّ بجهد جهيد فكان عليها بيع الأثاث لتوفير حاجيات المنزل و إضطرّ نيقولا الإبن الأكبر إلى الإشتغال عاملا بأجر ...
و في ا]اّم التعاسة و الآلام تلك توجّهت الأمّ أخيها بتكوستوينوف الذى كان في تلك الفترة رئيس المحكمة العسكريّة بشومان ( اليوم كولا روفعراد ) بطلب المساعدة . كان يتكوستوينوف أعزب ، ترى بماذا كان عليه أن يجيب عن رسالة أخته ؟ كلّ العائلة كانت تنتظر جوابا من شومان بفارغ الصبر لأنّ ردّه يتعلّق به مستقبلها . و هكذا و في يوم من الأياّم حمل ساعي البريد ، في منتصف النهار ، الرسالة المنتظرة التي قرأتها الأمّ بصوت عال :
( نادا تعلمين أنّني وحدي هنا . لقد مللت هذه الوحدة . من المستحسن أن تأتي إلى هنا سأعتنى بكم كلّكم . سأبعث إليك اليوم المال في حولة بريديّة ، إحزموا أمتعتكم و لا تتأخّروا عن الرحيل . إبعثى لي برقيّة يوم وصولكم لكي أتمكّن من الحضور بالمحطّة ، أقبّلك بحرارة – أخوك بتكو . قبّلي الأطفال كثيرا .) و إغرورقت عينا نادا بالدموع و لكنّها دموع الفرح هذه المرّة لمّا رأت أنّ مستقبل أطفالها مضمون و قالت :
- يا أطفال سنرحل في بداية السبوع ، انظروا ما أطيب خالكم !
و إبتدأت تحضيرات الرحلة مع التفكير في آفاق حياة جديدة في مدينة غير معروفة و في الأصدقاء الجدد و في بيت الخال يتكو .
و في محطّة القطار بشومان عندما شاهد الأطفال خالهم لابسا بُدلة الضابط الجديدة اللمّاعة إرتموا جميعا في عنقه يقبّلونه بالرغم من أنّهم لم يروه من قبل أبدا . لقد كان هو نفسه متأثّرا بحيث لم يكن يدري ما يفعل .
و غادر كلّ الركّاب المحطّة في حين بقوا هم يتبادلون أطراف الحديث على الرصيف و لم يطلب الخال سائق عربة الخيل إلاّ عندما سأله أحد الأطفال إن كان يقطن بجانب المحطّة و بعد ذلك لم تعد تسمع سوى إيقاع خطوات الحصان فوق بلاط الشارع الكبير الذى تصفّفت على جانبيه منازل قصيرة ذات سقف رماديّ .
المسكن الجديد

أصبح منزل الخال بتكو المأوى الثانيّ للأطفال . إنّهم يقرّون له بالجميل و يحترمونه و يحبّونه كثيرا و كان هو أيضا جدّ سعيد من ناحيته بذلك الجوّ المنعش الودّي لقد نسي تلك اللياليّ الطويلة الصامتة و زيارات الأصدقاء القصيرة و حصص لعب الورق اللامتناهية و أصبحت الآن فرحة الأعزب بهؤلاء الأطفال في منزله وعنايته بهم تجعلان لحياته معنى جديدا .
كان أخو نادا الثاني ستوينو ستوينوف يسكن هو الآخر مدينة شومان و كان عضوا بمحكمة الجنايات وهو يعين كذلك عائلة أخته . و تفرّغت نادا من ناحيتها لشؤون المنزل بشكل جعل عائلة الفقيد فاسيل أخماكوف تستعيد شيئا ما سير الحياة العادي بفضل إعانة الأخوين . و لم تكن توجد في ذلك الوقت في شومان سوى مدرسة للذكور و أخرى للإناث و قد وقع ترسيم فالا و مارا و خوليو بهما .
التلميذة الجديدة

رنّ الجرس و توجّه التلاميد في مجموعات صغيرة نحو قاعات الدرس و بعد دقائق رنّ الجرس مرّة أخرى فجاء دور الأساتذة للإلتحاق بتلاميذهم .
و ظهر رجل نحيف يرتدى بدلة قديمة و لكنّها نظيفة و كان محلوق اللحية ذا وجه نحيل مخطّط بتجاعيد عميقة ، كان يمشي بخطى بطيئة في الرواق ماسكا بيده اليسرى جريدة و بيده اليمنى يد طفلة نحيلة وهو يقول لها :
- سوف ترون رفيقاتك الجديدات . إنّهنّ لطيفات و أعدادهنّ حسنة جدّا أتعرفين ، سيدلّونك على الدروس التي فاتتك . ها نحن قد وصلنا !
و نهضت التلميذات و رددن بصوت واحد على تحيّة الأستاذ و قد توجّهت أعينهنّ إلى الضيفة الجديدة و توقّفت عليها . كانت فالا ظريفة لطيفة بوجهها الصغير البيضوي و عينيها الزرقاوين المحاطتين بجديلتين سوداوين . كانت تبدو ىفى فستانها الأسود الناعم و بقبّعتها المطرّزة بدقّة و البيضاء كالثلج و بحذائها اللمّاع مثل دمية حيّة تنظر إلى القسم بعينين مليئتين ثقة و حبّا .
كانت شومان وقتها مدينة حرفيّين و تجّار صغار و كان هناك عدد لا يُستهان به من عائلات الضبّاط لأنّها كانت أيضا مقرّ الحامية فكانت المدرسة تعكس إذا الهيكل افجتماعي للمدينة و لكنّها تعكس أيضا الرؤية الجهوريّة تجاه التلميذة الجديدة الآتية من العاصمة . كانت فالا بلباسها و أحذيتها و سلوكها العاديّ الطريف تبعث الغيرة في نفوس رفيقاتها .
قال الأستاذ :
- التلميذة الجديدة من صوفيا و إسمها فالا بسكوفا سيكون مكانها بجانب بانكا . سندرس اليوم إفريقيا .
و إبتدأ الدرس مملاّ ، كانت خارطة إفريقيا معلّقة على الحائط و كانت التلميذات شاردات الفكر و من حين لآخر يلقين خلسة نظرة نحو المقعد الذى تجلس فيه فالا ، كنّ يشعرن بأنّ ضيفتهنّ ستقلب النظام العاديّ و تهامست التلميذات ( كم هي أنيقة اللباس ، تبدو مثل امرأة من صوفيا ) .
و كان الأستاذ يواصل الدرس حول افريقيا و طوّقت بعض الفضوليّات فالا أثناء الراحة و كنّ يمطرنها بوابل من الأسئلة . و كانت فالا تجيب بصراحة و دون حرج و بصوت متّزن و كانت لا تكرّر حرف الراء فكان هذا بالنسبة لهنّ غريبا و كنّ يقلّدنها و أثناء فترات الإستراحة كنّ يكتبن حروف الراء فوق السبّورة و كنّ يلقّبنها شوشو ( سيّدة صوفيا الصغيرة ) و لكنّهنّ في نفس الوقت يتجنّبنها .
مرّت الأيّام العشرة الولى في جوّ فاتر و لكن عندما بدأ الأساتذة في غمتحان فالا لاحظوا أنّها تهيّء دروسها بعناية . و غالبا ما كانوا يعبّرون لها عن إستحسانهم أمام جميع أفراد الفصل . هكذا فهمت صديقاتها أنّهن كنّ مخطآت و أنّ فالا ليست شوشو و لا سيّدة صوفيا الصغيرة كما كنّ يعتقدن بادئ الأمر و أنّها كانت مستعدّة في أيّة لحظة لمساعدة رفيقاتها و لكن لم تكن هناك واحدة منهنّ تريد القيام بالخطوة الأولى في إتّجاه المصالحة .
و ذات يوم ، وصلت فالا متأخّرة و كانت كلّ التلميذات قد دخلن القسم و لم تبق سوى آنا حيث كانت مسخّرة في ذلك اليوم لتنظيف القسم فٌتربت منها فالا وهي تغسل الإسفنجة و لكنّ آنا الصغيرة تظاهرت بعدم رؤيتها خوفا من إتّهامها بخيانة القسم، و قالت لها فالا :
- آنا إنّي أعرف كلّ ما يحكى عنّي ، اعرف أنّكنّ تسميننى شوشو و سيّدة صوفيا الصغيرة و أعرف أنّني المقصودة من حروف الراء المكتوبة على السبّورة .
فشعُرت آنا بالخجل و كانت متيقّنة مثل رفيقاتها الأخريات من أنّ فالا تعرف كلّ شيء و أضافت فالا :
- و أنت كذلك لم تسلمي منهنّ فهنّ يسمّينك القوقازيّة و التترتريّة .
كانت آنا تقطن في حيّ يسمّى ترتار و هكذا لم تسلم آنا من سخريّة رفيقاتها وهي التي كانت تعتقد في قرارة نفسها أنّها فكاهيّة القسم تلصق للجميع ألقاب التهكّم و شحب وجه آنا و أخذ ثقنها يرتعش فوضعت فالا يدها على كتفيها و قالت :
- هّيا بنا ، لقد رنّ الجرس الثانيّ ، لا تؤاخذيني أليس كذلك ؟ لنكن صديقتين .
و دخلتا القسم تتأبّط الواحدة ذراع الأخرى فتساءل الجميع : ماذا حدث ؟ حينما رأينهما و قد وصلتا معا .
و لم تقدر آنا على كبح جماح دموعها حينما جلست على مقعدها متضايقة من النظرة الخاطئة التي كانت تنظر بها إلى رفيقتها الجديدة . في هذه اللحظة دخل الأستاذ و كان يريد معرفة من قامت بالتنظيف في ذلك الصباح و لكن آنا كانت تواصل البكاء فتساءل الأستاذ : و لكن من يقوم بالسخرة هذا اليوم ؟
أعاد السؤال مرّة أخرى بلهجة صارمة فأجابته فالا وهي متّجهة نحو السبّورة : آنا . و منذ ذلك اليوم ، توطّدت بين الفتاتين علاقة صداقة مخلصة و متواصلة و أصبحتا لا تتفارقان و تقومان بفروضهما بصفة مشتركة و تسرّان بأسرارهما لبعضهما .
لقد عرفت التلميذات أنّ فالا فقدت أباها في صوفيا و أنّ أمّها تعيش مع أبنائها الأربعة عند أخيها وهي التي كانت تخيط لهم مناديلهم الجميلة .
و كسبت فالا بطبعها الاجتماعي و طيبتها و إخلاصها تعاطف القسم كلّه و أصبحت كلّ التلميذات ينشدن صداقتها كلّ واحدة تريد الخروج و الذهاب معها إلى المنزل و كانت فالا تعمل ما في وسعها لإعانتهنّ و تفسير الدروس الصعبة عليهينّ .

فالا الجذّابة

بقيت فتاتان معزولتين عن الحياة الجماعيّة للقسم هما هيدوهي و راشيل نظرا لأصلهما . الأولى كانت أرمنيّة و الثانية يهوديّة فلم يكن هناك أيّ إتّصال معهما و غالبا ما كانتا محلّ سخريّة مهينة . و في كلّ مرّة تتناول فيها هيدوهي فطورها أثناء الإستراحة كانت كلّ الفتيات يدرن لها ظهورهنّ و يقلن بخبث : ما هذه الرائحة النتنة ؟
و ذات يوم ، ذهبت فالا التي لم تكن تحمل تلك الفكرة المسبّقة تطلب منها مشاركتها في لمجتها بدعوى أنّها لم تأت بلمجة فلم تفهم هيدوهي من الوهلة الأولى معنى ذلك التصرّف و تساءلت كيف يمكن لأحسن تلميذة تلك التي يتمنّى الكلّ صداقتها أن تأتىي و تكلّمها بلهجة لطيفة متفتّحة : ( أليس هذا مزاحا رديئا ؟ )( و لكن من الممكن أن تكون فالا صادقة و تريد فعلا مقاسمتى لمجتي ) كانت دموعها تلمع في عينيها و قدّمت لفالا كلّ ما في يدها فاخذت فالا جزئا صغيرا و أكلته بشهيّة . -و كان القسم كلّه ينظر بإستغراب إلى الفتاتين الليتن تضحكان بطيبة قلب و تأكلان معا و منذ تلك اللحظة لم تعد هيدوهي دخيلة و بقيت راشيل وحدها على حدة و ذات يوم لمّا غابت هيدوهي كانت راشيل وحية في المقعد فاتت فالا لتجلس بجانبها و لم تفارقها طوال فترة الإستراحة و كانت تفسّر لها الدرس المقبل و هكذا غاب العداء تجاه راشيل و تمكّنت فالا من توحيد القسم و أصبحت هي المحور الذى تدور في فلكه تلك الوحدة من النفوس الشابة . كانت فالا ماهرة جدّا و كانت تنجز تطريزات جدّ جميلة و بسهولة ملحوظة و كانت ترسم بنفسها الأشكال و تختار الألوان فأعمالها جدّ ناجحة إلى درجة أ،ذ المعلّمة بالرغم من هدوئها و تحفّظها عبّرت عن إعجابها بها أمام القسم كلّه .
و في آخر الثلاثيّة صرّحت بأنّ فالا تستحقّ أحسن عدد و بأنّ هناك تلميذة أو إثنتين تستحقّان أعدادا طيّبة أمّا البقيّة فمتوسّطات لأنّ أعملهنّ لم تكن جيّدة الإتقان .
و بعد إنتهاء الدرس كانت التلميذات متضايقات و لم يشأن الخروج و كنّ يبدين تعاليقهنّ و قد بيت فالا مع رفيقاتها .
لم تقدر كاتيا وهي اكثرهنّ كلاما على الإحتفاظ بإستنكارها ذاكرة أنّ كلّ التلميذات لم يتحصّلن إلاّ على أعداد متوسّطة ما عدا ثلاث تلميذات من عائلات غنيّة كما كانت تسمّيهنّ و أضافت :
- إنّ فالا شيء آخر لأنّها تحسن شغل الإبر أمّا الأخريان فلقد رأيتهما تحملان عملهما إلى امرأة تركيّة من حيّنا . هيّا بنا نخبر المديرة عنهما !
- لتعطي احسن عدد لهذه التركيّة ، إقترحت واحدة من الفتيات
- أو لحاملة أوراق أبويها ، قالت فتاة ثالثة بسخرية .
كانت فالا تستمع إلى صديقاتها اللاتى تصاعد إستنكارهنّ ، فقالت إنّ الوشاية ليست ذات معنى لأنّ الأساتذة لن يشتبكوا مع الأغنياء بخصوص هذه الترّهة و بعد فإنّه من العسير توفير الحجج : و من الممكن إتّهامكنّ بالإفتراء .
و إقترحت فالا على صديقاتها أن تعلّمنهنّ كيف يقمن بعمل جيّد ، فهدّأت أقوالها التلميذات و أدركن صحّة كلام فالا و وافقن على إقتراحها .
الكمان

ذات مساء بعد قضاء بعض الساعات الممتعة ، رجع خال فالا متأخّرا وهو يغنّى بعض اللحان التي ترجع إلى عهد شبابه . كان ذا قلب رقيق يشعر بالحنان يغمره كلّما رأى أهله . كانت أخته أمام آلة الخياطة في حين إنغمست فالا في قراءة كتاب ، فقال :
هيّا فالا يا طفلتى أليست هناك راحة بالنسبة إليك ؟ ستتعب عيناك كثيرا تعالي أقصّ عليك ذكريات طفولتي .
و شرع يقصّ حكاياته التي لا تنتهى ثمّ أردف :
- آه ! كدت أنسى أهمّ شيء ،
و توقّف عن الكلام ثمّ أضاف :
- إعترضت معلّمتك هذا اليوم . لقد كانت مسرورة بك كثيرا و لقد سرّنى أن تكوني أنت إبنة أختي الصغيرة أحسن تلميذة في المدرسة كلّها . إنّه ليس بالشيء السهل ! و بهذه المناسبة ، أريد أن أقدّم لك هديّة ، قولي لي ماذا تريدين و أنا أشتريه لك غدا .
و فوجئت فالا و إحمرّت وجنتاها . لم تصرّح أبدا من قبل بحلمها لإمتلاك كمان و مع ذلك فقد كانت تتمنّى إمتلاك واحد منذ زمان و أصرّ الخال وهو يداعب شعرها :
- هيّا يا صغيرتي ، لا تقلقي ، إنّك تستحقّين كلّ شيء !
و همست له فالا برغبتها .
- كمان ؟ حسنا سيكون لك ذلك و لكن يجب أن تعدينيّ عندما أرجع في المساء بأنّ تعزفىي لي أغانيّ المحبوبة فأنا أحبّ الموسيقي جيّدا أتعلمين ؟
و صاحت فالا و قد غمرتها الفرحة :
- بالطبع يا خالي العزيز أعدك .
وفى الخال بعد أيّام بوعده و حمل لإبنة أخته التي يحبّها كثيرا الهديّة التي طالما تمنّتها و فتحت فالا الصندوق دون إنتظار. ها هو الكمان الذى حلمت به أمامها و إرتمت في عنق خالها و دموع الفرح تملأ عينيها .
إهتمّ أستاذ الموسيقى بها و في وقت قصير و بفضل موهبتها الموسيقيّة الخاصّة و مثابرتها حقّقت فالا تقدّما ملحوظا بحيث أصبحت تعزف أحسن من صديقاتها اللاتى بدأن التعلّم قبلها و حفظت عن ظهر قلب و دون صعوبة التمارين و القطع الأكثر صعوبة .
و في المساء غالبا ما كان يطلب الخال من فالا قائلا :
- هيّا فالا أعزفي لنا شيئا رومنطيقيّا !
- ماذا تختار يا خالي ؟
- و لكنّك تعرفين جيّدا !
و غمرت الغرفة موسيقى لطيفة ثمّ عزفت فالا أغاني مرحة جذّابة . كان الكلّ يسمعها حتّى ساعة متأخّرة من الليل . و أصبحت فالا مولعة بالكمان الذى لا يفارقها و واصلت العزف عليه طوال حياتها و عندما درست في الجامعة و بعد أن أصبحت أستاذة بقي الكمان الصديق الذى لا يفارقها . لقد كانت ترتاح عندما تعزف فكانت تعزف أيّام الحزن و الفرح و حتّى عندما إحتدّ النضال لم تفارق أبدا صديقها المخلص .

التساؤل الأوّل

كانت فالا تلاحظ أنّ خالها يخصّص كلّ مرتّبه للبيت و انّ أمّها كانت بالإضافة إلى شغل المنزل تقوم بأعمال الخياطة و التطريز فكانت فالا تعمل ما في وسعها لإعانتها فضلا عن أنّها كانت تلاحظ أنّ موارد العائلة لا تغطّى دائما المصاريف و كانت تحفظ بسرعة فائقة دروسها و تخصّص بقيّة وقتها لمساعدة التلاميذ الضعاف في الرياضيّات و الفيزياء و كانت فخورة بإعطاء أمّها النقود القليلة التي تربحها .
كانت فالا ترغب في التعلّم و نظرا لإهتماماتها المتنوّعة ، كانت توفّر الوقت للذهاب إلى ورشة مصمّمة أزياء .
لقد تعلّمت فالا بسرعة و مهارة صنع القبّعات و الورود الإصطناعيّة و كانت تفتح دوما صندوق أمّها لتخرج منه قطع قماش صغيرة من مختلف الأنواع و تصبغها ثمّ تنكبّ في غرفتها على صنع باقات من الأقحوان و الخشاخيش من تلك القطع .
و ربطن فالا علاقات صداقة مع عاملات الوشة و كانت تفقه على صغر سنّها أنّه بالعمل نكسب قوتنا و تعلّمت إحترام العمّال و كانت كوكا العاملة الصغيرة ذات الوجه الشاحب و الشعر الأشقر هي المفضّلة لديها .
لقد كانت فالا مشغولة بالتفكير في صديقتها التي تحبّها كثيرا و التي لم تكن بالرغم من إتقانها صنع طرحات جميلة للعرائس و قبّعات لائقة تضعها على رأسها في أيّ يوم من الأيّام بل لقد كانت ما عن ترجع إلى المنزل حتّى تقوم بغسل ثياب الآخرين للحصول على شيء إضافيّ و مع ذلك فإنّها لم تكن تقدر على مداواة داء المفاصل الذى تعاني منه .
لقد كانت فالا تتمنّى من كلّ قلبها إعانة صديقتها و لكنّها هي نفسها فقيرة . و أصبحت تصنع باقات ورود إصطناعيّة صغيرة تبيعها و تعطى صديقتها ثمنها و لكن من الصعب معالجة وضعيّة فقرها لقد كانت مستاجرة كويكا تهدّدها بالطرد من البيت إذا لم تستخلص ثمن الكراء المتخلّد بذمّتها و كان أطفالها لا يعرفون طعم الحليب و الزبدة و تساءلت فالا :
- لمذا يمكن لأبناء الأغنياء شراء الفطائر كلّ صباح و قضاء الصيف على شاطئ البحر في فارنا و لباس الفرو و المعاطف الدافئة ، بينما يعيش العمّال حياة بائسة جدّا ، لماذا يقع كلّ ذلك ؟
و لم تجد فالا منذ مدّة جوابا عن أوّل سؤال خامرها و كان في نفس المنزل الذى تعيش فيه عائلة فالا شاب يدرس في مدرسة الترشيح و قد أصبحت ثيابه التي يحملها منذ سنوات ضيّقة . ففي تلك السنّ يكبر الإنسان سريعا – و كانت فالا تتألّم لأنّها لا تقدر على فعل شيء لفائدته و غالبا ما كانت فالا وإيفان يتحادثان في المساء و كان الفتى يسرّ إليها بأسراره :
- أتعلمين يافالا كم أنا متشوّق لإتمام دراستي و التدريش بعد ذلك في قريتي و إنّه لا يمكن لك تصوّر كم أنّ الأطفال متعلّقون بالمدرسة و كم أنّهم يرغبون في التعلّم إنّهم يعرفون تقدير مجهودات المعلّم الجيّد لو تعلمين كم يعربون له عن عطف مخلص.
و كانت هي أيضا تسرّ إليه بأحلامها :
- أنا أيضا يا إيفان عندما أتحصّل على الشهادة سأكون معلّمة و غالبا ما أفكّر في ما سأقوله لهؤلاء الأطفال الخبثاء عندما أدخل القسم . إنّهم لا يعرفون شيئا بعدُ و ستكون مهمّتيتعليمهم القراءة و الكتابة .
و في بعض الأحيان تأخذ فالا كمانها فتغمر الغرفة موسيقى خفيفة و كانت تعزف بحيويّة إلى درجة أنّ إيفان كان يسمعها نشوان ، مغتبطا ، معجبا ، ناسيا بذلك تعاسة اليتم . و في بعض الأحيان كانا يتحادثان طويلا حول الفيزياء أو التاريخ و يتبادلان الكتب و يلخّصان ما قرآه بعد ذلك و إرتبطت بينهما صداقة شيئا فشيئا كان إيفان يحكى لها عن أسرار المراهقة و كانت فالا أيضا تسرّ إليه بالسرار و كانت تحدّثه عن كويكا بإعتباره رفيقا مخلصا و تطرح له مسائل حول حياة العمّال البائسة التي لم تقدر على حلّها .
و كان إيفان يشرح لها بأنّ الصدقة أو الزكاة لن تغيّرا من حالة العمّال بل يجب تغيير النظام كلّه و كان يحدّثها عن نضالات العمّال في البلدان الأخرى و عن الحالة البائسة لشعوب البلدان المستعمرة كاشفا لها أمام عينيها عالما جديدا مجهولا .
حلقات الدراسة

كانت فالا تشعر بتقدير كبير نحو أخيها الأكبر خوليو وهو الشاب النبيه الذى يحبّ قراءة الكتب و يتتبّع عن كثب الأحداث السياسيّة بالبلاد و كان يتردّد على الحلقات التي ينظّمها الحزب الإشتراكي اليساري (1) و لكنّه لم يكن يحدّث أخته عن ذلك إذ يعتبرها ما زالت صغيرة .
و عندما أصبحت فلا تحدّثه بإستمرار عن الحيف في الحياة باحثة عن جواب لكلّ تلك المشاكل إعتقد خوليو أنّ الوتق قد حان و مدّها بكتاب تحرير المرأة لبيبل و حذّرها موصيا بقراءته في الخفاء .
و أتى إليها برابوتنيتشيسكي فيستنيك (2) وهي جريدة عمّاليّة فإلتهمتها فالا من بدايتها إلى نهايتها عندئذ حملها خوليو إلى نادي الإشتراكيّين اليساريّين حيث إلتقت برفاقه الذين سريعا ما كسبوها إلى صفّهم بفضل نقاوتهم ...[ كلمتان غير مفهومتان] و نرظا لجرأتها و تعلّقها بالعدالة كان يروق لها سماع نداءاتهم للثورة و كان لرفاقها يفسّرون لها المشاكل التي تحرّكهم بالكلمة المتوقّدة و بالإقناع و بالغ اتأثّر و كانوا يصفون لها يوم النصر و هكذا فهمت فالا بأنّ النضال المنظّم و التعلّم هما اللذان يقيمان النظام الحقيقيّ للعدالة الإجتماعيّة و ليس بالمساعدة الخاصّة كما تفعل هي مع كويكا .
و في السنة [؟؟؟ ] شاركت فالا في حلقات التلاميذ المنظّمة من قبل الإشتراكيّين اليساريّين و كانت آنذاك في السنة قبل الخيرة من تعليمها ، كانت الحلقات . و كانت الحلقات متكوّنة من مجموعات تضمّ الواحدة خمسة تلاميذ و كانت فالا الفتاة الوحيدة في الحلقة التي تنتمى إليها . و لقد غستقبلها رفاقها في المجموعة بحرارة معربين لها عن إحترام عميق . و كانت المشاعر الصافية كلّ الصفاء و الرومنطيقيّة هي التي توحّد أولئك المراهقين الذين كانوا يتعاونون لتجاوز الصعوبات التي يواجهونها أثناء الدروس .
كان كلّ واحد منهم يتحرّق شوقا لتبليغ ما حفظه للآخرين بوضوح و بكلمات سهلة .
كان أحدهم رئيسا ينشذط الإجتماعات و الآخر كاتبا يقوم بمهام أمين مال أيضا فقد كان أعضاء الحلقة يتبرّعون بالقروش القليلة التي يجمعونها فيما بينهم فيشترون كتبا و يدرسون أعمال ماركس و إنجلز و بليخانوف . و هكذا بدأت تتوضّح شيئا فشيئا المسائل في ذهن فالا فكانت تبحث عن كلّ الكتب الماركسيّة التي ظهرت في بلغاريا في تلك الفترة من أجل إمتلاك النظريّة . لقد كانت ولعة جدّا بقراءة الكتب .
المنشور

في عام 1907 اصدر وزرير التربية العموميّة أمرا يمنع فيه التلاميذ الذين أنهوا تعليمهم الترشيحيّ الإبتدائيّ من الإرتقاء إلى الجامعة فهزّت التلاميذ موجة من الإحتجاجات . لقد كان الكثير منهم من أبناء الفقراء في المدينة و الريف و كانوا قد رسّموا في المدارس الترشيحيّة من أجل ان يصبحوا معلّمين على إثر إنتهاء دراستهم للإيفاء بحاجياتهم و غالبا ما يدرسون بكلّ حماس كمعلّمين شعبيّين حقيقيّين و يقتصد منهم قروشا من جرايتهم و يحرمون أنفسهم من أشياء عديدة و بعد ثلاث سنوات أوأربع يذهبون لإتمام دراستهم الجامعيّة في حين يدخل غيرهم الجامعة مباشرة على إثر إتمام دراستهم الترشيحيّة.
لقد حطّم ذلك الأمر الرجعيّ طموحات العديد من الشبّان و قضى على آفاق مستقبلهم و أغلق المر أمامهم باب الجامعة كما لو كانوا غير جديرين بها . و كانت مدرسة شومان الترشيحيّة واحدة من أقدم المدارس و أشهرها في البلاد و قد أدخل ذلك الأمر الجديد الفوضى في صفوف الشباب فأعلن الواعون منهم و الشجعان إضراب إحتجاج دافعين رفاقهم لذلك و طبعوا منشورا يدعون فيه مواطني شومان إلى مساندة نضالهم من اجل تحقيق حقوقهم المشروعة . و إتّصلت فالا بمنشور من حلقة الدراسة . و قد كانت هي أيضا تحلم بالدخول على الجامعة بعد أن تشتغل بضع سنوات معبلّمة فهل سيحرمها ذلك الأمر من الإمكانيّة الوحيدة التي تسمح لها بدراسة الفيزياء التي تحبّها كثيرا و القيام بالتجارب في المخبر و حلّ المشاكل العمليّة . و هل ستُحرم رفيقاتها اللاتي يحلمن بدراسة التاريخ أو الرياضيّات أو الآداب لمجرّد كونهنّ ترشيحيّات بالرغم من أنّه لا توجد معاهد ثانويّة أخرى في شومان ؟
و كان إحساس فالا الفطريّ بالعدالة و وعيها السياسيّ المكتسب في حلقة الدراسة يحثّانها على الثورة و النضال .
و في صباح اليوم الموالي ذكرت فالا لصديقاتها إنّهنّ لا يمكنهنّ الوقوف على الحياد من نضال رفاقهنّ في المدرسة الترشيحيّة للذكور الذين يناضلون من أجل حقوقهم و أخرجت من محفظتها المنشور و شرعت في قراءته بصوت عالي أمام جميع التلميذات و كنّ ينصتن إلى ذلك النداء المتوهّج بإرتياح و الذى ألقته فالا بصوت أكثر توهّجا فقالت :
- أيّتها الرفيقات العزيزات لقد قرّر رفاقنا شنّ إضراب إحتجاجيّ و واجبنا مساندتهم فنضالهم هو أيضا نضالنا . إنّ هذا الأمر القاسي يهمّنا أيضا و يجب علينا عدم الوقوف سلبا و إنتظارهم يحقّقون حقوقهم وحدهم فنحن سنستفيد منها أيضا ، يجب علينا النضال معهم و مساعدتهم و إرتفع صوت في آخر القاعة :
- سيكون المر سهلا بالنسبة إلينا بإعتبارنا فتيات و سنتزوّج و بعد ذلك ...الأطفال ...المطبخ ... لماذا الدراسة إذا ؟ إنّ المدرسة الترشيحيّة تكفينا و بالإضافة إلى ذلك ، إذا إنتفضنا سنرفت و نبقى هكذا دون شهادة . كانت فالا تستمع في صبر و عندما إنتهت المتدخّلة وافقت فالا على أنّهنّ سيتزوّجن و ينجبن الأطفال ذات يوم و لكن أبناءهنّ هم أبناء الشعب أليسوا في حاجة إلى أمّهات نيّرات ؟ لماذا يغلق باب الجامعة في وجه من يرغبن في مواصلة تعليمهنّ ؟ و أخذت بعض الفتيات الأخريات الكلمة و ساندن فالا و غقترحن على ألقلّ تجميع مساعدة ماليّة لصالح لجنة الإضراب لأنّ نشر المنشور و بعث البرقيّات لمختلف المصالح في صوفيا يتطلّب نقودا . و في تلك اللحظة فتح الباب و دخل الأستاذ الذى سمع الكلمات الأخيرة فالا متسائلا بكلّ إندهاش :
- عن أيّ نضال تتحدّثين ؟ و دون أن تُضيع فالا تسلسل أفكارها أمدّته بالمنشور و إنتظرت كلّ التلميذات بإنشغال ردّ فعل الأستاذ فقال :
- ماذا يعنى كلّ هذا ؟ من يقدر على نقد قرارات السيّد الوزير ألا تعين النتائج التي يمكن ان تنجمّ عن هذا ؟ إنّه إضراب سياسيّ نعم سياسي .
فقالت فالا و قد تجرّأت على الردّ بالرغم من لهجة الأستاذ المغيظة :
- و لكن كلّ هذه المطالب مشروعة .
فقال الأستاذ :
- أخماكوف إنّك أحسن التلميذات في المدرسة ثمّ إنّك ستجرين هذه السنة إمتحان الباكالوريا فلماذا تتصرّفين بكيفيّة تجلب لك المشاكل ؟
و جمعت فالا رغم ذلك أثناء الراحة المساعدة لفائدة لجنة الإضراب و بعد أيّام إجتمع مجلس الأساتذة لدراسة سيرة فالا و كانت النقاشات طويلة مرعدة و قال الأستاذ حانقا وهو يمسح قطرات العرق التي تتلألأ على جبينه :
- إنّها تحثّ التلميذات على أفنتفاضة ، لقد تجرّات على نقد أوامر وزير التعليم . إذا لم نطردها فإنّنا سنخسر مقاعدنا و كلّ محاولة دعاية إشتراكيّة يجب أن تقتل في المهد لكي لا تقدر على إعطاء ثمارها المسمومة . إنّي أطالب برفت أخماكوف بالرغم من أنّها أحسن تلميذاتنا . يجب رفتها لإنقاذ الأخريات . يجب أن نعلم أنّنا لا نسير في أربعة إتّجاهات . هل كنّا نرى حمل مناشير إلى المدرسة ؟ إنّنا لسنا في نادىي إشتراكي . إنّي أصرّ مرّة أخرى على طرد أخماكوف .
و قام أستاذ الفيزياء وهو رجل نحيف ذو شعر فضّي و كان حاملا نظارتيه فشرع في الكلام بصوت رخيم :
- إنّى أدرّس منذ سنوات طويلة و أنا أكبركم سنّا و قد رأيت آلاف التلاميذ . نعم آلافا ! و لكنّى لم أعترض إلاّ القليل النادر من المقتدرين ! الأغلبيّة كانت دون المتوسذط أمّا أخماكوف فهي موهوبة بصفة خاصّة إذا قررنا طرد هذه التلميذة التي تعتبر مثالا للآخرين نكون قد قمنا بخطإ كبير . أنا أعتقد أنّه سيكون لها شأن في الحياة . إنّي أعترض بحزم على رفتها و على تسليط أيّة عقوبة كانت عليها . لقد أعلمتنى في العديد من المرّات أنّها ترغب في مواصلة دراستها في الفيزياء وهي الآن ترى في هذا الأمر الزاريّ تناقضا مع طموحاتها و بصفتها فتاة شابة و متوهّجة و شجاعة و نزيهة فهي تعارض مثل هذا الإجارء . ماذا يوجد في ذلك من خطر ؟
و أخذ الكلمة أساتذة آخرون و أصبح النقاش حادّا و في ألخير إنتصر العقل و لم تطرد فالا و أخذ المدير على عاتقه تأنيبها أمام القسم . بعد هذا الحادث بقليل ، جاء الإحتفال بتوزيع الشهادات و بعد كلمة المدير الذى ذكر بأنّ فالا أخماكوف هي أحسن تلميذة دعاها لتسلّم شهادتها و لكنّها لم تحضر .
و في اليوم الموالي ،عندما ذهبت فالا إلى الإدارة سألها المدير عن سبب تخلّفها عن الإحتفال فأجابته بأنّها لم تدرس من أجل أعداد حسنة أو إمتيازات بل من أجل أن تتعلّم .
المعلّمة الشابّة

في يوم خريفيّ من عام 1907 ، نزلت فالا بمحطّة بيالا حاملة حقيبة بغطاء رماديّ و كمانها ، و كانت تبحث في الساحة أمام المحطّة عن سيّارة . لقد بعثت قرية كاران فاربوفكا بشخص لملاقاتها و لقد إكتشفته بسرعة . كانت العربة مملوءة بالمواد الغذائيّة و سار السائق في الطريق عبر المروج المحروثة بعد ان دعا فالا لأخذ مكان بجانبه .
و كانت فالا تستنشق الهواء النقيّ بشراهة و من وقت إلى آخر كانت تلتفّ في معطفها لأنّ الريح الخريفيّة جعلتها ترتعد . لقد كانت كلّ شجرة و كلّ نبتة تراها في طريقها تبعث فيها الفرحة .
و طلب منها السائق و قد كان رجلا طيّبا ثرثارا مرحا ذا شارب كبير أبيض :
- كم سنّك أيّتها المعلّمة الصغيرة ؟
فأجابت :
- ثمانية عشرة سنة ...
فقال متعجّبا :
- ماذا ؟! كم أنت صغيرة السنّ ! كلّ معلّمي المدرسة بقريتنا كبار السنّ لحدّ الآن . من أيّة منطقة أنت ؟
فأضافت :
- لقد ولدت في تيرنوفو و لكنّى لم أبق بها إلاّ وقتا قليلا و إنتقلنا بعد مةت والديّ إلى شومان . هناك أتممت دراستي بالمدرسة الترشيحيّة .
فقال السائق :
- شومان مدينة جميلة ، لقد مررت بها عندما ذهبت إلى [ كلمات غير مفهومة ] أسترينيا كاران فاربوفكا فهي ليست كبيرة و لكنّ اناسها طيّبون ...إنّهم مضيافون يعرفون كيف يستقبلون الناس .
و طلبت منه فالا :
- و المدرسة كيف هي ؟
فقال :
- في الحقيقة ليست ممتازة . إنّها قديمة جدّا تفتقر إلى التدفئة في الشتاء بسبب تيّارات هوائيّة . لقد وقع الحديث عن بناء مدرسة جديدة و لكنّها أقوال دون تطبيق و بإستثناء ذلك ، فإنّ الأطفال لطاف و شياطين صغار لكنّهم جيّدون في دراستهم.
و أخذ الحصان يسرع في المنحدر ، فقال الرجل :
- لقد وصلنا ، لم يبق سوى مائة متر .
و توقّفت العربة أمام البلديّة فتجمّع عدد لا بأس به من الفلاّحين ينتظرون المعلّمة الجديدة و كان الأطفال يقفون على أطراف أصابعهم أمام أبائهم لرؤية المعلّمة بوضوح أمّا الأكثر خجلا فقد إختفوا وراء أمّهاتهم و أمسك واحد أو إثنان من بين الكبار باقات أقحوان و بقي الجميع مشدوهين و نزلت فالا من العربة و كانت إبتسامة جميلة تضيء وجهها مبرزة أسناننها البيضاء . فصافحت بإنتظام جميع النسوة ملاطفة الأطفال مقبّلة أصغرهم و أخذت تتحاور مع النسوة كما لو كانت تعرفهنّ منذ وقت طويل و توجّه الجميع إلى المدرسة وهم يتجاورون فصاحت امرأة شابة نشيطة :
- ساندو ، مذا تنتظر لحمل أمتعة المعلّمة إلى منزلنا !
و إبتدأت فالا عملها بشعور عميق بالمسؤوليّة و كانت تعدّ دروسها بعناية و تتابع المجلاّت البيداغوجيّة و قد أعانها طبعها الإجتماعيّ على القيام بمهمّتها وهي لطيفة مع الأطفال و قد أحبّوها بسرعة فكانوا يرافقونها في الصباح الباكر إلى المدرسة و عند الإنتهاء من الدروس و لم تمض أكثر من ثلاثة أشهر علة وصول فالا حتّى جاء متفقّد المدارس فإضطرب جلّ المعلّمين بالرغم من تجربتهم أمّا فلا فقد غستقبلته بكلّ هدوء . لقد كانت تودّ أن يقيّم عملها و تسمع نصيحته . و زار المتفقّد فصل فالا أثناء درس العلوم الطبيعيّة و كان الموضوع حول الذئب و أخذ يدوّن ملاحظاته دون أن يهمس ببنت شفة وهو جالس في المقعد الخلفي و كانت فالا تتكلّم بصورة واضحة مجسّمة إلى درجة أنّ الأطفال بقوا خرسا كانّهم مسمّرون في أماكنهم و كانت تطرح تساؤلات لتتأكّد من أنّهم فهموا الدرس و كان الأطفال يتنافسون في رفع الأيدي . و بعد نهاية الحصّة لم يقدر المتفقّد على الإحتفاظ بإعجابه فذهب إلى قاعة المعلّمين و قال :
- لقد كنت تصفين الذئب و كان الأطفال يشاهدونه أمامهم .
فأجابته فالا متأثّرة متلذّة بمديح المتفقّد في نفس الوقت :
- لا أدرى ، لك أن تحكم .
فأضاف :
- لقد كان شيئا رائعا واصلي هكذا . إنّك في النهج الصحيح و ستحرزين على نتائج أحسن بكثير .
و بعد هذا التفقّد أصبح إسم فالا أخماكوف معروفا جدّا في المقاطعة كلّها و أصبحت عند المتفقّد مثالا يذكرها في أيّ مكان يحلّ به .
المعلّمة تطرد شيخ المدينة

عملت فالا حتّى سنة 1912 معلّمة في العديد من القرى و في سنة 1908 ، كانت تدرّس في قرية تاباشكا في مدرسة ذات صرح وضيع و ذات حيطان متصدّعة ، نوافذ دون بلّور تغطّى بالكارتون في الشتاء .
و كانت فالا هي الرئيسيّة في المدرسة و من بين إلتزاماتها العناية بمبنى المدرسة و قد الحّت أكثر من مرّة أمام رئيس الجمعيّة الخيريّة المدرسيّة الذى يتحمّل أيضا مسؤوليّة شيخ مدينة القرية على غصلاح المدرسة و كان يتهرّب في كلّ مرّة فعزمت فالا على أن تكون أكثر حزما معه فقالت له :
- يجب أن تصلح المدرسة في أقرب وقت ممكن يا سيّدى العمدة ، يجب أن تفهم في ألخير أنّ الأطفال لا يمكنهم الدراسة في مثل هذا الكوخ .
فقال :
- إيه ، غيه ! أيّتها المعلّمة ، مدرستك لا ينقصها شيء و الأطفال يدرسون فيها منذ سنوات .
فردّت : و لكن يا سيّدى شيخ المدينة الصرح يوشك أن ينهار و ليس هناك بلّور و السقف متلف و سيول الماء تنزل من كلّ مكان . يجب القيام ببعض الإصلاحات .
فقال : يجب ... يجب ... و لكن أيضا يجب إيجاد أموال و من الصعب عليّ تخصيص إعتمادات لمثل هذه الرفاهة .
و تمالكت فالا نفسها رغم غضبها الشديد و إكتفت بمطالبته متسائلة :
- يا سيّدى شيخ المدينة ، هل صحّة الأطفال رفاهة حسب نظرك ؟
فقال :
- رفاهة أم لا شيء لا يهمّني ليست عندى النيّة لتخصيص بعض المال من أجل إصلاح المدرسة لتهتمّ وزارة التربية العموميّة بهذا .
فأضافت :
- و لكن الأمر يتعلّق بأطفالنا ، يجب أن نفعل شيئا بانفسنا .
فأجاب :
- ليس لديّ أطفال و المدرسة لا تهمّني . إذا كنت تعتبرين كلّ هؤلاء الصبية أطفالك فنعم ما تفعلين ، إعتني أنت إذا بالمدرسة .
فقالت :
- أنا أعتنىي بالأطفال و أعتبرهم أطفالي .
لكنّه قال : دعي عنك هذا ، كفى أيّتها المعلّمة ! لماذا كلّ هذا الغضب في خصوص هذه المدرسة ! دعي عنك المدرسة و لتأتي هذا المساء عندي ، لقد دعوت نائب المحافظة و المهندس الفلاحيّ و الطبيب البيطري و سيكون هناك أكل و شراب و جميعنا عزّب . و أنهى كلامه بغمزة سافلة فنظرت إليه فالا بنظرة كلّها إحتقار :
- إنضبط في كلامك يا شيخ المدينة ، إنّك تتكلّم مع مديرة المدرسة التي تتحدّث معك في مسائل رسميّة و لا تنس أنّ هناك رؤساء أعلى منك مرتبة و سأقدّم إليهم شكوى .
قالت ذلك و صفقت الباب بقوّة دون غنتظار مفعول كلامها فغنجرّ عنه سقوط بعض قطع الجبس من الحائط . و إبتدأ العمدة في هيجان بتسريب بعض الإشاعات المسيئة إلى فالا و إستغلّ من ناحية أخرى منصبه بغعتباره رئيس جمعيّة مدرسيّة ليتفقّدها كلّ يوم في المدرسة .
و لم تهتمّ به فالا في البداية و لكنّها عزمت على أفجهاز على ذلك المتطفّل الذى شرع في التدخّل في ما لا يعنيه و إبداء ملاحظات في غير محلّها و إدخال الفوضى في الفصل ، و همس لها ألطفال ذات مرّة :
- آنستنا ، لنطرد العمدة إذا أتى ليقلقنا مرّة أخرى .
و أعجبت فالا بفكرة الأطفال تلك و قرّرت فعلا التخلّص منه قائلة :
- سنتخلّص منه يا أطفالي ، سنلقى به وراء الباب !
و وصل شيخ المدينة كعادته يوما إلى الفصل في درس الرياضيّات و كان يومئ برأسه لكلّ تحيّة و لكن فالا كانت تردّ عليه بنظرة كلّها كراهيّة و عوض أو تواصل درسها ، جلست على المنبر و هي تنتظر . فقال لها :
- يا معلّمة لمذا لا تدرّسين الأطفال ، يبدو لي أنّك لا تأخذين راتبك لأجل الجلوس !
فأجايته :
- ما دمت باقيا هنا فلن يكون هناك درس .
و صاح التلاميد جميعا : هو ! ...هو ! ...هو !... أنت خبيث تهاجم معلّمتنا .
فإصفرّ وجه شيخ المدينة و لم يدر ما يفعل و لكنّه رأى من الصالح المغادرة خاصّة و أنّه تأكّد من أنّ فالا حازمة أكثر ممّا مضى و الأطفال أبدوا له العداوة . و لم يعد منذ ذلك الوقت ( يتفقّد ) المدرسة .
و إنتشرت الحادثة في جميع أرجاء القرية في وقت قصير و قوبل موقف المعلّمة الشجاع بالإعجاب و ذهبت فالا إلى مقرّ المقاطعة روتساي و كاتبت وزارة التعليم العموميّ و تحصّلت على وعد بإصلاح المدرسة كما يجب .
كانت فالا تقيم علاقات وطيدة مع أولياء التلاميذ في كلّ مكان درّست فيه و لقد كسبت تعاطف الأمّهات و خاصّة منهنّ اللاتي كنّ يرين فيها المستشار و المعين و كانت تحبّ تجميعهنّ و قراءة الكتب عليهنّ و كانت تمدّهنّ بنصائح صحّية و قد علّمتهنّ كيف يربّين أطفالهنّ و كيف يزيّنّ بيوتهنّ و كانت نساء القرى التي درّست بها يبحثن عنها دون إنقطاع و كنّ يفضين لها بأفراحهنّ و أحزانهنّ . فإذا مرض طفل تقع دعوة فالا للقيام باللوازم الأوّليّة إلى أن يأتي الممرّض . و لقد كانت مهارتها و براعتها تكلّفانها العديد من الزيارات فيقلن لها :
- قولى لي ، أريد حياكة صدريّة ، هل يمكنك أن تعلّميني كيف أصنعها ؟
أو
- أتظنّين أنّ هذا اللون يلائمني ؟ أريد صبغ هذه القطعة لكي أصنع منها بُدلة .
لقد كانت الفلاّحات يستشرنها في كلّ شيء و في تلك الفترة كان الجهل يعمّ الريف و كان غياب الرعاية الصحّية الكامل يُجبر الفلاّحات على افستنجاد بالمشعوذات و الدجّالات .
و كانت فالا تقاوم بكلّ ضرارة هذه المعتقدات السخيفة و الخطيرة على الصحّة مثل الحركات التي يقع القيام بها حول سرّة المريض لإبعاد الشيطان . و كانت تفسّرللناس أنّ المال الذى كانوا يمدّون به المجبّرين و الدجّالين يذهب سُدى فكأنّهم قد بذّروه . و عاشت فالا أثناء تلك الأعوام التي قضّتها في الريف حياة البؤس مع الفلاّحين الفقراء و تيقّنت جيّدا من الإستغلال الذى يعانونه . و هكذا أصبح سخطها على تلك المظالم و على اغلواقع شديدا و صار يقينها بعدالة أفكارها أكثر قوّة . و كانت فالا تشارك بنشاط في ندوات المعلّمين و النقاشات التي تطرح هناك و قد أسّس إشتراكيّو اليسار منظّمة المدرّسين الخاصة بهم و كانت تلك المنظّمة تضمّ أحسن أبناء الشعب و بناته : الأكثر نزاهة و الأكثر جرأة . و كانت فالا تنشر التعليم بحماس فيّاض وهي تقاسم الشعب آلامه و تكوّن في تلك المنظّمة بالذات المئات من الأبطال الذين ضحّوا بحياتهم أثناء النضال ضد الفاشيّة من أجل سعادة الشعب .
و إنخرطت فالا منذ السنة الولى من عملها كمعلّمة في قرية كاران فاربوكا في منظّمة المدرّسين و في حزب الإشتراكيّين اليساريّين في روشاي و كانت تحضر بإنتظام إجتماعات الحزب في روشاي في الصيف و في الشتاء بالرغم من الطرق الموحلة .
الحبّ

كانت فالا تعود من إجتماعات الحزب في روشاي منشرحة الصدر دائما لا تشعر بتعب السفر الطويل و لا برجّات الطريق في روشاي و كانت تلاقي أصدقاء و تعجب بتضحياتهم و تطمح لأنّ تكون مثلهم : صلبة ، حازمة ، قويّة .
و إنعكس صدى الثورة الروسيّة الأولى سنة 1905 على بلغاريا أيضا فغندلعت الإضربات تقريبا في كلّ أنحاء البلاد و في سنة 1908 جاء دور عمّال التبغ في روشاي للقيام بإضراب و دعت منظّمة الحزب إلى افجتماع في نهاية العام و تدخّل بانيوبسكوف و هو عامل بالمعادن ، بإندفاع خاص و كان لخطابه الوقع الكبير على فالا التي دخلت في نقاش معه بعد افجتماع مباشرة ، كان بانيو شابّا وسيما نحيف الجسم ذا فم تتجلّى منه الإرادة و كان صاحب ذوق فنّيّ ، نشيطا ، مرحا ، ذا نكتة ، ذكيّا جدّا و لقد أعجبت به فالا كثيرا و عادت إلى قريتها يغمر قلبها إحساس غريب و كانت في كلّ مرّة تردّد فيها أغنية تتذكّر بعض حركات بانيو و بعض الكلمات التي أثّرت فيها و كانت تقف أمام المرآة تصفّف شعرها و تضحك دون سبب و في الليل كانت تحاوره طويلا في فراشها بالتخيّل . و تتخيّل أنّها تمشي بجانبه و قلبها يدقّ بسرعة في حين تمسك هي بيده و سألت نفسها ( هل هو الحبّ ؟ ) . لقد تعرّفت على العديد من الشبّان و من بينهم من أعجب بها و صرّح لها بذلك ولكن تمكّنت دائما من إبعاد هؤلاء المتودّدين سواء بضحكة أو بحزم و لكن هذا الشاب السمر المرح إستقرّ في قلبها .
و لقد أعجبت المعلّمة الشابة ذات العينين الجميلتين الزرقاوين صاحبة افبتسامة الساحرة بسكوف الذى لم يكن يتردّد في الذهاب لرؤيتها متعلّلا بشتّى الذرائع لزيارة القرية التي تعمل بها . كان يجلس بجانبها في إجتماعات روشاي و كان الحبيبان الشابان يقومان بنزهات يتحادثان فيها طوال ساعات و ذات يوم أمسك بانيو بيد فالا و ضمّها إلى صدره و قال لها :
- هل أنّ ما تقوله لي عيناك صحيح ؟ آه ! كم سأكون سعيدا إذا كان الأمر كما أتوقّع ! قولي لي ...
و همهمت فالا و قالت :
- (نعم ...)
و إبتداء من تلك اللحظة أصبح يجمعهما حبّ كبير صاف جميل جدّا . لقد كانا يبحثان عن بعضهما بشغف كلّ واحد منهما مأخوذ بالآخر. و كانت مارا أخماكوف ، أخت فالا ، هي أيضا مدرّسة في نفس القرية و كانتا تعيشان و تخرجان دائما معا و قد جاءت أمّهما للإستقرار معهما و الاهتمام بشؤون المنزل و كان بانيو و فالا و مارا كثيرا ما يقومون بنزهات يتحادثون فيها عن الكتب و يبدون آراءهم حول الإجتماعات التي حضروها . و في أثناء تلك النزهات ، كان الحبيبان يرغبان في البقاء وحدهما و لكن أمّ فالا التي تعرف الإنجذاب الذى يمكن أن يسلّطه بانيو على إبنتها تصرّ على أن تصطحبهما مارا دائما .
الممثّلة

أسّس عمّال روشاي مسرحهم سنة 1908 و كان المنخرطون من بين عمّال المعادن و الحدّادين و الدبّاغين و من صغار الموظّفين و معلّمي القرية أيضا و أخذ فنّان مسرح الهواة بالمدينة إيفان روساف على عاتقه إدارة الجمعيّة و قد مثّل بانيو و فالا في أوّل مسرحيّة عرضتها الجمعيّة – النضال – و بمناسبة أوّل ماي وقع عرض مسرحيّة أوّل ماي و كانت فالا تقوم بالدور الرئيسيّ وهو دور خطيبة مناضل ستتزوّجه بعد أوّل أيار (ماي ) و لكنّه فارقها للمشاركة في المظاهرة و خلال مصادمة مع البوليس الذى هجم على المتظاهرين سقط جريحا في حالة خطرة و في الفصل الأخير من المسرحيّة لفظ أنفاسه بين يدي خطيبته التي اقسمت على الثأر و مواصلة مشواره و كانت فالا تنطق بذلك القسم بحماس كبير فهتف لها الجمهور طويلا .
لقد كان الجمهور يستقبل مسرح العمّال بإهتمام بالغ و من المسرحيّات المعروضة كانت واحدة منها تضع الإصبع على الظلم الاجتماعي و في الفصل الثاني منها عندما أخذ بطل المسرحيّة في إنشاد المارسياز وقف الحاضرون في القاعة و أنشدوا معه جميعا هذا النشيد .
و عندما تذكّر إيفان روسان وهو الآن فنّان في المسرح الوطنيّ بروشاي تلك المرحلة وصف موهبة فالا بهذه الكلمات :
- كانت فنّانة بارزة في مسرحنا العمّاليّ و كانت تملك كلّ الصفات المطلوبة ، صوت شجيّ و مبادئ رائعة و ثقافة واسعة و لقد دعوناها إلى الدخول في المسرح الذى أعمل فيه و لكنّها رفضت رفضا قطعيّا معتبرة أنّ عملها معلّمة وسط الشعب هو مهمّتها الرئيسيّة .
و أصبحت العلاقة التي تربط فالا و بانيو أكثر وثوقا ، ورأى الحبيبان أنّهما لا يستطيعان العيش الواحد دون الآخر فقرّرا الزواج . و بعد سنة من زواجهما أنجبا ولدهما الوّل الذى سمّياه كمان .
كان بسكوف عاطلا بإستمرار بسبأفكاره التقدمية و طبعه الحاد وأصبح من العسير عليه أن جد عملا و بعد أن طرق أبواب مصانع و ورشات كثرة و تأكذد من أنذه يستحيل عليه أن يجد عملا في روشاي ، ذهببسكوف إلى صوفيا حيث وجد شغلا و كانت فالا تذهب للإلتقاء به في العاصمة أثناء عطلة نوال .
طالبة

كانت فالا متعطّشة للعلم تتمنذى أن ترسّم في الجامعة و تدخل المخابر . و ذات مرة عندما كانت في صوفيا ، إلتقت بأستاذها في الفيزياء الذى يدرس بشومان تحدّث معها وهو مسرور بلقاء تلميذته القديمة و قد كان يعتقد أنذها طالبة و أخذ يحدّثها عن العلوم و قد عاب عليها غطفاء وهتها عنا اعته انذها عذة في قرية و كانت فالا تنصت غيه غهتا و تع ايذة كة ن كلاه واغرورقت عيناهاا اوع و اسرذت ستاذها اقي انذها توي اهذية كيرة رغتها في واصة راستها اجاعيذة و كن قذة افكانيذات اايذة كانت تنعها فنصححها اترسي في اجاعة رغ كذ اعراقي و رجعت فالا غى ايت تاثذرة شغوة اا ز ق قرذرت طرح اساة عى زوجها يفكذرا في ا يكن فعه و ارها انيو و كانذه تكهذن ا يور اطرها قائلا غنذه يج عيهاا تقرير صير ستقها و لا يكن ها أعيش تفرذقين و فلا عن ذك فغنذ رفاقه يرون انذ عى فالا واصة راستها و في رايه ن استححسن اان يكون ذك في صوفيا فهناك الإمكانيّة لمواصلة دراستها متوفّرة ولم تقدر فالا على تصديق أذنيها وهي تنصت إليه وإرتمت على عنقه فجأة مصرّحة بأنّها سعيدة سعيدة جدّا .
و دخلت فالا يوم 1 سبتمبر سنة 1912 كلّية الفيزياء والرياضيّات و كان أخوا بانيو و طالبة تدعى روجا يعيشون مع الزوجينكانت فالا ربذة المنزل و كان بيتها دائما نظيفا يحسن فيه الإستقبا و كان طفلها العزيز الصغير كامان أنيقا في لباسه يلبس سترات جميلة و قبّعات تخطيها له أمه . كانت فالا تطبخ و تقوم دائما بواجاتهاالمتعدّدة على أحسن وجه و غالبا ما كانت روجا تشاهدها وهي تحرذك المرق بيد وتمسك باليد الأخرى كتابا و كامان بجانبها يلعب ويستمع إليهافى إندهاش وهي تتكلم وحدها . فقد كانت تراجعدرسها في الألمانيّةو تطرح السؤالعلى نفسها ثمّتجيب . و كان جدول الأوقات يسمح لفالا بالتفرّغ لعمل المنزل و حضور الدروس في الجامعة و في المساء كانت تذهب إلى نادي حزب الإشتراكيّين اليساريّين بنهج كيريل أي ميطودي حيث يلتقى المناضلون البارزون فىالحزب و يلقون الخطب التي تنتقد حماسا وكانت الا جدّ مسرورة عندما يتكلّم جورج ديمتروف (4) وهو الذى لا ينسى أبدا إلقاء الكلمة .
وتعرفت في ذلك النادي كذلك على راينا كندافا المناضة البارزة في الحركة العمّاليّة ابغارية و ذات ليلة سألت راينا كندافا فالا أثناء حوار ودّي إن كان لها أطفال فأجابت فالا بأنّ لها إبنا فقالت لها : أنا لي بنات و ربما نصبح يوما ما أقرباء و بعد سنوات تزوّجفعلا كامان إبن فالا إحدى بنات كندافا .
الحرب

تعاقبت الأحداث بسرعة طوال صيف 1912. إنّه التحضير المحموم للحرب . إنّ حزب الإشتراكيّين اليساريّين هة الحزب الوحيد الذى كانت له الشجاعة في الوقوف ضدذها .
و إنطلقت فالا في حملة دعاية نشيطة وسط المصانع و أحياء المدينة ضدّ الإعتمادات العسكريّة غير أنّ العون المطيع لألمانيا الملك فاردينند لم يسمع قط نداء الشعب و فجّر الحرب البلقانيّة والأفواج تتوالى متّجهة نحو اجبهة وأيّامتجنيد بانيو و إخوته و بقيت فالا وحدها مع كامان و روجا و ربطت فالا حقائبها بهدوء دون أن يأخذ منها الفزع مأخذا و رحلت إلى شومان عند عائلة زوجها فلقد تعطّلت دروس الجامعة .
وذات يوم ربيعيّ من سنة ، سمع باكرا صوت الموسيقى العكريّة في شومان وهي تعزف الأناشيد العسكريّة والجنود في الثكنات يصيحون : هوراه ! و في تلك الأثناء كانت فالا مهتمّة بإبنها فسألتها أخت زوجها جاينا مستفسرة :
- قولي لي يا فالا لماذا يصيحون هكذا ؟
و ردّت عليها فالا متضايقة :
- سقط أندرينويل دون شكّ يالهم من!
و م تكتف جاينا بهذا الجواب و قالت في إندهاش : من هم المجرمون فأجابتها فالا :
- إنّهم الذين بعثوا بإخوتك الأربعة و أبيك و أخى و الآلاف من أبناء الشعب ليموتوا من أج قضيّة ليست قضيّتهم .
و أثّرت هذه الكلمات تأثيرا عميقا على جاينا و إنتهت احرب البلقانيّة و رجع بانيو إلى المنزل سليما معافى و رجعت العائلة من جديد إلى صوفيا رغم ضيق المسكن و رغم إعتراضها للعديد من المشاكل و العراقيل . و لم تفقد فالا شجاعتها و سجّلت إسمها من جديد في الجامعة و تمكّنت رغم الظروف الصعبة جدّا من إتمام دراستها سنة 1927 و تحصّلت على مكافئة ماليّة لأنّها أجرت إمتحاناتها بإمتياز و وقعت تسميتها أستاذة متربّصة في معهد صوفيا .
و علّق أحد تلاميذها القدامي متحدّثا حو طرق تعليمها قائلا :
- كانت لها موهبة كبيرة في التدريس إى درجة أنّنا نحفظ الدرس في الفصل و قد عرفت كيف تجعلنا نهتمّ بالفيزياء و نقرأ كتبا أخرى بالإضافة إلى الكتّاب الرسميّ و إلاّ هم من ذلك أنّها كانت طوال الأشهر الثلاثة الثانية تكلّف العديد منّا بإعداد الدروس و تعويضها في التدريس . قد كنّا في مستوى المسؤوليّة يا ترى ؟ و قد كلّلت رغبتها في منحنا الثقة في قوانا الذاتيّة بالنجاح لأنّ الدروس التي تقدّمها كانت ناجحة . لقد أعجبتنا هذه الطريقة و رسمت أستاذتنا فينا ذكرى مؤثّرة .


أستاذة معهد

و في السنة الموالية عيّنت فالا أستاذة بمعهد ترشيح الفتيات في شومان حيث أتمّت دراستها الثانويّة و برزت فيه مربّية فذّة و أستاذة موهوبة وتحبّ مهنتها بحماس و تقرأ بإنتظام المجلاّت العلميّة الروسيّة و الألمانيّة ونشاطها كأستاذة في الإقليم طوال السنوات الصعبة من 1919 إل 1922 فوق كلّ إعتبار . لقد بهنت على صلابة أهل العلم الحقيقيّين بإهتمامها بمسائل الفيزياء تقوم وحدها بالتجارب طوال ساعات و تنكبّ عى جميع أنواع الحسابات و البحوث .
و نقلت فالا بعد عام إلى معهد الذكور و تمكن تلاميذها بعد الحصول عل معدّات كهربائيّة و تحت إشرافها من صنع مولّد كهربائيّ ضمن بذلك إنارة المعهد كلّه . لقد كان تركيب المجمّع والفرشاة والقطع يحدث تحت مراقبتها و على أساس توجيهاتها.
و كانت شومان في تك الفترة محرومة من النور الكهربائيّ و تصوّرت فالا مشروعا جديدا ألا وهو تركيب محطّة كهربائيّة بمعونة تلاميذها و إغتنمت فرصة اعطلة التي ذهبت تقضّيها في فارنا فكانت كلّ يوم تدرس وحدات المحطّة الكهربائيّة في المدينة لتستوعب بعمق تركيب الآلات و سيرها و بقيت فالا عند رجوعها إلى شومان و أثناء العديد من السهرات عاكفة عى لوحة التصوير تصمّم بعض الرسوم و لمّا إنتهت من رسم كلّ التفاصيل ذهبت فرحة لتقدّم ما صمّمته إلى مدير المهد فقبل الرسوم بحماس ونصحها بالتوجّه إلى مهندس المالح البلديّة لأنّ المعهد لا يملك إعتمادات ضروريّة لتحقيق المشروع و أعجب المهندس بالرسوم التي أطلعته عليها فالا و إقترح عليها أن يقدّمها بإسمه الخاص لتقع الموافقة عليها بسهولة ، لإغستنكرت فالا محاولة المهندس الوقحة تلك لأنّه أراد سلب مجهود عملها بصفة غير نزيهة و قدّمت الرسوم بنفسها إلى رئيس البلديّة دون طلب مكافأة و لكن لم تتحقّق هذه التصاميم رغم ذلك فالمستشارون البلديّون لا يثقون في ما ينسجه خيال امرأة مثل ما صرّح بع البعض منهم كما عمل المهندس كلّ ما في وسعه لمنع بناء المحطّة الكهربائيّة التي صمّمتها فالا .
أنا القائد

وافقت الفترة التي درّست فيها فالا في معهد الذكور بشومان مرحلة ما بعد الحرب حيث إنتاب الشباب تهاون لا مثيل له وأكثر التلاميذ غير المنضبطين هو العائدون من الجبهة فالبعض منهم لا يزال يحمل كلّ بدلته العسكريّة أو زء منها و الكثير منهم كانوا يتطاولون على أساتذتهم و لا يتورّعون من التحرّش بهم . لقد قضى العديد من أولئك التلاميذ سنتين أو ثلاثا في الجبهة و أصبحوا رجالا ناضجين . ويوجد بفصل فالا مثل أولئك التلاميذ و ذات يوم سألت واحدا منهم أثناء درس الفيزياء وأكثرهم عنادا ولباسه مزيجا من لباس الجنديّ و لباس التلميذ فقال له بلطف :
- أنت جنديّ قديم .
فأجابها عى الطريقة العسكريّة :
- تحت أمرك .
فقالت له :
- أعرض عليّ درس اليوم .
فحملق بعينيه و قطّب جبينه و بقي صامتا . فقالت له :
- هيّا كلّم ، ألم تحضّر درسك ؟
فصمت من جديد ومنه فالا بلطف :
- هيّا إعرض درسا بإختيارك .
و كن التلميذ لم ينطق بحرف ويتلوّى كأنّ الموقف أقلقه كثيرا .
و قالت له فالا بصوت حازم في تلك المرّة : ألا تعرف شيئا عن الفيزياء ؟ كان جوابه الوحيد أن فتّش في جيبه و إقترب من فالا و غرس خنجره في المنبر التي كانت فالا تجلس وراءه و قال :
- هذا ما أعرف من الفيزياء !
و إنتظر بنظرة حادة مفعول بطولته و أمسكت فالا في هدوء تام و بحركة ثابتة بمقبض الخنجر الذى إقتلعته و رمت به من النافذة و قالت بصوت خافت :
- إسمع إذا كنت تريد ترويعي فأنت مخطئ . نحن هنا أيضا في الجبهة و لكن في جبهة الدراسة و القائد هنا هو أنا إذا كنت لا تملك المعلومات الضروريّة فسيكون لك عدد رديء .
و دعت تلميذا آخر دون أن تعير إهتماما للشاب المتهوّس والبط في مقعده خجولا . وكثُرت أثناء الإستراحة التحاليل و التعاليق و فهم البطل أنّ عليه أن يُطيع فالا و أصبح من اليوم الموالي يدرس الفيزياء بصفة جيّدة .
سنة مرعدة

في تلك الفترة كلّفت فالا بتنظيم حلقات التلاميذ و الإشراف عيها و قد قامت بهذه المهمّة بإجتهاد محلّلة أعمال ماركس و إنجلز و لينين و بليخانوف و بلا غوف (5) و إلى هذا اليوم يتذكّر تلاميذ فالا الذين حضروا تلك الحلقات الوضوح الذى كانت تفسّر لهم به المبادئ الماركسيّة و كيف كانت تتابع تطوّر كلّ واحد من تلاميذها . لقد كانت تعرف كيف تملك قلوب الشباب و تبثّ فيهم الحماس .
كانت اثناء الليالي المقمرة تجمع تلاميذها فوق هضبة في ضواحي المدينة و تعّمهم علم الفلك مدرّبة إيّاهم على إمتلاك النظرة الماديّة حول اصل الكون و الأرض .
وكانت فالا تشرف أيضا على حلقة ترتادها عاملات صناعة التبغ و مؤسّات النسيج وتفسّر لهنّ نظريّة ماركس بطريقة سهلة . و كانت تجد الوقت الكافي لمواصلة نشاطها الاجتماعي بالرغم من أنّها ولدت إبنها الثانيّ فانكو في تلك الفترة .و تميّزت سنة 1919 بتصاعد النقمة الشعبيّة و قد خرّبت الحرب إقتصاد البلاد . و قد أثار نشاط المحتكرين و تصاعد الأسعار كالسهم و المحاصيل السيّة و بؤس العمّال و صغار الموظّفين و مرارة الهزيمة العسكريّة إستنكار الشعب الذى عبّر عنه بالمظاهرات و الغليان العام و الإضرابات . لقد كانت تقام المظاهرات و إجتماعات الإستنكار في كلّ أرجاء البلاد المطابة بالخبز و الشغل و الفحم و المسكن .
و غنطلق يوم 28 ديسمبر إضراب عمّال السكّة الحديديّة و البريد و أعلن في اليوم الموالي عن إضراب عام بأسبوبع لمؤازرة الحديديّين بمطاب سياسيّة و رفض الحديديّون شحن و لو طنّ واحد من المواد الغذائيّة المخصّصة للتصدير ما لم يقع ضمان تموين الشعب وكانت المطالب تتمثّل في التخفيض في سعر المواد الغذائيّة و إستقرار الشغل و توفير المحروقات لعائلات الحديديّين و أخذ الإجراءات اللازمة ضدّ المحتكرين .
و أصرّ الحارس الحديديّ للحركة العمّاليّة وهو الإسم الذى كان يطلق على عمّال سكك الحديد والبريد أصرّ على مواقفه و شلّت البلاد كلّها و إنقطع كلّ نشاط إقتصاديّ و إتجأت الحكومة إلى إجراءات قمعيّة لوضع حدّ للإضراب مث الطرد التعسذفيّ و الضرب المبرّح و الإعتقالات .
كان بانيو بسكوف واحدا من الذين نظّموا الإضراب في شومان و قد وقعت إعتقالات بعد أن قمع التحرّك بوحشيّة مع القادة و المنظّمين الآخرين لإضراب من حديديّين و بريديّين و لم تفقد فالا شجاعتها بل نظّمت على العك من ذلك مظاهرات نسويّة شارك فيها قسم كبير من مواطني شومان و كانت موجة الإحتجاجات قويّة الشيء الذى فرض على السلطة بعد هذه الإضرابات الشعبيّة إطلاق سراح جميع القادة المعتقلين الذين عاملهم البوليس معاملة قاسية .
و رجع بانيو أيضا إلى البيت و لكنّه بقي أربعة أشهر كاملة بين الحياة و الموت بفعل التعذيب الوحشيّ الذى سلّط عليهوفالا ملازمة دوما لزوجها و عند بداية شفائه عمل بانيو ميكانيكيّا في كابيوك في حقل لتربية الجياد بضواحي شومان و غادرت فالا المعهد و إلتحقت بزوجها مع إبنيها إذ كان يجب عليها السهر على صحّته غير المتقرّة و سرعان ما أعطى وجود بانيو بكابيوك نتائجه فقد تنظّم العمّال وهو ما يخف على الأعراف و هكذا أسرعوا إلى التخلّص من ذلك المتمرّد و عادت العائلة إلى شومان في فصل الشتاء .
و إسترجعت فالا مكانها الذى بقي شاغرا في المعهد و[ كلمة غير واضحة ] ألبسكو فيان نشاطاتهما السياسيّة و الإجتماعيّة منذ اعودة إلى شومان و إهتمّت فالا من جديد بحلقات التلاميذ و كانت تربط أيضا علاقات مع العمّال المبتدئين الصغار و عمّال المؤسّسات الصناعيّة و كانت تواصل عملها مربّية بكلّ حماس .
كانت العائلة تسكن منزلا صغيرا في حقل كروم خارج المدينة و كانت دروس الحلقات تقام عندها فمن ذلك المكان تصدر رابوتنيتشاسكي فستنيك جريدة العمّال و في الكهف وقع تخصيص مكان للرماية حيث كانت فالا تتعلّم إستعمال الأسلحة اناريّة و كان البيت يستعمل أيضا مخبأ سرّيا للأسلحة .
كان لزاما على فالا مغادرة المعهد في تلك الفترة حيث أطردت من أجل افكارها التقدّميّة المعروفة جدّا في شومان أضف إلى ذلك أنّها زوجة مضرب قديم و قد تأثّر تلاميذها أكثر من غيرهم و نظّموا حملة حقيقيّة صالحها مجمّعين إمضاءات الآباء و الأولياء و إضطرّ وزير التربية تحت ضغط الرأي اعام ذاك إلى إرجاعها إلى وظيفتها خشية الإضطربات و المظاهرات . و رفضت فالا وظيفتها نظرا لأنّ زوجها وجد شغلا في بيالا سلاتينا ف الظرف الآخر من بلغاريا حيث إلتحقت به و في يوم رحيلها أتى جلّ التلاميذ إلى المحطّة لتوديعها و إمتلأت بالورورد عربة ماما فالا مثلما كان التلاميذ يسمّونها بتأثّر . و في بيالا سلاتينا كان بانيو يعيش عند منتشو دراغويتشاف وفى المساء غالبا ما يسهر طويلا مع العائلة والأحاديث تتمحور أكثر الأوقات حول فالا و كانت تزولا دراغويتشافا (6) ذات العينين الحادتين تستمع لبانيو بإهتمام . لقد أكملت دراستها في المهعد الترشيحيّ وكانت معلّمة و لقد فهمت أنّ فالا امرأة محبوبة ذات ثقافة واسعة و تمنّت كثيرا أن تتعرّف عليها .
الصديقتان

ما زالت تزولا دراغويتشاف تحتفظ بذكريات واضحة حول بقائها الأوّل مع فالا . تقدّم الخريف شوطا لا بأس به و إلتقيتا في تك الليلة في سهرة لتقشير الذرّة الصفراء و أتى العديد من الشباب للإعانة و إنتهى العمل تقريبا في جوّ من الضحك و الغناء و أخذت أمّ تزولا تمنح الذرة و فتح الباب في تلك اللحظة و دخلت امرأة جميلة خفيفة الروح ماسكة بيدها كمانا و معا صبيّ في الرابعة من العمر و وراء ها طفل في اخامسة عشر يحمل معه كمانا كبيرا . و قدّمهم بانيو قائلا :
- هؤلاء أفراد عائلتي !
و أسرعت دراغويتشافا سيّدة البيت الصغير للقاء الضيوف الجدد و مدّت يدها مصافحة فالا و تعانقت المرأتان كما تتعانق الأختان و نقل المتاع بسرعة إلى غرفة بانيو و بعد أن نام الأطفال ، جلس الكبار للسهر و جلست فالا و تزولا الواحدة بجانب الخرى و لم تجدا أيّة صعوبة للبحث عن مواضيع نقاش و أصبحت المرأتان بعد لحظات تتحاثان و كأنّهما صديقتان قديمتان و قالت فالا عند مغادرتها لصديقتها من الواضح جدّا أنّنا أصبحنا صديقتين و فعلا فقد أصبحتا صديقتين حميمتين و عيّنت فالا أستاذة في معهد بيالا سلاتينا . و ذات يوم قالت لتزولا إنّها تجد النادي الذى تجتمعان فيه غير مؤثّث و لا توجد فيه حتّى خزانة لوثائق و إقترحت فالا على صديقتها أن تقوما معا بصنع الورود الإصطناعيّة و تشتريا بثمنها خزانة لنادي فوافقتها تزولا و أصبحتا تتنافسان بحماس تجميل النادي و وقع تكليف المرأتين بمهمّة تكوين مجموعات الشباب و هم العمّال المبتدئون و العمّا و عمّا المزارع لكسبهم بالأفكار التقدّميّة في حقات الدراسة و قامتا بعملهما بتفان عميق و نظّمتا أيضا كورالا للشبيبة وهو كورال يدرذ الأغاني الفلكويّة و الناشيد الروسيّة إخ ... و كانت فالا تقوم بمهمّة مسيّرة للفرقة وكان إبنها الأكبر كامان يحضر بإنتظام التدريبات مصاحبا الفرقة باعزف على الكمان .
و كانت الرفيقتان في المساء تناقشان طوال ساعات الكتب التقدّميّة التي قرأتاها أو تعزف فالا على الكمان في حين تغنّى تزولا الأغاني الشعبيّة و أناشيد ثوريّة روسيّة و أنغام الأوبرا الكلاسيكيّة .
كتبت تزولا دراغويتشافا الصديقة الوفيّة و ارفيقة المخصة لفلا بخصوصها : من المستحي قول كلّ شي حول فالا في مرّة واحدة كنّا نستغلّ كلّ معلوماتها و حياتها الخلاّقة المناضلة يجب أن تكون مثالا يحتذى به و يجب أن يكون إسمها اليوم رايتنا كانت تعمل دون كلل ليلا نهارا و عندما أفكّر في فالا أشاهدها حيّة معتزّة حازمة شجاعة قادرة على أيّ مأثرة كانت أو أيّ عمل بطوليّ هناك حقّا شيء خارق للعادة في هذه المرأة من ذلك صلابتها و مجهوداتها لتجاوز صعوبات الحياة و ثقافتها العامة و مشاغلها المتنوّعة و نشاطها السياسيّ المتأجّج وهي رياضيّة و فيزيائيّة تهتمّ بالتجارب العلميّة وهي في نفس الوقت أمّ بارعة و صانعة قبّعات و أزهار إصطناعيّة و أستاذة و موسيقيّة وهي أخيرا ثوريّة ، ثوريّة من طراز رفيع .
كانت فالا بسكوفا و تزولا دلااغويتشافا تسيّران حلقتي دراسة ، الأولى تعلّم الماديّة التاريخيّة و الماديّة الجدليّة و الثانية تعلّم الاقتصاد السياسيّ . و أُطردت الواحدة تلو الأخرى من أجل نشاطهما السياسي و لكنّ التلاميذ جمعوا المئات من الإمضاءات الشيء الذى أرجع الأستاذتين الشعبيذتين إلى عملهما . و بقيت فالا أستاذة بالمعهد حتّى إنقلاب 9 جوان 1923 الفاشيّ . و زرع المجرم ألكسندر تزانكوف الذى تراّس الحكومة الجديدة الرعب و قام بإعتقالات جماعيّة و أقدم على إضطهاد قاس و معاملة سيّئة لكلّ تقدّميّ في كامل البلاد من أجل الحفاظ على حكمه الجائر و إستفحل الإرهاب و الطرد الجماعي يوما بعد يوم فأثار هذا الإستبداد الجنوبيّ بالإنسان سخط الجميع و حتّى الوساط التي بقيت إلى تلك الفترة بعيدة عن الحياة السياسيّة في البلاد و التي أصبحت من ذلك الوقت فصاعدا مناهضة للحكم الجديد قد اثير سخطها .

الإنتفاضة

مثّلت إنتفاضة سبتمبر 1923 الظافرة وهي أولي الإنتفاضات المعادية للفاشيّة في العالم صفحة من الصفحات المؤثّرة و البطوليّة في تاريخ الشعب البلغاري . لقد إنتفض الشعب و السلاح بيده من أجل الإطاحة بالغاصبين و إقامة سلطة العمّال و الفلاّحين بشجاعة لا يضاهيها شيء و حماس لا يوصف .
و إفتكّ الشعب السلطة المحلّية في العديد من جهات البلاد و لكنّ هذا الحماس أغرق في بحر من الدماء و خلق ذلك القمع الوحشيّ هوّة عميقة بين الجماهير الشعبيّة و البرجوازيّة الفاشيّة .
كانت فالا بسكوفا موجودة قبل الإنتفاضة و أثناءها في بيالا سلاتينا . لقد برهنت على تضحية و حزم لا مثيل لهما الشيء الذى جعل رفاقها يتساءلون أين تخفى كلّ تلك الطاقة و كانت لا تنام في تلك الأيّام الساخنة أكثر من خمس ساعات أو ستّ في الليلة .
كانت شاحبة عيناها متعبتان و كانت على يقين من أنّ الحماس في هذه الأيّام يجب أن لا ينقص و لم تر زوجها بانيو أيّاما بأكملها تقريبا فهو أيضا مأخوذ بالتضحية من أجل الثورة .
لقد أظهرت فالا أثناء الإنتفاضة حماسا لا يوصف و شجاعة و بطولة لاائعتين . و هاجت العصابات التزانكوفيّة بعد الهزيمة و إنطلقت للقيام بالمذبحة . و كان ضحايا تلك المذبحة يعدّون من المفقودين و أظهر أعوان تزاكوف في بيالا سلاتينا وحشيّة لا توصف تجته كلّ المواطنين التقدّميّين و حاولوا إلقاء القبض على فالا و لكنّ صاحب المنزل الذى تسكن فيه وهو رجل نزيه عادل تمكّن من إخفائها و لم تعد تسكن في تلك الفترة مع عائلة دراغويتشاف .
أمّا دراغويتشافا فقد وقع إعتقالها في حين تمكّن بانيو من الهجرة إلى يوغسلافيا .
و بقيت فالا دون مُعيل و دون مورد و أصبح من المستحيل عليها أن تشتغل فقرّرت الرجوع إلى شومان . و كان بودّ العائلة التي تسكن معها فالا في بيالا سلاتينا و التي تكنّ لها العطف و تتأثّر كثيرا بطيبتها و نبل روحها أن تقدّم لها العون بإعطائها بعض النقود و لكنّها تعرف عزّة نفس فالا فلجأت العائلة إلى الحيلة : فعوض أن تقنع فالا بقبول الهديّة الصغيرة دسّت العائلة في يد الصغير كامتن 200 لافا (7) قبل إنطلاق القطار بلحظات .
و كان والد بانيو ينتظرهم في المحطّة و بقي مذهولا عندما لم يشاهد إبنه معهم و قد ظنّ أنّه قُقتل و لكنّ كامان قال له في عجلة إنّ أباه ما زال حيّا و إنّه إضطرّ إلى الذهاب إلى يوغسلافيا .
و أعاد الحزب الشيوعي بعد الهزيمة بناء نفسه بسلرعة مستعيدا قواه من جديد فمن الواجب إعادة بناء منظّمات الحزب قبل كلّ شيء آخر و كان الحزب الشيوعي مضطرّا لإعادة تنظيم نفسه في سرّية مطلقة بالرغم من أنّه لم يلغ رسميّا و لقد حثّت الرسالة المفتوحة (8) لجورج دمتروف و فاسيل كولاروف على شخذ العزائم . و لقد وقع إدخال رابوتنيتشاسكي فستنيك ( الجريدة العمّاليّة ) التي يُصدرها دمتروف بصفة سرّية إلى بلغاريا و كات دائما المرشد الأوّل لمناضلي الحزب . و لكنّ بعض أعضاء الحزب الشيوعي قد إنهاروا مع ذلك و تملّكهم الخوف و في ذلك الوقت بالذات وصل بويان بلغرانوف (9) العائد من الهجرة إلى شومان و شرع في مهمّة إعداد منظّمات الحزب السرّية .

الندوة في غابة الكروم

أسدل الليل ستاره بعد زول المطر بغزارة لفترة قصيرة و إنطفأت الأنوار الواحدة تلو الأخرى و غرقت المدينة في الظلام الدامس و النوم العميق و لم يبق سوى منزل صغير ينبئ بالحياة كان ضائعا بين الكروم لا يحتوىي إلاّ على غرفة واحدة و مدخل صغير وهو موجود بضواحي المدينة و أخرج صاحب المنزل من جيبه ساعة كبيرة من فضّة ممهمها في شيء من القلق :
- و لكن ماذا أصاب الأولاد ؟ حانت الساعة الحادية عشر إلاّ ربعا و لم يأت أحد !
و سمعت بعد لحظات دقّات على بلّور النافذة دقّتان ثمّ سكون . و سارع صاحب المحلّ فورا إلى الساحة و أدخل رجلا بياقته المرفوعة و قبعته التي غطّت عينيه و لم يكادا يجلسان حتّى سمع من جديد صوت العلامة المتّفق عليها و أصبحت الغرفة في بضع دقائق تغصّ بالأشخاص الذين كانوا رجالا من أعمار مختلفة و من بينهم امرأة واحدة هي فالا بسكوفا . و قال صاحب البيت :
- لم أكن أتصوّر أنّي سأتمكّن من وضعكم كلّكم في هذه الغرفة الصغيرة . كيف وصلتم ؟ ألم تعترضكم بعض الأخطار في الطريق ؟
فأردف الالشاب الأشقر الذى جلس فوق الكرسيّ الثالث قرب الباب :
- كلّ شيء على ما يرام ، الناس في نوم عميق في هذه الساعة .
- كيف ذلك ؟ في مركز المحافظة هناك دائما أعوان يشتغلون حتّى في الليل و إضطررنا إلى المرور من أنهج ملتوية . أنظروا كيف نحن ملوّثون بالوحل .
ذلك ما قاله شاب ذو شارب كثيف .
ثمّ لاحظ بوديان بلغرانوف :
- أيّها الرفاق يجب أن نبدأ ليس لدينا وقت نضيّعه .
و فورا خيّم صمت على الغرفة الصغيرة ، و واصل بوديان :
- أيّها الرفاق لقد تحادثت مع كلّ واحد منك على حدة و أنتم تعرفون جميع المسائل التي سنناقشها و كان لديكم الوقت للتفكير فيها و الآن جاء دور كلّ واحد منكم لإبداء موقفه . لقد منينا بهزيمة و الضحايا لا يحصون فالعديد من الذين دافعوا عن مصالح الشعب قُتلوا و آخرون إعتقلوا و لكنّ حزبنا لم يمت . إنّه ما يزال حازما موحّدا مقرّ العزم على النضال أكثر من ذي قبل و لكن من الضروريّ تغيير التكتيك . يجب علينا الدخول في السرّية ، هذا المساء ، و على كلّ واحد منكم أن يقول بوضوح إن كان قادرا على ذلك و هل يريد مواصلة العمل في هذه الظروف الجديدة . ايّها الرفاق الكلمة لكم .
كان أوّل من تكلّم شاب ذو شعر أسود ، فقال :
- أرى أنّه في هذه الوضعيّة الجديدة سنضطرّ فعلا إلى العمل بهذا الشكل و لكن هناك مسألة أخرى تطرح نفسها : هل كلّ واحد منّا مستعدّ للنشاط السرّي؟ فيما يخصّني فكّرت جيّدا و تساءلت مع نفسي إن كنت مستعدذا للتخلّي عن عائلتي و التضحية . أقول لكم بصراحة لا أقدر على ذلك ، أقولها لكم بصراحة ليست لي الشجاعة للدخول في هذه المعركة .
و أتمّ كلامه و جلس يتصبّب عرقا .
ثمّ نهض شاي قويّ من اليسار – لا يزال أمرد – و صرّح بصوت رعديّ :
- يا رفاق سأكون موجزا ، أرى أنّ الخطّ السياسي الجديد صحيح . لا يمكن لنا النشاط في الشرعيّة و الحكومة الفاشيّة ستصفّينا . إذا ما العمل ؟ أنخضع ؟ لا ، يجب علينا مواصلة النضال في الظروف المفروضة علينا . اللآن ، أنا مستعدّ للنشاط بكلّ قواي .
و أخذت فالا التي كانت جالسة في ركن من أركان ديوان صغير لكي تتمكّن من مشاهدة جميع الحاضرين و قد كانت تستمع في إنتباه كبير ، أخذت الكلمة في ألخير و صرّحت بصوت رخيم :
- إستمعت لما قاله كلّ واحد نكم ، إنّ البعض تخلّوا عن النضال . إنّ الضربات القاسية تمكّننا من تقييم كلّ شخص و معرفة ما يساوي و جاءت اللحظة لإظهار إستعدادنا لكلّ التضحيات . و لكن يا رفاق لو رمى العمّال و الفلاّحون الروس المنديل بعد الضربة التي كيلت لهم إثر فشل الثورة الولى (1905) لكان من المستحيل لثورة أكتوبر الظافرة إحراز النصر ففي ذلك الوقت لم يتراجعوا و هاجموا العدوّ و سحقوه و النصر لا يأتي وحده . إنّه ملك للمتشبّثين و الشجعان و الرجال الحازمين و خاصة الذين يبدون روح المواصلة كيف يكون من الممكن بعد هذه السنين من النشاط أن نبتعد دُفعة واحدة بعد أن حلّت بنا منحة خطيرة ؟
يا رفاق إنّ إنتفاضة سبتمبر كانت أوّل مشاركة لنا في القتال وهي غنيّة بالعبر و كان لي الشرف أن وجدت في بيالا سلاتينا حيث هبّ الشعب و لقد إفتككنا السلطة .
إنّي أوافق دون تحفّظ على الخطّ الجديد لعملنا و إنّي مستعدّة للقيام بكلّ المهام التي سأكلّف بها .
و أخذ بويان بلغارانوف الكلمة بعد ذلك و إنتقد بعض الرفاق الذين إتّخذوا موقفا جبانا و عبّر عن سروره حين رأى الأغلبيّة مستعدّة لمواصلة النضال حتّى النهاية ذاكرا أقوال فالا بسكوفا مثالا .
و إنتهت الندوة و غادر المشاركون المكان في مجموعات و طلب بلغارانوف من فالا البقاء بعض الوقت و خرجا مع بعضهما بعد ذلك . و كان يقول لها : هل تعرفين يا فالا كم تغيّرت ؟ أتذكّرك جيّدا أيّام حلقات الدراسة و قد أصبحت من ذلك الوقت حازمة جدّا صلبة جدّا . إنّك تفكرّين بكلّ وضوح . أظنّ غنّك ستصبحين مراسلة رائعة . و ستأتيك توصيات سرّية و مناشير و راتنيتشاسكيّ فستينك و ستهتمّين أيضا بتحضير مخبأ حيث تضعين كلّ المناشير و المطبوعات قبل توزيعها غدا . سآتيك من أجل تسوية كلّ جزئيّات هذا الموضوع .
فأجابته :
- لا تنشغل يا بويان غدا سيكتمل كلّ شيء . و رجعت فالا بعد منتصف الليل .

المخبأ

جاء بويان بعد أيّام من أجل مراقبة تحضيراتها فأخبرته أنّها وجدت عناوين عدد لا بأس به من المناضلين و المراسلين و رجته بالإضافة إلى ذلك محاولة الكشف عن المخبأ الذى جهّزته في الساحة . طاف بويان وسط الساحة و إكتشفه دون أدنى عناء . لاحظت فالا في أسى :
- ما دمت قد وجدته فالبوليس أيضا يمكن له إكتشافه يجب عليّ البحث عن مخبأ آخر أحسن و نصحها بويان أن تهيّأ مخبأين بعيدن عن بعضهما و أنّه يلزمها أن تحفظ بعض الوثائق بسرعة إذا كان من المستحيل الوصول إلى مخبأ آمن بعيد و أوصاها أيضا بعدم إستعمال خزانات أو براميل لهذا الهدف و لكن عليها أن تجهز كلّ شيء في التراب .
و لمّا عاد بلغارانوف بعد أيّام ، طلبت منه فالا من جديد إكتشاف المخبأين لكنّه إعترف تلك المرّة بإنهزامه . كانا مغطّيين إلى درجة لا تقدر معها حتّى العين الأكثر تمرّنا على إكتشافهما .
و سمعت فالا دقّأت على الباب بإصرار بعد أيّام من تلك الزيارة في الوقت الذى كانت فيه تنظّم أعداد رابوتنيشاسكي فستنيك فقفزت فالا بجانب النافذة و شاهدت بين الستار شرطيّين . فجمعت الجرائد في رزمة و دسّتها داخل المخبأ القريب دون أن تفقد برودة دمها ثمّ توجّهت نحو الشرطيّين و قالت لهما :
- ماذا حدث ؟ عمّن تبحثان ؟
فأجاباها :
- نبحث عنك أنت ، لا تتصرّفي ببلاهة .
و دخل الشرطيّان وسط الغرفة و شرعا في تفتيش الخزانات و الأسرّة و حشرا أنفيهما في كلّ مكان . و قالت فالا في تذمّر:
- ما هذا ! ألهذا تعبت من أجل ترتيب الثياب ؟
و صرخ أحد الشرطيّين بقوّة : يحسن بك أن تسكتي أو أخبرينا عن مكان رسالة زوجك .
فأجابته فالا دون أن تتخلّى عن هدوئها :
- أيّة رسالة ! إذا كانت لديكما رسالة منه فمدّاني بها لأقرأها أنا الأخرى . و قال أحدهما :
- أظنّ أنّك تقومين بدور الخبيثة المتظاهرة بالتقوى و بعد أن فتذشا طويلا لم يجدا شيئا مشكوكا فيه و خرج الشرطيّان و عندما غاب شبحهما ، جاء الولد فانكو الجالس بجانب السياج للإلتحاق بأمّه و رفع سترته و أخرج من تحت سرواله الصغير حزمة . فحدّقت فالا في وجهه مندهشة فقال :
- أمّي لقد سقطت منك عندما أسرعت لإخفاء الجرائد الأخرى فأخذتها ، ها هي أمسكي بها .
و وضعت فالا الحزمة جانبا ثمّ ضمّت إليها إبنها و قبّلته في حنان و وشوشت له في دلال :
- أنت حبّي ، أنتذكيّ جدّا ، يا أيّها المتآمر الصغير في العشب .
و ظهرت دموع الفرح في عينيها .
و أصبح رجال الشرطة يقومون بزيارات عديدة في ألوقات المناسبة و غير المناسبة . لقد كانوا متيقّنين من أنّ فالا تقوم بشاط سرّيّ و لكن ليس لديهم دليل و هم يعملون جاهدين لإكتشافه .
و ذات مرّة إقتحموا فجأة المنزل عندما كانت فالا تنظّم المناشير و الجرائد و لم يكن لديهاالوقت الكافي حتّى للوصول إلى المخبأ القريب فأعطت الحزمة لولدها الكبير كامان الذى خبّأها تحت قميصه و عندما بدأ التفتيش تظاهرت بنهر أبنائها :
- هيّا فانكو كفاك لعبا هكا إذهب و أحضر لي شيئا من الماء العذب في الإبريق و أنت يا كمان ألم أوصك بالذهاب إلى جدّتك لكي تأتي لمساعدتي في إشعال الموقد ؟
و لم ينتظر كامان أن تعيد له ذلك الكلام مرّة أخرى و حالما وصل إلى الشارع إنطلق كالسهم . لقد كان يجرى أكثر من أيّ وقت مضى . كان الخوف يطارده فعليه الهروب أبعد ما يمكن و لم يعد إلى البيت إلاّ عندما أسدل الليل ظلامه و كان يمشي حذو السياج في حذر للتأكّد من أنّ أمّه بقيت وحدها و أنّ أعوان البوليس المكروهين قد غادروا المكان . و دخل معتزّا بنفسه مسرورا بتمكّنه من تجنّب الخطر و لم تكن أمّه أقلّ سرورا منه و مرّت تك الحادثة أيضا بسلام .

العناية بالرفاق

كانت مراكز البوليس فىاليذام الأولى بعد الإنتفاضة تغصّ بلمواطنين التقدّميّين و في محافظة شومان كانوا يأتون دائما بمعتقلين جدد و هم مغلولو المعاصم و أعوان البوليس يدفعونهم موجّهين لهم شتّى الشتائم .
لقد كان المعتقلون يعيشون ظروفا قاسية جدّا و كان الهواء في الكهف الذى يرمونهم فيه متعفّنا يبعث رائحة كريهة فكانوا يتنفّسون بصعوبة و كان عدد من الضحايا مكدّسين فوق بعضهم كما يكدّس السردين في العلبة . و كان التعساء يتكوّرون مسندين رؤوسهم على لحائط و هم يحاولون النوم و كان الكثير منهم ينامون واقفين . كانت أعصاب الجميع مشنّجة من جرّاء الصياح و التعذيب و سوء المعاملة و الأكل السيّء . و أوصى الحزب الشيوعي أعضاءه العناية بالمعتقلين و مدّهم بالأكل و اللباس و إختارت منظّمة الحزب في شومانفالا مسؤولة عن ذلك العمل و أصبحت في علاقة متواصلة مع الأشخاص الموقوفين تموّنهم بالأكل و تقدّم لهم اللباس النظيف .
و كان الفلاّحون يحملون سلالهم المليئة بالمواد الغذائيّة إلى بيت فالا و كان سكّان شومان أيضا على نفس الدرجة من الكرم مثل سكّان القرى المجاورة . و كانت فالا تقسّم المواد و تنظّم توزيعها على الضحايا و كان تنظيمها محكما . كلّ واحد يتّصل بنصيبهمنالأكل و الدواء و اللباس و كان من بين مشاغلها أيضا توفير اللباس النظيف للمعتقلين و نظّمت مع صديقتين لها عمليّة غسل الثياب . كان عليهنّ في بعض الحالات غسل ثلاثة أوعية غسيل أو أربعة و غالبا ما يكون الغسيل في بيت كاتيا و كانت إبنتها تقوم بالمراقبة أمام الباب فإذا إقتربت جارة ثرثارة أو غير معروفة غنّت أغنية محدّدة. و إذا رأت أنّ الأمر أخطر من ذلك فإنّها تعلم بأغنية أخرى و في رمشة عين يخبّأ الغسيل كلّه في الكهف و تشرع النسوة في طبخ المعجون و قد أعدّت الغلال و المواقد مسبّقا .
و غالبا ما كانت المرأتان تقولان لفالا إنّهما م تقدرا على غسل الثياب الملطّخة بالدماء أو الغليظة من جرّاء الأوساخ المتراكمة و كانت فالا تختار دائما الثياب الأكثر إتّساخا تلك التي كانت صديقتاها تلقيان بها جانبا لها . و في اليوم الموالي تكوى النسوة الثياب و يرقّعنها ثمّ يتمذ إرسالها إلى لرفاق المعتقلين .

جنازة بلاغوف

توفّي ديمتري بلاغوف مؤسّس الإشتراكية في بلغاريا يوم 7 ماي 1924 و قد نظّم الحزب الشيوعي البلغاري جنازة كبيرة بالرغم من وجوده في السرّية و أخذ الناس يتوافدون على صوفيا من كلّ ركن من البلاد و كان على بويان بلغارانوف و فالا بسكوفا و مناضلين آخرينالحضور من شومان في تشييع جنازة بلاغوف .
و قد علم البوليس بحضور مناضلين من الحزب الشيوعي إلى صوفيا فقام بالكثير من التفتيشات و إعتقل الكثير في المحطّات.
و كانت فالا هي المسؤولة عن تنظيم سفر مجموعة شومان إلى صوفيا فإشترت التذاكر في ساعة مبكّرة ثمّ أجلست بلغرانوف و المناضلين الآخرين في غرفة صغيرة بجانب المطعم عند رجل موثوق فيه و حالما دخل القطار المحطّة تمكّنت من وجود أماكن و فتّش البوليس القطار و لكنّ فالا لم تصعّد رفاقها إلاّ بعد أن أطلقت القاطرة صفّارتها الأولى و أجلست بلغرانوف بجانب النافذة و غطّته بمعطفها الخاص كأنّما كان مريضا . و لاحظت أثناء السفرة أنّ أنبوب الضوء يضيء وجهه فأطفأته مغرقة العربة كلّها في ظلام دامس . و كان المسافرون يصعدون من جميع المحطّات و ليس معهم متاع كثير و كان عدد منهم من المناضلين يعرفون بلغرانوف لكنّهم لا يتوجّهون إليه بالكلام . في الواقع ، كان كلّ واحد منهم حذرا أكثر من أيّ وقت مضى ففي هذا القطار غير المتجانس عديد المسافرين من مناضلي الحزب الشيوعي و ...أعوان البوليس !
و تنفّست فالا الصعداء عند وصولهم إلى محطّة صوفيا و مرّت الصعوبة الأولى بسلام و في المدينة الكبيرة من الصعب تتبّعهم و سرعان ما ضاع الأربعة وسط الجموع و كان من المفروض أن تقع الجنازة بعد منتصف ذلك اليوم و خرجت كلّ الجماهير الكادحة في صوفيا إلى الشارع لتعبّر عن إجلالها للقائد المحبوب .
و كان ألكسندر تزانوف يشاهد المسيرة من الشرفة و عندما لاحظ هذا الحشد الكبير الذى يفوق أربعين ألف شخص قال :
- و مع ذلك نحن نعتقد أنّنا صفّينا الحزب الشيوعي . لم يعد هناك شكّ أنّه ما زال حيّا . أنظروا فقط إلى هذا الحشد .
كان الموكب يتقدّم رويدا رويدا على طول الشارع الكبير محاطا بحزام من أعوان البوليس بالزيّ النظامي و الزيّ المدنيّ و في المقدّمة يسير صفّ ضخم من العمّال يحملون سبعين إكليلا و عند الإقتراب من جسر الأسود قبالة الناديّ القديم للحزب الشيوعي ذلك المكان الذى وقع إستعماله إدارة للبوليس تمهّل الذين كانوا يحملون النعش كثيرا في خطاهم ثمّ توقّفوا و أداروا التابوت نحو ذلك المكان و جثمت كلّ المجموعة على ركبتيها و الرؤوس مرفوعة و كأنّ شيخ الحزب الشيوعي البلغاري يقول الوداع للناديّ حيث كانت أقواله الحماسيّة تدخل مباشرة في قلوب سامعيه . و واصل الموكب سيره ببطء نحو المقبرة و كانت فالا و بويان يتابعان الموكب منظمّين إلى الحشد و كات فالا تراقب بحذر ما يحدث و جذبت ذراع رفيقها بلطف قائلة له :
- بويان إنّنا مراقبان هناك على الرصيف ألاحظ عونين من بوليس شومان قد دلّيا زملاءهما من صوفيا علينا .
فأجابها بويان ، لا بأس ليست لهم الشجاعة لإيقافنا وسط هذا الموكب .
- و فعلا فقد وصلا إلى المقبرة دون صعوبة و كان البوليس ينوى القيام بحملة إعتقالات واسعة بعد الدفن و بعد إغلاقه لبوّابات المقبرة و رغم ذلك غادرت المجموعة المقبرة من مدخل قرب خطّ السكّة الحديديّة حيث قام الحزب الشيوعي بما يلزم لتأمين الخروج .
و هكذا بقي البوليس الذى كان يعتقد الحصول على غنيمة بعد الدفن صفر اليدين و تمكّن الذين أراد البوليس إعتقالهم من الفرار من الشّباك المنصوبة و تمكّنت فالا من وجود مكانين لقضاء الليل عند بعض من رفاقها و إلتحق بلغرانوف و فالا بشومان في اليوم الموالي سليمين ، متّبعين الطريق التي تمرّ ببلغاريا الجنوبيّة لأنّ الطريق الشماليّة كانت مراقبة جدّا من قبل البوليس و بقي بويان في شومان قرابة السنة و تأسّست تحت إشرافه منظّمات سرّية للحزب الشيوعي من أجل إنتفاضة مسلّحة جديدة لكنّه غادر المدينة لدعوته للقيام بمهام أخرى في مكان آخر ، فدعا إلى اجتماع لدرس مسألة تعويضه و إقترح بويان فالا و أجمع الكلّ على الموافقة على إقتراحه . وأصبحت فالا في ماي 1924 سكرتيرة اللجنة الإقليميّة للحزب الشيوعي ابلغاري في شومان و كانت أوّل امرأة ترتقي إلى ذلك المنصب الهام .

علبة الكبريت

إضطرب زوج فالا شيئا ما عندما وقع تعيينها سكرتيرة الإقيم و قد بقي يوما و يومين ساكتا بالرغم من طبعه المنشرح و ثرثرته فمن الواضح أنّ شيئا ما يقلقه و هكذا قرّر الذهاب إلى بويان بلغرانوف بعد التفكير برويذة و قال له :
- بويان أتيت لأراك بصفتي صديقك لقديم لأتحادث معك فهناك شيء ما يحيّرني .
فقال له بويان : قل ما في قلبك با بانيو لقد كنّا دائما متّفقين و الآن أيضا سنتّفق ، تكلّم بصراحة .
فقال بانيو :
- لا أدرى كيف أشرح لك ... الأمر يتعلّق بفالا .
فقال بويان : فالا ؟ كيف ؟ هل هي مريضة ؟
فأجابه بانيو :
- لا إنّها بخير و لكن قل لي ألم تستطع إختيار أحد آخر سكريتيرا ؟ ثمّ إنّ فالا بعد هذا كلّه امرأة وهي لا تملك خبرة كبيرة وهي بالإضافة إلى ذلك صاحبة عائلة و أطفال فمن الذى سيقوم بشؤونهم . منصب سكريتيرة إقليم ليس بالأمر التافه . كان عليك إختيار رجل .
فسأله بويان :
- و أنت ماذا تعتقد ؟ هل أنّ فالا ليست في مستوى المسؤوليّة ؟
فأجاب :
- لا ليس هذا ما قصدت و لكن مهما يكن من أمر رجل ...
و قاطعه بويان :
- بانيو لقد فكّرت طويلا قبل إقتراح معوّض . لقد إستعرضت جميع الذين يمكن أن يتحمّلوا مثل هذه المسؤوليّة . و لقد وقع إختياري عليها . إنّها تتمتّع بجميع الميزات المطلوبة في قائد . إنّ لفالا القدرة على التنظيم وهي تعرف كيف تتوجّه إلى الجماهير . إنّ لها هبة وهي محترمة أليس ذها رأيك أيضا ؟ ربّما لا يمكنك أن تتصوّر أن تكون زوجتك قادرة على قيادة الرجال و قد لا تتصوّر أنّه يجب عليك تقديم تقارير نشاطك لها ، بانيو لقد برهنت في عديد المرّات عن تضحيتك من أجل قضيّتنا المشتركة لكن يخيّل إليّ أنّك لمتتخلّص بعد من بعض الأفكار الخسيسة لذلك لم يكن بإمكانك أن تتصوّر أن تُصبح زوجتك أهمّ امرأة في الإقليم .
كان بانيو ينصت بإنتباه مقطّبا حاجبيه هازا رأسه من حين لآخر لإبراز عدم إستحسانه و تأمّل بلغرانوف علبة كبريت فوق الطاولة فأخذها في يده بحركة عفويّة و بدت على وجهه إبتسامة . لقد خطرت بباله فكرة فقال :
- بانيو هل رأيت علبة الكبريت هذه . هذه عائلة بانيو بسكوفا . كانت فالا إذن قبل أنتبدأ نشاطاتها السياسيّة منغلقة في هذه العلبة الضيّقة و لكن الآن خرجت منها و لم تخرج فقط بل بسطت جناحيها . إنّها تتّقد حماسا و إنّها سائرة دائما إلى الأمام و الآن أطلب منك هل تقدر أن تعيدها من جديد إلى هذه العلبة ؟
فقال بانيو :
- فهمت مثالك يفسّر كلّ شيء .
و إنفجر بلغرانوف ضاحكا و قال :
- هذا ما أردت منك أن تصل إليه ، لا يمكن الوصول إليه منأوّل وهلة . يجب أن نفهم و نفكّر و إذا أقلقك شيء ما تذكّر عُلبة الكبريت .
سكريتيرة إقليم

أصبح تعاطي النشاط السياسي صعبا و خطرا من يوم إلى آخر فحكومة تزانكوف تقمع و الإعتقالات تتزايد و إنّه لمن العسير وجود مسكن آمن أو غلرفة للإجتماع في السرذية و كن برهنت منظّمة شومان بالرغم من ذلك على حركيّة كبيرة منفّذة توجيهات الحزب بإنتظام . و لقد عرفت بسيطرة نادرة و إستطاعت تنظيم الجبهة المتّحدة و القيام بمبادراتمشتركة من الفلاّحين ايساريّين في العديد من القرى و الضواحي و كانت فالا تزور القرى في المنطقة لتحضير الإنتفاضة المسلّحة دون كلل و كانت تستشير رفاقها قبل القيام بأيّ عمل و تخضع للقرار الجماعي و عندما تقسم النشاط حتفظ لنفسها بأخطر الأشغال و أعسرها و إنتشر مثال فالا و حماسها و فرضت على الجميع إحترامهم لها بفضل صفاتها الثوريّة ، و واصلت فالا الاهتمام بتوزيع رابوتنيتشاسكي فستنيك عندما صرت سكريتيرة إقلم أيضا . و كانت تتّصل بالجرائد عن طريق عامل و لكن وقع إيقافه ذات يوم فكان من الضروريذ البحث عن عنوان جديد تُرسل إليه الجريدة و إختارت فالا مدرّسة فتحت دكّانا لبيع المواد الغذائيّة في الحيّ بعد رفتها بسبب أفكارها التقدّميّة و وافقت تلك المدرّسة و إتّفقت فالا و معاونتها علىإرسال الجرائد في شكل صناديق صغيرة لإبعاد شكوك البوليس و هكذا أصبحت الرابوتنيتشاسكي فيستنيك تصل إلى شومان تحت عنوان فلفل أحمر أو ورق رند أو قرفة . و كانت فالا تستعمل الدكّان بحجّة شراء بعض اللزازم ثمّ يدخلون الغرفة المجاورة حيث تنتظرهم فالا و قد كان كوستاجورجيفا رفيقا مقرّبا جدّا من فالا وهو يذكر حادثة تبرز مدى تضحيتها و إنضباطها :
فقد كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال تقريبا في حين كان المطر يتهاطل و كان كوستا في ورشته و من حين لآخر كان يمسح البلّور من بخار و سمع في لحظة صوتا خفيفا لا شكّ إنّه قطّ يتجوّل في المخزن . ذلك ما إعتقده كوستا و لكنّه سمع الصوت من جديد : ثلاث دقّات مختصرة و لكن هذه العلامة متّفق عليها ...
من يتصوّر أن يأتي إنسان في هذا الطوفان ؟ و فُتح الباب . و طلبت منه فالا و الإبتسامة على وجهها و كان الماء يقطر منثيابها و شعرها ملتصق بصدغيها :
- لماذا لم تفتح يا كوستا ؟
فسألها :
- و لكن كيف تجرّات يا فالا و أتيت في هذا الطقس ، ستصابين بالبرد ؟ لماذا لم تنتظرىي حتّى يكف المطر عن النزول ؟ إقتربي هنا من النار لتتدفّئي .
و رفضت فالا الدعوة و قالت له إنّ عليه التواجد فىالساعة السابعة بالضبط قرب المركز الثقافي دوبري فوينيكوف ، فقال متسائلا :
- و إذا لم ينقطع المطر ؟
فقالت له :
- لينفخ الريح أو لتمطر السماء ،عليك بالمجيء في السابعة بالضبط يا صديقي ، كن في الوقت . و رجعت من حيث أتت.
ذهب كوستا إلى الموعد قبل الوقت المحدّد في المساء خوفا من التأخر لأنّه يعرف انّ فالا تصرّ على المحافظة على الموعد بجانب الجسر وهو مكان اللقاء معها و كانت توجد هناك حانة فدخلها كوستا لشرب كاس و جلس على الطاولة بجانب النافذة ليتمكّن من رؤيتها عند قدومها و كانت فالا طبعا في الموعد فخرج كوستا و عندما غلتحق بها قالت له إنذ اللقاء سوف لن يقع في المنزل المجاور كما كان الإتّفاق لأنّ بعض أقرباء متساكنيه أتوا من قريتهم و طلبت منه السير في النهج المقابل و إنتظارها أمام ورشة إيفان هنتشاف و أخذ كوستا الطريق المعيّن و لكن عندما وصل أمام الورشة م يجد أحدا و لم تكن فالا هناك و إنتظر بعض اللحظات ثمّ عاد إلى الحلنة معتقدا أنّ اللقاء لم يتمذ و لاحظ فالا تمرّ ثانية و إلتحق بها مثل المرّة الأولى فسألته بصوت حاد : لماذا لم تنتظرني ؟
فأجابها :
- لقد ذهبت إلى المكان الذى أشرت عليّ به و لكن ...
فقاطعته قائلة :
- إتّبع نفس المسلك و لكن سر بأكثر بطء هذه المرّة فالطريق التي سأسلكها متشعّبة .
و إلتقيافى تلك المرّة و دون أن تتوقّف واصلت فالا طريقها في حين كان كوستا يتبعها على بعد خطوات و بعد قليل وصلا المقبرة ثمّ دارا حول المعبد و دخلا غرفة صغيرة بها رفيقان ينتظرانهما . كانوا كلّهم صادقين ثمّ وصل خمسة رفاق آخرين بعد ذلك و أخذوا أماكنهم بعد ذكر كلمة السرّ و قد إتّخذ هذا اللقاء الذى ترأسهته فالا قرارات غاية في الأهمّية تخصذ تجميع المال لفائدة الرفاق المختفين و وزيع الصحافة و المناشير السرّية كما عيّن كذلك عدد المراسلين الجدد للعديد من القرى . و خرج الجميع في مختلف الإتّجاهات في آخر الليل عندما أصبحت المدينة تغطّ في نوم عميق . كانت فالا تزور دائما قرى الإقليم مصطحبة رفاقا آخرين و كانت تعقد الإجتماعات و ترأس الندوات و تعطى التوجيهات و تكسب متعاطفين جددا يضحّون من أجل قضيّة الشعب التي أصبح الدفاع عنها أمرا خطيرا . و كان زوجها الذى هاجر قد عاد سنة 1924 و لكنّه أوقف ثمّ أدخل السجن بتهمة المشاركة في إنتفاضة سبتمبر . و كانت فالا تعطي دروسا في الرياضيّات و الكمان لتغطية حاجيات العائلة و كانت تصنع أيضا الزهور الإصطناعيّة و كان العديد من التلاميذ الذين يأون إليها بحجّة أخذ الدروس يقومون ببعض المهام و يتّصلون بالمناشير التقدّميّة و كانت فالا تعلمهم بكلّ ما يجدّ في الحياة السياسيّة .

تحت أنف البوليس

كان البوليس في شومان متأكّدا منأنّ الحزب الشيوعيّ ما زال حيّا و كان يوجّه شكوكه إلى فالا بسكوفا فهي بالنسبة إليه محور نشاطه و لكنّه لا يملك البراهين فقرّر غيقافها رغم ذك و لكن عندما وصل أعون البوليس وجدوا فالا ملازمة الفراش و قد وصلت درجة حرارتها إلى الربعين و لم يجرؤوا على نقلها إلى المحافظة و إكتفوا بتعيين حراسة دائمة أمام منزلها و كانت العديد من نساء الحيّ المسنّات يسالن عنها و يعالجنها أثناء مرضه و كانت فالا تعرف أنّ البوليس سيعتقلها عندما تشفي لذ قرّرت ألاّ تسقط بين يديه ما دامت على قيد الحياة و عندما إسترجعت شيئا من القوّة تنكرت في هيئة امرأة عجوز ملتحفة بشال كبير و فرّت بذلك من تحت أنف البوليس الذى لم يعط أيذة أهمّية لهذه الجدّة و منذ تلك اللحظة بدأت فالا تعيش حياة المناضلين السرّيين الخطيرة و المتعبة قاضية وقتها عند رفاق مخلصين . و إنتشرت الكثير من الأساطير حولها فقد شوهدت مرّة في هيئة امرأة تركيّة بخمار و مرّة أخرى في هيئة عجوز قصيرة محنيّة الظهر من وقع السنين و زعم البعض الآخر أنّه إعترضها واضعة فوق رأسها قبّعة تلميذة و حاملة منديلا أسود من الساتان . و أخيرا قال بعضهم إنّهم تعرّفوا عليها في شكل امرأة أنيقة بشعرها المصفّف . كان الجميع يحكى كيف انّ فالا نقلت مناشير ثوريّة و كيف أنّ عون البوليس ساعد امرأة عجوزا عمياء ماسكة عصاها بصعوبة على عبور الجسر في حين كان البوليس يفتّش عن مكان فالا السريّ و بالطبع فإنّ لمرأة لعجوز لم تكن سوى فالا . لقد إنتشرت العديد من النوادر حولها . و هكذا لم يعد غضب ابوليس يعرف حدودا ، لقد وعد بجائزة تقدّر بخمسن ألف لافا ثمن لرأسها لأوّل واش بها .


في فم الذئب

كان أطفال فالا يقيمون عند حماتها و كانت تعرف أنّه لا ينقصهم شيء و لكن صدرها كان منقبضا لقد تمنّت رؤيتهم و لو لحظة واحدة لتقبّلهم و لكنّها كانت تعرف أنّ بابي المنزل مراقبان ليلا نهارا و لا يمكنها الإقتراب منه . و لم تقدر أن تتحمّل أكثر و ذات يوم بعد أن إلتقت بمناضل و رغم أنّ العمليذة خطيرة مرّت أمام المنزل الذى يوجد فيه الأطفال ، فمن الذى سيتعرّف على فالا المتنكّرة فىهيئة امرأة عجوز وهي تتّكئ على السياج ؟ و توجّهت فالا إلى منزل حماتها بعد أن إستأذنت من الرفيق القادم من صوفيا و عندما دخلت إلى النهج الذى يوجد فيه المنزل لاحظت الشرطيّ الحارس بلباسه الأزرق . و كان الطقس باردا و كان الرجل على ما يبدو قلقا يبحث عن شيء يتدفّأ به . و مرّت فالا بجانب السور . كان قلبها يدقّ و كنت مصفرّة الوجه و كانت عيناها مسمّرتين نحو المنزل في تلك اللحظة و تعرّف عليها الكلب الذى شرع ينبح في سرور و بقيت فالا جامدة في مكتنها إذ لو علم الشرطيّ أنّ الكلب يعبّر عن فرحته لأنّه رأى أحدا من العائلة فإنّه من الممكن أن تخامره فكرة التكلّم معه و ربذما حدّق في وجهها من قريب و ...كيف تصرّفت دون حذر و ألقت بنفسها في فم الذئب لماذا لم تفكر في أنذ الكلب يمكن أن يغدر به ؟ إنّ الهروب شيء خطير و وجذهت ضربة إلى الكلب برجلها متظاهرة كما لو أنّ الكلب أخافها و إذا إلتفت الشرطيّ نحوها فإنّه سيعتقد أنّها مارذة من جملة المارّين و لكن واصل الكلب بالرغم من ذلك ثباته فوجّهت إليه فالا ركلة ثانية كانت عنيفة إلى درجة جعلت الكلب يعوى من شدّة الألم و إلتفت اشرطيّ في تلك اللحظة نحوها . لقد أخرجه عواء الكلب من لامبالاته و لكنذه كان عواء شديدا لدرجة لم تجعل الشرطيّ يعتقد أنّ الكلب يعبّر عن إبتهاجه لمعرفة شخص قريب و أنقذت فالا نفسها . لقد نجت بجلدها و أصبحت تتصبّب عرقا و دون أن تشعر كانت شفتاها ترتعشان و إبتعدت خطوة خطوة كانت تتمنّى أن تجري و تهرب من الشرطيّ و لكنّ حكمتها جعلتها تمشي ببطء حتّى ركن النهج فإذا وصلت إليه فإنّها تكون قد نجت . و وصلت إلى منزل كاتيا بعد لحظات بقليل و دقّت ثلاث مرّات ففتح الباب فدخلت بإندفاع و سألتها كاتيا مضطربة :
- ماذا حدث ؟ ما لك شاحبة الوجه ؟ هل أنّ أعوان...
فأجابتها فالا :
- لقد إلقيت بنفسى في فم الذئب... كانو على وشك إعتقالي لكن حماقة العون هي التي انقذتني .
و سردت مغامرتها .
الأطفال لم ينطقوا بكلمة

لم يتورّع البوليس عن إيقاف طفليّ فالا محاولا إكتشاف مقرّ إختفاء أمّهما منذ الأيّام الأولى من حياة فالا السرّية . و هكذا أصبح الطفلان على ذمّة رئيس البوليس و بدأ إستجواب إبنها كامان و سأله بلطف عن فصله و عمّا إذا كانت له أعداد حسنة و ختم كلامه قائلا :
- إنّك طفل شجاع و قد إستدعيناك لشيء تافه دلّنا على مكان وجود أمّك قل بصراحة و غلاّ ... أنت تعرف أنّ أباك في السّجن .
و أجاب كاما الذى كان يجهل مكان أمّه بأنّه لا يعرف شيئا فإقترب منه الشرطيّ و أعاد سؤاله بعد أن وجّه إليه صفعتين : و الآن ألا تعرف أين توجد أمّك ؟ و تمسّك كمان باصمت مطأطأ رأسه .
ثمّ وقع جلب فانكو و كان البوليس يعتمد عليه أكثر لأنّه صغير يمكن التحيّل عليه و إرتعد فانكو عندما لاحظ إحمرار خدّي أخيه و لاحظ البوليس الخوف بديا على الولد فأراد إستمالته مقدّما له قطعة من الشكلاطة و سال لعاب فانكو و لكنّه قال ببساطة :
- لا اريد شكلاطتكم أعطوني الورقة التي تلفّها فقط .
و أخيرا عندما تأكّد البوليس من أنّ الطفلين لا يعرفان شيئا عن الموضوع أطلق سراحهما .
و كانت فالا تواصل نشاطها بالرغم من وجودها في قرية صغيرة حيث تعيش في السرّية و حيث يعرف كلّ الناس بعضهم البعض و لكن وجودها بشومان أصبح محفوفا بالمخاطر من يوم لآخر فالبوليس يقوم بتفتيشات في منازل المناضلين في كلّ الأوقات . و لم يكن من السهل وجود مقرّ آمن . و كانت فالا تختبء في منزل كوستا جورجياف في أغلب الأحيان و عندما يذهب إلى عمله في الصباح كان يغلق الباب وراءه . و لم يعد ممكنا للمناضلين الأتقاءبفالا إلاّ في المساء عند رجوعه من العمل . و كانوا بطبيعة الحال يأخذون كلّ الإحتياطات الممكنة و كنت فالا تسدي التوجيهات و تجمع الأخبار بخصوص نشاط المنظّمة و لا تتأخّر أبدا عن بعث الرسائل و المعلومات إلى صوفي بالرغم من وجودها في السرّية . و كانت لجنة إقليم الحزب الشيوعي تجتمع في هذا المنزل أيضا و طُرق الباب فجة أثناء اجتماع من إجتماعاتها و كان الجميع على حذر و كان كوستا هو أيضا شاحبا . و لمّا رأى الضيف الجديد إسترجع هدوءه : إنّه قروي شاب من الأحواز و قد كان يقطن عنده في وقت من الأوقات و قد إحتفظ بمفتاح الباب الخارجيّ و كانت فالا هي الوحيدة غير المعروفة من بين جميع الحاضرين بالنسبة إليه فسأل :
- إذا ... ظنّ أنّك تزوّجت يا كوستا ؟
- آه ... ليس بعد ... لحدّ الآن مخطوبان فحسب ... و لكن سنتزوّج عن قريب و أرخت فالا نظراتها متظاهرة بالتضايق فهي لا تريد أن يتذكذر الشاب ملامحها و إنتقلت إلى مقرّ آخر في تلك الليلة بالرغم من ذلك .

المخبأ الجديد

كانت بعض نساء حيّ إستراجنسكا بشومان جالسات أمام منزل متداع و هنّ يتحادثن و يحكن الصوف و إذا ما مرّ أحد أمامهنّ أطلقن لسانهنّ للكلام إلى أن وصل بهنّ الحديث عن فالا فقالت إحدى الثرثارات :
- على فكرة أتعرفن أنّهم فتّشوا عنها مساء أمس عند ميترا زوجة أثناز . لقد قلب أعوان البوليس المنزل رأسا على عقب . لقد غرسوا حتّى [ كلمة غير مفهومة ] في التبن و [ كلمة غير مفهومة [ البراميل ... لا أثر لها . لم يتمكّنوا من وجود تلك المدرّسة الغريبة . لقد وعدوا بمكافأة بخمسين ألف لافا و لكن لا سبيل إلى وجودها . و أردفت زوجة صاحب المطعم وهي الثرثارة الممتلئة الجسم ذات العينين الرماديّتين و الوجنتين المترهّلتن .
- أتقولين خمسين ألفا ؟ إنّها قيمة كبيرة إذن . إنّها لا تعطى لشيء تافه .
و صاحت النسوة مغتاظات :
- كيف لا تعطى لشيء تاقه ؟ إنّهم سيقتلون المرأة و الأطفال و الزوج في السجن و إذا قتلوا الأمّ فمن سيعتنى بالأطفال ؟
و لكنّ زوجة صاحب المطعم لم تعر إهتماما لكلامهنّ و أضافت :
- أنا إذا وضعت يديّ عليها فلن أتردّد لا يهمذني مآل أطفالها ما عليها إلاّ أن تفعل مثل كلّ النساء لا أحد أجبرها على رفع الراية .
و توقّفت المناقشة و دخلت المرأة العجوز صاحبة المنزل الذى كانت مجموعة النساء جالسات أمامه و إقتفت كنّتها أثرها و بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح و في حين وقفت كنّتها بجانب النافذة تقوم بالحراسة أزاحت المرأة العجوز صندوقا كاشفة من ورائه عن باب خشبيّ صغير لا يمكن إجتيازه إلاّ بعد الزحف فظهرت فالا عندئذ و قالت :
- ضعى القنابل في قاع الجرّة و غلذفيها جيّدا بكبب الصوف و سلذميها إلى مندوف . هل هناك ما يدعو إلى القلق ؟
فأدابتها المرأة :
- لا . لا تشغلي بالك أمسكي هذا عشاؤك كلي جيّدا على الأقلّ و إلاّ فلن تتمكّني من العيش في هذا الغار. و تلقّت فالا بسكوفا أمرا بمغادرة المدينة بعد هذا الحادث بقليل .

الأمّ تودّع طفليها

أرادت فالا رؤية طفليها قبل الرحيل و كان من الخطر أن يقع جلبها إلى منزلها لأنّه في ذلك الوقت كان البوليس يقتفي أثرهما إذ يتصوّر أنّه بتتبّعهما يمكنه إكتشاف أثر لأمّهما و كان من الخطر أيضا أن تذهب فالا إلى منزل حماتها . و لهذا فقد تقرّر أن يؤخذ الطفلان في نزهة و يمرّان على الساعة السادسة بالضبط أمام المنزل الذى تختفى فيه فالا . إستغرب الطفلان كثيرا إقتراح جدّتهما الخروج في نزهة في هذا الطقس البارد و لكنّهما خرجا عن طواعيّة . ووصلوا في الساعة السادسة بالضبط أمام المنزل الذى توجد فيه فالا تباطأت الجدّة حتّى تتمكّن الأمّ من التأمّل في طفليها لمدّة أطول و أخذت فالا تودّع حبيبيها وهي مختفية وراء ستار دون أن تتمكّن من تقبيلهما و مداعبتهما و دون أن تقدر على توجيه و لو كلمة واحدة لهما ... كلّ ما أمكن لها فعله هو رؤيتهما من بعيد .
و غادرت فالا بسكوفا شومان في بداية جانفي من عام 1925 . عند قدوم الليل صعدت في عربة ذات خيول كانت تنتظرها أمام الباب و كانت متنكّرة في هيئة عجوز ريفيّة ملفوفة في شال و كانت ضاغطة بيدها على مسدّس و إستقلّت داخل العربة في حين قام كوستا جورجياف و مندوف بتغطيتها بورق الذرة الصفراء . و تمكّنت فالا تحت جنح الظلام دون عائق من الوصول إلى قرية مجاورة و سافرت في اليوم لموالي في القطار إلى فارنا متنكّرة في هيئة امرأة تركيّة تلك المرّة .

الطريق الشائك

كان ستيفان إيفانوف المناضل في الحزب الشيوعي في ذلك الوقت ذاهبا إلى فارنا و تقرّر في اجتماع أن يذهب مع فالا إلى روساي حيث إستقرّت تحت إسم مستعار عند إيليا كمبوروف و إستأنفت نشاطها الحثيث بين الشبيبة . و أصبح تأثيرها في وقت قصير محسوسا في صلب منظّمات الشبيبة المدرسيّة . لقد علّمتها خبرتها الطويلة في النشاط الاجتماعي كيف تتعرّف على الناس و كيف تختار المعاونين بصفة صائبة . لقد تظهر صديقة حقيقيّة تجاه الشباب و كانت تعرف كيف تتوجّه إليهم بالكلام . كان مثالها منتشرا جدّا يثير فيهم الحماس و يحثّهم على العمل النشيط و أقامت فالا أيضا علاقات مع شبّان و شابات معمل غزل و أصبح العديد منهم فيما بعد ثوريّين جريئين .
في فيفري 1925 تحمّلت فالا عملا مسؤولا و خطيرا للغاية و أصبح لها منذ ذلك الوقت عنوان قار و إدعت أنّها خيّاطة لكي لا تثير شكوك الذين تقطن معهم . و كانت تزور الأشخاص الذين لهم بها علاقة – و جريدة الخياطة في يدها – مدّعية أنّها تأخذ طلباتهم و مقاساتهم و كان الأشخاص يأتون إليها أيضا لإستلام قبّعات الرأس التي خاطتها . و قد أظهرت فالا خلال نشاطها السياسي في روساي حماسا و تضحية لا حدّ لهما كما أظهرت رباطة جأش و شجاعة لا مثيل لهما في الأشهر اللاحقة .
الأمّ و إبنتها تلتقبيان

لمّا كانت فالا ذات مساء تنظر من نافذة منزل من منازلها السرّية في حيذ دوبرويا منتظرة قدوم مبعوث ، لاحظت من بين المارّين امرأة مسنذة جلبت إنتباهها و همهمت إنّها أمّي . و رجت في الحال من المرأة التي تسكن عندها أن تأتي بالمرأة العجوز موضّحة لها بأنّها والدتها و بالرغم من أنّ فالا إستقرّت في روساي منذ ما يقارب الشهرين إلاّ أنّ أمّها و أختها لم تعلما بوجودها رغم أنّهما تقطنان في نفس المدينة . و خرجت صاحبة المنزل مسرعة دون أن تضع معطفها إلى الشارع في خفّة و صاحت :
- سيّدتى ، سيّدتى إنتظري لحظة .
تساءلت أمّ فالا مستغربة :
- ماذا حدث ؟
و إقتربت منها و اسرّت لها في أذنيهها : تعالي عندي إبنتك تريد أن تراك . فكادت امّ فالا تسقط . و تعانقت المرأتان طويلا في الغرفة الصغيرة دون أن تتمكّنا من حبس دموعهما : عزيزتي فالا كيف حالك ؟ هل أنت موجودة هنا منذ زمن؟ لماذا لم تخبريني أنّك هنا ؟ هل أنت في حاجة إلى بعض الشيء ؟ كم أنت هزيلة يا صغيرتي ، ستكون النهاية مرضك على الأقلّ دعيني أحمل إليك بعض الأكل .عيناك متعبتان جدّا ، ماذا تريدين أن تأكلي ؟
- أمّاه ، أريد سمكا مقليّا ، إذا وجدت فإحمليه إليّ غدا .
و في اليوم الموالي مساء ، إقتربت أمّ فالا من باب المنزل و عندما دفعته ، وجدته مغلقا بالمفتاح . إلى أين يمكن أن يكون ذهب هؤلاء ؟ تساءلت الأمّ مع نفسها و شاهدها بعض الأطفال الذين كانوا يلعبون في الشارع وهي تحمل حقيبة قابلة فإقتربوا منها متسائلين في حبّ إطّلاع :
- هل أنت قابلة يا جدّة ؟
فقالت :
- نعم يا أطفالي و لكن أين ذهب سكّان هذا المنزل ؟
فأجاب الصبية :
- لقد جاءهم البوليس أمس مساء و قد هربوا خائفين و لا نعرف اين ذهبوا .
و أحسّت العجوز بانّ الأرض تتوري تحت قدميها و إنزلقت الحقيبة التي وضعت فيها المقلى و الجمازة و إثنتين من الجوارب من يدها و تساءلت مع نفسها وهي ترتعش :
- أين يمكن أن تكون إبنتي في هذه اللحظة ؟ هل تمكّنت من الفرار ؟ هل أكلت شيئا ما على الأقلّ هذا اليوم ؟ و إنتعدت عن المنزل شيئا فشيئا في خطى بطيئة وهي شاردة . أمّا فالا التي نجت من الشبكة المنصوبة فلم تتأخّر عن مواصلة نشاطها بأكثر حزما .
طريق مليئة بالمخاطر

كان نشاط فالا يعرّضها دائما للمخاطر : فالموت يتصيّدها عند كلّ خطوة و كانت المهمّة تتمثّل فعلا في تنظيم مجموعات صداميّة في الريف تتكوّن كلّ واحدة من ثلاثة أشخاص . و عندما كانت الجرائد الحكوميّة في سنة 1925 الرهيبة تعلن كلّ يوم بالأحرف الغليظة عن إعتقال و إعدام الوطنيّين و عندما كانت حكومة تزانكوف تضيّق الخناق كلّ يوم حول عنق الشعب المضطهَد ، كانت فالا بسكوفا تطوف إقليم روساي طولا و عرضا و تنظّم الكفاح المسلّح و كان الناس يستقبلونها في كلّ مكان متعاطفين شاتمين الحكومة و سياستها و لكن عندم يصبح الأمر يتعلق بالقيام بعمل معيّن خطير ينسحب الكثير من شدّة الخوفالذى يصيبهم فعلى المرء أن يكون شجاعا في ذلك الوقت لكي يعرّض نفسه للخطر . لقد تمكّنت فالا من إحيء منظّمات الحزب و نفخت فيها الثقة بحتميّة النصر . و تكوّنت منذ شهر جانفي مجموعات قتاليّة في أكثر من عشرين قرية و تمكّنت فالا من مضاعفة هذا الرقم تقريبا بفضل نشاطها مبرزة روح المثابرة و حسن التصرّف و الإيمان الذى لا يتزعزع .
اللحمة تنحلّ

منيت منظّمة الحزب في روساي بفشل ذريع في بداية فيفري 1925 و تبعت ذلك إعتقالات جماعيّة . و كان من المفروض أن تلتقي فالا بسكوفا يوم 17 فيفري 1925 بالعديد من المناضلين في مطعم و لكن البوليس علم بذلك و تنقّل عدد كبير من أعوان البوليس إلى عين المكان و أوقفوا الجميع إلاّ فالا بسكوفا و مناضلا آخر الذين تمكّنا من الهروب . و تعرّض كلّ الأشخاص الذين وقعوا بين مخالب البوليس إلى تعذيب وحشيّ فكانوا يشبعونهم ضربا بحبل معدنيذ وبطنب الثور . و حاول أحد المناضلين أثناء نقله إلى مركز البوليس أن يبتلع بعض الأوراق التي كان يحملهامعه و لكنّ أعوان البوليس تفطّنوا له و تمكّنوا من إقتلاعها من فمه و تعرّض هذا المناضل إلى تعذيب أكثر وحشيّة من رفاقه و إنفصل فكّه الأسفل أثناء الضرب و لم يعد يمكنه الكلام أو الأكل و أصيبت بعد ذلك إحدى أذنيه بالصمم و عندما رموه أخيرا في زنزانة كان أسود اللون بفعل الضربات القاسية .
و فتّش البوليس في اليوم الموالي ورشة إيفا كمينوف و لقد كان على علم أنّ إيفان كان مكلّفا بوضع خريطة توضّحمواقع المجموعات المقاتلة . و بعد أن وضع يده على الوثيقة إنصرف عون البوليس بسرعة و تنفّس كمينوف الصعداء . لقد كان يوجد تحت الخريطة رسم مدينة روساي الذى كان يشير إلى الإدارة العامة الموجودة في المدينة و لتى يجب الإستيلاء عليها يوم الإنتفاضة . و هيّأ كمينوف وهو مصوّر مختصّ مسبّقا حول موضوع الخريطة تفسيرا معقولا بخصوص القرى المشار إليها و قد تلقّى عروضا من بعض الحرفاء لتكبير الخريطة و لكن بخصوص خريطة مدينة روساي لم يتمكّن من إيجاد تغطية فأحرقها في الحال و عندما غادر منزله حوالي الساعة الحادية عشرة إعتقله عونا بوليس و أعطى تفسيره المهيّأ مسبّقا للخريطة و قد أبدى كمينوف شجاعة قصوى و أصرّ على الإنكار بالرغم من أنّ البوليس على علم بالمعنى الحقيقيّ .
و توسّعت حملة الإعتقالات و إعتقل العديد من الأشخاص الذين كان البوليس يشك فيهم و إكتشف البوليس أثناء التحقيق رموز و مراسلات فالا بسكوفا السرّية و تمكّن من معرفة الأسماء المستعارة التي إستعملتها فالا نظر للخيانة و بسبب الوثائق الموجودة و إفشاء الأسرار أثناء التحقيق. لقد كان قرار الإتّهام الموضوع منقبل المحكمة العسكريّة في روساي يذكر إسمها في كلّ سطر تقريبا و لقد تأكّد البوليس من أنذها كانت متآمرة من طراز رفيع و وضع من جديد ثمنا لرأسها واعدا من يعتقلها أو يدلّ البوليس عليها بخمسين ألف لافا .
و بعد أن نجت فالا من حادثة المطعم ، توجّهت إلى إيفان كمينوف في الوقت الذى كان البوليس يقوم فيهبتفتيش منزله و لكنّ زوجة إيفان تمكّنت من إعلامها في الوقت المناسب. و أصبحت وضعيّة فالا شائكة و لكنّها لم تفزع و لم تنسحب من النضال بالرغم من أنّ صفوف منظّمة روساي قد هلكت بل ضاعفت من نشاطها و لقد إقترح عليها تجاوز الحدود و الهجرة و لكنّها رفضتواعيةبأنّ الحزب في مثل تلك الظروف في حاجة إليها أكثر من أيّ وقت مضلى و إنصرفت فالا صحبة تونتشو قالتشانوف الذى تمكن من الإفلات من البوليس أيضا إلى نشاط أسطوريذ . كان تونشو قالشانوف جريئا ، ذا عزيمة من حديد فكانا يتنكّران أحيانا في هيئة فلاّحين و أحينا أخرى في هيئة أتراك و كانا يجوبان مقاطعة روساي دون ملل رغم البرد القارس و كانا يعيدان الثقة إلى الذين فقدوها و ينظّمان الإجتماعات و مجموعات قتاليّة جديدة .
العرس

ذات يوم ثلجيّ وصل تونشو و فالا إلى قرية نوفوسالوو كانت الريح تنفخ بقوّة مصلّبة الثلج و كانت المنازل تبدو صغيرة تحت طبقة الثلج الغليظة الواقعة فوق السقوف و ساحة المدينة خالية حتّى من القطط . و من حين لآخر يمرّ فلاّح مسرع الخطى إلى منزله . و توجّه تونتشو و فالا نحو الجهة العليا للقرية بعد أن دارا حول البئر . أخفى تونتشو رأسه في قبذعته و رفع ياقته بحيث أصبح من الصعب رؤية وجهه و كانت فالا تسير بجانبه وهي ملفوفة في شالها الأسود الكبير ثمّ قالت :
- تونتشو إننا نقترب لا بدّ أن يكون هذا هو المنزل الذى يوجد على اليسار في الكلانيش الأزرق .
فأجابها :
- نعم أعتقد أنّه هو .
و أخرج تونشو ورقة صغيرة من جيبه يوجد فيها رسم يشير إلى المنازل بحلقات صغيرة لكي يتأكّدا من أنّهما لم يخطآ. و قال تونشو :
- نعم إنّه هو ، إنّه مشار إليه بوضوح فوق الرسم لا فائدة من السؤال هيّا بنا .
و مزّق الورق إلى قطع صغيرة و دفعا الباب الخشبيّ الصغير دون تردّد و دخلا وسط الساحة حيث ظهرت أولى زهرات الثلج و بعد أن قالا كلمة السرّ أدخلهما صاحب المنزل إلى غرفة صغيرة مطليّة بالأبيض و بجانب النوافذ ذات الستائر الهنديّة توجد أريكة مغلّفة بغطاء من جلد الماعز و في ركن من البيت موقد الحديد يهدرو يلمع مثل المرآة و على الحائط فوق السرير زربيّة جميلة مزيّنة وإمتلأت القاعة الصغيرة باحاضرين قبل مرور نصف الساعة وكانوا صامتين فقالت فالا:
- أما زلنا ننتظر أحدا آخر ؟
فأجاب رجل أشقر بعد أن ألقي نظرة على الحاضرين :
- لا الجميع موجودون هنا .
أشارت فالا مقتربة من اطاولة الصغيرة المغلّفة بغطاء مزيّن بحاشية زخرفيّة صنعته الرفيّات بأنفسهنّ : إذن ، يمكننا أن نبدأ .
و قدّمت إعلاما مقتضبا حول الوضعيّة السياسيّة الداخليّة و أعطت توجيهات تخصّ النشاط المستقبليّ و عيّنت مراسلا يهتمّ بمسك العلاقة مع روساي و مدّتهم بعددين من الرابوتنيتشاسكي فيستنيك و سمعوا فجأة دقّات عنيفة على الباب فرغع الجميع رؤوسهم و أعلمهم الشاب الذى كان يراقب المنزل وهو مصفرّ الوجه يلهث بأنّ البوليس طوّق القرية و قد بدأت التفتيشات في الجانب الآخر منها و سيصل البوليس إلى المنزل عن قريب إذ تسرّبت إشاعات تفيد بأنّ بعض المناضلين وصلوا من روساي و قلق الجميع و أحرقوا الجرائد مباشرة و طلب تونشو من الحاضرين أن يحافظوا على الهدوء و قال صاحب البيت وهو رجل ذكيّ صلب :
- لا أحد يحاول الهروب يجب خوض المعركة .
و إقترح آخرون التشتّت حتّى لا يكتشف البوليس أناسا مجتمعين . و بعد أن فكّرت فالا لبضع دقائق صرّحت بأنّه لا مجال لخوض المعركة و من الصعب أيضا التشتّت دون إثارة إنتباه البوليس فلماذا لا نوهمهم بأنّ جميع الحاضرين موجودون هنا للإحتفال بزواج ؟ يجب حالا قطف أزهار الثلج و إحضار الطاولة أيضا و العثور على مزمار إن أمكن . و لم يكن هناك وقت لإضاعته و بدأت التحضيرات مباشرة و ذهب الشاب الأشقر لدعوة عمّه القاطن قرب المكان و أتى به و معه مزماره و شرع الجميع في الغناء و تناول الطعام كما لو نّهم في عرس حقيقيّ و أخذت صاحبة المزل تفتّش في عصبيّة في خزانتها عن فستان عرسها . و لبست فالا بسرعة الفستان و أصبحت عروسا و في هذه الأثناء جلب الرجال من القبو الخمر و المشروبات و فخذ خروف و وضعت في الحال المائدة و شرعو في تقديم الشراب و الطعام و لم يتأخّر رجال البوليس كثيرا و بعد أن دخلوا الساحة طرقوا الباب فإستقبلهم صاحب المنزل :
- حللتم أهلا و نزلتم سهلا ! إنّكم محظوظون ، إنّنا بصدد الأكل !
و تفحّص الرقيب الحاضرين بتعجّب و قال عند سماعه الموسيقى : إذا لم أخطئ فقد وقعنا في عرس . فأجابه صاحب المنزل بإبتسامة جذّابة :
- أي نعم لقد أصبت ! هيّا أدخلوا .
و لم ينتظر أعوان البوليس الدعوة مرّة أخرى و أخذوا لهم مكانا قلرب الموقد ليتدفّأوا و بالطبع قدّم لهم شراب و تجرّأ واحد منهم و وضع منديلا أبيض فوق كتف الرقيب مثلما هو معمول به في تقاليد العرس في قرى بلغاريا و بعد أن شرب أعوان البوليس و تدفّأوا بدؤوا في التذمر من " مهنة الكلاب " التي يشتغلون بها منتقدين رئيسهم أيضا و طلب أحد الأعوان من العازف قائلا :
- هيّا أعزف لي غنية عاطفيّة .
و عند تذكّره العاطفة وجّه نظرة إلى الحاضرين و قال :
- و لكن ما هذا العرس السخيف دون فتيات .
و فسّرت له فالا دون أن تفقد هدوءها بأنّها يتيمة تعيش في قرية أخرى و القليل النادر الذى بقي من أهلها هو صاحب المنزل الذى إجتمعوا فيه و من ذلك المكان ستذهب إلى قرية زوجها تونتشو لإتمام العرس . و أسرع شخص آخر لإلهاء عون البوليس عن أفكاره و قدّم له كأسا من المشروب فتأسّف العون لعدم تمكّنه من مصاحبتهم بسبب الشغل . و عندما غادر أعوان البوليس المكان أعدّ صاحب المنزل عربته و صعّد فيها فالا و تونتشو و مناضلين آخرين و إنتهى العرس في جوّ من الأغاني و لم يشكّ أحد في هذه الحيلة و أبطل بذلك الحصار المفروض .


محن جديدة

و جمعت فالا و تونتشو في قرية أخرى و كانا متنكّرين في هيئة فلاّحين مجموعات أخرى من المناضلين فجمعت فالا النساء و جمع تنتشو الرجال . و طوّق عونان من البوليس الباب الذى يفتح على الساحة فجأة فإرتبكت النسوة و لم يدرين ما يفعلن و قفزت فالا و أنزلت شالا صغيرا أسود معلّقا على الحائط و وضعته على رأسها و لبست منديلا قديما و أخذت مغزلا و جلست بجانب الموقد و أشارت على النسوة بالسكوت . و دخل عونا البوليس و سألا عمّا إذا كانت بينهنّ امرأة من روساي و بعد أن تفحذصا جيّدا في وجوههنّ جميعا دون إعارة إهتمام للجدّة القابعة في ركن المدفأة إنسحبا . و عندما غادرت فالا روساي في القطار في إحدى المرّات لاحظت في الوقت المناسب أنّ البوليس يراقب أوراق المسافرين فقفزت دون تردّد من القطار وهو يسير و إختفت في جنح الظلام و لم يقدر أعوان البوليس على إقتفاء أثرها و لم يفكّروا في حالة الذهول الذى شهدوه من إطلاق صفّارة الإنذار أيضا . و كانت زوجة خوليو أخماكوف أخىفالا مسافرة في نفس القطار و شاهدت أعوان البوليس مرتبكين لا ينطقون بكلمة ففرحت كثيرا عندما تمكّنت فالا من الإفلات منهم . و قد ذهبت فالا إلى الحمام اليلديّ في مناسبة أخرى في روساي فتعرّفت عليها إحدى زميلاتها و صاحت : ها أنت يا فالا ، مضت سنوات عديدة لم أرك فيها . و ردّت فالا شعرها على جبينها وهي تفركه و قالت بالألمانيّة دون إرتباك : أيش فرستاه نخت بلغاريش أي أنا لا أعرف اللغة البلغاريّة . فقالت زميلتها متوجّهة هذه المرّة إلى جارتها : يا إلهي كم تشبه هذه الألمانيّة إحدى زميلاتي . لا يمكننى أن أتصوّر أنّه من الممكن أن يتشابه البشر بهذه الصفة و لو أنّ الخطأ ممكن و كان لزما على فالا إجتياز غابة عند رجوعها من قرية كانت ذهبت إليها وحدها من أجل عقد اجتماع و لمّا كان الوقت متأخّرا طلبت فالا من بعض رفاقها إصطحابها فحدّق القرويّون في بعضهم متضايقين فقالت لهم دون تردّد :
- كنت أظنذ أنذ هناك رجالا . لقد اتيت باسم الثورة و أنتم تخافون من إجتياز الغابة ليلا " .
و غادرت المكان وحيدة و ذات يوم لاحظت فالا و كانت ذاهبة إلى لقاء سرّيّ . و على بعد عشرين خطوة ، لاحظت عون بوليس من شومان و تخوّفت من أن يعرفها و مع ذلك حافظت على برودة دمها فإذا حاولت الهروب خافت من إثارة إنتباه البوليس إليها . و كان من المستحيل أن ترجع إلى الوراء لأنّ الرجل كان يسير مباشرة للقائها و فكرت في وقت قصير في خطّة جيّدة فأخرجت بحركة سريعة من حقيبتها كبّة صوف و رمت بها خلفها و عكست إتّجاهها و إقتفت أثر الخيط و ضاعت على عون البوليس المرأة التي كانت تسير في نفس الإتّجاه و لم يعد يعرفها لأنّه لم يحدّق فيها جيّدا و إتبع حركتها بصفة عفويّة رغم ذلك . و حين وصلت إلى جانب الكبّة واصلت دفعها منتظرة وصول العون لتلتقطها و عندما لاحظت حذاءي البوليس وراءها على بعد خطوتين أو ثلاث رمت على الرصيف ورقة نقديّة بخمسين لافا فشاهد عون البوليس بعينيه الطمّاعتين ورقة النقد و لمّا لاحظ أنّ لا وجود بالقرب منه سوى امرأة مهتمّة بكبّة الصوف إنحنى بسرعة و وضع النقود في جيبه و غادر المكان بخطى سريعة . و عندما إبتعد جمعت فالا الصوف و سارت في الإتّجاه المعاكس . و في حين أعطت فالا التوجيهات الأخيرة لبعض المناضلات الشابات و وزّعت عليهنّ جرائد سرّية و أثناء اجتماع عند عند خيّاطة حيث يقلّ خطر إنتباه البوليس بفعل تدفّق الحرفاء ، سمع طرق على باب الغرفة المغلقة بالمفتاح . و طلب رجل الخيّاطة من الخارج قائلا :
- لماذا أغلقت الباب بالمفتاح ؟
أجابت المرأة في خوف :
- لحظة سأفتح حالا .
و خلعت فالا في لحظة بدلتها و لبست أخرى غير مكتملة وهي تشاهد نفسها في المرآة و لمّا دخل الرجل الغرفة ، لاحظ أنّ هناك من يقيس ثوبه و قال رغم ذلك :
- لماذا تقفلين الاب بالمفتاح ؟
فأجابته :
- لأنّ إيني قوشو أصبح كبيرا و لأنّه إعتاد دخول الغرفة دون طرق الباب فتخرج الحريفات .
و لم يشكّ الرجل في أنّ هناك سلوكا مريبا فقدّم إعتذاراته و غادر المكان و غادرت فالا المنزل أيضا بعد أن بادلت بعض الكلمات مع المناضلات . و علم البوليس بسبب الوشاية أنّ امرأة يفتّش عنها تسكن نفس المسكن الذى توجد فيه فالا فوضع عونا من أعوانه ليقوم بمهمّة مراقبة أوراق الداخلين إليه و عندما لاحظته فالا لم تعد قادرة على الرجوع إلى الوراء و كانت تحمل لحسن الحظّ حقيبة القابلة التي أعطتها إياها أمّها و كانت على علم بانّ امرأة حاملا تسكن نفس المنزل و تترقّب الوضع في أيّة لحظة فإقتربت فالا من الباب و طلبت بكلّ بساطة من العون إذا لم تخطئ في منزل المرأة التي تنتظر مولودا و عندما رأى عون البوليس حقيبة القابلة بيدها قال دون أن يشكّ في شيء :
- أسرعي خوفا من أن يأتي المولود دون مساعدتك .
و بعد نصف ساعة خرجت على مهل و طلب منها العون طبعا ماذا حدث فأجابته فالا :

- إذار خاطئ سننتظر على الأقلّ عشرة أيّام أخرى و لكن كلّ هؤلاء النسوة اللاتي لم يضعن أبدا مولودا سريعا ما يفكّرون لمجرّد ألم بسيط إنّهنّ سيلدن . لقد قطعت كلّ هذا الطريق مجّانا .
فقال لها عون البوليس وهو يودّعها و يتمنّى لها حظّا سعيدا :
- نعم هكذا دائما إنّ مهمّتك أيضا ليت سهلة .
و في يوم من الأيّام ، نظّمت فالا إجتماعا للنسوة و فجأة إقتحم البوليس ساحة المنزل و لكنّ الفتاة التي كانت تراقب تمكّنت من إنذارهنّ بالعلامة المتّفق عليها ، كانت الساحة فسيحة و قبل أن يصل البوليس إلى الغرفة التي إجتمعت فيها النسوة أخرجت فالا من حقيبتها اليدويّة بعض الأدوات اللازمة لصناعة الورود الإصطناعيّة و كذلك العديد من الباقات الصغيرة و قطع القماش بألوان متنوّعة و لمّا دخل الأعوان شاهدوا نسوة منكبّات على صنع الورود حتّى إنّ أحدهم طلب باقة لخطيبته فأعطته فالا بعض الخشاخيش ارائعة هديّة و بحث الرجل في جيبه عن نقود و لكنّها صرّحت لهفى لطف و بإبتسامة جذّابة بأنّ عون البوليس يستحقّ هديّة أحسن و أنّها تمنحه اليباقة من صميم قلبها و قدّم العون شكره مبتهجا و إنسحب مع الأعوان الآخرين متيقّنين أنّهم أخطأوا في في حقّ هؤلاء النسوة .
موت بطوليّ

و دخلت فالا مع تونشو روساي يوم 29 مارس 1925 بعد أن زارا بعض القرى المجاورة كان منزلهما الذى يسكنان فيه مغلقا فتوجّها إلى كالتشود وبراف صاحب حانة يعرفه تونتشو . لم يكن في الواقع تونشو يثق فيه كثيرا و لكن بما أنّ ليس لهما خيار آخر قرّرا قضاء الليلة عنده و كان منزل عائلة دوبراد يتكوّن من غرفتين و مطبخ يربطهما فمن الممكن الوصول لأيّة غرفة من خلال المطبخ دون اللجوء إلى الخروج إلى الساحة و كان المطبخ يطلّ على ساحة ضيّقة جدّا و نام كالتشو و زوجته في الغرفة الأولى و نام كالتشو و زوجته في الغرفة الأولى و نام تونشو مع إبن كلتشو في الغرفة الثانية في حين إستلقت في حين إستلقت فالا و الخادمة على حاشية فوق الأرض و أطفئ النور إلاّ مصباح بترول بقي يضيء قليلا فوق الطاولة . و مرّ شيء من الوقت و خرج كلتشو إلى الساحة متذرّعا بآلام في بطنه فإقتفى تونشو أثره مرتابا و إنتظره حتّى يعود لينام ثانية . و في تلك اللية خامرت كالتشو دوبراف فكرة جهنّميّة أي خيانة من ينام تحت سقفه و قبض 50 ألف لافا ثمن رأس فالا . إنّه يحبذ المال كثيرا و بعد أن تيقّن من أنّ فالا و تونتشو يغطّن في نوم عميق و كان الباب بين الغرفتين قد ترك مفتوحا ، خرج على الساعة الحادية عشر لإعلام أعوان الدوريّة بالمتآمرين الخطيرين الموجودين عنده . و تبع أحد أعوان الدوريّة كالتشو و بقي يترقّب تحت شجرة و ذهب عون آخر لطلب المدد في حين رجع كالتشو لينام و وجد العون الرقيب الذى ذهب ليأتي به جالسا على طاولة مع أربعة من أعوان البوليس ببدلهم الرسميّة و كان الرقيب في زي مدنيّ . و خرج كالتشو الذى ظهرت عليه علامات القلق لملاقة أعوان البوليس محذّرا إيّاهم من أنّ فالا و تونشو يحملان سلاحا . و تقرّر أن يبقي عون يترصّدهما في الساحة الصغيرة لمنع كلّ محاولة للإفلات من تلك الناحية أمّا الآخرون فبعد أن خلعوا أحذيتهم لكي لا يحدثوا ضجيجا دخوا وسط المنزل امحاولة القبض على فالا و تونشو و دخل الأعوان على أطراف أصابعهم مارّين اوّلا من الغرفة التي توجد فيها زوجة كالتشو فإستيقظت و عندما رأت أعوان البوليس مسلّحين أطلقت صيحة حادة أزعجت الطفل في الغرفة المجاورة . و إستيقظت فالا و تونتشو اللذان كانا شبه نائمين و غرقت غرفة كلتشو في الظلام و لم الأعوان يرون شيئا في حين بقيت غرفة فالا و تنتشو مضاءة بحيث يمكن لأعوان البوليس تتّبع تحرذكاتهما و إرتمى تونتشو فوق السرير و أراد أن يأخذ المسدذس الموجود تحت الوسادة و صاح أعوان البوليس خوفا من أن يطلق عليهم تونتشو النار :
- تونتشو سلّم نفسك .
و أطلقوا النار دون ترقّب الجواب و أصيبت تونتشو إصابة قتلة في رأسه و تهاوى على ألرض و أطلقت فالا النار على المصباح و غلرقت بذلك الغرفتان في ظلام حالك . و هرب أعوان البوليس إلى الساحة من شدذة الخوف و كانت زوجة كالتشو تصيح إبني ، إبني . و تمكّنت فالا من الوصول إلى الباب و أغلقته بالمفتاح و لكن عوض أن تستغلّ فرصة إضطراب و إرتباك أوان البوليس لتهرب ، إهتمّت بنجدة رفيقها فهمهم تونشو الذى كان جسمه مكسوّا بالدم وهو يئنّ قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة :
- فالا لقد خُدعنا سموت ، ستنتصر قضيّتنا .
ما زالت لفالا إمكانيّة الهروب من الشبكة المنصوبة و لكنّ إحساس الأمومة سيطر عليها فأرادت إنقاذ إبن كالتشو الذى لا يتجاوز سنّه خمسة عشر عاما و الخادمة الصغيرة و كانا موجودين في الغرفة و إتّخذت من جسمها درعا لهما و دفعتهما نحو الباب و صاحت بصوت عال :
- لا تطلقوا النار حتّى يخرج الطفلان .
ثمذ أصبح الطفلان في مأمن أمّا فالا فقد أعادت غلق الباب مقرّة العزم على النضال حتّى النهية . و صاح أعوان البوليس بعد أن إستعادوا السيطرة على أنفسهم :
- سلّمي نفسك لا يمكن لك الإفلات منّا .
فأجابته فالا :
- لن تمسكوا بي على قيد الحياة ايذها الأنذال .
و إبتدأ تبادل طلق النار و جاء من الثكنات القريبة عدد يعدّ مائتي جنديّ و كانت نيران البنادق تنزل على البيت من كلّ ناحية و صعد أحد الجندرمة فوق السقف لإطلاق النار و كانت فالا تقاوم لوحدها ضد مائتي جنديّ و ستّة أعوان بوليس بالزيّ و عون مدنيّ و تواصل تبادل طلق النار لمدّة ثلاث ساعات و نصف . أرادقائد الجنود وهو في حالى هيجان إلقاء قنبلة على المنزل و لكنّ صاحب المنزل أقنعه بالعدول عن فكرته خوفا من الخسائر التي ستنجرّ عن ذلك . و حاولت فالا عند الفجر مغادرة المنزل مرورا بالمطبخ و الساحة و لكن كان يوجد من يترصّدها و لمّا شاه خيالا أطلق النار ثلاث مرّات فسقطت فالا قتيلة على الفور و تهاوت و المسدّس بيدها وهي مستعدّة لإطلاق النار بالرغم من أّها ماتت و لم يتجرّأ أعوان البوليس علىأفقتراب منها عندما لاحظوا يدها ماسكة بالمسدّس . و حملت جثتا فالا و تانتشو في الصباح فوق عربة تابعة لمصلحة التطهير و نقلتا إلى المستشفى للتشريح . و علمت روساي يوم 30 مارس بالفاجعة فقد قتلت فالا بسكوفا و نونتشو غالتشانوف فإنقبض صدر جميع النزهاء في المصانع و الورشات و البيوت . و ذهب البوليس في الصباح الباكر إلى أمّ فالا و قد تبعتهم نادا أخماكوف مصحوبة بإبنتها مارا إلى المستشفى و أظهرت المرأة العجوز شجاعة نادرة فلم تكن تريد أن تُظهر حُزنها للجلاّدين و بعد أن تأكذدت من أنّ الضحيّة هي إبنتها فالا ، إقترح البوليس على نادا أخماكوف حمل جثمان إبنتها و دفنها فأجابتهم الأمّ في شدّة و عزم :
- ليدفنها الذين قتلوها .
و قد حلّلت أنّها إذا نظّمت هي جنازتها فإنّ العديد من رفاقها يحضرون و تكون بالتالي فرصة للبوليس للقبض عليهم أو القضاء عليهم بالرشّشا مثلما حدث أخيرا . كان قلبها كامّ مجروحا إلى درجة أنّها لا تريد أن تتألّم أمّهات أخريات مثلها . و دفن البوليس فالا في اليوم الموالي فحضرت أمّها و أختها و بعض العاملات مراسم الدفن و منذ لك اليوم لم تتّف كل سنة أيد خفيّة عن موعد 29 مارس لتضع الورود على قبرها و بعد ذلك مرضت نادا أخماكوف و أثناء إحتضارها كانت تكرّر دون إنقطاع :
- فالا ، إبنتي ، سامحيني . إنّني أمّ سيّئة ، لم أستطع إنقاذك ، تركتك بن مخالبهم . و علم بانيو بسكوف بموت زوجته وهو في السجن فقال و الأم يعصف به :
- لن ألتقي بفالا أدبا مرّة أخرى .
و أطرد كامان من المدرسة بوصفه إبن أخطر متآمرة و لكنّ لرفاق فالا لم يفرّطوا في الطفل و وصل كامان إلى الإتّحاد السوفياتي متعلّلا بالذهاب إلى فيانا لدراسة الموسيقى و تخرّج مهندسا و في سبتمبر 1944 رجع إلى أرض الوطن بعد الإنتصار الشعبيّ . أمّا الإبن الثاني لفالا فانكو فقد بقي عند عمّه الذى إهتمّ به و لكنّ المرض عصف به بعد ذلك . و بعد قيام السلطة الشعبيّة يوم 9 سبتمبر 1944، نقلت بقايا رفات فالا بسكوفا إلى ضريح المناضلين الذين ماتوا من أجل حرّية شعب بروساي و قد نُقش إسمها على نصب تذكاريّ عظيم شُيّد لأبطال الوطن .
و اليوم فإنّ الشعب الذى لا يتسى الجميل يمكنه بكلّ حرّية تقديم عبارات الإجلال تكريما للبطلة فالا بسكوفا . / .
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
الهوامش :
1- العاصمة القديمة لبلغاريا .
2- الحزب الإشتراكي الديمقراطي البلغاري ( إشتراكي يساري ) هو الحزب الماركسي في بلغاريا تأسّس سنة 1891 من قبل ديمتري بلاغوف و تسمية ( إشتراكي يساري ) وقع إعتمادها سنة 1903 بعد أن أطرد الحزب العناصر الإنتهازيّة الذين وقعت تسميتهم منذ ذلك الوقت بإشتراكيي اليسار .
3- لسان حال الحزب الإشتراكي الديمقراطي البلغاري .
4- جورج ديمتروف ( 1882-1949) أحد القادة البارزين في الحركة النقابيّة و في الحزب الشيوعي اليلغاري حتّى الإنتفاضة لمعادية للفاشيّة . و في سبتمبر 1923 ، أصبح قائد الشعب البلغاري في نضاله ضد الفاشيّة و الإضطهاد الإمبريالي من أجل الديمقراطيّة و الإشتراكيّة . مناضل لامع في الحركة العمّاليّة العالميّة ، كان سكرتيرا عاما لسنوات طويلة في الكومنترن ( الأمميّة الشيوعيّة ) ، و مناضلا من الرعيل الأوّل ضد الفاشيّة في العالم و بعد الإنتصار الشعبيذ في 9 سبتمبر 1944 و الإعلان عن جمهوريّة بلغاريا الشعبيّة ، أصبح رئيسا لمجلس الوزراء .
5- ديمتري بلاغوف ( 1856-1924 ) مؤسّس حزب العمال الإشتراكي الديمقراطي البلغاري – الحزب الشيوعي البلغاري لاحقا – كان أوّل من روّج تعاليم الإشتراكيّة في بلغاريا .
6- تزولا دلااغويتشافا : مناضلة لامعة في الحزب الشيوعي البلغاري و مكافحة ضد الفاشيّة . الآن عضوة في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي البلغاري .
7- لافا : 5 قروش .
8- الرسالة المفتوحة هي التوصية المبعوثة من قبل جورج ديمتروف و قاسيل كولاروف للعمّال و الفلاّحين البلغار بعد هزيمة الإنتفاضة الشعبيّة المعادية للفاشيّة في سبتمبر 1923 . و كانت تعتبر الإنتفاضة منعرجا حاسما في تطوّر الحزب الشيوعي البلغاريّ و إستخلصت النتائج المتعلّقة بالنضالات في المستقبل و إعادة تحديد الإستراتيجيا و التكتيك .
9- بويان بلغارانوف : مناضل لامع في لحزب الشيوعي البلغاري و مكافح ضد الفاشيذة ، الآن عضو المكتب السياسي للجنة المركزيّة لحزب و سكرتير اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي البلغاريّ .
ترجمة
آذار – مارس 1988
----------------------------------------------------------------------------------------------------------



#شادي_الشماوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة ، الثورة ، التحرير !
- اليوم العالمي للمرأة سنة 2023 : لنطلق غضب النساء كقوّة جبّار ...
- عاش 8 مارس – اليوم العالميّ للمرأة ! لنقاتل من اجل ثورة تحرّ ...
- كولمبيا : إغتصاب بنات السكّان الأصليّين في غوافياري و الثقاف ...
- النساء تتمرّد ضد إجباريّة الحجاب ، العفن الأكثر مركزيّة التي ...
- تمرّد النساء في إيران صوت تمرّد نساء العالم !
- في الذكرى 44 للثورة الإيرانيّة لسنة 1979 : لا للجمهوريّة الإ ...
- دور إمبرياليّي الولايات المتّحدة و أوروبا في إنشاء جمهوريّة ...
- الزلزال بتركيا و سوريا يُغرق الملايين من البشر في المزيد من ...
- تصعيد النظام الإسرائيليّ العنصريّ المسعور للإرهاب ضد الفلسطي ...
- - مشروع - عنوانه رضا بهلوي ! : صناعة بديل إمبريالي مقابل الإ ...
- مقدّمة الكتاب 44 : متابعات عالميّة و عربيّة – نظرة شيوعيّة ث ...
- الشاه و القائد الأعلى : يشتركان في 12 شيئا رجعيّا
- نقاش مستقبل إيران : الشاه – مجدّد حداثيّ مستنير أم جزّار فاش ...
- مقدّمة الكتاب 43 : الحزب الشيوعي الثوريّ – مقتطفات من أقوال ...
- لا يمكن إلحاق الهزيمة بالثورة الديمقراطيّة الشعبيّة الفليبين ...
- الرأسماليّة – الإمبرياليّة و تهديد السمك في البحار و المحيطا ...
- الحقيقة الفعليّة بشأن ماو تسى تونغ و كسى جينبينغ ، الديمقراط ...
- نحو حركة طلاّبيّة ثوريّة
- إستفيقوا : كفّوا عن التعويل على الانتخابات – إنهضوا و قاتلوا ...


المزيد.....




- قول في الثقافة والمثقف
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 550
- بيان اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- نظرة مختلفة للشيوعية: حديث مع الخبير الاقتصادي الياباني سايت ...
- هكذا علقت الفصائل الفلسطينية في لبنان على مهاجمة إيران إسرائ ...
- طريق الشعب.. تحديات جمة.. والحل بالتخلي عن المحاصصة
- عز الدين أباسيدي// معركة الفلاحين -منطقة صفرو-الواثة: انقلاب ...
- النيجر: آلاف المتظاهرين يخرجون إلى شوارع نيامي للمطالبة برحي ...
- تيسير خالد : قرية المغير شاهد على وحشية وبربرية ميليشيات بن ...
- على طريقة البوعزيزي.. وفاة شاب تونسي في القيروان


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شادي الشماوي - فالا بسكوفا ( قصّة بطلة شيوعيّة ثوريّة من بلغاريا )