أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - الممثل















المزيد.....

الممثل


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 7515 - 2023 / 2 / 7 - 13:44
المحور: الادب والفن
    


الآن تنفست ارتياحا، فقد وقعت على مقعد شاغر، لا العيون تتحسّر عليه ولا الأفئدة تشتهيه .. أنا آخر من صعد إلى الحافلة، وهو آخر المقاعد المجدولة لاحتضان المسافرين .. الساعة تشير إلى الخامسة مساء، أي قبل موعد الانطلاق بنصف ساعة .. الوقت مازال طويلا، وجسدي بدأ يتحسّس التعب ويعتريه التخدير .. ولكن ذلك، عندي، أفضل وأريح من البقاء واقفا طيلة السفرة .. أنا أهوى النظر من النافذة، لا لغرض الفرجة والتمتّع برؤية الصبايا وهنّ يملن إلى حدّ السقوط من فرط الضحك يداعبن من وقف لتوديعهن قبل امتطاء الحافلة، فهذا لا يثير فيّ أيّ استهواء، بل على العكس يبعث فيّ شعورا بالمرارة، و يزيدني تمسّكا بموقفي منهن .. تنطلق الحافلة فتتعمّد إحداهن فقدان التوازن وتسقط عليك لتشفق عليها. وبكلّ نبل وبكلّ روائح الرجولة تطلب منها أن تمدّك حقيبتها لتحملها عنها أو أيّ شيء آخر يمكن أن يعطّل يديها عن التمسّك بأعمدة الكراسي أو يسبّب ضررا لك وللجالسين أمامك فتعتذر مدّعية أنّها لا تريد أن تثقل عليك .. ولا تلحّ أنت وتصمت هي منتظرة فرصة جديدة تترجرج فيها الحافلة مرّة أخرى لتعيد المشهد بطريقة أبلغ في التأثير والتوصيل ..
- «أختي، الحافلة كانت فارغة عندما وصلت إلى هنا، كان بإمكانك أن تضعي يدك على مقعد ما فتنجين من هذا الوضع المزري التي أنت عليه الآن.»
تنظر إليك معاتبة وتجيبك كتائهة وقع التغرير بها:
- «لم أكن أعرف أن هذه هي الحافلة المخصّصة لسفرتنا .. لقد بحثت عنها منذ وصولي حتى إنني لم أكد أعثر عليها .. كان من واجب الشركة أن ترفع لافتة ترشدنا فلا نضيع الساعات الطوال في البحث والتنقيب ..»
وتمضي في تبرير يصل إلى أبعد من الوزارات وما فيها، ومن رؤساء المهمات وأحوالهم .. وهي لا تعلم أنّك مررت حذوها عندما رفعت رجلك لتلج باب الحافلة وكنت قد شاهدتها تحادث زميلها على مقربة من مكانك الذي أنت فيه الآن خارج الحافلة .. لم تكن تفكّر في الأماكن آنذاك وحدك الذي يشعر بأهمّية ذلك، فتخرج قبل موعدك لتحجز لك بقعة تاركا أحلى مقابلة في البرنامج .. يغيض بصرك و تتمنّى من كل قلبك أن تحتضن الشاشة و الملاعب نوادي ايطاليا و كؤوس العالم في ساعة تكون أنت فيها متوجها إلى محطة الحافلات فلا تسقط في دوّامة الدفع والركل .. تضيق بوجودك في هذه البقعة بالذات، وتضيق بارتطام حقيبة يدها على رأسك فتقوم وتترك لها مقعدك، فتشعر هي بالراحة وتبقى أنت متصلّبا كالعمود لكي لا تقع .. لهذه الأسباب كلّها كان موقفي واضحا وحضاريا، أن لا أفرّط في مقعدي لأيّ كان .. و لأنّ وجهي يتلوّن عندما تجانبني الفتيات الواقفات فيحمرّ ويصفرّ التهابا من الحياء، ولأنّني رهيف الإحساس لا أحتمل رؤية الجنس الآخر وهو يتلوّى منحنيا ويتمطّط منتصبا عند مرور شخص ما، فقد كنت أتّخذ من الأماكن أقربها إلى النافذة وأبعدها عن الممشى حتّى أتجنّب الأحاسيس المتدفّقة بالأوجاع بعد هجري لمكاني، فأتصنّع مراقبة الطبيعة والحركة في الخارج، ولم أكن أفكّر أبدا في الالتفات إلى اليمين إذا كنت على يسار الحافلة أو إلى الشمال إذا كنت على يمينها، وإذا ما صادف أن كان الظلام مخيّما فإنّي عندئذ أفتح صحيفة جئت بها للغرض نفسه، فأجهد نفسي في تصفّح فقراتها المضيئة، أو أسقط رأسي على مسند الكرسي متناوما، وكنت كثيرا ما أنجو بهذه الطريقة ...
والآن، قد وقعت على المقعد الوحيد الشاغر .. على يميني جلس شاب يطالع مجلة أجنبية، اختلس إليّ النظر بطرفي عينيه ثمّ عاد إلى ما كان عليه، ربما ودّ لو كنت من الجنس الآخر فيختزل الطريق .. أمامي التقت الرؤوس مقترنة في مناجاة محمومة غير مكشوفة لي بالمرّة .. أمّا بجانبي الأيسر فقد استوت فتاة على مقعدها باسترخاء، تقلّب الوجوه المقبلة نحونا وكأنّها تنتظر قدوم أحد ما .. كنت قد انتهيت من تسوية متاعي بين مفاصل رجليّ، بعد أن أخرجت منها صحيفة قديمة ثمّ أغرقت عينيّ فيها دون حراك ..
- «سيّدي ...»
آه! من المرسى بدأنا نجدّف، أوّل الغيث قطر، و ها هو المقعد لم يسخن بعد .. تجاهلت النداء، وكأنّني لم أسمع شيئا، ولم أشأ أن أرفع رأسي عن الصحيفة، قد تعدل في النهاية أو يتنازل لها أحد الجالسين غيري عن مكانه .. الذنب ليس ذنبي، فلماذا تحمّل الحافلة أكثر من طاقة استيعابها؟ و لا أظنّها قد حجزته سلفا قبل مجيئي ...
- «سيّدي ...»
لم يعد هناك أيّ داع للتصامم أكثر فالعيون قد أحدقت بي، و ضعيف السمع قد وصله الصوت فانتبه .. يجب أن أواجه الموقف، وعليّ أن أحافظ على مكسبي .. رفعت بصري إلى أعلى فإذا به شاب في الخامسة والعشرين أو ما يعادلها زمنا، حليق الذقن، شاحب الوجه، يرتدي ثوبا ينمّ عن رفعة الذوق وسلامة الحسّ، أمارات التعب تبدو من خلال حشرجة ألفاظه...
- «سيّدي، منذ ساعات فقط، غادرت المستشفى وأنا أريد العودة إلى البيت في الريف .. سيّدي، كم أنا محرج... ماذا سأقول ..»
انزحت من مقعدي بسرعة ومددت يدي لأجذب المتاع تحتي ..
- «لا تقل شيئا، إنّي أشعر بآلام الناس وأفرّق بين المستحِقّ و المستحَقّ وأنت أولى وأحقّ بالجلوس منّي .. سأتخلّى لك عنه فورا .. أنت مريض، شفاك الله، تفضّل .. اقعد.. بل انتظر لحظة .. ها أنّي قد أكملت تحضيره .. المقعد جاهز الآن .. اقعد واسترح .. لا تستح مني يا رجل، تفضّل .. أنت مريض كلّنا سنصاب بالمرض...»
وضع يده على كتفي يعدلني عن النهوض، ثمّ بهمسة خفيفة يعلمني بمبتغاه:
- «عفوا سيّدي، لا ينبغي أن أحلّ مكانك، وليس هذا ما أردته، إنّ أهلي، سيّدي، يقطنون بعيدا عن العاصمة وقد خرجت من المستشفى دون علمهم لذلك فهم لن يأتوا إلي اليوم ليعودوني .. وأنا لا أملك ثمن تذكرة العودة .. آه! سيّدي، أنت تعلم أن الحاجة تدفع إلى انزاف ماء الوجه، وأنا محرج جدّا ومجبر على العودة، فهل تتكرّم عليّ، سيّدي، بما استطعت، وأنا لن أنسى فضلك هذا ما حييت..»
الحياة مصائب ومن يدري فقد يصيبني مثل ما أصابه وأكثر، ولن ألقى من المعونة إلاّ ما أنفقت يداي .. تركت الشاب يعيد على مرافقي حكايته وبحثت بأصابعي في جيبي عن شيء ذي قيمة أدفع به مكروها وأداري به بليّة .. كان مرافقي قد ابتسم بهدوء، تفرّس في وجهه ودقّق في ملامحه...
- «ألم تعد بعد إلى بيتك؟»
قال ذلك مرافقي دون أن يتحمّس مثلي لمساعدته .. ظننت أنّه قد أسهم بعطائه من قبل وهو يستغرب شحّ الناس وبخلهم حتّى إن المرء ليعجز عن جمع ثمن تذكرة لا تتجاوز الدينارين .. ازددت إيمانا بفعلي هذا، و عزمت أن أقدّم له ثمن التذكرة بأكملها .. لكنّ مرافقي شدّ على معصمي و هو يقول بصوت سمعه جميع من في الحافلة:
- «وفر عليك مالك ، إنّما هو متحايل طرق مهنته الجديدة حديثا ومسرحه هذه المحطة بالذات.»
تيبست في مكاني أنظر إليه وهو ينسحب، يمدّ يده من راكب إلى راكب وكأنّه لم يسمع شيئا مما قاله الرجل ...



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يا جابر الحال
- خنساء لمحمد عز الدّين الجّميل، رواية أوجاع الذاكرة
- الزحف
- فصول نحوية
- لا توجد في البيت امرأة
- حوار مع أيقونة القصّة التونسيّة نافلة ذهب
- سَرَقَةُ الدّم
- سترة أبيكم
- البحث عن الحياة المثلى في رواية أحمد طايل، -متتالية حياة-
- الفَتَاةُ الإِنْسُوبُ *
- حوار مع الناصر التومي حول إصداره الجديد «الخسوف»:
- أم دارب
- حوار أدبي مع الأديب رضوان الكوني
- أبدا لست أهذي
- حوار مع المؤرّخ أ. د عبد الجليل التميمي
- الأبراج
- الغموض في شعر فتحي ساسي النثرية، من خلال ديوانيه: -كنت أعلّق ...
- يا أنت
- حيـــن يخضّـــر الإسفلت
- حوار مع الأديب أحمد ممّو:


المزيد.....




- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
- التضحية بالمريض والمعالج لأجل الحبكة.. كيف خذلت السينما الطب ...
- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - الممثل