أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - سترة أبيكم















المزيد.....

سترة أبيكم


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 7465 - 2022 / 12 / 17 - 22:10
المحور: الادب والفن
    


مُنْذُ سَبْعَة عَشَرَ عَامًا، شَهِدْتُ إِنْسَانًا يُغَادِرُ بَيْتَهُ فِي قَلْبِ اللَّيْلِ، أَسْرَعَتْ إِلَيْهِ سَحَابَةٌ مِنْ رِجَالٍ تُمْطِرُ غَضَبًا، هَبَطَتْ عَجْلَى دَاخِلَ الحَوْشِ، سَحَبَتْهُ عُنْوَةً مِنْ فِرَاشِهِ وَطَارَتْ بِهِ سَائِرَةً نَحْوَ الظُّلْمَةِ.
كَانَ شَابًّا، أَحْلَامُهُ تَحْتَ ثَوْبِهِ، وَأَفْكَارُهُ لَمْ تَنْضُجْ فِي رَأْسِهِ، كَانَ يَطْرَحُ الأَسْئِلَةَ الحَائِرَةَ...
غَادَرَ بَيْتَهُ بِلَا مَتَاعٍ، سَاطِعًا فِي الشُّحُوبِ.
عِنْدَمَا حَمَلَتْهُ الغَيْمَةُ المنْتَفِخَةُ بِالأَهْوَالِ وَسَارَتْ بِهِ إِلَى خَارِجِ الدَّارِ، ارْتَجَفَ مِنَ الْبَرْدِ وَالخَوْفِ، فَجَذَبْتُ سُتْرَتَهُ المعَلَّقَةَ عَلَى الشَّمَّاعَةِ، قُرْبِي، وَجَرَيْتُ كَالمجْنُونَةِ خَلْفَهُ... غَيْرَ أَنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الطَّائِرِ وَالسَّائِرِ كَالفَرْقِ بَيْنَ المتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ.
هَا هِيَ صُورَتُهُ الآنَ تَقِفُ فِي مُخَيِّلَتِي، جَسَدُهُ النَّحِيلُ تَلَفَّعَ بِأَطْفَالِهِ، يُعَانِقُهُمْ... يَدُسُّ أَنْفَهُ فِي آبَاطِهِمْ وَرِقَابِهِمْ مُحْدِثًا بِفَمِهِ صَرِيرًا مُنْكَرًا... يُشِيحُ بِوَجْهِهِ عَنْهُمْ وَبِرَاحَةِ يَدِهِ يُطَيِّرُ رَائِحَةً مَزْعُومَةً، يُوهِمُهُمْ أَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنْهُمْ، فَيَتَلَوُّونَ فِي أَحْضَانِهِ مِنَ الضَّحِكِ وَالدُّمُوعُ تَمْلَأُ أَعْيُنَهُمْ.
- مَنْ مِنْكُمْ مَصْدَرُ هَذِهِ الرَّائِحَةِ الكَرِيهَةِ؟ أَنْتَ أُسَامَهْ؟
يُشِيرُ أُسَامَهْ بِرَأْسِهِ نَافِيًا عَنْهُ التُّهْمَةَ، فَيَرْمُقُ حُسَامْ بِنِصْفِ الْتِفَاتَةٍ.
- أَنْتَ حُسَامْ؟
فَيَتَرَاقَصُ جِذْعُ حُسَامْ الطَّرِيِّ وَيَتَهَاوَى عَلَى كَتِفِهِ غَاصًّا بِرِيقِهِ.
- إِذاً، أَنْتِ سَلْمَى... قَرِّبِي وَجْهَكِ لِأَتَأَكَّدَ.
تَمُدُّ سَلْمَى عُنُقَهَا صَوْبَهُ فَلَا يَعَافُ أَنْفَاسَهَا، يَتَنَزَّهُ فِي تَضَارِيسِ رَقَبَتِهَا كَمَا تَتَنَزَّهُ البَانْدَا فِي أَرْضٍ مَلِيئَةٍ بِنَبَاتِ البَامْبُو... بِرِفْقٍ وَلِيُونَةٍ يَتَشَمَّمُهَا ثُمَّ يَعْمُدُ فَجْأَةً، بِصُورَةٍ خَاطِفَةٍ، إِلَى غَرْزِ أَنْفِهِ فِي ثَنَايَا رَقَبَتِهَا وَيَبْدَأُ فِي دَغْدَغَتِهَا وَإِصْدَارِ الضَّرِيطِ المصْطَنَعِ، فَتُحَوِّطُ رَأْسَهُ بِذِرَاعَيْهَا وَتَنْكَمِشُ عَلَى نَفْسِهَا وَتَتَقَلَّصُ حَتَّى تَغُوصُ فِيهِ وَتَصِيرُ قِنَاعًا يُغَطِّي صَفْحَةَ وَجْهِهِ وَهْيَ تَضْحَكُ وَتَصْرُخُ فِي شِبْهِ عُوَاءٍ.
كُنْتُ أُرَاقِبُهُمْ... أَسْتَرِقُ إِلَيْهِمْ نَظَرَاتٍ خَاطِفَةً... وَبَدَلَ أَنْ أُلْقِيَ بِنَفْسِي بَيْنَ يَدَيْهِ طِفْلَةً يُلَاعِبُنِي كَمَا يُلَاعِبُهُمْ، شَرِبْتُ ابْتِسَامَتِي سَرِيعًا وَقُلْتُ مُحَذِّرَةً:
- انْتَبِهْ! سَتَقْصِمُ ظَهْرَ البِنْتِ.
وَكَمَنْ أُصِيبَ بِحَبَّاتِ بَرَدٍ طَشَّتْهَا السَّمَاءُ، أَبْعَدَ الأَطْفَالَ عَنْ حِجْرِهِ وَالْتَفَّ حَوْلَ نَفْسِهِ صَامِتًا، جَاهَدَ بَعْضَ الْوَقْتِ لِلْحُصُولِ عَلَى القَلِيلِ مِنَ الهَوَاءِ ثُمَّ رَدَّ بِمَرَارَةٍ:
- لَا حَاجَةَ لِلذُّعْرِ... ظَهْرُهَا مَقْصُومٌ مُنْذُ وِلَادَتِهَا.
اعْتَدْتُ أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ يُطْلِقُهَا لَاهِبَةً عِنْدَمَا تُؤَكِّدُ المصَادِرُ المطَّلِعَةُ مُشَارَكَةَ أَحَدِ المسْؤُولِينَ فِي قِمَّةٍ غَرْبِيَّةٍ... يَقُولُ سَاخِطًا إِنَّهُ ذَهَبَ لِيَتَسَوَّلَ أَوْ يَرْهَنَ... وَيَلْعَنُ عَقْلَهُ السَّخِيفَ الَّذِي يَتَصَوَّرُ أَنَّ قَادَةَ الدُّوَلِ الكُبْرَى سَيَعْقِدُونَ مَعَهُ "شَرَاكَةً دَائِمَةً."
صُورَةُ الْبَلَدِ المرْهُونِ وَالدَّيْنِ الثَّقِيلِ الَّذِي سَتَتَحَمَّلُهُ الأَجْيَالُ القَادِمَةُ طَارَتْ مِنْ مِرْآتِهِ لِتَنْعَكِسَ فِي مِرْآتِي وَتَعْلَقَ فِي مُؤَخِّرَةِ جُمْجُمَتِي وَتَخْتَلِطَ بِارْتِيَابِي وَخَوْفِي المتَنَامِيَيْنِ فَأَتُمْتِمُ رَاجِيَةً:
- رَبِيّ يَعْطِيهِمْ الوَقْتَ الطَيِّبَ.
وَشَاعَ خَبَرُ سُخْطِهِ وَعِنَادِهِ، عَرَفُوا مَا أَسَرَّ وَأَعْلَنَ، فَأَتَتْ غَيْمَةُ الرِّجَالِ لِتَأْخُذَهُ مِنْ غُرْفَتِهِ المظْلِمَةِ، وَتُحِيلُهُ إِلَى العَدَمِ... انْتَزَعَتْهُ لَيْلًا مِنْ مَرْقَدِهِ وَتَرَكَتْ لِي سُتْرَتَهُ مُعَلَّقَةً عَلَى الشَّمَّاعَةِ، أَسْفَرَتْ عَنْهَا الإِضَاءَةُ الضَّعِيفَةُ المنْبَعِثَةُ مِنَ البَابِ المخْلُوعِ، وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَلْحَقَ بِهِ لِأَضَعَهَا عَلَى كَتِفَيْهِ العَارِيَتَيْنِ أَصُدُّ بِهَا البُرُودَةَ الَّتِي تَخْتَرِقُ عِظَامَهُ، فَعُدْتُ إِلَى البَيْتِ أُجَفِّفُ الْفَوْضَى التِي خَلَّفَتْهَا نَتْرَتِي الخَاطِفَةُ.
رَفَعْتُ عَلَّاقَةَ الملَابِسِ المسْتَلْقِيَةَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ وَنَفَضْتُ عَنْهَا التُّرَابَ الَّذِي عَلِقَ بِهَا، ثُمَّ أَلْبَسْتُهَا السُّتْرَةَ وَوَقَفْتُ أَمَامَهَا مُتَأَمِّلَةً، تَطَلَّعْتُ فِيهَا لِلَحَظَاتٍ فَلَاحَتْ لِي مِثْلَ فَزَّاعَةِ الطُّيُورِ مَقْطُوعَةِ الرَّأَسِ لَا تَعْرِفُ كَيْفَ تُفْرِدُ ذِرَاعَيْهَا.
لَمْ تَفْزَعْنِي الْبَتَّةَ، شَعُرْتُ أَنَّهُ يَقِفُ قُرْبَ فِرَاشِي مَلَكًا حَارِسًا فَارَقَ رَأْسَهُ لِيَسْتَريحَ مِنْ شَقْوَةِ المعْرِفَةِ وَالتَّفْكِيرِ، فَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ لِأَرَاهُ خَيَالًا يُفْرِدُ لِي ذِرَاعَيْهِ وَيَغْمِسَ جَسَدِي فِيهِ فَأَدْفُنُ رَأْسِي فِي السُّتْرَةِ مُتَظَاهِرَةً بِشَدِّ أَزْرَارِهَا عَلَيْهِ.
كُنْتُ قَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ رَأْسِهِ المقْصُوصِ مَاذَا فَعَلَتِ الغَيْمَةُ بِهِ وَعَنْ أَفْكَارِهِ أَيْنَ دَفَنُوهَا، وَلَكِنَّنَي فَتَحْتُ عَيْنَيَّ قَبْلَ الأَوَانِ فَلَمْ أَعْثُرْ لَهُ عَلَى لِسَانٍ يُجِيبُنِي بِهِ، فَأَوْلَيْتُهُ ظَهْرِي وَاتَّجَهْتُ إِلَى السَّرِيرِ أَنْدَسُّ فِيهِ وَأَتَكَوَّرُ.
وَفِي الصَّبَاحِ نَزَعْتُ عَنِّي مَلَابِسَ النِّسَاءِ وَارْتَدَيْتُ مَلَابِسَ الرِّجَالِ، وَبَدَأْتُ أَضْرِبُ فِي الأَرْضِ وَأَسْتَجْدِى الأَهْلَ لِكَيْ أَمْلَأَ جُيُوبَ السُّتْرَةِ بِالمالِ.
لَقَدْ تَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ مُنْذُ ذَلِكَ الحِينِ، كُنْتُ أَعُودُ مُرْهَقَةً مَهْدُودَةً مِنْ رَكْضٍ مَجْنُونٍ بَحْثًا عَنِ السَّتْرِ وَاللُّقْمَةِ الحَلَالِ، وَقَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ لِجَلْبِ أَبْنَائِي مِنْ عِنْدِ أَهْلِي، أَتَوَجَّهُ، فِي غَفْلَةٍ مِنْهُ، إِلَى خَيَالِهِ الثَّابِتِ القَابِعِ فِي مَكَانِهِ المعْتَادِ قُرْبَ السَّرِيرِ بِسُتْرَةِ عُرْسِنَا فَأَدُسُّ فِي جُيُوبِهِ مَا سَيَكُونُ طُعْمًا لِأَوْلَادِهِ لِكَيْ يَحْتَفِظُوا بِصُورَتِهِ نَاصِعَةً نَقِيَّةً بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَبِقَصْدِيَّةٍ مُتَعَمِّدَةً، وَنِيَّةٍ مُبَيَّتَةٍ، أُطْلِقُ أَيْدِيَهِمْ الصَّغِيرَةَ فِي جُيُوبِهِ يُفَتِّشُونَ فِيهَا عَنْ ثَمَنِ خُبْزٍ يَمْلَأُ سَلَّتَهُمُ الْفَارِغَةَ.
نَظَّمْتُ حُضُورَهُ بِمَعْرِفَتِي وَرَبَطْتُ عَلَاقَتَهُ بِرَنِينٍ يُنْعِشُ ذَاكِرَتَهُمْ، وَضَعْتَهُ لِصْقَ مَشَاكِلِهِمْ لِلتَّدْلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مَازَالَ فِي جِلْسَتِهِ الْقَدِيمَةِ يَقُومُ بِدَوْرِهِ فِي تَغْطِيَةِ حَاجَاتِهِمُ الطَّارِئَةِ.
إِيهْ يَا نَوَّارَةَ العَيْنِ... “مَازِلْتْ صَايِنَهْ وِدَّكْ... وَمَازِلْتْ طَامِعَهْ فِي الزَّمَانْ يُرُدِّكْ... مَازِلْتْ نَا هِي نَا... حَتَّى إِنْ كَانْ شِيبِي عَلَى السَّوَادْ طَغَى” (*)
رُغْمَ غَيْبَتِهِ الطَّوِيلَةِ، وَلَوْنِ شَعْرِهِ الَّذِي تَغَيَّرَ، فَهْوَ لَا يَزَالُ حَيًّا... وَقَرِيبًا، يَا أَبْنَائِي، سَيَعُودُ... سَتَرَوْنَهُ يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ غُرْفَتَكُمْ هَذِهِ شَمْسًا مُطْفَأَةً، يَمُدُّ إِلَيْكُمْ رَاحَتَيْ يَدَيْهِ الْمُرْتَجِفَتَيْنِ لِيَحْتَوِيَكُمْ، فَاتْرُكُوهُ يَقْتَرِبُ مِنْكُمْ لِيَسْتَعِيدَ تَوَهُّجَهُ وَيُعَدِّلَ مِيزَانَ أَيَّامِهِ، بِقَلْبِهِ سَيَعْرِفُكُمْ، فَلَا تَتْرُكُوا أَعْيُنَكُمْ تَتَرَبَّصُ بِهِ، لَا تُحَاوِلُوا أَنْ تُرْهِقُوهُ حَتَّى يُطْفِئَ حَنِينَهُ وَلَهَبَ حِرْمَانِهِ.
هُنَا، فِي هَذِهِ الغُرْفَةِ الْمُتَوَاضِعَةِ، الشَّحِيحَةِ مِنْ كُلِّ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ كُنْتُ وَإِيَّاهُ نَنْعُمُ بِزَرْعِ الحَيَاةِ فِي ثَلَاثَتِكُمْ... مُنْذُ البِدَايَةِ تَقَاسَمْنَا الأَدْوَارَ... أَنَا أَكُونُ لَهُ سَكَنًا، وَأَجْتَهِدُ فِي العِنَايَةِ بِكُمْ، وَهُوَ يَضْرِبُ فِي الأَرْضِ لِيُطْعِمَنَا. وَبَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَجَدْتُ نَفْسِي وَحِيدَةً، مَسْؤُولَةً عَنْ ثَلَاثَتِكُمْ وَرَابِعٍ فِي غَيَاهِبِ الظُّلْمَةِ، فَحَاوَلْتُ التَّرْكِيزَ عَلَى تَرْبِيَتِكُمْ وَالعَيْشَ لَكُمْ.
قَرِيبًا، سَيَطْرُقُ عَلَيْنَا صَاحِبُ السُّتْرَة الدَّارَ، فَهَلَّا قُمْتِ يَا سَلْمَى بِتَنْظِيمِ الغُرْفَةِ؟ اِفْرِشِي "كلِيمَ الكِتَّانِ"، وَأَعِيدِي تَعْلِيقَ تِلْكَ اللَّوْحَةِ، لَا بُدَّ أَنَّ الجِيرَ قَدْ جَفَّ الآنَ... اِلْمِسْهُ يَا أَسَامَهْ بِسَبَّابَتِكَ وَقَرِّبْ إِصْبِعَكَ مِنْ عَيْنِي... أَجَلْ، هَلْ تَرَى؟ لَقَدِ اِمْتَصَّ الحَائِطُ السَّائِلَ كُلَّهُ. طَلْيَةٌ وَرَاءَ طَلْيَةٍ وَلَا يَزَالُ اللَّوْنُ نَفْسَهُ كَأَنَّنَا لَمْ نَغْسِلْهُ بِهَذِهِ الكَمِّيَّةِ الكَبِيرَةِ مِنَ الدُّهْنِ. لَيْسَ بِإِمْكَانِ فُتَاتٍ مِنَ الحَجَرِ الجِيرِي أَنْ يُزِيلَ تَرَاكُمَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ الطَّبَقَاتِ القَذِرَةِ، فَنَحْنُ لَمْ نَدْهُنْهُ مُنْذُ أَنْ جِئْنَا بِكُمْ إِلَى الحَيَاةِ... وَرُبَّمَا كَانَتْ كَمِّيَّةُ الْمَاءِ الَّتِي أَضَفْنَاهَا أَكْثَرَ مِنَ اللُّزُومِ... نَأْمَلُ أَنْ يُعْطِي الجِيرَ غَدًا مَفْعُولَهُ حِينَ يَدْهَمُ عَلَيْنَا الجِيرَانُ مُهَنِّئِينَ... اللَّيْلَةَ لَنْ يَلْحَظَ أَبُوكُمُ الفَرْقَ... يَجِبُ أَنْ لَا تُزْعِجَهُ هَذِهِ الجَوَانِبِ الصَّغِيرَةِ... اِضْغَطْ يَا أُسَامَهْ عَلَى زِرِّ النُّورِ بِالقُرْبِ مِنْكَ لِلتَّأَكُّدِ... لَيْسَ سَيِّئًا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أَبَدًا لَنْ يَلْحَظَ الفَرْقَ... لَا، لَا تُطْفِئْهُ... اُتْرُكْهُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَلَّ الظَّلَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي اِنْتُزِعَ فِيهَا وَالِدُكُمْ مِنْ بَيْتِهِ، وَدُونَ أَنْ أُرَطِّبَ حَلْقِي اليَابِسَ، أَلْقَيْتُ بِنَفْسِي عَلَى السَّرِيرِ فِي مُحَاوَلَةٍ لِلتَّمَاسُكِ وَتَجْمِيعِ أَفْكَارِي. شَدَّتْنِي الخَيَالَاتُ وَالكَوَابِيسُ الْمُرْعِبَةُ بِكَمَّاشَةٍ فَظِيعَةٍ جَعَلَتْ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ عَلَيَّ مُتَابَعَةُ تَجَلُّدِي، فَدَخَلْتُ غُرْفَتَكُمْ، يَا أَطْفَالِي، وَسَحَبْتُ سَلْمَى مِنْهَا... حَمَلْتُهَا بَيْنَ ذِرَاعَيَّ وَمَدَّدْتُهَا فِي الْمَكَانِ الشَّاغِرِ فِي فِرَاشِي وَأَنَا أَتَضَوَّرُ حُرْقَةً وَأَلَمًا. هَلْ تَذْكُرِينَ ذَلِكَ يَا سَلْمَى؟ لَا! .. بِالتَّأْكِيدِ لَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ فِي ذَاكِرَتِكِ... فَقَدْ كُنْتِ وَقْتَهَا صَغِيرَةً، خَفِيفَةً مِثَلَ الرِّيشَةِ... وَكُنْتِ تَغُطِّينَ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ.
حِينَ نَظَرْتُ إِلَى وَجْهِكَ الْمَلَائِكِيِّ أَتَمَلَّى الْهُدُوءَ فِي قَسَمَاتِهِ تَسَارَعَتْ دَقَّاتُ قَلْبِي وَتَزَايَدَ خَفَقَانُهُ وَأَحْسَسْتُ كَأَنَّ الْهَوَاءَ حَجَرٌ يَمْلَأُ رِئَتَيَّ، فَأَجْهَشْتُ بِالبُكَاءِ. خُيِّلَ إِلَيَّ لَحْظَتَهَا أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ يَدْخُلُ تَجَاوِيفَ لَيْلٍ مُظْلِمٍ، وَبَدَأَتِ الشَّدَائِدَ تَدْنُو مِنْكَ لِتَشْفُطَ سَكِينَتَكَ وَأَنَا عَاجِزَةٌ تُقَطِّعُ الْمِحْنَةُ قَلْبِي وَيَهُزُّ الأَلَمُ جَسَدًا رُوحُهُ مَعَ ذَاكَ الْمَقْبُورِ خَلْفَ جُدُرَانٍ حَجَرِيَّةٍ.
آهٍ، يَا أَبْنَائِي، قَرِيبًا يَعُودُ الغَائِبُ مِنْ غَيْبَتِهِ، فَأَعِدِّي، يَا سَلْمَى، سَرِيرَ أَخَوَيْكِ هُنَاكَ حَيْثُ تَقِفِينَ، وَتَهَيَّئِي لِلْمَبِيتِ فِي الغُرْفَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمَا، سَتَنَامِينَ مِنَ اليَوْمِ وَحْدَكِ مُرْتَاحَةَ البَالِ، وَلَنْ تَضْطَرِّي إِلَى التَّقَلُّبِ هَرَبًا مِنْ أَنْفَاسِي.
أُوهْ، يَا عَزِيزَتِي، لَا تَتَجَهَّمِي هَكَذَا وَتَتَسَاقَطُ دُمُوعُكِ كَأَنَّكِ طِفْلَةٌ. هَذِهِ أَيَّامُ فَرَحٍ، بُنَيَّتِي، وَأَنَا لَا أَطْرُدُكِ. تَعْلَمِينَ كَمْ أَنْتِ قَرِيبَةٌ مِنْ قَلْبِي فَلَا تُصَعِّبِي الأَمْرَ عَلَيَّ وَتُعَقِّدِيهِ. إِنَّهُ وَضْعٌ جَدِيدٌ جَاءَ لِيُصَحِّحَ وَضْعًا خَاطِئًا كُنَّا فِيهِ... وَالحَمْدُ لِلَّه الَّذِي مَدَّ فِي أَنْفَاسِي لِكَيْ أَعِيشَ لَحْظَةَ الْمُجَابَهَةِ... اِنْثَالَتْ عَلَى مَسَامِعِي الْحِكَايَاتُ تَنَاقَلَتْهَا الأَلْسُنُ فِي هَذَيَانٍ مَرِحٍ بَعْدَ سَنَوَاتِ صَمْتٍ قَاتِلَةٍ وَ"نِهَايَةِ ثَقَافَةِ الاِحْتِجَاجِ"... إِثْرَ فِرَارِ "رَجُلِ الأَقْدَارِ"، قِيلَ إِنَّهُ سَيَعُودُ... صَدَرَ فِي شَأْنِهِ مَرْسُومُ عَفْوٍ وَرَدِّ اِعْتِبَارٍ، فَامْنَحِيهِ، بِمَحَبَّةٍ، مَكَانَكِ عَلَى سَرِيرِي وَلَا تَتْرُكِي قَلْبَكِ يَعْمُرُهُ السُّوءُ... تَنَازَلِي لَهُ طَوْعًا عَنْ مِلْكِيَّةِ النَّوْمِ بِجَانِبِي، وَأَشْعُرِينِي بِأَنَّكِ اِبْنَتِي نَوَّارَةُ عَيْنِي الْمُهَذَّبَةُ الَّتِي لَا يُشْبِهُهَا أَحَدٌ.
أَسْمَعُ مَعْزُوفَةَ أَقْدَامٍ تَقْتَرِبُ بِإِيقَاعَاتٍ مُتَشَنِّجَةٍ، فَأَشْعُرُ بِالتَّوَتُّرِ وَالاِنْقِبَاضِ. أَهِيَ مُوسِيقَى عَفَارِيتِ الغَيْمَةِ قَدْ عَادَتْ لِتَنْفُخَ فِي هَيْكَلِ الفَزَّاعَةِ رُوحًا تُحَرِّكُهُ عَلَى سَرِيرِي أَمْ هُوَ السَّجِينُ الْمُدَانُ بِتُهْمَةِ الوَعْيِ قَدْ عَادَ بِغَيْمَةِ الرِّجَالِ لِتُلْبِسَهُ سُتْرَتَهُ الَّتِي خَلَّفَهَا؟
____________
* مِنَ التُّرَاثِ اللِّيبِي بِتَصَرُّفٍ.



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب الفلسطيني نهاد ابو غوش حول تداعايات العمليات العسكرية الاسرائيلية في غزة وموقف اليسار، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتب الفلسطيني ناجح شاهين حول ارهاب الدولة الاسرائيلية والاوضاع في غزة قبل وبعد 7 اكتوبر، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن الحياة المثلى في رواية أحمد طايل، -متتالية حياة-
- الفَتَاةُ الإِنْسُوبُ *
- حوار مع الناصر التومي حول إصداره الجديد «الخسوف»:
- أم دارب
- حوار أدبي مع الأديب رضوان الكوني
- أبدا لست أهذي
- حوار مع المؤرّخ أ. د عبد الجليل التميمي
- الأبراج
- الغموض في شعر فتحي ساسي النثرية، من خلال ديوانيه: -كنت أعلّق ...
- يا أنت
- حيـــن يخضّـــر الإسفلت
- حوار مع الأديب أحمد ممّو:
- غرف في الجنة .. غرف في النار
- يوم تبدّلت الْأرض
- الشَّــرِكَـــــة
- جذور القصة القصيرة بين صدى الاقتداء ورجع التراث.
- الحلاّج يموت مرّتين (*)
- وللمهمّشين نصيبهم من الحياة
- تعدّد الأصوات في رواية -آخر الموريسيكيات- لخديجة التومي (*)
- معاني الغربة في النسيج السردي لأبي بكر العيّادي (*)


المزيد.....




- هُنـــا .. لينك ورابط موقع ايجى بست لمتابعة الأفلام والمسلسل ...
- ذاكرة المكان والمعنى.. قراءة تاريخية اجتماعية لفلسطين في مكت ...
- فيلم روسي للرسوم المتحركة يدرج على القائمة الطويلة لجائزة -أ ...
- صدرت حديثا رواية -أصدقاء في عالم الفضاء- للروائي مصطفى عطية ...
- عدسة عبد الله الخان توثق تاريخ الإمارات
- رئيس إذاعات وتليفزيونات التعاون الإسلامي يستقبل مستشار وزيرة ...
- دينزل واشنطن يهزم روما في ملحمة سينمائية جديدة
- الجيش الروسي يتسلم دفعة جديدة من دبابات -تي – 90 إم- المطورة ...
- نصرة لفلسطين.. هذه الدول ترفض الرواية الإسرائيلية +فيديو
- شاهد.. مهرجان -كرامة لأفلام حقوق الإنسان- في الأردن بعدسة ا ...


المزيد.....

- سعيد وزبيدة . رواية / محمود شاهين
- عد إلينا، لترى ما نحن عليه، يا عريس الشهداء... / محمد الحنفي
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد / الحسين سليم حسن
- الدكتور ياسر جابر الجمَّال ضمن مؤلف نقدي عن الكتاب الكبير ال ... / ياسر جابر الجمَّال وآخرون
- رواية للفتيان ايتانا الصعود إلى سماء آنو ... / طلال حسن عبد الرحمن
- زمن التعب المزمن / ياسين الغماري
- الساعاتي "صانع الزمن" / ياسين الغماري
- الكاتب الروائى والمسرحى السيد حافظ في عيون كتاب ونقاد وأدباء ... / السيد حافظ
- مسرحية - زوجة الاب - / رياض ممدوح جمال
- الكاتب الروائى والمسرحى السيد حافظ في عيون كتاب ونقاد وأ ... / مجموعة مؤلفين عن أعمال السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - سترة أبيكم