أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - الحلاّج يموت مرّتين (*)















المزيد.....

الحلاّج يموت مرّتين (*)


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 7389 - 2022 / 10 / 2 - 20:33
المحور: الادب والفن
    


كـن مـــــع الحــــقّ بحكم مـــا أوجــب"

الحـــلاّج

من هناك، قرب نفق الأرتال، على يمين الأكواخ القصديرية، ولج الحلاّج المدينة. شيء ما تبدّل فيها.. شيء ما قد حدث فيها.. العيون الناعسة الحزينة دمعت من زهوها.. الأجفان المرتبكة الثقيلة تخفّفت من ثقلها.. الوجوه السمراء الكالحة فقدت تعاستها.. حتى الشوارع غيّرت أسماءها القديمة، ولم تعد الأرض هي الأرض ولا المدينة هي المدينة.
تأمّل الحلاّج أمامه في صمت، أطفالا يلهون بطيارة ورقيّة، يتحدّون بها جنون الرياح.. يشدّها أحدهم إليه بخيط يطلقه وبحركة سريعة معاكسة يجذبه ساخرا.. البقية حاموا حولها، يرجمونها بالحجارة وهي على عشرة أمتار.. في إحدى معاكساته تقطّع الخيط أو أفلت من يد الطفل فابتهج الصبية وصاحوا في حماسة:
- "سقط المتوحّشون في الساحة!!"
وجروا مردّدين شعارهم في صخب وفوضى، بينما تابع الحلاّج بانتباه شديد سقوط الطيّارة.. ثم وهي تُطوى تحت عجلات السيارات..
شوارع المدينة تغطّت بالطائرات الكرتونية المحطّمة، وأبصار الناس تعلّقت برسوم الأطفال المضحكة التي كانت تلوح وتختفي من خلال الفضاءات المتروكة بين العربات يفكّون رموزها، ثم ينطلقون مبتسمين.. لقد أصبحت لديهم المقدرة على النظر بجرأة إلى الأبواب والجدران.. لاحظ الحلاّج مع ذلك أثر الرسوم عن الحيطان، فتمتم يحدّث نفسه : " انفجرت الأرض أخيرا، وتمرّدت بالفعل. ذهبت الظلمة التي كانت تعمر هامات الشيوخ جفاء.. تبدّدت بوحي الصغار.. وبأمر الرب يزول هكذا: الشرير إن لم يترك طريقه، ورجل الإثم إن لم يترك أفكاره"
ثم بسط يده في الهواء وشخص ببصره في الفراغ وكأنّه يتابع نقطة مجهولة تضمحلّ في العدم..
الساحة التي يقف أمامها الحلاّج واسعة وجميلة، مقارنة بما يوجد في الجهة الشرقية، حيث أن الفواصل بين ثنايا المترجّلين معشّبة، تتخلّلها مسطّحات حديدية مخفية بعناية تُستعمل للريّ. بينما تُسقى أحواض الزهور الدائرية والأعشاب التي في وسط الساحة مباشرة من النافورة بطريقة الطرد، على شكل زنبقة متفتّحة. وحين تشبع التربة تتغيّر الطريقة فيرتفع عمود الماء إلى أعلى ويتساقط وسط الحوض الصغير.. خلف النافورة، مباشرة، ضريح من الاسمنت المسلح ولافتة رخامية كُتب عليها باللون الأخضر: - الطفل الرمز – وفوقها بخطّ كوفيّ جميل: "ظهورنا حمى ودماؤنا حرام فلم تُقتّلوننا؟".. ويمكن للحلاّج أن يرى من مكانه رجال الشرطة وهم يحاولون منع جمهرة من المارّة من الالتفاف حول مخرج تلفزي يقوم بتصوير مناظر من الساحة، للذاكرة طبعا. وشباك الذاكرة المرئية لا تحمل إلا الهوامش.. على طرف الضريح يتّكئ شيخ يبدو عليه الارتباك.. عيناه تدوران في محجريهما. وحينما تثبت عدسة الكاميرا على وجهه يحني رأسه.. في تلك اللحظة، تشقّ ذاكرة الحلاّج صفوف طويلة من الدلاء والعنت الشديد.. رجال البوليس بهراوتهم البيضاء ونعالهم المحشوّة بالغضب والجنون يحملون الناس على الاصطفاف في طابور..
أواني على الرؤوس، عطش يلهب الأفئدة وبكاء.
أنابيب الماء مسدودة، بأمر، على كافة الأهالي وللحصول على جرعة ماء لابدّ من الهدايا.. وقد تكفي الصفعة والشتيمة للمحظوظين من الذين لا يملكون أن يقدّموا شيئا.. كان الحلاّج يقف، آنذاك، بعيدا وعنقه قد تخدّرت من شدّة التوتّر.. في حين تسقط امرأة حامل من الإعياء فينخرم النظام.. تندفع أذرع متطوّعة لإعادة ضبطه بالطرق التي تناسب الوضع..
أواني على الرؤوس، عطش يلهب الأفئدة وبكاء.
يمرّ رجل قد أثقل كتفه جسد طفل.. من الصعب على الحلاّج جمع صورتهما في ذهنه، ولكن وجه الرجل قطعا لا يختلف كثيرا عمّا هو عليه الآن.. شفاه الطفل ابيضّت من الظمأ. يتمتم برجاء: "ماء!، ماء!" والرجل يقفز هنا وهناك، يحاول افتكاك الماء عنوة فتصدّه الهراوات.. قرب فورة الماء يكبو وكأنه يتنصّت على دقّات قلبه.. يمرّر راحة يده على ظهر الطفل وهو يصيح ويبكي:
- "لا تمت يا بني، أريدك أن تشاهد الجبال وهي تفور أنهارا.. امكث معي، يا بني، ولا تفارقني حتى نشاهد الجبال معا وهي تفور أنهارا !"
أواني على الرؤوس، عطش يلهب الأفئدة وبكاء.
تدمع الأعين.. تتشنّج الأعصاب في السرّ ولا أحد يقدر على فعل شيء.. أنت، أيها الحلاّج، من يسكّن المرتجّ ويُسوّي المعوجّ، فقم إلى المدينة فأحييها.. تدفعه نفسه، فينطلق الحلاّج صوب الرجل.. يزيح يده ويحمل جثّة الصغير.. بارد كالثّلج، يميل على الناس، يتفرس في وجوههم.. ملعونة هذه الرائحة.. ملعونة الأرض التي حملتهم.. يلتفت وبخطى متعثّرة يتجه نحو ضابط البوليس، فتتسابق إليه الأرجل تحجبه عنه.. يصرخ فيهم قائلا:
- "ظهورنا حمى ودماؤنا حرام فلم تُقتّلوننا؟"
تلوح شبه ابتسامة ساخرة وتختفي من على شفتي الضابط. وباستهزاء يجيب:
- "معذرة إلى أسيادنا. ولعلّكم عن ركوب رؤوسكم تعدلون"
قال الحلاّج:
- "إنكم بذلك ترتكبون آثاما"
فقهقه الضابط كالمسعور حتى بانت ثنيته وردّد بصوت مرتفع:
- "وستكبر معك آثامنا.. ستكبر معك آثامنا"
ثمّ أشار بيده النظيفة إلى رجاله فسحبوه من رجله على الوحل وراحوا يضربونه ويبصقون في وجهه حتى غشي عليه.. في المساء، كان الحلاّج قد اختفى تماما وكأن السماء قد رفعته إليها..
الشمس تميل نحو الغروب وظلال الأطفال بدأت تزحف نحوهم أكثر.. خيال الطيارة الجديدة في أعماق السماء ارتسم على بدن الشيخ وكتفيه فانعكست على سطح الأرض صورة مختلة لأشكال هندسية متداخلة تشبه في جملتها لافتة مرور.. تنتقل العدسة بين اللوحة الرخامية على الضريح ووجه الشيخ المشحون بالانفعالات، وقد لمعت عيناه وتضوّع الصدق من بين شفتيه:
"زمن رديء، كنّا فيه صغارا وهم جبابرة يملكون الماء والسطل.. صنبور في نفس هذا المكان، يشرفون عليه بأنفسهم، ويجدون متعة في إذلالنا.. كنّا نحوم حولهم، نتساقط كقطرات العرق في وحلهم وعذرنا في ذلك أن المدينة يبس، محترقة وأنابيبها جافة تفيض عطشا.. كنت قد نصحت زوجتي بورق الشجر.. أسري في الشوارع لأحمل لها منها ما يكفي لصنع عصير يُذهب العطش عنّا رغم مرارته.. جافة هي الأرض مورقة هي الشجرة، وهذا ما جعلني لا أقنط أبدا..
ذات ليلة، تسللت لأقطف من الأشجار أوراقها.. انحدرت من شارع إلى شارع متنقلا من شجرة إلى شجرة، بحثا في الفروع والأغصان، فلم أعثر على شيء.. أيعقل أن تتعرّى الأشجار هكذا دون أن ننتبه إليها؟ أيمكن أن يحلّ الخريف في يوم وليلة؟ إنه أمر لا يكاد يُصدّق.. احترت في أمري، والأمل يغرّر بي حتى كلّت رجلي فعدت أدراجي، تخامرني أفكار شتى.. حينما أخبرت زوجتي بما أسفر عنه تجوالي لطمت وجهها ولعنت الخيانة ثم بقيت مدّة من الزمن ساهمة تعضّ على شفتيها وتتمتم بحديث فهمته فيما بعد.. لم ألمها على ما فعلت، فنحن لا نستطيع أن نكتم سرّا عن جيراننا خاصة إذا تعلّق الأمر بحفظ كرامتهم.. غير أنّ ابني صغير لا يعرف للتكافل معنى ولا يستطيع التصبّر مثلنا.. فقد أزعجني بصراخه الدائم، وبكائه الطويل: "أبي.. أمّي.. ماء"
من أين لنا الماء وأنابيب المدينة جافة تفيض عطشا، وأشجار المدينة جرداء موحشة. نم، يا بنيّ، فغدا ستفور الجبال أنهارا. ستحبل المدينة غدا ولن يلتهم أهلها أعشابها.. أحدّث نفسي وأنسحب تاركا زوجتي تحتضنه.. تدسّ حلمة ثديها في فمه فيتقيّأها.. تقرّبها إليه ثانية فيدفعها بيديه مناشدا الماء"
يتوقف الشيخ عن الحديث.. يلصق أظافره في مفرق شعره، ويروح يكزّ على أسنانه، يحاول أن يخنق عبرة بدأت تلمع فوق خدّه.. في الأثناء، يتقدّم الحلاّج مقتربا من القبر وقد بلّل رذاذ الماء جانبا منه محدّثا وقعا موسيقيا متناغما مع دافع السؤال: لقد وجدت الماء أخيرا فهل تراك ارتويت. يقترب الحلاّج أكثر ليعلم. فيتجه إليه شرطي يمنعه من التحرّك نحو المساحة المحظورة.. ببطء يصرف الحلاّج وجهه بعيدا، إلى هناك.. بعيدا عن هنا وينصرف.. بينما تابع الشيخ حديثه وقد ازداد الناس التصاقا به إلى حدّ الاختناق:
- "زمن رديء كنّا فيه" (**)
______
(*) نوقشت هذه القصة في اتّحاد الكتاب سنة 1989 ونشرت بمجلة قصص سنة 1991 العدد المزدوج 91/92 . ونشرت في المجموعة القصصية الأولى للكاتب "تحت نفس العنوان".
(**) قال صاحب الحلاج : " رأيت الحلاج، بعد هذه الحادثة في حديقة بالمدينة، تحت شجرة كبيرة، يتابع سلوك القوم وأحاديثهم. وقد أخبرت رفاقي فادعوا أني أتوهم ما لا يمكن أن يحدث. فالحلاج قد قتل من زمان. وحين أكدت لهم صحة ما رأيت واثبت لهم بالدليل صدق ما رويت، راحوا ينظرون في وجهي مستغربين .. ثم قال لي احدهم على لسانهم جميعا .. " نحن نريده ميتا، لن تفيدنا حياته الآن .. " وتفرقوا من حولي!".



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وللمهمّشين نصيبهم من الحياة
- تعدّد الأصوات في رواية -آخر الموريسيكيات- لخديجة التومي (*)
- معاني الغربة في النسيج السردي لأبي بكر العيّادي (*)
- زهرة ماي (Mayflower)
- الأساليب الفنية في نصوص عبد القادر الطويهري السردية(*)


المزيد.....




- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - الحلاّج يموت مرّتين (*)