أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - لا توجد في البيت امرأة














المزيد.....

لا توجد في البيت امرأة


فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)


الحوار المتمدن-العدد: 7475 - 2022 / 12 / 27 - 14:19
المحور: الادب والفن
    


كان الزمان رضيعا عندما تنفّسها القدر، ومارست أمّها مع الأيّام لعبة الخفاء والتجلّي فاختفت من حياتها، واختفت من حياتي... كنت أوسّدها ذراعي وأوشوش في أذنها حتّى تنام وفي الصباح أنسلّ إلى عريشها وأندسّ بجانبها متناوما لأوهمها أنّي ما فارقتها طوال الليل، وإذا رأيت منها اعوجاجا وابتعادا عن الجادة أتصنّع القسوة، وأزورّ عنها، فتجهش بالبكاء، لكنّ قلبي يحنو عليها فأرفعها من خصرها إلى أن تتدلّى أطرافها، ويصير وجهها فوق مستوى عنقي، أنزلها قليلا، ثمّ أنحني عليها بهامتي، أغرز ذقني في حنايا صدرها، أدغدغها، فتنفجر ضاحكة وبقايا الدموع في عينيها... أدفع بها بعيدا، أتأمّلها برهة ثمّ أجذبها إليّ مع استدارة خفيفة بنصفي الأعلى وكأنّني أحميها من خطر يتعقّبها، فتطوّق عنقي بيديها، وتدفن وجهها بين خدّي وكتفي مقهقهة بأعلى صوتها، حتّى تسعل... كنت أمازحها إلى أن تملّ وتتعب... أطوّف بها الحوانيت وجنان الأطفال... هذه كجّة، هذه قاطرة، هذه سفينة بلا أشرعة، صنع جيّد، نقي بنيّتي ما شئت من اللُعب والعبي فسوف تملّينها يوما ما... وكانت تبذل جهدا لتلفت نظري إليها... تقلّدني في كلّ شيء أقوم به، طريقة نومي، كيفية تصنّعي للغضب، حركاتي وسكناتي، ابتسامتي الخبيثة... وكنت أخشى عليها نتيجة تصرّفها هذا... أربت على خدّها مبتسما وأقول لها:
- «عيب يا صغيرتي لا تتهكّمي من أبيك، البنات الطيّبات لا يفعلن ذلك...»
فتعقد ما بين حاجبيها تشبّها بي، تنصب قامتها، وتنفخ صدرها حتّى تلائمها شخصيتي، تحرّك شفتيها فينساب منهما صوت يشبه صوتي يردّد ما قلته كالصدى...
وفي ذلك اليوم الذي اشتدّ فيه عودها، وطافت الأنظار من حولها، تطوّقها العيون من كلّ جانب، كنّا معا نجلس في مقهى حديقة البلفيدير، نمتّع نفسينا بجمال قلّ ما نراه في دهاليز المدنيّة المختلقة، ونسترق السمع لحديث المائدة المجاورة حين يجفّ الكلام بيننا وينطّ السكون بجانبنا... الجوّ منعش وجميل والمكان شاعريّ خلاّب، يأخذ بالقلوب فيأسرها في بوتقة التفكير المنطقي في الحرب والسلم إذا كانت «مسيّسة» في عالم الخوف، أو في الذوق والجمال إذا كانت مزكومة النفس... وربّما زادت على ذلك ودخلت أشياءها الصغيرة كما فعلت، فتطرّقت إلى التفكير في أمر هذا الدخيل الذي سيجعل حياتي محنة، ويملأ روحي أسى ووحدة... كانت قد حدّثتني عنه من قبل فوصفته لي وصف محبّ لمحبوبه... تخيّلته رجلا لا كالرجال... أفرغت ذهني في تمثيل صورته... كسوت وجهه بشارب ولحية خفيفة مستحبّة لدى الصبايا، ولم أهمل جانب الشخصية فيه، فأنا أريد لابنتي الوحيدة زوجا مسؤولا يسعدها... كنّا ننتظره في ذاك المكان، ونفسي تتفتّق منه شتّى العواطف... ماذا لو كنت قد ملت بوهمي إلى درجة قصوى في التصوّر؟ هل أوافق إذا ما خالفت الحقيقة لما رسمته في خيالي أم أنّني...؟ أبدا لا يمكنني أن أعبث باختيارات ابنتي... لن أتدخّل في خصوصيات حياتها... لقد عوّدتها على ذلك...
قاطع تفكيري صوت ابنتي وهي تشير إلى شاب مقبل نحونا قائلة:
- «انظر! لقد وصل يا أبي.»
فردّدت:
- «نعم، لقد وصل... أخيرا وصل.»
أخيرا التقينا فوقعت المعاينة... أخيرا، تأكّدت من الصورة، وتحقّق ظنّي ورضيت بالدخيل زوجا لابنتي، ورضيت بنفسي غريقا في قوالب الصمت والوحدة...
والآن، يأتيني وفي عينيه كتلة من شعاع غريب، يسوق زوجته أمامه حاسرة الرأس متخاذلة، يدفع بها إليّ وينصرف قائلا:
- «خذ عنّي شبهك، فقد زوّجتني رجلا لا يجيد فنّ الطبخ ولا الإغراء.»
تسع كلماته أذني... أصاب بالغثيان... تدور حولي معالم الأشياء... ألعاب الصبيان تتهمني، أنت المسؤول... الكجات و القاطرات ووسائل الترفيه تسخر منّي... الجدران والمقاهي وجنان الأطفال وعين الرضى تشير إليّ بأصابعها، تتهمني: أنت المسؤول... أصرخ في نفسي وفي كلّ شيء حولي:
- «لست مسؤولا عمّا حدث، لا توجد في البيت امرأة.»
ثمّ انكفئ على وجهي في بكاء صامت... أتذكّر عينيها فأقفز من مكاني وأحتضنها، أقبّل وجهها، عنقها، أسند رأسها على صدري، وأهمس في أذنها:
- «أي بنيّتي، لست مسؤولا عمّا حدث، إنّه القدر!»



#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)       Boukari_Fethi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع أيقونة القصّة التونسيّة نافلة ذهب
- سَرَقَةُ الدّم
- سترة أبيكم
- البحث عن الحياة المثلى في رواية أحمد طايل، -متتالية حياة-
- الفَتَاةُ الإِنْسُوبُ *
- حوار مع الناصر التومي حول إصداره الجديد «الخسوف»:
- أم دارب
- حوار أدبي مع الأديب رضوان الكوني
- أبدا لست أهذي
- حوار مع المؤرّخ أ. د عبد الجليل التميمي
- الأبراج
- الغموض في شعر فتحي ساسي النثرية، من خلال ديوانيه: -كنت أعلّق ...
- يا أنت
- حيـــن يخضّـــر الإسفلت
- حوار مع الأديب أحمد ممّو:
- غرف في الجنة .. غرف في النار
- يوم تبدّلت الْأرض
- الشَّــرِكَـــــة
- جذور القصة القصيرة بين صدى الاقتداء ورجع التراث.
- الحلاّج يموت مرّتين (*)


المزيد.....




- تكريم قناة RT العربية في السعودية (فيديو)
- -آخر عرض كان عام 1988-.. باليه -بحيرة البجع- في بانكوك من جد ...
- مش هتقدر تغمض عينيك .. تردد روتانا سينما الجديد Rotana Cinem ...
- ولو أجبت بغير السيف لم تُجب… تأريخ المعارك في الشعر العربي خ ...
- -لم يقل أحد أن عربا اختطفوا الطائرة-.. هجمات 11 سبتمبر ونظري ...
- مش هتقدر تغمض عينيك .. تردد روتانا سينما الجديد Rotana Cinem ...
- -بيت يطل على العالم- من مطافئ مقر الفنانين بالدوحة
- بيونسيه: توقفت عن التركيز على ما هو شائع.. والموسيقي تكفي
- -تعا لهون- .. هل تصبح كلمة العام في اللغة الشبابية بألمانيا؟ ...
- العرض الأول للأفلام .. تردد قناة روتانا سينما الجديد Rotana ...


المزيد.....

- ظروف استثنائية / عبد الباقي يوسف
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل ... / رانيا سحنون - بسمة زريق
- البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان ... / زوليخة بساعد - هاجر عبدي
- التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى / نسرين بوشناقة - آمنة خناش
- تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة / كاظم حسن سعيد
- خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي ... / أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
- آليات التجريب في رواية "لو لم أعشقها" عند السيد حافظ / الربيع سعدون - حسان بن الصيد
- رنين المعول رؤى نقدية لافاق متنوعة ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكو ... / طلال حسن عبد الرحمن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي البوكاري - لا توجد في البيت امرأة