أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - الأيام الشاحبة














المزيد.....

الأيام الشاحبة


محمد محضار
كاتب وأديب

(Mhammed Mahdar)


الحوار المتمدن-العدد: 7508 - 2023 / 1 / 31 - 23:24
المحور: الادب والفن
    


جَلَس منكسراً، المقهى شبه فارغ ،طلب قهوته سوداءَ قويّةً،اِحتساها دفعةً واحدة ثم شرب محتوى قارورة الماء المعدني بتوتر ظاهر، هناك أشياء كثيرة تجول بخاطره وتشج تفكيره، أشياء بعضها مضمرٌ وبعضها ظاهرٌ يُحسه ضاغطاً على أنفاسه، تراكمت أخطاء الماضي فلم يرحمه الحاضر ،وغدا مُفلسا يتسول كِسرة أمل تنقده من سَغب الأيام الشاحبة، سنوات العمر تنفلت منه دون شيء يذكر، روتين قاتل عاش بين أحضانه زمنا طويلا يمارس لعبة الاختباء والمراوغة،
ويُحدث نَفْسه "بِمجد" شَخْصِي قادم وانبعاث أسْطوري يضعه بين العظماء.
جال ببصره في فضاء المقهى الكآبة تجثم على المكان ،والتلفاز يقدم أخبار الحرب الروسية الأوكرانية ،مشهد عَبثي يُرسم على الشاشة وخراب ورائحة بارود وعفن يكاد يشمها، ممتزجة بذخان سيجارة سيدة أربعينية كانت تجلس بالقرب منه،كانت تسحب في كل مرة نفسا عميقا من سيجارتها وتنفث دخانها بانتشاء واِستمتاع وهي تبحلق حولها وتتابع دوائر الدخان المتصاعدة، ألقى عليها نظرة خاطفة ،تَبدو محترمة ،ولباسها أنيق ،قد تكون أطارا كبيرا في إحدى الإدارات المجاورة للمقهى ،وربما كانت صاحبة مكتب للمحاسبة أو أيّ شيء أخر ،راودته فكرة تدخين سيجارة كما كان يفعل منذ سنوات خلت ،رفع يده مشيرا للنادل وكان كهلا قد اِبْيَضَّ شَعر رأسه، لكنه عندما دنا منه غَيَّر رأيه وأحجم عن طلب السيجارة ،وقال مبتسما:" عَصير ليمونٍ بارد من فضلك ".
قدم له النادل العصير، رشف رشفة صغيرة،ثم نظر من جديد إلى السيدة الأربعينية كانت قد أشعلت سيجارة جديدة، تذكر فجأة أنه أصبح في عقده السادس ،وأنَّ قطار الحياة قطع به مسافة تبدو طويلة لكنها مرت دون أن يحس بها أو يستمتع بمحطاتها.
قفزت إلى ذهنه فجأة صور من طفولته ،وارْتَدَّت به الذاكرة خمسين سنة إلى الخلف :" أيها الطفل الكامن داخلي اِستيقظ بهدوء ،وحدّثني عن أمس تبدَّدت لحظاته وصارت مجرد اِنفلاتات شاحبة تحمل طيّها أشياء كثيرة قد تكون حدثت أو تمنيت حدوثها ولم تعد لي القدرة على التمييز بينها ووضعها في سياقها الحقيقي.. أيها الطفل المتوثب داخلي لممارسة شغب الأمس وبراءته، حدثني عن حنان أمي وصرامة أبي ،عن بداية اِكتشاف ذاتي وشعوري بالانجذاب إلى الجنس الأخر..."

دوائر الدخان ما تزال تتصاعد من سجائر السيدة الأربعينية وقد اِنضم إليها رجل أسمرُ البشْرة بهندام أنيق أيضا وربطة عنق بلون أحمر فاتح، كان هو الأخر يُدخّن بنهم، مبتسما ثم مقهقها.
رنَّ هاتفه المحمول، نظر إلى شاشته، كان رقما غريبا، تَجاهله، هذه الأرقام يتوجس منها دائما خيفة ،لهذا لا يردُّ عليها، عاد إلى عالم طفولته ،ونزل درجا ثم أَدْرُجاً، نظر بهدوء إلى صفحة الماضي ،وَوجَد مَشْهد السَّيدة الأَربعينية ورَفيقها الأسمر يُذكِّره بأمِّي "عايشة" صديقة جدّتهِ وزوجها سي عيسى تاجرُ الخَزف صديق جدّه، كِلاهما كان مُدخنا نهما ،كانت أمي عائشة تخرج علبة" كازا سبور" من جيب سروالها" القندريسي" و معه صندوق عود الثِقاب "السّبع" وتردد لازمتها المعتادة :" الله يعفوعلينا "،كان يُحدّق بها وهي تشعل لفافة التبغ الأسود وتقول بصوتها الأجش :"البِليَة صعِيبة ،هذا لحرام تعلّمناه من عند النصارى "،فينتابه شعور غريب بأنها سيدة أسطورية من عالم خرافي ،أما عيسى فكان يخرج من شكارته المراكشية "السبسي والمطوي" ثم يحشو "الشقف" بالكيف المسحوق ويشعله ،ثم يسحب نفسا عميقا بانتشاء و يضحك دون توقف .
فكر:" الأشياء تتكرر بِصُوّر متعددة ،لكن المَعنى لا يتغير والإحساس يبقى واحدا والذكرة تتسع للماضي والحاضر، ونحن رهائن لِنَاموس غامضٍ يَتَسَلّى وَاضِعه بتحركينا على هواه ،وخَلْقِ شَرخٍ رهيبٍ داخل ذواتنا، سّي عيسى وزوجته أصبحا الأن مُجرد وَمضة قد لا تتكرر، جدتي كانت تُسِرُّ لي بأنها لا تطيقه لأنه كان يشجع جدي على اِرتياد مجالس "النشاط" وشرب الخمور وتضيف غاضبة: "الملعون يعرف شيخة يُبَدّر عليها أمواله" كلامها مُبطن وفيه إشارة لفهم علاقة المرأة بالرجل ،جدتي المسكينة كانت تخاف أن يضيع منها جدّي ،بل ربما يضيعُ منّا جميعا"
غادرت السَّيدة الأَربعينية المكان برفقة الرجل الأسمر. وخرجتْ في أثرهما ذكرياته مع سي عيسى ولَا لَّاعايشة ،صعد دَرجة ثم درجات ،طوى صفحة الماضي وفتح صفحة الحاضر.
نظر إلى ساعته اليدوية القديمة عقاربها تشيرإلى الواحدة بعد الزوال ،قام من مكانه متثاقلا ،نقد النادل ثمن مشاربه، وغادر المقهى .

محمد محضار يناير 2023م



#محمد_محضار (هاشتاغ)       Mhammed_Mahdar#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روح تائهة
- تساؤلات مشروعة
- حديث الصباح
- قصة قصيرة :لحظة اِمتعاض
- مزبلة الحي
- رنين الذكرى
- مرض الرحيل
- درسنا اليوم
- أزمنة الهزيمة
- رحلة الشوق.
- يمامات الفرج
- أوراق قديمة
- عودة إلى مراقد الذكرى
- حديث قلب
- قصص قصيرة جدا
- صقيع المنفى
- سارقو الفرح
- الخطو الشارد
- مالكة
- خفقات قلب


المزيد.....




- الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
- من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام ...
- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال ...
- كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - الأيام الشاحبة