أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - مالكة














المزيد.....

مالكة


محمد محضار
كاتب وأديب

(Mhammed Mahdar)


الحوار المتمدن-العدد: 7358 - 2022 / 9 / 1 - 09:20
المحور: الادب والفن
    


كانت شمس الظهيرة ترسل أشعتها الملتهبة، والنسوة مجتمعات في "العين" وقد انصرفن إلى تصبين بعض البطانيات والأثواب الوسخة، وهن يرددن أهازيج محلية، وعلى بعد خطى انتصبت قبلة الولي الصالح سيدي محمد بلبصير(1) بلونها الأبيض، وقد حط على سقفها سرب من الحمام انساب هديله يملأ رحابة المكان، وتحت ظل كرمة مديدة العروش افترش بواب الضريح نصف حصير مهترئ ويمم وجهه نحو باب القبة، وقد زاغت عيناه المعمشتان، وسكنت يداه النافرتا العروق وبدا في جلبابه الأسود كصخرة جامدة.
عند ناصية الطريق الزراعي لاحت مالكة بثوبها الوردي الوسخ، وصندلها القديم الذي زار إسكافي الدوار أكثر من مرة، وقد بدا وجهها الصغير المدور غارقا في سبحات الوجوم، كانت قدماها الصغيرتان ترسمان خطى متخاذلة وعيناها الذابلتان تستحمان في موج الحزن وهي تتقدم في إتجاه الضريح وحين مرت بالقرب من البواب ألقت إليه بتحية خافتة، رد عليها بإبتسامة، وما عتمت أن دلفت داخلة إلى قبة – الولي بعد أن تركت صندلها عند عتبة الباب، اقتربت من التابوت المكسو بالثوب الأخضر ثم جلست وأدخلت رأسها الصغير ذي الجدائل المعصوقة إلى الخلف، تحت ثوب التابوت ولثمت خشبه ثم استندت إليه وأجهشت باكية.
تناثرت الكلمات من فمها مرتعشة وهي تتوسل "للولي" !! وتترجاه تخفيف عذابهاو آلامها، فقد شقت بما فيه الكفاية وشربت كؤوس اللظى حتى الثمالة، ولم تعد قادرة على المزيد من ظلم الحياة. قبل لحظة من حضورها إلى الضريح كانت قد انتهت من أشغال البيت الشاقة، نظفت الزربية من روث البهائم، وقدمت العلف للبقرة، والحب للدجاج ثم غسلت أواني المطبخ، وبيضت بلاط غرف الدار الثلاث، نفضت الغبار عن الأثاث وطوت "البطانيات" والملاءات وأخيرا أكلت ما جادت عليها به زوجة أبيها من فضلات، وبعد حين من الآن عليها أن تذهب إلى دار الشيخ لتساعد زوجته كالمعتاد فتلك رغبة والدها وزوجته وهي لا تملك سوى السمع والطاعة.
اجتاح حواسها صمت رهيب وانتابتها رعشة خوف، راحت تكبر داخلها حتى استحالت إلى بحر هائج مضطرب وتدفقت ينابيع الماضي بين تعاريج ذاكرتها تبعث الحياة في كيان ذكرياتها الدفينة.
أين هي اليوم...من الأمس؟؟ !! فقبل سبع سنوات من يوم الناس هذا كانت تنعم بدفء وحنان أمها، وكانت الحياة ذات نكهة ولذة... وكان للنهار حلاوة، ولليل طراوة، وكان للفجر أنسام، وللسحر شذى، كانت يومها لغة الحياة هي السعادة وكان والدها على العكس منه اليوم أبا حقيقيا يغمرها بنبع حبه الصافي.
لكن سرعان ما هبت عواصف الأيام على دنياها الجميلة، ولم تبق وتذر منها إلا الهشيم، وإذا بالسماء حولها خرساء مظلمة والأرض ناتئة متعرجة لا تستقيم تحت قدميها. كان ذلك ذات مساء شتوي حين عادت إلى البيت من مدرستها، وجدته مقلوبا رأسا على عقب. "مصيبة وقعت ما في ذلك شك" هذا ما أوحاه لها منظر النسوة والرجال المتواجدين بكثرة في باحة البيت وقد علت وجوههم طبقة سميكة من الحزن "أمك يا بنيتي.. أمك المسكينة داهمها جمل ولد المكي وهي تحلب البقرة أمام البيت، كان الملعون هائجا و"كشاكش" الغضب تتدفق من شدقيه، ولولا أن أدركها بعض الرجال لفتك بها، لقد نقلوها في سيارة الشيخ إلى المدينة.." بهذه الكلمات قابلتها جدتها لوالدها وعيناها تطفران بالدموع.
انطلقت داخلها صرخة ألم، وتساقطت الهواجس العملاقة على رأسها الصغير، لم تعد تدرك ما يدور حولها.. ضباب كثيف يغشى عينيها، وحزن عميق يحطم كيانها. لما عاد والدها صحبة الشيخ وولد المكي في ساعة متأخرة قال:"إنهم لم يفعلوا شيئا من أجلها.. قالوا لنا اذهبوا.. الطبيب لن يحضر إلا صباح الغد، يبدو أن حالتها خطيرة جدا".
في اليوم التالي ترجت والدها أن يصطحبها معه لرؤية أمها فوافق بعد طول جدل وحين دخلت إلى الغرفة حيث ترقد هذه الأخيرة اعترتها رعشة شديدة وفرت الدموع غزيرة من عينيها.
بعد شهر من الحادث عادت أمها إلى البيت عاجزة لا تقوى على الحركة، فقد أصيبت بكسر في العمود الفقري، حكم عليها بموجبه بالعجز الأبدي، وانقضى ردح من الزمن، فإذا بسلوك والدها يتغير كلية فهو غاضب باستمرار يلعن ويسب ويشتم لأقل سبب.. ويغيب عن البيت بكثرة حتى ذات يوم قال:"أنا لم أعد قادرا على هذه "العيشة" سأتزوج لابد أن أتزوج". وردت عليه جدتها غاضبة: "لن تفعل هذا وأنا على قيد الحياة.. لن تدخل الضرة على ابنة أخي"، أما أمها المرمية في ركن منبوذ من البيت فلم تقل شيئا، كانت تعلم أنها لم تعد تصلح واستبدالها أصبح ضروريا، ولم تجد أمامها إلا السماء ترجوها أن تمن عليها بالرحيل إلى العالم الآخر حتى ترتاح وتريح وكان لها ما أرادت ففي ليلة صامتة مظلمة أسلمت الروح وانتهت مسيرة عذابها. لم يكد تراب قبرها يجف حتى توقف قلب الجدة العجوز عن الخفقان ولحقت بها إلى حيث "سيذهب الجميع"، وخلا الجو لوالدها فتزوج أرملة العسولي فقيه الدوار الذي قضى منذ سنة، لم تكد هذه الأخيرة تضع قدميها في البيت حتى كشرت عن أنيابها وكشفت عن ميولها العدوانية وروحها الاستبدادية، وسرعان ما احتوت الأب، فصار أرجوزا بين يديها تحركه كما تريد وما عتمت أن التفتت إلى مالكة فصبت جام حقدها عليها، وكانت البداية بحرمانها من الدراسة وبعدها إثقال كاهلها بأشغال البيت الشاقة ثم إرغامها على العمل بدار الشيخ بعد الزوال من كل يوم، كانت زوجة أبيها ساحرة آثمة فقد رأتها أكثر من مرة تطمر التمائم والتعاويذ في الوسادة التي ينام عليها والدها وتضع المحاليل الغربية في أكله وشربه، ولم تكن تستطيع إزاء ذلك إلا الصمت فهذا قدرها وقدر والدها.
تابت مالكة إلى نفسها حين دقت الساعة المعلقة في منتصف جدار الضريح معلنة الثانية بعد الزوال، فموعد ذهابها إلى دار الشيخ قد حان وعليها أن تستحث الخطى حتى لا تعنفها زوجته.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-1- يوجد هذا الضريح بمنطقة الحوازم قبيلة السماعلة، ناحية وادي زم.

كتب هذا النص سنة 1986ونشر بجريدة العلم في نفس السنة.
ونشر كذلك بجريدة النهار المغربية سنة ٢٠٠٦



#محمد_محضار (هاشتاغ)       Mhammed_Mahdar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خفقات قلب
- قصة حب عسجدية
- تراتيل للوهج
- تجار البؤس
- ليل بلا قمر
- مفهوم الغياب
- كبر مقتا
- درب النسيان
- فجر بلا شفق
- زمن الكبوات
- كلام على عواهنه
- من فيض الخاطر
- بحر الحب
- بين زوجين
- فاقد الشيء
- فارس من زمن الصمت
- قتل مع سبق الإصرار
- فتنة الصمت
- نص سردي : الصرخة
- شاعر يحكي


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - مالكة