أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر صبي - المسخ















المزيد.....


المسخ


حيدر صبي

الحوار المتمدن-العدد: 7502 - 2023 / 1 / 25 - 08:39
المحور: الادب والفن
    


بلهفة الفراشات لقدوم الربيع , تنتظر درر السماء تتوهج بتدفق الماء من تلك الماسورة التي أكلها الصدأ , تُدوّر مَفَكِّها , ينساب الماء مُتدفقاً ليملأ حوض طَست الصِفر المُطعّج , تُفيضُ على رأسه الأشيب من "طاسة الخلاص " الغافية في راحة كفها , ثم لتطوف بيدها طواف الحجيج على بقايا جسده النحيف فهو لم يعد مفتول العضلات ولا يملك ذات الصدر المرتفع كما في سِنيي مراهقته غير انه وبشيء من الألفة يتعايش الان مع ظهره الحاني كقوس وهبه الزمن له دون ثمن ,, أصابعها ممسكةً بـ " الليفة " التي حاكتها هي من الياف جذع النخيل ,تُرطّبها برغوة الصابون , تتهادى بها على جسده كتهادي النسيم ساعة السحر , تَدْعك رقبته بروية ثم تهبط نحو صدره , تدورها صانعة فقاعات صغيرة تلتف حول حلماته الغائرة , بذات الحركة تقوم بتمريرها على بطنه , وحتى تصل يدها المكان الذي منه تتناسل اجنة البشر, تحاول جاهدة تجاوز تلك الربوة العالية التي شاهدتها ترتفع نحو افق السماء ثم لتهبط نحو أديم الارض , ظلت يدها ممسكة عن الحركة وكأن الزمن قد توقف غير ان اجزائها ظلّت ترتعش فتهتز معها " طاسة الخلاص " , اخذت تضم ساقيها بقوة ثم تفرجهما برعشة تتصاعد مع تصاعد شهقات انفاسها .
- " يا الهي ما بي ؟ , لم أعد قادرة على التنفس , ساعدني يارب , من غير المعقول ان أفكر بهذه الطريقة السخيفة " ، ثم ما عهدت رؤية هذا الكائن المتورم قبل هذا , فهذه ليست المرة الأولى التي يدعوني فيها لأغسل جسده .. لكن لماذا الآن بدى وهذه الحال ؟ وبين حيرة تساؤلاتها اخذت تعنِّف ذاتها وعيناها لا زالتا محدقتين بذاك الشاهق المتمدد
- " هدئي من روعك يا سفيهة , ماذا ستقولين لزوجك لو عاد من الجبهة ؟ " , كيف لك ان تتخيلي الموقف الذي ستكونين عليه ثم ما الذي سيحدث لك ؟ حتما ستُقتلين رجماً وتوآدين في حفرتك الأبدية .
اللحظات تمر على " غنية " كساعات طوال قبل ان يأتيها صوته الأجش ليشق خمار افكارها : " هيا امسكيه !!! " , هو لك أصبح , هزّي به عناقيدك المتدلية ثم أرشفي منه شهد تُميرات النخيل .. حَرَّكَ كفَّ يده وقال : هيا هيا فــ " عماد " اكلته أسماك النهر !؟ , وانت لازلت بريعان شبابك , مارسي حقك معه .
أُذهلت وهي تستمع لكلام والد زوجها "عماد " !! , شُلَّ فكرها , ولم تعد تتحسس اقدامها فباتت كما المحلقة مع النوارس فوق رأس مغامرٍ بسفينته وسط بحر لُجّي متلاطم الامواج , رغبتها انْتَزَعَتِ الذات من صيرورة الوعي ولا من مُسيطر بَعْدُ على ازمَّة عقلها فتملّكتها تلك الجامحة , توحدت معها , فلكم الحَّت عليها وحدتها بالابتعاد عن رشف اللذة , وكم حُرمت من سعادة توهج الانثى مع من تشاركه الرغبة في الليالي والايام و"عماد " بعيداً عنها .
اخيراً اذعنت مستجيبة لهوسِ المفقودةِ بين ركامِ الحياةِ البائسة .
صَمُتَ بوح الرعشة , بانتهاء قُداس الفضيلة فحمم البركان قد استقرت في مستودع اللذة المخبئة بدهاليز الخوف من القادم .عَدَتْ مهرولة لحُجرتها , ولمّا تزل مياه الحياة تقطر بين ساقيها ,تاركة الأثرٍ الذي خطّته أقدامها السقيمة فحفرت في الارض ذاكرةً لن تُمحَ بمرور الايام .
جلست على سريرها , وضعت رأسها بين ركبتيها , بينما يداها أحاطا به كهلال لفَّ بروق السماء .
راحت تصرخ بصمت اللحظات :
" مالكِ ايتها الدموع , أخرجي من حدقات عيوني
أيتها السماء ابتعلي غور مائك
أيتها الرياح إحمليني الى بقايا الشرف
أيها البحر هل لك ان تجف لأروي اعماقك من دموع عيوني
الزائر بلا موعد سِر بي نحو جزيرة الهلاك
القادم من البعيد , هلا هشّمت رأس الخطيئة
اضرب بمعولك هام من سمحت لهوسها أن تشق حُجُب العفة "..
باتت " غَنيّة " لا تفارق زوايا دارها المترامي في بساتين مدينة الشطرة . مرّت ثلاثة أيام وذات مسحة الحزن تأكل من حُمرةِ خدودها التي كانت تتلألأ كوجه الكرز بعد أن دبَّ الشحوب عليه كدبيب النمل على بقايا عشب الحنطة بعد موسم الحصاد . كيف لا وهي ما عادت تستمري الاكل وانهكها سقم التفكير . انزوت داخل ذاتها تُصارع الندم تارةً وتارة تفرد لنفسها حقانية الجسد في مماهات هوس الغريزة فلعلَّ التفكير بتلك الطريقة يُخرجها من دائرة الحزن والعزلة .
ذات ليلة , جائها " حميد " بصندوقٍ صغير ٍعاجيٍّ مُرصَّعٍ بالفضّة .
- هيا أفتحيه , هو بات مُلك يمينك كما معشوقك الأشيب !!
- ايها العجوز لقد حَسَمتْ خطواتي المسير الى حيث الظُلمة الباردة .. أرغب بالموت يا " حميد " , لم أعد أستحق العيش وما اقترفناه من خطيئة بسبب تلك الفعلة الشائنة
- هيا هيا لا عليك , هو حقنا الذي سرقته السماء منا وتلك التعاليم والاعراف البالية , لم نقترف الخطيئة وهذا حقنا حبيبتي , أفتحي الصندوق هيا .
كان الصندوق يحوي على مصوغات ذهبية ثمينة تعود لزوجته المتوفاة اكتنزها مع بقية أشياءها . ولمّا كان ينتظر الساعة هذه بفارغ الصبر ليهديها الى معشوقته التي ظَفُرَ بها بعد أن كَسّرت السعادة أصفاد الحديد التي قيّده بها قدره المشؤوم طيلة سنوات الأمل ؟؟؟؟.
- " مُدّي اليَّ مِعصَمك ايّتها الحورية لأُحِيطَهُ بأساوري الذهبية , أحني لؤلؤتك البيضاء لأقلدك قلادةَ الشرفِ والعفة , أرفعي ساقيكِ الممتلئتين أيتها الخضراء المعجونة بحنّاء الارض لأُلبِسَهُنَّ حجولاً ترقص لهنَّ اجراس السماء وانت تضربيهنَّ بأديم الارض , تعالي اليَّ , أفردي يداك , ضُمّيني الى حيث صدرك المزدانِ بتلك الزمرّدتين المتلألئتين , شِقّي صدري أيتها الفاتنة وأدخلي فيه ملاذا أبديا .
هكذا أستطاع " حميد " أن يخرج " غَنيّة " من جو الكَمِدِ والعزلة مع النفس شيئاً فشياً الى طيب المعاشرة ورغيد العيش .
بمرور الايام اصبحت علاقتهما كزيجةٍ بكامل تفاصيلها سوى انها خَلت من عقد الزواج ؟
وفي احد الايام أحبت السماء إنزال غضبها من سُحبها المُحَمَّلة بالوجَع , وافته الى بستانه وبينما هو جالس تحت ظل شجرة التوت المورفة بأوراقها وقفت امامه ترتعد وهي مُصفرّة الوَجه كخرقةٍ صفراءَ طيست بوحلِ البركة الخضراء المحفورة في وسط دارها , لتخاطبه بنبرة حادة , " حميد " , أيها العجوز الشؤم , أشعُر أن في أحشائي ينبتُ برعمُ الخطيئة , هسيسه جنين طفل قادم ؟؟؟.
لم يغيّر "حميد " من جلسته , ظل يمضغ ما سقط من ثمر التوت المتناثر على الارض ليمسحه ( بشماغه ) ثم ليمضغه بما تبقى له من أسنان منخورة , خاطبها ببرود في حين يداه يجمعان التوت .. " عل الخير والبركة " .
كان لوقع برودة رد خليلها " العم " ان أسقطها في شراك الندم أكثر من معرفتها بوجود الحمل .. لتخاطبه :
- " يا هذا الشيطان البليد , أيها القابِع في جوفِ الحيلة , أيها البؤسُ النازل من سحب الرذيلة , هناك سَيُفتضح أمرنا , ويا لهذا " اللامنتمي " الذي سيخرج من جوف العهر" قل لي بأبوة من سنلحقه ؟. .
- على رسلك تريثي وهدئي من روعك وكفي عن الصراخ فـ " أبو سجاد " قريب منّا يسقي ( الهروش ) وهو ثرثار وينتظر ان يسمع اسرار الناس ليذيعها في المضيف فهيّا اعود بك لدارنا وهناك نكمل حديثنا دونما آذان تسترق السمع .
ما ان وصل داره حتى دخلا سوية حجرته التي خاطتها "حشرة الأرضة " , راسمةً لوحةً تجريد وكأنها تشير لتفرعات نهر بُصقَ من فم الأرض .. أومأ اليها بيده , ان تعالي إجلسي .
- " مال لهذه الخصال الثائرة , لم أتعودها الاّ في وقار , فَخَمرُ السكينة كان دائم الحضور يملأ كأس الليالي التي كنّا نرشفها من وجد الوصال , آآآه , حبيبتي , كم داعبْتِ نسمات انفاسي وأنت تَنثرين قُبَلك على صدري , ما لهاتين اليدين , كم التفّتا حوله كأفعوان لبلاب يتسلق عمود الضياء وهنَّ يهززن مهدي المتعالي دونما سقوط , كم أغْدَقَ عليك من شهد الرعشات , انظري لهذا السرير كم تحمّل عبثنا ونحن نهتز معاّ فوقه , نتحصّل اللذة والمسكين لا يقوى البوح بما يشعر من وَجَع وهو يرانا متقاسمين السعادة , ولم ينحنِ يوما , اظنه سيصبر على كلينا حتى نفارقه جثة هامدة على طيب الوصال , ثم فتح ذراعيه وقال : هَلُمّي الى حيث صدري , ضعي خَدّكَ على زغاباتِ شعرهِ الفضّي واتركيني اداعب تلك الخصلات الذهبية والثم ما اشتدَّ من نتوءِ نَهديكِ اللذين تدلّى من صدر بياض الثلج .
استفاق الاثنان بعد هدوء شَغَبِ الرعشات , لتعود تطرح عليه ذات السؤال : وماذا سنفعل اِن كَبُرَ طفلنا ؟ .
- حبيبي ما رأيك ان نتزوج , فانا مقطوعة من شجرة وليس لي من عائلة بعد وفاة امي رحمها الله بسبب ما عانته من فجيعة التهجير فانت تعلم ان نظام صدام هَجَّرَ والدي وعائلتي ولو لا اني كنت حينها صغيرة اتهادى اللعب بدميتي بعيدا عن منزلنا مع ابنتك " فَخريّة " لكنت الان مع والدي .
- " ااه , نعم .. كانت ذكريات غارقة بالألم والوجع النفسي قد حلَّ عليكم ولو لم نخفيك عندنا لكنت الان في غياهبِ المصيرِ كما عائلتك " .. دَعيني الى الغد , حتما سأجد حلاً لهذه المعضلة .
كان "حميد " يراوغ زوجة ابنه , وفكرة الزواج كانت بعيدةً عن تفكيرهِ فهو رجلٌ مُسِنٍّ وايضاً العشائرية غالبة بمجتمعه وطباع تلك البيئة ستجعل منه اضحوكة ومنبوذاً من قبل جميع اهل القرية وفيما لو اعلن زواجه منها .
في عشية ذات اليوم وبعد ان اَتمّ الاثنان طعامهما لترفع " غنية " (صينية الأكل) ، خرج " حميد " الى مضيف القرية ، وكما عادته كل مساء . كانت " غنية " قد استسلمت للنوم وحال عودته ، دخل غرقته وتوسد بجانب " غنية " على سريره ثم ليشعل سيجارته وبينما ينظر اليها وهي غافية ،راح يتذكرها مذ كانت طفلة , وكيف كانت انوثتها الطافحة تستفزه خلاياه .
يُتَمْتِمُ بصوتٍ خافت , وهو ينظرُ اليها .. " أيتها الملاك ومذ كُنتِ طفلة , ساقاك الممتلئان غَنجاً أعْيا حيلتي , خصرك النحيل, فاصلة بين ثمرتي رمانتيّك ودرّتك البارزة من خلفك , آآآه , أفقداني بصيرتي , رقبتك جيد ريمٍ ولمّا ترتع من بركة الحياة فأكون حينها بلا اتزان وأظل أرتجفُ كحملٍ صغير أضاعتهُ أمهُ في البرية في ليل مُشتي , أوووو , كم كُنتُ أتوجّع وأنت تنحنينَ أمامي لجمع ثمارِ التوتِ وتَلتيكِ الصغيرتان كحبّتي تينٍ تلاصقتا عند شقٍ نبتت فيه حبة خردل , فأهيم في تيه الرغبة حتى أن أدعوك , هلمّي اليَّ حبيبتي , عانقيني , وحال التصاق جسدك الغض يناديني البلل ان استفق يا " حميد " , ويا لبؤسي وأنا أتَجرّع صوت الرعشةِ بصمت الموءود في حفرته , كم كُنتِ بريئة ومغفّلة وأنت تَظُنينَ عناقي لك هو حنو وعاطفة كحنو والدك عليكِ قبل ان تغيبه الاقدار ".
لما بلغت "غَنيّة " مبالغ النساء , صَمم " حميد " ان يجعلها قريبة منه , خوفاً لفقدانها , حيث كان يؤمن انها في يوم ما سيكتنفها حضن رجل غريب كان سيتزوجها , فلا يمكن بعد هذا أن ينعم بها كزوجة .. هكذا كان يمني نفسه كحلم يقظة لا يفارق فكره ؟ , فتناسى ان زوجته " عفيفة " واولاده وكِبَرِ سِنّه سيقفان حجر عثرة امام تحقيق رغبته المشتهاة وليحرم التلذذ بمفاتنِ تلك الحسناء التي ضاحكتِ الحياةَ بجمالِ جسدها الممشوقِ وانوثتها التي يسيلُ لها لعابُ الناسك بمعبده , وحتى لا ينهي أمله في الحصول عليها فكان ان عزم على تزويجها من ابنه " عِماد " !!.
سيكارهُ آل الى رماد وهو لازال ممسكها بيده حتى انتبه أخيراً , القاها على الارض ليرقدَ بعدها وتلفُّ يداهُ خِصر " غنيّة " ويغطُّ في نوم عميق .
صباحاً , ويعد ان انتهت من تجهيز الفطور , قدمته له واضعةً امامه صحن القيمر والشاي والخبز الحار الذي خبزته عند الفجر , ومع ابتسامة خفيفة وهي تنظر اليه قالت :
- " ها حبيبي ما ذا الآن ؟ " .
- " ليبقى الحال على ما هو عليه " , من فوره نهض تاركاً فطوره ومغادراً المنزل دون أن ينبسَ بعدها ببنت شفة .
شّعرَت وكأنَّ الارض تبتلعها , لكن لا مفر فهي لا تستطيع الا ان تسايره وتنصاع لرغباته وقراراته فلا من اهل ولا من اقارب ولا حتى اصدقاء . أخذت دموعها تتساقط كتساقط حبات المطر من عيون السماء , طافت بعينيها نحو السماء وراحت تنعى نفسها بالقول :
" يا هذه الزرقاء , ايّتها السماء المحملة بالغضب, مالك وانا , لم لا تكفِّ عَنّي غضبك , لماذا قبحي فقط تعكسه مرآتك البلورية , أيتها الملائكة , لو كان الله قد وهبك الشهوة , هلّا حافظت على عِفَّتك , من قال إنني العذراء ؟ , كيف ومن أين آتي بروحٍ تنفخ فيَّ اللذة , أيتها السماء , ماذا توقعتِ وانتِ جَمَعْتي العِفَّة مع الشيطان , وهل استطاعة حوّاء الاّ الرضوخ لنزغه, هل عِفَّتي إلاّ سوسٌ خَرجَ من عفّة أمي ؟ , أنا أبنتها الضالة السقيمة , انتِ غَفرتي خَطيئتها ولازلتِ منزلةً جام غضبك عليَّ , إبتلعيني في فَمِك , خَلّصيني من هذا العذاب ,وانتَ ايها الربّ كُنْ رحيماً كما تقول , عادلاً كما تشتهي , غفوراً كما تُحب , حليما كما انت , ودوداً كما لم تكره , فأينكَ من ضَعفي الذي وضَعتهُ فيَّ وأنتَ بيديك الجبروت والقوة .
مرّت الايام مسرعة لتضعها انثى وليسميها " فاتن " .
حتى لا يشعر اهالي القرية بحقيقة المولودة " فاتن " , راح في ذات مساء عند مضيف شيخ القرية , يُحَدِّثُ الناس كيف وجد طفلةً ملفوفةٍ بخرقةٍ كانت مرميةً بالقرب من جدول الماء الذي يَشقُّ ارضه , وانه اخذها لبيته لينعم بتربيتها وكسباً للثواب وايضا لتملأ عليه جو الوحدة خصوصا وان ولده " قاسم " غادر الناصرية بعد قبوله في كلية الزراعة بجامعة الموصل وهناك تزوّج واستقرّ وصار بعيداً عن الجميع ولا يأتِ مدينتهُ الا في الاعياد حتى وانه وفي احيان كثيرة لا يقوم بتلك الزيارة , واما ابنته " فخرية " هي الاخرى تزوجت من رجل كان يكبرها بالسن وهو تاجر تمور كان يُضمّن ارض " حميد " , يقطن مدينة بغداد فكان لابد وان تذهب للعيش معه . فيما ابنه البكر "عماد " الجميع يعلم انّه فُقِدَ في الحرب ولا من احدٍ يعلم اين آل به المآل . صَدّق اهالي القرية رواية " حميد " ,وغدو يكيلون له المديح ويغمطوه على هطول تلك النعمة الربّانية من سماء الرحمة إذ سيحظى بجنان الخلد فما من عمل أَخْيَرَ وأعْظَمَ ثواباً من هذا ؟ .
اصبح عُمر " فاتن " ثلاث سنوات وسبعة أشهر , وفي احد الايام مرض " حميد " وكان ان اشتد به المرض ليخبره الطبيب المقيم في مستشفى المدينة من ان ايامه باتت معدودة فالسرطان " قد انتشر بكبده , .. طَلبَ من " غَنّية " ان تذهب به الى داره , غير انّها رّفَضَت ذلك , صار يُلِحُّ عليها أكثر , .. خذيني الى داري أيتها الحورية , ما عدت قادراً على تَنَفِّسِ هذا الهواء المملوء برائحة الـ " ديتول " , أشعر إني أتقيء أنفساني الآن , آآآه , أخرجيني أرجوك , أرجوك امتثلي لرغبتي..
- " لكن كيف لي ان اعود بك الى الدار وأنت على هذه الحالة السيئة ولم تُشْفَ بعد من مرضك ؟.. " , لم تكن غنية تعلم بحقيقة مرض " حميد " الذي اوصى دكتوره المشرف عليه أن لا يخبر احداً من اهله بحقيقة ما يعانيه من مرض وان لا حياة طويلة تنتظره .
لم يكن من بُد بعد الحاحه عليها الاّ ان تذعن لرغبته وتخرجه من المشفى .
في ليل كانت فيه النجوم غائرة خلف السحاب وكان المطر ينث بنثيث متقطع , سمعت "غنية " صوت " حميد " يناديها , بينما كانت مشغولة في اعداد طعام العشاء بمطبخها الصغير وصارت تسمع نوبات سعاله التي اشتدت دون توقف , جاءته مسرعة , وقفت امامه .. " ها حميد " , هل انت بخير ؟ ... فقال بصوت خافت مبحوح ومتلعثم " انني اموت , انني اموت ياحورية " .
كان يرددها وهو متوسد ذات الأريكة , أدار برأسه نحوها ونوبة السعال خفت عنده , ليقول : هذه اريكتنا ستنتقم مني الآن وسأعترف لها ولك بالحقيقة المُرّة التي اخفيتها لسنين .. صَمُتَ بُرهة الى ان قال : " قَتَلْتُ "عماد " بِيَدَيَّ هاتين " !!!!!!!
استقبلت كلماته بذهول وكأن صاعقة ضربتها, وضعت يدها على فمها وبدت ترتعد , اومأ لها ان اهدئي .. دعيني اكمل فعزرائيل هنا عند رأسي , اهدئي .. اهدئي .. اهدئي وسأشرح لك ما جرى ...
- " كان عماد قد وصل يومها الى الطريق المؤدي الى القرية , كنت اترقّب ساعة وصوله من الجبهة يوما بعد آخر , لعلّي اظفر به قبل ان يصل دارنا , وصل " عماد" وما ان شاهدني , ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة , فتح يداه ليضمني وبادرني القول : " هله بويه " , لِمَ تجشّمت عناء الطريق وتلك المسافة وحتى تستقبلني ها هنا .. لم اكلمه , اخرجت مسدسي ووجهته صوب رأسه ,هشمت جمجمته برصاصة واحدة , فخر صريعاً كجذع شجرة هوت بفعل الأعاصير.
صرخت " غنيّة " بوجه " حميد " وهي تشد بخصلات شعرها وشفاهها ترتجف واسنانها تصطك : " أيها الوغد , كيف طاوعك قلبك لتفتك بفلذة كبدك بهذا البرود , كم انت مجرم وحقير ؟ " .
لم تستطع حبس دموعها اذ صارت تزفرها كزفرات أم تضع وليدها البكر ... يرد عليها بصوت خافت : نعم , فأنا وغد بائس وحقير , مجرم وشرير لكنك لم تسأليني لم قتلته " ياغَنيّة " ؟
" هو لم يكن ابني من صُلبي فقد خانتني امّه مع الشيخ " سبهان " , في ليلة كنت انا خارج القرية مع احد اولاد عمومتي في مدينة " الحيانية " بالبصرة لفض نزاع حدث بينه وبين زوجته ولأصلح ذات البين , مع ان زوجته تستحق الطلاق بسبب عجرفتها ولسانها الطويل وما كانت تثيرها من مشاكل , وهنا استغل الشيخ سبهان غيابي ليدخل بيتي ساعة نام الجميع الا " عفيفة " ومن ليلتها حملت بــ "عماد " , لم اكن اعرف ما جرى حينها , حتى طُرِقَ الباب يوما ما , فاذا بحارس القرية " راضي " بن السيد " وعد " وكان هذا بعد مرور خمسة اشهر من دخول سبهان لداري . اخبرني " راضي " انه رأى الشيخ " سبهان " دخل داري ذات ليلة , وانه لم يستطع ساعتها اخباري لما يمتلك الشيخ سبهان من سطوة وايضا منعا لإثارة المشاكل وانه احب ستري كون الله يحب الساترين وكما قالها هو , امسكت بعنقه وبكل ما املك من قوة حتى كدت اخنقه , لكنه استطاع فك قبضتي منه , وقال لي ارجوك يا " ابو عماد " ان تهدئ فقد كدت لتقتلني .. تمالكت نفسي اخيراُ وسالته : لكن لم تخبرني الان ؟ فقال لي انه عزم الرحيل الان مع اسرته الى مدينة سوق الشيوخ وان هذا السر يتلجلج بصدره وبدأ يشعر بالندم , لكنه استدرك فيما بعد وقال : سأدفن سرّك حتى الممات فلا احد يعلم بما حدث الاّ أنا وها انت والمطلع على سرائر الخلق .
طلب حميد شربة من ماء , فسقته " غنية " من " السراحية " الموجودة على المنضدة عند رأسه , ثم اكمل حديثه قائلا : واجهت " عفيفة " بحقيقة دخول " سبهان " الدار اثناء غيابي , فتلعثمت وانكرت بداية الامر لكنها لما وجدتني اخرجت مسدسي من الصندوق , اخبرتني ان ( اعطيها الامان ) , فقلت لها لك هذا , فأخبرتني بكل ما جرى بينهم , وانه كان يحبها قبل ان اتزوجها وكان يريد الزواج منها لو لا رفض ابيه الشيخ " رداد " تزويجها منه لأنه يرغب كان قد اعطى لأخيه عهداً ليزوج " سبهان " من ابنة عمه " رتيبة " .
كان " سبهان " و " عفيفة " تربطهما وشائج من قصة حب عنيفة في فترة مراهقتهما , حتى كانا يمارسان فضيلتهما معاً كلما سنحت لهما الفرصة بل كانا يملكان من الوعي ما هو مترف لينثر شهد رحله على تمام جسدها وحتى لا يفضّ بكارة شرفها .
صمت " حميد " برهة , وبدت دموعه تنزل ببطء , ثم استدرك قائلاً : " هي لم تكتفِ بهذا يـا " غنية " بل اخبرتني ان ما في بطنها لم اكن انا من وهبها اياه بل الشيخ " سبهان " , لم اتمالك نفسي ,صفعتها بقبضة المسدس , ثم لأوجه مسدسي نحو رأسها بعد ان صمتت على انهاء حياتها , فقالت لي وهي تصرخ : لا تفعلها يا " حميد " لقد اعطيتني الأمان , حينها تراجعت بمضض فيما كانت يدي ترتجف وهي قابضة بشدة على الزناد وبأعجوبة رفعته من رأسها لأخرج مسرعاً الى باحة داري واقوم برمي الرصاص في الهواء واردد " تستحقينها يا خائة " .
ربما كان اطلاق الرصاص في الهواء قد خفف بعض الشيء عما كان "حميد " قد عاناه من وجع ومن ثورة غسل الشرف فطباعه العشائرية كانت تلح عليه الثأر لكبريائه .
حاول " حميد " اقناع زوجته انزال ما في بطنها من جنين , واخبرها ان لم تقم بذلك فانه حتما سيقتله يوماً ما , لم يكن امام " عفيفة " الا ان تمتثل لطلبه , فهي تدرك تماما غلظة طباع زوجها وان عارضته حتما سيقوم بقتلها .
بقي الجنين في بطن " عفيفة " فهي بعد ذهابها و " حميد " الى طبيبة القرية اخبرتهم ان الام ستتعرض للوفاة فالجنين اصبح في الشهر الخامس . . فما كان الا ان يخضع للقدر المحتوم وبتحمل ولادة بن الشيخ سبهان " عماد " !! .
لحظات سكون خيمت مرة اخرى وقبل ان تتدفق موجة السعال من فم "حميد" مجدداً وحتى لتهدأ بعدئذ ليقول : لم استطيع ان ابوحَ بتلك الحقيقة امام ابنائي بعد ان كبروا , حتماً سيظل العار يلاحقهم امد الدهر لذا اخفيت حقيقته عنهم , وايضا لم اكن لأرغب تشويه صورة "عفيفة " امام ابنائها , ثم كيف افتضح امرها امام عائلتها , كانت حتما سَتُقتل , وان قتلتها أنا سيتساءل الناس لم اقدمت على قتلها , ثم لم استطيع من تطليقها فلابد من سبب مقنع , انت تعلمين أعرافنا العشائرية ، فلا ضرورة للقتل الا لغسل العار وكل ما فعلته لمعاقبتها هو انني من لحظتها هجرتها حتى وافتها المنية .
لا زال حميد يتلقف انفاسه بصعوبة , وعيناه اغرورقتا بالدموع , توقف عن الكلام فظنت " غنية " انه فارق الحياة , غير انه فتح عيناه مرة اخرى وقال : ايتها الحورية , منذ تلك اللحظة جافاني النوم وكنت كما ان بركان يغلي بداخلي لذا عزمت الثأر لشرفي , وامضيت اياماً اخطط لمقتل " سبهان " حتى واتتني فرصة النيل منه فقتلته في ليلةٍ عاصفة كان حينها قادماً بمفرده من بغداد فقطعت عليه الطريق وبذات المكان الذي قتلتُ فيه ابنه " عماد " وبذات المسدس وبرصاصة في رأسه أرديته صريعاً , ثم حملته الى النهر , وهناك قذفت به اليه كما فعلت بجثة " عماد " .. صَمَتَ " حميد " لفترةٍ وجيزة , ظنت "غنية " مرة اخرى انه فارقَ الحياة لكنّه بعد بُرهة استفاق .. اخذ يدها وقال : وبعد هذا لن ادعْهُ يَحظَى بك فانت مذ كنتِ طفلة اشتهيك خليلة لي وزوجة . لقد كنت كملاك غير ان مشيئته اخرجتك من بطن انسية
- لكن قل لي لم زوجتني من " عماد " مع انك كنت تعلم انه ليس بولدك ؟ .. أظهر " حميد " ابتسامة عريضة وتوسع بؤبؤ عينيه لينظر لها ويقول : يا حوريتي كان لابد وان ازوجك من ميت يا " فطيره " , بعدها امسك بيدها وقال لها
" سامحيني .. سامحيني .. سامحيني يا " غنية " " .
وما ان اكمل جملته الاخيرة حتى فارقت روحه الحياة .
- الى باحة الدار والدموع تنزف على وجنتيها خرجت "غَنّية" رافعة رأسها الى السماء :
" يا الهي غفرانك , ان اردت عقوبتي فانزل جام غضبك عليَّ , وما ذنب هذه المخلوقة الضعيفة , كيف تزهر اوراق النرجس وأنت تمسك فيوضاتك عن رمال سوسها ؟ كيف لضياء قنديلها ان يتوهّج وأنت تحرقها بنارك المستوحدة , احرقني أنا , فأنا وحدي من تستحق عقوبتك , ودعها ترتع من أزاهير رأفتك وبرِّك وإحسانك ".
السنون ستمرت مرَّ السحاب و" فاتن " ستَكْبُرُ بكبر الهمّ وعُمقِ الجراح التي ستدمي حياتها وهي مخلوق مشوه النسب تعيش بجلباب " الأب , الجد , الكفيل , قاتل ابنه غير شرعي " فكيف وان عَلِمتْ ان من اخفى نسبها هو جدها وهو بذات الوقت اباها غير الشرعي وكيف بعد هذا يكون شعورها وهي تسمع من بنات القرية ماهِيَتها الحقيقية وكونها " لقيطة " وجِدت مرمية على الطرقات ولو لا شهامة وانسانية " الحجي ابو عماد " لوقعت فريسة تلتهمها الوحوش !!!, ثم بماذا ستشعر وجدّها أي اباها هو قاتل لابنه غير الشرعي وهو بذات الوقت خليل والدتها فحسب ؟؟؟؟.
تلك جدلية العيش التي سَتَفْتِكُ بحياة " فاتن " لتعيش في حالة من الضّياع والشرود الذهني لتظل حبيسة الالم , ربما لا تعفيها حجم ما سيمر عليها من معاناة سوى الموت وهو الراحة الابدية التي ستنعم بها والخلاص من دونية العيش والاذلال النفسي والوجع الباذخ في لياليها التي لن يحتضنها ضياء القمر ولا النهارات التي عبست بوجه الشمس ليكون ليلها ونهارها سواد قاتم تعيشه ببؤس ومَذلَّة .



#حيدر_صبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة مفتوحة
- بايدن أمريكا أم بايدن ايران
- رسالة نصيحة
- ستيف مامان - الدرس والرسالة
- الاحتجاجات الايرانية .. مؤامرة أم ثورة من اجل التغيير
- مفتي البلاد
- شعب الله المهزوم
- شقشقة في رغبات انثى
- الكوليرا بين عثمنة السدود وعراقة القبائل البنكالية
- الى الساسه واصحاب المعالي والكياسه
- كيف ﻻتشعر بالبرد
- كيف ﻻ-;- تشعر بالبرد
- قطر بين المطرقة المصرية وسندان السعودية
- لماذا رفضت واشنطن تزويد الاردن بطائرات من دون طيار
- عبعوب حان الوقت لتودع أمانتك
- المليونية الأربعينية وعشوائية التخطيط الحكومي
- كلنا فضائيون
- سومر وطن اسمه العراق يا طه اللهيبي
- ابو لهب في الجنة
- حلم فوق الخمسين


المزيد.....




- الموسم الخامس من المؤسس عثمان الحلقة 158 قصة عشق  وقناة الفج ...
- يونيفرسال ميوزيك تعيد محتواها الموسيقي إلى منصة تيك توك
- مسلسل قيامة عثمان 158 فيديو لاروزا باللغة العربية ومترجمة عل ...
- مدينة الورود بالجزائر تحيي تقاليدها القديمة بتنظيم معرض الزه ...
- تداول أنباء عن زواج فنانة لبنانية من ممثل مصري (فيديو)
- طهران تحقق مع طاقم فيلم إيراني مشارك في مهرجان كان
- مع ماشا والدب والنمر الوردي استقبل تردد قناة سبيس تون الجديد ...
- قصيدة(حياة الموت)الشاعر مدحت سبيع.مصر.
- “فرحي أولادك وارتاحي من زنهم”.. التقط تردد قناة توم وجيري TO ...
- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر صبي - المسخ