حركة جمعية إخوان الصفاء في مدينة البصرة

فلاح أمين الرهيمي

الحوار المتمدن-العدد: 7487 - 2023 / 1 / 10 - 11:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

4) حركة جمعية إخوان الصفاء في مدينة البصرة :
كانت جمعية إخوان الصفاء سرية ومن طبيعة الجمعيات السرية الكتمان الشديد والنشاط السري إلى أن معرفتهم وصفاتهم وأهدافهم قد عرفت من خلال رسائلهم .. فهم يقولون في الرسالة الثامنة والأربعين : (إن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضائلهم متفرقين في البلاد .. فمنهم طائفة من أبناء الملوك والأمراء والوزراء والكتاب والعمال ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار ومنهم من طائفة العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين ومنهم من أولاد الصناع والمتصوفين .. كما لا يعرف عدد أعضاء الجمعية .. إلا أن المؤرخ الهندي (خودايش) يحدد عدد أعضاء جمعية إخوان الصفاء بأربعين عضواً. أما مؤلفو رسائل إخوان الصفاء فما زالت يحيط مؤلفيها الغموض وعدم معرفتهم بالرغم من أن بعض الباحثين نسبوها إلى أئمة أهل البيت من سلالة الإمام علي بن أبي طالب (ع) وآخرين نسبوها إلى الاسماعيلية لقد ذكر أبو حيان وكذلك السهرزوري والبيهقي حيث ينسبون الرسائل إلى الشهرستاني الذي يعد من بين فلاسفة الإسلام من طبقة الكندي والفارابي واسمه الكامل (أبا سليمان محمد المقدسي) الذي يعتبر المسؤول الأول في هذه الجمعية والعضو الآخر في جمعية إخوان الصفاء الذي يعتبر من الكتاب (محمد بن سنان العوش) وهو من أهالي البصرة ..
أما الفترة الزمنية التي مارس فيها إخوان الصفاء نشاطهم يرجع إلى تأسيس الجمعية إلى أيام الإمام جعفر الصادق (ع) ويرى بعض المؤرخين أن ظهور جماعة إخوان الصفاء في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجريين وبدأوا بتحرير رسائلهم من تلك الفترة ولذلك فإن هناك اختلافاً بين تأسيس جمعيتهم وكتابة رسائلهم أما المكان الذي ظهر فيه إخوان الصفاء فيقول أبو حيان التوحيدي الذي تابعهم متابعة عميقة ودقيقة أن هذه الجمعية نشأت في مدينة البصرة في العراق حيث كانت ملتقى رجال الشرق من العرب والهنود والزرادشتيين والنصارى واليهود والدهريين والصابئة منذ تأسيس أيام الخليفة عمر بن الخطاب باتت أكبر ملتقى لمختلف الفروع الثقافية فقيها نشأ حسن البصري زعيم المعتزلة والجاحظ وظهرت فيها مختلف الأفكار والاجتهادات حيث كانت تقام فيها حلقات العلم والمعرفة وكانت تمتاز بالاتجاهات الفلسفية وكانت هذه المدينة (البصرة) تنتشر فيها حرية الفكر ومتحررة نوعاً ما من عيون السلطة وقيودها كما أن اسم الجماعة (إخوان الصفاء) قد أخذ من قصة (الحمامة المطوقة) وأطلقوها على أنفسهم ... أما نظام جماعة إخوان الصفاء فإنه يعتمد على التنظيم الهرمي كعمر الإنسان يدخل في التدرج الهرمي لمراحل التنظيم حيث تكون لكل مرحلة متطلباتها وخصائصها وقابلياتها فالعضو في الجمعية يطلق عليه لقب (الأخ) ويبدأ بالمرحلة الأولى فإذا نجح يرتقي إلى المرحلة الثانية والمرحلة الرابعة تكون قمة الهرم التنظيمي فالمرحلة الأولى يكون عمر العضو (الأخ) بين السادسة عشر والثلاثين ويطلقون عليهم (الإخوان الأبرار الرحماء) ويمتاز هؤلاء بصفاء النفس والاستعداد الذهني والذكاء ونكران الذات وهي مرتبة أرباب ذوي الصنائع وهي تمثل قاعدة التنظيم وإن الرسائل ألفت وخصصت لتثقيف وتوعية (الأخ) البار الرحيم .. أعضاء القاعدة يتعلمون ويثقفون بالمبادئ العامة لجميع فروع العلم والمعرفة المتداولة في عصره لأن القاعدة هي التي تعتبر الامتداد والجسر الذي يرتبط مع جماهير الشعب ويعكس لهم أفكار الجمعية ولذلك يكون (الأخ) مثقفاً ويمتاز بوعي فكري واسع حتى يستطيع محاورة ومنافسة الآخرين وإقناعهم بمبادئ وأفكار الجمعية ويكسبهم ويضمهم إلى الجمعية ... أما الرتبة الثانية وهي خاصة بأعضاء الجمعية الذين أكملوا سن الثلاثين إلى الأربعين من عمرهم ويطلقون عليهم لقب (الإخوان الأخيار الفضلاء) وهؤلاء يمتازون بمرتبة الرؤساء ذوي السياسات ويتلقون في هذه المرحلة علوم الفلسفة ويتوسعون في دراستها ويعتبرون كوادر متقدمة بالجمعية وواجبهم ومهمتهم الإشراف وتنظيم أعضاء الجمعية في القاعدة أما المرتبة الثالثة خاصة بالأعضاء الذين بلغوا سن الأربعين إلى الخمسين يطلقون عليهم لقب (الإخوان الفضلاء الكرام) وهؤلاء هم أصحاب الأمر والنهي ويمتازون بموهبة حل المشاكل والخلاف خلال الحوار والمناقشة وإعطاء الرأي الصحيح والصائب في الموضوع ويمتازون بالشفافية واللطف وأدب الحوار والمناقشة والإقناع كما تقع على مسؤوليتهم إدارة الدعوة والتنظيم وإلقاء المحاضرات ومنهم يعينون مسؤولو المناطق والفروع أما المرتبة الرابعة خاصة بالأعضاء الذين أكملوا الخمسين من العمر وهم الذين يشاهدون الحق عيناً وهي مرتبة الحكماء وكل الإخوان مدعوون إلى هذه المرتبة وهي أعلى المراتب في نظريتهم ومن يصل إليها يكون من (الواصلين) حسب التعبير الصوفي .. وأصحاب هذه المرتبة يشكلون القمة في الهرم والتنظيم وأن تتوفر في كل واحد منهم جل خصال الأنبياء فهو الذي يكون الرئيس من بينهم وإن لم يكن فهؤلاء بأجمعهم يحلون محل الرئيس إذ تتوفر فيهم مجتمعين الخصال الحميدة المطلوبة وهذا يمكن أن يسمى بـ (القيادة الجماعية).
كان إخوان الصفاء حريصين على نشر دعوتهم بين الشباب دون الشيوخ لقناعتهم أن نفوس الشباب مثل الورق الأبيض الصافي لم يكتب عليه شيء فتستقر الدعوة في نفوسهم وتتمكن من التأثير عليهم وهناك توصية تقول (ينبغي عليك أيها الأخ أن لا يشتمل الإصلاح بالمشايخ الهرمة الذين اعتنقوا من الصبا آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاق وحشية فإنهم يتبعونك ثم لا ينصلحون وإن انصلحوا قليلاً فلا يفلحون ولكن عليك بالشباب السالمي القلوب الراغبين في الآداب المبتدئين بالنظر في العلوم) .. إذ يكون بذلك خلق جيلاً لا يعرف الهوى والجدل غير متعصب على مذهب ... وكان الإخوان يعملون لضم أعضاء جدد من الشباب إلى الجماعة وتنظيمهم وإعدادهم الإعداد المطلوب من مختلف الطبقات إلى جانب محاولة كسب المؤيدين المتعاطفين مع الجمعية وأهدافها.
كان إخوان الصفاء تقوم تنظيماتهم على شكل (خلايا) حيث تتكون كل خلية من عدة أشخاص وتجتمع بصورة دورية بإشراف مسؤول الخلية وفي الاجتماع يتداولون الأوضاع العامة ويدرسون التوجيهات الصادرة إليهم والرسائل والتوضيحات الواردة إليهم من الجهات العليا وكانت هذه الطريقة تدل على الضبط والالتزام التنظيمي وكان الاجتماع لا يحضره سوى أعضاء الخلية ويجتمعون في وقت معلوم يتذاكرون في علومهم ويتحاورون في أسرارهم وهنالك التزامات يجب على الأعضاء الالتزام والتمسك بها :
1) أن تجتمع الخلية كل اثنى عشر يوماً مرة واحدة.
2) أن يكون الاجتماع في مكان سري يأمنون فيه على أنفسهم بعيداً عن أعين الرقباء.
3) أن يتطهروا وينتظموا ويكونوا في كامل أناقتهم عند حضور الاجتماع.
4) الحضور ضروري ولا يجوز أن يغيب العضو إلا بعد إخبار مسؤول الخلية ولعذر وأسباب قاهرة.
مسؤول الخلية هو الذي يرأس الاجتماع ويديره ويشرح ما يستفسر عنه منه ثم على مسؤول الخلية أن يبدأ باختبار قاس لهؤلاء الأعضاء حتى يستخلص منهم الدعاة فإذا نجحوا في الاختبار ونفذوا المهمة التي كلفوا بها بنجاح يطلعهم على أسرار الجماعة ويوزعهم في المنطقة التي أسند إليه الإشراف عليها تنظيمياً ويرتبطون به وهناك تعليمات خاصة لرئيس الخلية تنظيم تصرفاتهم وعلاقته بالأعضاء الذين يعملون معه وأساس هذه التعليمات هو أن تعرف كل شيء عن كل واحد من أعضاء الخلية ولا يعرف هؤلاء عنه شيئاً باعتباره حامل أسرار الجماعة .. ومن بين التعليمات الذي يتبعها ويلتزم بها رئيس الخلية ما يتعلق باهتماماته النفسية والجسدية والمعيشية وأن يسكن في بيت متواضع غير مجلب للأنظار ليأمن اللصوص منه ومصادرة الحكومة وحسد الإخوان وأن يكون على حذر دوماً وأن تكون الدار مشيدة في موضع غير مزدحم حتى يقل جاره ويبعد الناس عن مزارك وليكن غذائه من الموجود غير الممتنع عليه بصنفين وثالثهما الماء يكون اعتماده على ما ينزل من السماء وما ينبع من الأرض وما تيسر له فإنه ما دام على ذلك من قلة الأكل وترك المتسع وتعمد الجوع في الأوقات التي يصلح فيها استعماله كانت طبائعه على حالها لا يزيد فيها ما يحتاج أن تنقص ولا تنقص منها ما تحتاج أن تزيد فإنه إن لم يتحمل على جسمه من المأكل والمشرب والرياضة والحركة ومعتدلاً لازمته العافية وعدمت الإسقاء .. كما لابد أن تكون أخلاقه رصينة وعاداته جميلة وأفعاله مستقيمة تؤدي الأمانة إلى أهلها كائناً من كان من ولى وعدو تأخذ نفسه بحفظها وترعى حق من استرعاه حقها ويحسن مجاورة جاره ويصفى لمودة صديقه ويخلص المحبة لمحبيه مع قلة الطمع وإزالة الفزع في مستعجل زائل وحادث نازل ويريد للآخرين ما يريده لنفسه وأن يكون نموذجاً ومثالاً للمجتمع الذي يسعى إليه ويعمل من أجله ويتمناه.
وبما أن عمل إخوان الصفاء يمتاز بسرية العمل التنظيمي وضعوا ما ورد في الرسالة الجامعة كتابة خاصة بهم تتم بها المراسلات الدائرة بين الأعضاء وقيادتهم فيقولون (ورأينا نكتب ما نريد بحروف ركبناها وبكلمات نظمناها) وبذلك يكون لهم لغة فيما بينهم لا يشاركهم فيها سواهم وبعبارة أخرى إن قصدهم بلغتهم الخاصة هو ما يعرف اليوم بالشفرة ومن خلال ما سبق من متانة التنظيم والالتزام والانضباط الدقيق وسرية العمل أن إخوان الصفاء يحتاطون لكل شيء ومن كل شيء حتى لا يفشى لهم سر ويكونوا منضبطين وملتزمين بعملهم وما يهدفون إليه.
أما في حالة خروج أو استقالة أحد الأعضاء وتركه العمل فإن مسؤول الخلية يتصل به ويستفسر منه عن سبب تركه العمل مع إخوان الصفاء ويوجه له أسئلة كثيرة حتى يصل إلى النتيجة فإن كانت الظروف مادية يقدمون له المساعدة أو إذا كان متذمراً من عمل ما فإن ذلك العمل إما أن يصحح أو أن المسؤول من خلال النقاش والمحاورة يستطيع إقناع العضو بصحة ذلك العمل أو تصحيحه حتى يتم التفاهم وإقناع العضو وإن النقاش يتسم بالشفافية والديمقراطية والمرونة .. ومن خلال هذا السلوك وهذا الضبط والالتزام ودقة التنظيم يتبين أن هذا العمل والانضباط من أجل أن لا تستطيع عيون السلطة من اختراقه أو التسلل إليه فكان الأعضاء منضبطين وحذرين من حيث نشاطهم السري وعملهم وتنظيمهم.
يبدو أن إخوان الصفاء كانوا يعدون عدتهم لإحداث ثورة تغيير نظام الحكم العباسي الذي كان يقوم على الفساد والاستبداد والتسيب والانحلال وحركتهم ذات طابع سياسي واقتصادي واجتماعي يجسد ويعكس برنامج أهداف الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجمعية إخوان الصفاء ورسائلهم التي تضمنت موسوعة ضخمة اشتملت على الفنون والثقافة والمعرفة وتشتمل على اثنين وخمسين رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائق الأدب وحقائق المعاني عن كلام الخلصاء والصوفية وهي مقسمة على أربعة أقسام فمنها الرياضيات التعليمية ومنها جسمانية طبيعية ومنها نفسانية عقلية وعلوم سياسية واقتصادي واجتماعية وفلسفية.

#فلاح_أمين_الرهيمي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات