أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - معلّمو الرهافة … المتوحّدون














المزيد.....

معلّمو الرهافة … المتوحّدون


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 7478 - 2022 / 12 / 31 - 14:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


[email protected]

هاتفني في الصباح، بعدما قرأ مقالًا لي عن "الموسيقى" التي تُهذِّبُ أرواحَنا وتُرقِّقُ مشاعرَنا، وقال: “باكلمك عشان حاجتين: أولا: إنتِ كاتبة النهارده عن الموسيقى. وعاوز أقولك إن حروفك نفسها موسيقى. رهافة الكتابة دي نعمة من ربنا. الحاجة التانية: أنا دلوقت عرفت سرّ رهافة قلمك اللي بيكتب موسيقى. السبب هو ابنك/ عمر. مع السلامة.”
هكذا مكالماتُ مهندس/ "صلاح دياب"، مقتضبةٌ، خاليةٌ من الحواشي والزوائد، ودائمًا في "الموضوع”. أما الموضوع فهو أننا التقينا في اليوم السابق في "مسجد المشير طنطاوي" بالتجمع الخامس، في عزاء الناقد الكبير د. “صلاح فضل" رحمه الله. وكان معي كالعادة ابني الجميل "عمر"، المصاب بمتلازمة "أسبرجر"Asperger، أحد أشكال "طيف التوحّد"؛ الذي صار يرافقُني في كل مكان منذ أكرمنا اللهُ وقرّر "كسر شرنقة" العُزلة، التي نسجها حول نفسه سجنًا انفراديًّا سنين عددًا، ليخرج منها أخيرًا ويطيرَ نحو براح الحياة. حين شاهدَ "صلاح دياب" ابني "عمر" في بدلته الأنيقة وربطة العنق السوداء، صافحَه وتكلّم معه برهةً قصيرة، لكنّه أطال النظرَ في عينيه نظرةً "اختراقية"، فهمتُ منها "أنه يحاول قراءته"، كما كان يفعلُ في "نادي الكتاب"، حيث يقضي ليالى "يذاكرُ" الكتاب، كما قال في مقاله بجريدة "الشرق الأوسط"، حتى إذا ما التقينا لمناقشة الكتاب، كان قابضًا على "جوهر الفكرة"، الذي يُسرد في كلمات قليلة "مقتضبة" بلا حواشٍ، تمامًا كما مكالماته التليفونية.
جميعنا نحن، “غير المتوحدين”، "الأسوياءَ"، إن كان ثمة أسوياءُ، لدينا شغفٌ لاختراق عقول المتوحدين من “أبناء متلازمة أسبرجر” لمعرفة كيف يفكرون، ولماذا هم مختلفون، وكيف يرون العالمَ على غير ما نراه؟! وكيف كان منهم: آينشتاين، وڤان جوخ، وبيل جيتس، ونيوتن، وإديسون، وإيميلي ديكنسون، وموتسارت، وغيرهم من فرائد هذا العالم؟! وبالفعل نجح “صلاح دياب” في التقاط "جوهر الحكاية". فأنا وجميع أفراد أسرتي، مدينون لـ"عمر" بالنظر إلى العالم من زوايا أكثر جمالا ونقاءً وبراءة وعدلا و"موسيقى"، من زوايانا. دعوني أقصُّ عليكم حكايةً من حكايا "عمر" التي لا تنتهي، حتى تقبضوا على جوهر “مرض الجمال"، كما يروق لي أن أسمّيه.
اعتدتُ أن أملأ محفظةَ "عمر" بأوراق من فئة العشرة جنيهات؛ لكي يعطي السائلين من السابلة. وأصبحتْ عادةً متأصّلة لديه يفعلُها تلقائيًّا. وذات يومٍ كنّا جالسين مع مجموعة من الأصدقاء على أحد مقاهي الإسكندرية. مرَّ سائلون عديدون، وكان "عمر" يفتح محفظته بشكل "آليّ ميكانيكي"، شأن المتوحدين، ويُخرج ورقة مالية يمنحها للسائل قائلا: “اتفضّل!"، دون أن ينظرَ في عينيه. فالمتوحّدون قلَّما ينظرون في عيون الناس. ثم مرّت فتاةٌ مليحةٌ حول الخامسة عشر من عمرها، مدّت يدها لـ"عمر" ليعطيها شيئًا. فنظر نحوها ثم أطرق، ولم يفتح محفظتَه كالمعتاد، بل امتدت يدُه نحو ڤازة صغيرة في منتصف الطاولة، وانتزع زهرةً بيضاء، قدّمها للصبيّة. نظرت إليه الصبيةُ مشدوهةً، ثم نظرت إلى الزهرة في يدها، وظلت تنقل عينيها من الزهرة إلى عيني "عمر"! لكنه لم ينظر إلى عينيها، بل رمقها خِلسة بطرف عينيه، ثم أطرق غارقًا في صمته المعتاد. ومضت الصبيةُ إلى حال سبيلها دون كلمة. ربما هذه أولُ زهرة تُقدَّم لها في حياتها، لا أدري. ولكن الأكيد أن شيئًَا ما دار بذهن "عمر" جعله يستصعبُ أن يمنحَ الفتاةَ حفنةَ مال! هذا لا يليق. الجميلاتُ تليقُ بهنّ الزهورُ الجميلة، لا الأوراق النقدية!
رحنا ننظرُ إلى بعضنا البعض في دهشة من مشهد استغرق دقيقةً، لكنه حُفِر في وجداننا، ولا أظنّه سيُمحى من ذاكراتنا. بعد المشهد تَدثّرنا بالصمت برهةً، ثم انفجرنا بالضحك. وظللنا نُمطرُ "عمر" بالثناء والإطراء على تصرفه الراقي، وكان بيننا مَن تندّر مازحًا أن الفتاةَ كانت تُفضِّلُ الجنيه على الوردة، وأن "عمر” قد خذلها برومانسيته تلك، إلى غير ذلك من “الألش” المصري الظريف! لكن "عمر" لم يعبأ بكل ما نقول، ولا نظرَ حتى نحونا. فهو بالتأكيد لا يفهمُ لماذا المديح أو حتى المزاح حول أمر بسيط فطري فعله بمنتهى التلقائية، وفق "البرمجة النبيلة" التي خلقه اللهُ عليها، في “منظومة التوحّد”! لم يعبأ "عمر" بصخبنا، ونظر نحو البحر قائلا باقتضاب: "البحر جميل!". فقطع الأصدقاءُ ضجيجَهم وقالوا: (البحر جميل فعلا يا "عمر"، وأنت جميل!) أصبح هذا المشهدُ العفوي الخاطف، الذي فعله "عمر" بتلقائية وبساطة في ثوان، حكايةً نحكيها لأصدقائنا لنتأمل فرادة عقول المتوحدين الذين ينظرون إلى العالم من نافذة خاصة جدًّا، على غير ما ننظر نحن إليه. وفي كتابي وشيك الصدور: "عُمَر... من الشرنقة إلى الطيران" عن "المؤسسة العربية الحديثة"، حكايا أخرى عن "مُعلّمي الرهافة" في عالمنا المشحون بالمادية.

***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إيه فيه أمل! عن الطفل شنودة
- حينما الموسيقى … صوتُ السماء!
- دولةُ الأوبرا تحتضنُ مليكتَها
- اتهامات مفيد فوزي ... وهداياه
- ذوو الهِمَم … أبناءُ الحياة
- ياسين بيشوي … والأخلاقُ في اليابان
- أخبرني الخيميائيُّ: عن طيف التوحُّد Autism
- سرُّ إشراق السير مجدي يعقوب: PPHH
- عيد ميلاد الرئيس … محرابٌ ومذبح
- التنمُّرُ ... قاتلُ المستقبل
- تجمَّلْ بالأخلاق
- طنطا … تصدحُ شِعرًا … وتشدو مددًا
- مصرُ الراهنةُ ... في عيون الأشقاء
- ماذا صرتَ اليومَ يا جوناثان؟
- اِتحضَّر للأخضر … نحو عالَمٍ نظيف COP27
- علبةُ كشري ودرسٌ : الأسطى مختار
- افتتاح مهرجان الموسيقى العربية… إبهارٌ في إبهار!
- أخبرني الخيميائي: الزئبق... القاتلُ الصامت
- جيشُنا المصري… مصنعُ رجال
- اليوم العالمي للفتاة … زهرة الحياة


المزيد.....




- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - معلّمو الرهافة … المتوحّدون