|
علبةُ كشري ودرسٌ : الأسطى مختار
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 7417 - 2022 / 10 / 30 - 02:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تداولت المواقع واقعةً مؤسفة حول عامل نظافة دخل أحد محال الكشري بالقاهرة، واشترى علبة كشري، ولحظة الاستلام، تعامل معه البائعُ بأسلوب غير لائق وطلب منه الخروج وانتظار طلبه في الشارع. شعر الرجل بالإهانة لمعاملته بتعالٍ بسبب زي عمال النظافة، وهتف غاضبًا: “أنا من يحمل قمامتكم!” الجميلُ هو رد فعل المجتمع الذي استنكر الواقعة وندائه بمقاطعة فروع المحل، خاصة أن ذلك المحل كان له واقعة طائفية مؤسفة أخرى حين رفض تناول طفلة مسيحية للكشري في نهار رمضان الماضي. تكررت جرائمُ ذلك المحل الطائفية، والطبقية، ودائمًا تُقابل جرائمة بالاستنكار المجتمعي العارم، وتلك علامة طيبة تؤكد أن "مَتن" العقل الجمعي للمصريين سليمٌ معافٍ من أمراض الطائفية والعنصرية، وإن ظلَّ بعضُ "الهامش" مصابًا بتلك الأمراض الخبيثة. تلك العلامة الطيبة تعني أننا نسير على درب التنوير والصحة الإنسانية والتحضر بإذن الله. وربما يسمحُ الله بوقوع تلك الوقائع المُخزية لكي نثور عليها ونرفضها فنتعلم درسًا جميل؛ وتحدث "عدوى التنوير" حين يغار غيرُ المستنير من المستنيرين، فيتأمل ويفكر ويخرج مع الوقت من كهف العنصرية الضيق الخانق، إلى حيث رحاب التحضر والسماحة والاتزان الأخلاقي. دعوني في هذا المقام أحكي لكم عن "مختار" سائق الباص الصومالي الذي يعمل في أوروبا. في شوارع الدنمرك النظيفة، باص يقوده "مختار”، ويسير في مساره اليومي المعتاد حاملا الركاب من المحطات المختلفة نحو وجهاتهم. في أحد الأيام، توقف الباصُّ في المحطة الأولى، فصعد رجلٌ يحمل آلة "الساكس" الموسيقية، وراح يعزف داخل الباص لحن "عيد الميلاد" الشهير، وبدأت سيدةٌ من الركاب تُغني Happy Birthday to you. وسرعان ما شاركها الركّاب. اندهش "الأسطى مختار" وراح ينظر في المرآة الأمامية لأولئك المجانين الذين يقيمون عيد ميلاد في الباص! في المحطة التالية، وجد حشدًا من البشر يقطعون الطريق أمام الباص، حاملين البالونات والأعلام الملونة ولافتاتٍ عليها عبارة: "عيد ميلاد سعيد يا مختار!" صُعق الرجل دهشةً وشهق غير مصدق. وليس بوسعي رسم انطباعات وجهه بالكلمات. لابد أن تشاهدوا الفيديو بأنفسكم، لكي تدركوا حجم الفرح الذي غمر قلب عامل بسيط يكدّ من أجل الخبز، في بلاد جادّة لا مكان فيها لخامل أو لعاطل. الحكاية باختصار أن اليوم عيد ميلاده. وشأن كل الكادحين في العالم، لم يتذكر الرجلُ. وحتى إن تذكّر ما الفرق؟! مثله لا يهتم بأعياد الميلاد، بل بقوت العيال. لكن مؤسسة النقل العام، التي يعمل بها، قررت أن تجلبَ الفرحَ إلى قلبه، وتحتفل به بطريقة مبتكرة: على الطريق: On Board! طفق الدمعُ من عينيه حين عانقه رؤساؤه وزملاؤه السائقون، وسط المارّة والركّاب الذين راحوا يلوحون بالرايات الملونة التي تحمل اسمه "العربي- المسلم": مختار. أولئك بشرٌ يفهمون الحياةَ على نحو مختلف عما نفهمُها نحن، بكل أسف. يتفانون في العمل والجدية، مثلما يتفانون في الحياة والفرح بها بوصفها هديةَ الله للإنسان. يُقدّرون "الآخر" كونه "إنسانًا"، دون النظر إلى عِرقه أو لونه أو معتقده أو طبقته الاجتماعية، طالما سلوكه منضبطًا ومحترِمًا للآخر. يقدسون وقتَ العمل؛ فيهبونه "كاملاً" للعمل، ويقدسون وقتَ الراحة؛ فيهبونه "كاملاً" للراحة والاستجمام والترحال والتريّض، ويقدسون وقتَ العبادة، فيهبونه "كاملاً" للعبادة. لا خلطَ أوراق، ولا شكلانية ومظهرية على عكس ما تفعل مجتمعاتُنا للأسف في أحيان كثيرة. فكثيرٌ منّا لا يعملُ بجِد، ولا يستمتعُ بجد. نمسُّ الأمورَ مسًّا طفيفًا، دون عمق، فلا نَخلًصُ لشيء! وهنا أسمع قارئًا يقول: أولئك الدنماركيون رسموا صورًا مسيئة للرسول (ص). وأقولُ له: بل كانوا يرسموننا نحن! فهم، مثلنا، لم يروا رسولَنا الكريم، ليرسموه، أو يحاولوا النَّيْل منه. لكنهم، دون شك، رأونا نحن، في بلادنا وفي بلادهم، وعلى الفضائيات وسويشال ميديا. رأونا ونحن نقدم صورةً مسيئةً للعرب وللمسلمين. مِنّا مَن يَجدُّ ويُعمّرُ بلادَهم الغربية بالعلم والعمل، فينالُ احترامَهم وتقديرهم، ومِنّا مَن يعبثُ في بلادهم ويأتي سلوكًا معيبًا، يسيء لنا جميعًا، كأفضل ما تكون الإساءة. لستُ أبرئهم من خطأ، وبالمقابل، لا أنوي أن أبرئنا من أخطائنا. فقد اعتدتُ أن أرى الجمالَ جمالا، ولو أتاه غريبٌ أو عدوّ، وأن أرى القبحَ قبحًا، وإن أتاه ذوو قُربى. ولأنني حريصةٌ على صورتنا، التي نعملُ بكل جهدنا على تشويهها، يحقُّ لي أن أغار! وتلك القصة، حكاية الأسطى مختار، ملأت قلبي بالغيرة، حين أقارنُ بينها وبين عدم تقديرنا لأولئك الكادحين، الذين على سواعدهم فقط، تسيرُ حياتُنا، ثم لا نعبأ حتى بأن نقول لهم: شكرًا! وأقولُ لهم اليوم: شكرًا.
***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افتتاح مهرجان الموسيقى العربية… إبهارٌ في إبهار!
-
أخبرني الخيميائي: الزئبق... القاتلُ الصامت
-
جيشُنا المصري… مصنعُ رجال
-
اليوم العالمي للفتاة … زهرة الحياة
-
شهداءُ مصرَ -المصريون- ... لأجل الوطن!
-
جائزة الأولمبياد للرئيس... ويومٌ مع أطفال الرجاء
-
عِلمُ بلادي الجميلة: Egyptology
-
-هشام سليم-… الأبُ الجسور
-
الآخرُ الجحيمُ … الآخرُ الفردوس
-
فارساتُ راهباتِ الفرنسيسكان
-
لقد نسيتَ كيس الأرز أيضًا!
-
السنة المصرية والسنة القبطية وعيد النيروز
-
هذا سبتمبر … يا أمّي!
-
كوكب ياسمين مصطفى… المصري
-
نجيب محفوظ … العصيُّ على الغياب
-
ميس كاميليا … مسيو موريس
-
سميرة موسى … نابغةُ مصر الخالدة
-
في حب العذراء مريم
-
أشقائي … شهداء كنيسة -أبو سيفين-
-
ماذا علَّمني أبي … وأبي؟
المزيد.....
-
السودان.. قوى مدنية تبدأ حملة لتصنيف -الإخوان- منظمة إرهابية
...
-
الأردن.. إجراءات بحق جمعيات وشركات مرتبطة بتنظيم -الإخوان-
-
إغاثة غزة.. منظمات يهودية أميركية تضغط على إسرائيل
-
الناخبون اليهود في نيويورك يفضلون ممداني على المرشحين الآخري
...
-
الأردن يحيل شركة أمن معلومات تابعة لجماعة الإخوان المحظورة إ
...
-
كيف تدعم -خلية أزمة الطائفة الدرزية- في إسرائيل دروز سوريا؟
...
-
الخارجية الفلسطينية تدين دعوات اقتحام المسجد الأقصى غدًا بحج
...
-
3 أسباب تُشعل الطائفية في سوريا
-
آلاف الفلسطينيين يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى وسط قيود
...
-
جولي دهقاني في بلا قيود: لدينا أفراد في الكنيسة لا يقبلون سل
...
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|