أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - قطار آخن 45















المزيد.....

قطار آخن 45


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 7478 - 2022 / 12 / 30 - 20:08
المحور: الادب والفن
    


بعد تأخير استمر قرابة ثلاث ساعات تم الإعلان عن وصول القطار القادم من لندن، دخل المحطة كعريس بكامل هيبته، صعدوا إلى العربة التي حجزوا فيها أمكنة جلوسهم، رائحة الطعام تفوح في أرجاء عربات القطار، فوجئ إبراهيم إذْ رأى أنّ من سبقوه للصعود والجلوس في مقاعدهم قد حملوا بين أياديهم علبة كبيرة وفيها علباً أصغر مليئة بالأطعمة وجعلوا يتناولون طعام وشرابهم وكأنهم مدعوّون لحفلة تنكرية، تساءلَ ساخراً والجوع قد هاجمه:

ـ ما الأمر مع هؤلاء المسافرين النهمين؟

قالت سابينة وكأنها شعرت بحيرته:

ـ هذا هو طعام الاعتذار عن تأخر القطار.

وصلوا إلى مقاعدهم ووجدوا بدورهم علب طعام تنتظرهم، جلسَ إبراهيم في مقعده من جهة النافذة، مقابله جلست هنيلوري وعلى يمينه جلست سابينه، كانوا جائعين، فتحوا علبهم وراحوا يأكلون، بضع دقائق وصار كل شيء على ما يرام في القطار، وجد كل مسافر مقعده وطعامه.

انطلق القطار من محطة القطار الشمالية في باريس.

هناك فرق في التوقيت بين باريس ولندن، ساعة من الزمن، ساعة من الإرباك والحيرة.

في مدينة "كوكيوليس" الحدودية شمال فرنسا سيتابع القطار رحلته عبر النفق الأوروبي الشهير الذي يربط الأراضي الفرنسية بجزيرة بريطانيا، لتأمين خدمات نقل الركاب والبضائع، يمتد نفق المانش على طول أكثر من خمسين كيلومتراً بعمق وسطي يصل إلى أربعين متراً تحت بحر المانش، مسافة نفقية يقطعها القطار كما هو مكتوب في خطة سفره في حوالي ثلاثين دقيقة، ليخرج بعدها من النفق داخلاً في مدينة "فولكستون" التابعة لمقاطعة "كينت" في جنوب شرق إنجلترا، من هناك سيواصل القطار طريقه إلى محطة "سانت بانكراس" في لندن.

في نفق المانش ثمة نفقان رئيسيان للقطارات ونفق ثالث بينهما للخدمات المركزية، كما أن هناك تقاطعات عملاقة للعبور تسمح للقطارات بالتحوُّل من نفق إلى آخر، بالإضافة إلى ذلك هناك حوالي مئتين وخمسة وأربعين ممر عبور كطرق هامة للنجاة حين وقوع كارثة.

من خلال هذه المشاريع الهندسية العملاقة تبرز عبقرية العلم وقدراته وتفوقه.

لا تحتاج الآلات والمحرِّكات الهندسيّة لفكرة الله، لا تتطلَّب أماكن عِبادة وخضوع وسُجود، لأنّها ببساطة تعمل بشكل خلّاق ورائع ومتناسق لتنفيذ ما يحتاج إليه البشر. لا الرافعة الدخانية احتاجت لرحمة الإله ولا ساعة الجيب، اللتين ابتكرهما المهندس "تقي الدين الشامي" قبل حوالي خمسمئة عاماً. حتى ساعة الفيل الأوتوماتيكية، التي صمَّمها المهندس "الجزري" منذ أكثر من ثمانمئة عاماً، استطاعت أن تصدر الأصوات وتحرك الأفاعي الصينية وأنابيب الماء اليونانية دون مساندة الله. اِخترع المهندس الآلات بما فيها آلات حفر الأنفاق العملاقة في أحسن تقويم، الإنسان قادر على الخلق كقدرته على الإبادة والتدمير.

قال إبراهيم:
ـ بناء الأنفاق ليس مقياساً للبلدان "عالية" التقدم.

ردّت سابينه:
ـ ما الذي تريد قوله؟

ـ البلدان المتقدمة جداً هي تلك التي لا تسير الشاحنات الضخمة على طرقاتها السريعة جنباً إلى جنب مع السيارات الصغيرة.

**

فجأة توقف القطار في النفق بسبب عطلٍ طارئ.

ـ إبراهيم، كيف تشعر؟ سألت سابينه.

ـ إنها المرة الأولى التي أسافر بها تحت البحر.

ـ هل أنت خائف؟

ـ أكذب إذا أنكرت خوفي، إن ضغط ماء البحر قادر على سحق قطار كما لو كان عبوة معدنية، نعم خائف بعض الشيء، دعيني أقول بكلمة أخرى، أعيش حالة ما يمكن تسميته "القلق النفقي"!

ـ وصف مبتكر وجميل للحالة. لكن ثمة طبقة صخرية عازلة لا تسمح للماء بالتسرب إلى النفق. قالت سابينه وضحكت.

ـ ما الأمر الذي أضحكك؟ سألت هنيلوري.

ـ إبراهيم يعاني من التوتر النفقي. أجابتها سابينه بغبطة.

ابتسمت هنيلوري ثم أغمضت عينيها وكأنها تصلي.

ـ اِشرب بعض الماء، تنفس بعمق، أخاف أن تأتيك حالة إغماء.

ـ شكراً سابينه، لا تقلقي عليّ، أشعر بالهدوء الآن.

**

ـ هل تعتقد أن تمتد يد الإرهاب إلى "نفق المانش" ذات يوم؟

ـ سيناريو محتمل، ما حدث في مركز التجارة العالمي في نيويورك يترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها.

ـ إنّه لأمر خطير ومرعب، أليس كذلك؟

ـ بالتأكيد، للأسف صار كل شيء وارداً في زمن العولمة!

ـ حتى في هذا القطار الأوروبي وتحت البحر!؟

ـ نعم حتى في هذا القطار، في البحر أو فوقه أو تحته لا فرق؟

ـ رغم غرف المراقبة والتحكم؟

ـ نعم، رغم التجهيزات التقنية الدقيقة وتدابير الأمن والأمان كلها.

ـ هل تفرح لحدوث هذا العمل لو كان من قبل مجموعة فدائية يسارية أو إسلاموية؟

ـ أنا ضد العمل المُسَمَّى فدائيّ من قبل مجموعة متدّينين أو يساريّين، لأنّه في الجوهر عمل مراهق إِرهابيّ ماسوخي مريض.

ـ وبالنسبة للأعمال الفدائية الفردية؟

ـ ينطبق عليها ما ينطبق على الحالة الجماعية. كله يندرج تحت مظلة الإرهاب.

ـ ربما ثمة توجه سياسي خبيث خلف الأعمال الجماعية، لكن الفردية هي قرار شخصي يعبر عن طريقة مقاومة ما.

ـ أعتقد أنّ كلمة فدائي ـ مثلها مثل كلمة شهيد ـ قد أصبحت قديمة جداً، يجب تجاوزها وحذفها من القاموس، الحياة قيمة يجب احترامها.

ـ هل كان "غيفارا" متطرّفاً؟ هل كانت "سناء محيدلي" إرهابية؟ هل كانت "جميلة بو حيرد" إرهابية أم مناضلة؟

ـ الإجابة على سؤالكِ تتَطَلَّب فريق بحث علمي مؤلف من أخصايين في علم النفس والسياسة وعلم الثورات والاجتماع. ثم من أين لك معرفة هذه الأسماء؟

ـ وهل اللبناني "سمير القنطار" متطرِّف وإرهابي؟ أيستحق عقوبة السجن مدى الحياة؟

ـ كان مراهقاً بالعمر وقتذاك وكان إرهابياً في تنفيذ عمليته تلك، لكن العمل المُقترف من قبله يجب ألّا يُبرر الإرهاب المضاد والمُقترف من قبل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ذائعة الصيت.

ـ وهل المناضل "جورج إبراهيم عبد الله" إرهابي أيضاً؟

ـ أعتقد بأنه والجماعة العائلية المسيحية التي يقودها والمسماة "الفصيل المسلح الثوري اللبناني" عبارة عن عصابة قتل وتطرُّف وابتزاز. لو لم يكن إرهابياً لما اعتقلته السلطات الفرنسية وحكمت عليه بالسجن الطويل. قرأت مرة في جريدة "دي تسايت" الألمانية بأنه كان مخبراً لجهاز المخابرات الفرنسية وفق الاعتراف الذي قدّمه بنفسه مع نهاية التحقيق معه.

ـ وماذا عن "منظمة الجيش الأحمر" الذي نشأت في مطلع السبعينيات في ألمانيا الغربية، وكانت مناهضة للإمبريالية والرأسمالية والفاشية؟

ـ الإعلام الديمقراطي يقول إنها إحدى أبرز وأنشط الجماعات الإرهابية اليسارية الشيوعية المسلحة. ألم ترتكب عمليات قتل وخطف وتفجير في ألمانيا؟ نشأتها تذكرني بنشأة "المنظمة الشيوعية العربية" في سوريا تحت المبادئ والتوجهات ذاتها.

**

ـ إذاً أنت غير متعاطف حتى مع "شيخ الجبل"؟

ـ ومن يكون هذا الشيخ الجليل؟

ـ أقصد الزعيم "حسن الصباح"، الذي أرسى أسس الفدائية، مؤسس ما يُسمى بجماعة الحَشَّاشين. أجابت سابينة وهي تمعن النظر في عينيّ إبراهيم.

ـ لا أعرف عنه إلا القليل القليل. أجاب بدبلوماسية فاقت توقعات سابينه.

ـ وماذا تقول عن خطف جندي إسرائيلي؟ هل هو عمل بطولي فدائي؟ أم إرهابي؟ سألته سابينه بدهاء.

ـ خطف أي مواطن هو جريمة وإرهاب!

ـ أتكلم هنا عن جندي لا عن مواطن مدني. قالتْ سابينه مُمتعِضة.

ــ اسمعي يا سابينه شيئاً من الفيزياء:

كان "دالامبير" يُراقب حركة الأجسام المحيطة من داخل الجملة المُتحرِّكة (قطار مع قائده مثلاً) المُراد دراستها فيزيائياً ولهذا يُسمّى (المُراقب الداخلي). في الوقت الذي يُراقب فيه "نيوتن" حركة القطار وقائده من الخارج فيُسمّى بذلك (المُراقب الخارجي). وهكذا فإنّ سائق القطار يتحرّك بالنسبة إلى المُراقب الخارجي نيوتن مبتعداً عنه، لكنه يبقى ساكناً بالنسبة إلى المُراقب الداخلي دالامبير، يجلسُ بجانبه، لا يتحرّك ولا يبتعد.
تخيّلي أنّك تسافرين بالقطار من باريس مثلاً إلى لندن لقضاء الإجازة التي تستحقينها بعد شهور عملٍ طويلة! تخيّلي أنّه يوجد على متن القطار مواطنون أو دبلوماسيون يهود! تخيّلي أنْ يقوم عِدَّة مُسلَّحين تابعين لمنظمة ما (مُقَاوِمة) أو لحزب ما (مُمَانِع) بخطف القطار ومسافريه كلهم، ثم البدء بارتكاب الحماقات والإهانات والاستعراضات والمراهقات الثورية في داخله ناهيك عن الابتزاز التهديديّ بقتل ركابه!
تخيّلي لوهلة قصيرة أنَّكِ مسافرة متواجدة داخل القطار (دالامبير)! كيف ستصفين عملية الخطف عندئذ؟ هل هي عملية إرهابية مثلاً!؟ ثم تخيّلي أيضاً أنَّكِ خارج القطار (نيوتن)! كيف تصفين العملية؟ هل هي عملية فدائية مثلاً لأنك غير مُعرّضة للخطر!؟ وهكذا إما أن يكون المرء نيوتُنيّ أو دالامبيريّ فيما يتعلق برؤيته للحالة!

ـ فهمت عليك، إذا أنت دالامبيريّ دائماً على ما يبدو. قالت سابينه مُنهية الثرثرة التي بدأتها بذكاء ينم عن اهتماماتها الثقافية السياسية.

**

آخيراً خرج القطار من الظلمة إلى النور، من البحر إلى الأرض، ها هي السماء من جديد، ها هو القطار يُهدّئ من سرعته، يدخل إلى محطة "أشفورد"، تنهض هنيلوري، تضع يدها على بطنها، تطلب من إبراهيم مبادلته مقعد الجلوس، ينهض إبراهيم، يخاصرها ويدخلها إلى مكانه برفق، ينظر إليها، يسألها:
ـ ما الأمر؟

ـ لا شيء مهم، أشعر فقط بانتفاخ في بطني، بطني مليء بالخوف والغازات. أكره الموت وخاصة تحت قاع البحر، حمداً لله أننا ما زلنا أحياء.
**



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قطار آخن 44
- قطار آخن 43
- قطار آخن 42
- قطار آخن 41
- قطار آخن 40
- قطار آخن 39
- قطار آخن 38
- قطار آخن 37
- قطار آخن 36
- قطار آخن 35
- قطار آخن 34
- قطار آخن 33
- قطار آخن 32
- قطار آخن 31
- قطار آخن 30
- قطار آخن 29
- قطار آخن 28
- قطار آخن 27
- قطار آخن 26
- قطار آخن 25


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - قطار آخن 45