جرائد .. قبرصية

سعد هجرس

الحوار المتمدن-العدد: 1696 - 2006 / 10 / 7 - 09:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

نعرف فى مصر ظاهرة ما يسمى بـ الجرائد القبرصية"، وهى تلك الجرائد التى تصدر فى مصر بناء على حصول أصحابها على "رخصة" من قبرص.
وهذه الظاهرة ناجمة – من ناحية – عن القيود الكثيرة المفروضة على حق الأفراد والجماعات فى إصدار صحفها الخاصة، كما أنها ناجمة من ناحية أخرى عن سهولة إجراءات الحصول على ترخيص إصدار الصحف فى سائر بلاد خلق الله.
وبما أن قبرص أقرب تلك البلدان الأجنبية إلينا، فأن كل من يريد إصدار صحيفة هنا وتتفنن الإدارة المصرية فى تعذيبه ووضع العقبات والعراقيل أمامه، ما عليه إلا أن يشد الرحال ويذهب إلى هذه الجزيرة التى تقول الأسطورة أنها كانت مسقط رأس إلهة الحب والجمال أفروديت. وهناك يستطيع أن يحصل على "رخصة" فى غضون أربعة وعشرين ساعة، يأتى بها ويقدمها إلى نفس كبار البيروقراطيين الذين وقفوا له بالمرصاد من قبل لا ليطلب الترخيص باصدار جريدة مصرية وإنما ليطلب الترخيص بطبع جريدة قبرصية.
وهكذا يتم الالتفاف لحل المشكلة وتصدر الصحيفة التى نسميها قبرصية رغم ان مالكها مصرى ورئيس تحريرها مصرى والصحفيون الذين يحررونها مصريون والعمال والفنيون والإداريون الذين يعملون بها مصريون والقراء الذين يتصفحونها مصريون!
وليس ما يهمنا – فى هذا المقال – التدليل على سخافة وعبثية هذه الأوضاع البيروقراطية والمنافية لحرية التعبير التى تضع قيوداً على حق المصريين فى إصدار صحفهم، وهى فى كل الأحوال قيود بات من المستحيل عملياً أن تكون لها فاعلية فى عصر ثورة المعلومات وثورة الاتصالات.
ما يهمنا بالأحرى هو أن ننتقل إلى الطرف الآخر من المعادلة، نعنى الطرف القبرصى.
فمن كثرة ترديدنا لعبارة "الصحافة القبرصية"، يكاد المرء يتصور أن الصحافة فى تلك الجزيرة الجميلة "سداح مداح" طالما أن كل من هب ودب يستطيع أن يذهب إليها ويحصل على رخصة إصدار جريدة بمجرد دفع حفنة من الجنيهات القبرصية ( مع ملاحظة ان الجنيه القبرصى ليس عملة تافهة بل إنه يعادل أكثر من اثنى عشر جنيهاً مصرياً ونصف!).
وحقيقة الأمر – كما تبينتها خلال زيارة قمت بها إلى قبرص خلال الأيام الأخيرة والتقيت خلالها بعدد كبير من كبار المسئولين فى الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدنى- أن هذه السهولة الظاهرية للحصول على ترخيص لاصدار جريدة لا يعنى أن الساحة الصحفية القبرصية بدون ضوابط.
وأحد أهم هذه الضوابط ان هناك شروطاً محددة للاستثمار "الأجنبى" فى مجال الاعلام عموماً، بما فى ذلك الصحافة بالطبع.
ورغم أن قبرص تتبنى سياسة جاذبة للاستثمار الأجنبى المباشر، فأنها تضع قيوداً على هذا الاستثمار الأجنبى فى قطاعات معينة، من بينها الاعلام والتعليم والصحة.
هذه القطاعات الثلاثة – بالذات – لا يستطيع رأس المال الأجنبى ان يرتع فيها كما يشاء، بل إن هناك حدوداً لا يمكنه تجاوزها، وشروطاً لا يستطيع أن يلتف حولها.
ويجدر التذكير بأن قبرص ليست دولة "انغلاقية" – على حسب التعبيرات الخائبة الشائعة لدينا – بل إنها دولة تتبنى اقتصاد السوق، ومنفتحة على العالم، وتعمل بأيديها وأسنانها لاجتذاب رأس المال الأجنبى، وتقدم له كافة الاغراءات والتسهيلات، وتقوم من أجل ذلك بـ "تحرير" الاقتصاد فى كافة القطاعات. وقد قطعت شوطاً كبيراً فى هذا الاتجاه بصورة أهلتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى منذ عام 2004، وجعلت تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة يضعها فى المركز الخامس والعشرين على مستوى العالم استناداً إلى مؤشرات متعددة منها نوعية حياة المواطنين، والاسكان، والصحة العامة، ونظافة البيئة، ومستوى التعليم، ودخل الفرد .. الخ.
لكن هذه السياسة الاقتصادية "الانفتاحية" لم تكن ذريعة لأن تتخلى الدولة عن واجباتها فى مجالات أساسية كالاعلام والتعليم والصحة.
بل على العكس .. نجد أن الحكومات القبرصية المتعاقبة – وهى متعاقبة بالفعل لأن هناك تداولاً للسلطة بين الأحزاب اليمينية واليسارية وتحالفاتها وائتلافاتها – قامت بتطويع سياسة تشجيع الاستثمار الأجنبى المباشر للمتطلبات الوطنية فى هذه المجالات الثلاثة.
وهذا يعنى ضمناً ان هناك "رؤية" وطنية، او استراتيجية شاملة بعيدة الأمد تحكم السياسات قصيرة الأجل التى تتبناها الحكومات المتعاقبة بصرف النظر عن اللون السياسى لهذه الحكومة أو تلك.
هذه الرؤية الاستراتيجية هى بدورها جزء مما يمكن أن نسميه "عقدا اجتماعياً" لا يمكن لأحد تجاهل استحقاقاته.
وليس هذا اختراعاً قبرصياً .. بل إنه يكاد أن يكون القاعدة المعترف بها، والمعمول بها، فى معظم المجتمعات الحية.
علماً بأن هناك ملابسات كثيرة خاصة بدولة مثل قبرص تعطيها المبرر كى لا تكون المثال النموذجى بهذا الصدد، منها ضآلة عدد سكانها وصغر سوقها وانقسامها الطائفى والتعقيدات الاقليمية التى تجابهها. لكنها لم تستخدم هذه التحديات لتبرير التفريط فى نوعية "وطنية" للأعلام والتعليم والصحة تعلو على الحسابات الصغيرة وقصيرة النظر للمكسب والخسارة، والعرض والطلب.
ومن المؤسف أن الجدل البيزنطى مازال يدور فى أرض الكنانة حول هذه البديهيات التى حسمها العالم فى الشرق والغرب منذ سنوات وعقود!

#سعد_هجرس (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات