أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - - الاتحاد الوطني للقوات الشعبية - - المهدي بن بركة - - 29 اكتوبر 1965 / 28 اكتوبر 2022 ، مرت سبعة وخمسون سنة عن اختطافه . من اختطفه ؟















المزيد.....



- الاتحاد الوطني للقوات الشعبية - - المهدي بن بركة - - 29 اكتوبر 1965 / 28 اكتوبر 2022 ، مرت سبعة وخمسون سنة عن اختطافه . من اختطفه ؟


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 7403 - 2022 / 10 / 16 - 03:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


" الاتحاد الوطني للقوات الشعبية "
" المهدي بن بركة " . " 29 أكتوبر 1965 / 29 أكتوبر 2022 ، مرت سبعة وخمسون سنة عن اختطافه " . من اختطفه ؟ .
مقدمة : منذ متى كان النبش في تاريخ الاتحاد إخلالا بالنظام العام ، وتهديدا للأمن والاستقرار بالسلطنة ، ومساً ب ( المقدسات ) ؟
ان العلاقة بين حزب " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " ، وبين دينامو الحزب " المهدي بن بركة " ، تجعل دراسة وبحث احدهما دون الاخر ، دراسة عديمة الجدوى والفائدة ، لأنها ستكون دراسة مبتورة وغير متكاملة . لذا فان الدراسة التاريخية لحزب " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " ، تفرض في نفس الآن دراسة مستفيضة ، لكن نقدية لزعيم ومؤسس الحزب " المهدي بن بركة " ، كما ان البحث في تاريخ زعيم الحزب ، يفرض البحث في تاريخ " حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " ، وأنه من المستحيل الاقتصار على جانب دون الجانب المكمل له ، لإنجاز دراسة متكاملة ، تختلف من حيث الحقيقة عن الدراسات التي كانت تبجيلا ، ومدحا ، وتقديسا ، لمرحلة ولتجربة عرت عنها ادبيات اليسار السبعيني من زاوية أيديولوجية ونقدية ، وليس من زاوية تحاملية ، تزيل اللثام عن الغموض الذي ساد تجربة تركت بصماتها السلبية على التجارب التي جاءت بعدها .. فالاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي خرج من صلب حزب الاستقلال ، كان المنبع الذي خرجت منه جميع الروافد السياسية بأسماء وبتسميات مختلفة ، وكانت هي بدورها منبعاً لخروج روافد أخرى ، الى ان انتهى الجميع بالارتماء في حضن الدولة التي نظروا لقلبها ، وبناء أخرى مثالية محلها .
لذا فبحثنا ودراستنا لن تكون تبجيلا ، ولا تقديسا ، ولا تعظيما ، لكنها ستكون دراسة نقدية تاريخية عن حقائق كشفت عنها الاحداث المتعاقبة ، وأوصلت أصحابها الى ما وصلوا اليه الآن ، متشبثين بأهداب العرش العلوي ، وبثواب الدولة السلطانية ، يزينون وجهها امام الديمقراطية الغربية ، التي تبني نظام الحكم فيها على أساس صناديق الاقتراع ، أي على أساس اختيار الشعب الذي ينعم بالحياة السياسية ضمن دستور الشعب الديمقراطي ، لا على أساس الانقلابات ، والدس ، والتآمر عبر محطات مختلفة ، فشلت كلها قبل ان تصل مداها القريب ، وليس المتوسط او البعيد ..
لذا فبحث ودراسة يغلب عليها التاريخ وحقائقه ، ليس بالأمر الهين والسهل ، خاصة وانه جانب المدح ، والتبجيل ، والتقديس ، وتحويل تلك الوقائع الى اسطورة لذا القواعد ، بخلاف ( القيادة ) التي تعاملت مع الاحداث بانتهازية وبضبابية ، إرضاء للسلطان وللدولة السلطانية ، وإمعاناَ في القواعد التي عجزت في الوصول الى تعرية وفضح ما تنكرت له ( القيادة ) . فكم وزير اتحادي من حزب الاتحاد الاشتراكي شغل منصب وزير العدل ( محمد بوزوبع ، عبدالواحد الراضي ، محمد بن عبدالقادر ) ، رفض فتح بحث قضائي في قضية المهدي بن بركة ، ونحن لا نزال نتذكر جواب وزير العدل عبدالواحد الراضي على القاضي الفرنسي ، الذي وجه استدعاء اتهام اختطاف المهدي بن بركة الى الجنرال حسني بنسليمان ، عندما أجاب الوزير بأن عنوانه غير معروف . بل لقد ترأس عبد الرحمان اليوسفي الحكومة التي كان وزير العدل بها اتحاديا ، فرفض فتح تحقيق في قضية الاختطاف كوزير اول ، بل وتآمر ضد المهدي عندما خضع للتعليمات بعدم فتح الجرح الذي لا يزال ينزف الى اليوم ..
والسؤال . هل تاريخ قيادة الاتحاد كان تاريخ مؤامرات ضد القواعد ، وتاريخ مؤامرات ضد الاتحاد ، وتاريخ مؤامرات ضد الدولة المخزنية السلطانية كما سنوضح في هذه الدراسة والبحث ؟
الكل يتذكر الرسالة العجيبة التي سبق لعمر الشغروشني ان نشرها في بداية حكم السلطان محمد السادس ، والتي اثارت زوبعة سياسية في جرائد جريئة في وقتها ، ك " Le journal " ، و " Demain " .. وهي تُذكّر من لا يتذكر بعقلية المؤامرة التي سادت ولا تزال تسود عقلية القيادة الاتحادية منذ ميلاد الحزب في 6 شتنبر 1959 . فالرسالة كانت تذكيرا بتورط قيادة الاتحاد الى جانب الجنرال محمد أفقير في انقلاب الطائرة السلطانية في 16 غشت 1972 ، وتذكيرا بنوعية ودرجة الصراع السياسي الذي كان يجري مع شخص السلطان الحسن الثاني ، ومع الدولة السلطانية التي يا ما خططوا لقلبها ، لكن بدون جدوى ، فكان الفشل هو المصاحب لجميع المحاولات الانقلابية للسيطرة على الحكم ، خاصة وان الرسالة التي نشرها عمر السغروشني ، تفضح لهَف القيادة على الحكم ولو بالدم ، ولو بالتحالف مع ألدّ أعداء الحزب الجنرال محمد أفقير ..
ان تفضيلي بدأ هذه الدراسة عن تاريخ الاتحاد ، وتاريخ قيادته المهووسة في زمانها ، بالتعطش الى السلطة ، ولو بإهدار الدم ، بالرسالة التي نشرها عمر السغروشني باسم ( الفقيه محمد البصري ) ، كان اختيارا مفضلا ووجيها ، لان ردة فعل القيادة الاصلاحوية بزعامة عبد الرحمان اليوسفي ، تصرفت ضد الديمقراطية التي كانت تتباكى عليها ، وعرت عن الوجه الحقيقي للقيادة ، كقيادة متآمرة تعيش بالدس والتآمر الذي كان ضحيته قواعدا من الحزب في محطات مختلفة .
فعندما يتخذ قرار منع تلك الصحف دفعة واحدة ، شخصيا الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي ، فالرسالة تكون قد اوجعته ، لأنها ربطت وجود الاتحاد ، بالمؤامرات التي سنتطرق لها لاحقا .
أولا يجب الإشارة الى ملاحظة ، هي ان الرسالة قد نشرها عمر السغروشني . فالقيادة الموجودة في الحكومة برئاسة عبد الرحمان اليوسفي ، نسبتها الى الفقيه محمد البصري ، الذي اتهموه بوضع العصا في عمل حكومة السلطان التي يسمونها زورا وبهتانا ب " حكومة التناوب " ، وهناك من اعتبرها بحكومة " الانتقال الديمقراطي " ، رغم انها في حقيقتها لم تكن حكومة الانتقال الديمقراطي ، ولا بحكومة التناوب . بل كانت حكومة إنجاح نقل الحكم من سلطان مات ، الى سلطان جديد عاش السلطان الذي هو محمد السادس . وحتى عندما وضع القصر حدا لفترة الاتحاد الحكومية ، واستبدل عبد الرحمان اليوسفي بإدريس جطو ، واعتبرها اليوسفي خروجا على المنهجية الديمقراطية ، فالقصر كان محقا في تصرفه ، لان الحكومة التي ترأسها عبدالرحمان اليوسفي كغيرها من الحكومات السابقة واللاحقة ، كانت حكومات السلطان ، مهمتها تتلخص في تنزيل برنامج السلطان الذي يسقط دائما من فوق . ولم يكن الامر يتعلق كما ردد عبدالرحمان اليوسفي بالمنهجية الديمقراطية ، ولا بالانتقال الديمقراطي ، او بحكومة التناوب . فالمنهجية الديمقراطية التي اقرها مؤتمر 11 يناير الاستثنائي في سنة 1975 ، كانت تعني تمكين الحزب الذي تصدر الانتخابات ، بمهمة الخادم المطيع لخدمة برنامج السلطان ، ولم تكن تعني تنزيل برنامج الحزب الذي تصدر الانتخابات ، ومع الأحزاب القريبة من برنامجه ، بتولي تنفيد البرنامج الذي صوت له الناخبون .. ففرق بين المنهجية الديمقراطية كما صاغها الاتحاد في المؤتمر الاستثنائي ، وبين التناوب الديمقراطي الذي يركز على الناخبين ، وعلى صناديق الاقتراع ، والانتخاب ضمن دستور الشعب الديمقراطي .
اذا كانت تلك الرسالة المنشورة التي تُذكّر بتورط الحزب في الانقلاب العسكري مع الجنرال محمد افقير ، لا تمثل جديدا في حقل المعرفة السياسية ، وفقدت قيمتها القانونية والسياسية عندما توصل السلطان الحسن الثاني بها في سنة 1975 ، تزامنا مع عقد المؤتمر الاستثنائي ، وان السلطان الذي كان المستهدف من الانقلاب قد حكمت محاكمه على المتورطين ، ووزعت الاحكام بين الإعدام ، والمؤبد ، وتزمامارت .. ، فان ما اثار الانتباه ، هو الارتباك والفوضى التي اصابت قيادة الاتحاد الحكومية ، بمجرد نشر الرسالة ، حيث لأول مرة في التاريخ ، ستخرج القيادة الاتحادية باسم المكتب السياسي بإصدار بيان تعلن فيه " ولائها للعرش وتشبتها بالسلطنة / الملكية " ، وهذا ما كان يتعارض شكلا مع خط الحزب حتى وفاة السلطان الحسن الثاني ..
لقد بلغت الحملة التي سخر لها الاعلام بكل قوة ، حد انكار الرسالة بأسلوب غاية في البلادة . فعبد الرحمان اليوسفي الذي كان يريد التعتيم عمّا جاء في الرسالة ، نسي او تناسى ان مصلحة المستندات بالقصر وبالأرشيفات ، تعج بجميع الاحداث السياسية التي عرفها المغرب . ومن ثم فان زلة عبد الرحمان اليوسفي بمنع الصحف ، أفاضت كأسه ، وعرته حتى امام المتطفلين على السياسة ، وليس فقط امام من ساهم في تلك الأحداث المتسلسلة والمتواصلة ..
واذا كانت تلك الرسالة التي نشرتها الصحف الوطنية الجادة ، هي مجرد تذكير ، ولا تتضمن مساً بالنظام السلطاني لمحمد السادس .. ، لماذا حاول عبد الرحمان اليوسفي وقيادة الاتحاد الحكومية التي تستفيد من الريع الحكومي ، ان يجعلا من نشرها مساً ب ( المقدسات ) ، وتهديدا للأمن والاستقرار بالسلطنة ؟ . ومنذ متى كان النبش في تاريخ الاتحاد إخلالا بالنظام العام ، وبالمؤسسات ، و ب ( المقدسات ) والمقدس هو الله لا غيره ..
لقد اساء عبد الرحمان اليوسفي عندما منع الصحف الوطنية الجريئة ، لإخفاء الحقيقة التي عالجتها محاكم السلطان المغربي ، وكانت الإساءة هذه ، تأكيدا على استمرار عقلية التآمر ، التآمر على التاريخ والحقيقة التي ميزت مسيرة الحزب ، عبر جميع محطات التآمر التي مر بها ، ، بدءا بالمؤامرة على حزب الاستقلال قبل 25 يناير 1959 ، وميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، بفعل تدخل الحسن الثاني من خلال الجنرال محمد افقير ، وهو الجنرال الذي تورط معه في انقلاب 16 غشت 1972 ، وهو الجنرال الذي افرج عن الفقيه محمد البصري في سنة 1964 بعد الهبّة المسلحة في 16 يوليوز 1963 ، وهو الجنرال الذي خرج الفقيه البصري امام اعين بوليسه من مطار سلا متوجها الى باريس ، حيث كان في استقباله ضابط أمن مطار Orly المجرم Antoine Lopez ، الذي اسكنه بشقة فاخرة ب Les Champs Elysée ، وليعلن عن اختطاف المهدي بن بركة في 29 أكتوبر 1965 .. يا لها من مصادفة عجيبة ..
هذا دون ان ننسى مؤامرة الحزب على نفسه عقب الإعلان عن قرارات 30 يوليوز 1972 ، الى مؤامرة 11 يناير 1975 ، الى التآمر على القواعد في 8 مايو 1983 ، وقبلها التآمر على الكتابة الإقليمية مع عامل الإقليم ووزارة الداخلية ببني ملال وخريبگة ... الخ .. فهل تاريخ الحزب منذ تأسيسه في 6 شتنبر1959 ، كان كله تاريخ دس ومؤامرات ؟ .
وقبل ان نتطرق لهذا الفصل المعنون ب " استمرار عقلية المؤامرة " ، نود طرح بعض التساؤلات عن مَنْ هي الجهة التي تقف وراء تسريب الرسالة المنسوبة الى الفقيه محمد البصري من دون ادلة ، التي نشرها عمر السغروشني في جريدة Le journal و Demain الجريئتين ، والموقوفتين ظلما بقرار للوزير الأول عبد الحمان اليوسفي . من يقف وراء تسريب ونشر الرسالة التي تعترف بمشاركة الحزب ، الجنرال محمد افقير في انقلاب الطائرة السلطانية في غشت 1972 ، وهو عنوان منشور تم توزيعه في الصحراء باسم " ضباط 16 غشت " الذي سيكون سببا في مأساة الجنرال احمد الدليمي .
1 ) هل سربها الفقيه محمد البصري حتى يصفي حسابه مع جماعة 11 يناير 1975 الارتدادية ، والمتآمرة على تاريخ ومناضلي الحزب ، أصحاب شعار " ارض الله واسعة " ، خاصة وان المؤتمر السادس للحزب كان حينها على الأبواب . و للأسف فجل قواعد الحزب تجهل الكثير عن تاريخ قيادة حزبهم ، وتواطؤها مع جهات مسحوا فيها كل اوساخ المغرب . وهذا يعني تعرية الحقائق بالنزوع الدكتاتوري للقيادة التي تتباكى على الديمقراطية ، وهي المتعطشة للحكم ولو بهدر الدم بغزارة .
2 ) هل سرب الرسالة عمر السغروشني بعد ان اختار الظرف المناسب لذلك ، والذي اتفق عليه مع المرحوم عبد الغني بوستة السرايري الذي انتمى مع مجموعة الاختيار الثوري الى حزب الطليعة ، وصدور بيان عن جماعة الاختيار الثوري في سنة 1982 يقضي بطرد الفقيه البصري ، وخادمه المكنى بودرگة عباس من التنظيم ؟
3 ) هل البوليس السياسي الذي كان يشرف عليه ادريس البصري " ديوان وزير الداخلية " ، هو من سرب الرسالة كجواب ورد مباشر قد يكون تهديديا ، عندما شرعت الاذرع الإعلامية التابعة لعبد الرحمان اليوسفي ، في نشر غسيل معتقل تزمامارت من خلال مذكرات النقيب محمد الرايس ، التي جاءت في سلسلة تناسقية مقصودة ، فندها العديد من الذين شاركوا في العملية الانقلابية في 16 غشت 1972 . وهذا كان يعني في حينه وبلغة المرموز ، رسالة من طرف عبد الرحمان اليوسفي ، وقيادة الحزب الحكومية موجهة الى ضباط الجيش ، والدرك ، والبوليس السياسي المتورطين في خروقات حقوق الانسان ، ودعوة مبطنة وتهديدا بإمكانية تقديمهم الى المحاكمة ؟
4 ) هل من سرب الرسالة وفي ذاك الظرف الذي يشارك فيه حزب الاتحاد في الحكومة ، هو القصر ، للجم مطالب الاتحاد وحلفاءه ، بالدعوة لتعديل الدستور في اتجاه بناء سلطنة / ملكية برلمانية ، ولو ذات خصوصية مغربية سلطانية مخزنية ، وهذا يعني ان ما فشل فيه الاتحاد مع الحسن الثاني ، اصبح سهلا مع محمد السادس .. ؟
ويبقى السؤال . ما الفائدة من نشر الرسالة التي تعترف بمشاركة الحزب ، الجنرال محمد افقير انقلاب 16 غشت 1972 ، والرسالة كانت عند السلطان الحسن الثاني في سنة 1975 ، قبل عقد المؤتمر الاستثنائي في 11 يناير 1975 ؟
القسم الاول : عقلية المؤامرة لذا قيادة الحزب ضد الدولة المخزنية السلطانية .
الفصل الأول : التآمر لقلب الدولة السلطانية المخزنية .
في هذا الفصل سوف لن نتطرق الى مؤامرة 16 غشت مع الجنرال محمد افقير ، لان الجرائد التي اوقفها عبد الرحمان اليوسفي ، والاحكام التي صدرت في حق المتورطين ، وخاصة الحكم بالإعدام في حق الفقيه محمد البصري ، كانت كافية للتدليل على تورط الجيش مع جزء من السياسيين البلانكيين ، في محاولة قلب النظام السلطاني ، واقامت نظام جمهوري مكانه ، كان بدوره سيعرف انقلابات متتابعة بسبب التنسيق الانتهازي بين المدنيين البلانكيين ، وبين ضباط الجيش الانقلابيين ، وبسبب ان الصراع السياسي الدائر ، كان بسبب الدولة التي ينتظرها من جهة المدنيون ، الجمهورية البرلمانية الشبيبة بالجمهوريات العربية الدكتاتورية ، وجمهورية الجيش التي ستكون مزيجا من الجمهورية المدنية الدكتاتورية ، وجمهورية الجيش بما ستفرضه من إجراءات ستمس بأصحاب الجمهورية الدكتاتورية المدنية .. فالصراع كان على اشده بين الجيش ، وبين صقور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، وكانت زيارة الفقيه البصري للكلونيل أمقران بالمستشفى الذي كان ينزل به في باريس ، بمثابة صلة الوصل بين الجنرال ، وبين الفقيه عن طريق الكلونيل امقران الذي كان مصابا بسرطان الرئة ، ومع ذلك فالحسن الثاني الذي ارسله للتداوي في فرنسا ، وكان يعلم بحتمية موته ، اعدمه مع الانقلابيين حتى يتذوق الم الرصاص ، بدل ان يموت في سرير بمنزله او بالمستشفى . صادية وبسيكوباطية مدانة ومرفوضة ..
ان عبد الرحمان اليوسفي الذي ازعجته تلك الرسالة ، معتقدا ان النظام المخزني الجديد لمحمد السادس نسيها ، وهو الذي وصف النظام بالضعيف ، كان يجهل او انه كان يتجاهل ان الصراع في اصله كان مشروعا ، واملته مجموعة من الوقائع والوقائع المضادة ، ضمن مناخ سياسي كان مثاراً للافتخار بالنسبة لمناضلي تلك الفترة ، او بالنسبة للنظام المخزني الذي كان يدافع عن وجوده باستعمال كل طرق التعذيب ، لاجتثاث المعارضة الجمهورية من جذورها .. فالصراع كان شرفا وتشريفا للطرفين المتنازعين معا . ولم يكن فيه ما دفع عبد الرحمان اليوسفي والقيادة الاتحادية الحكومية الى التستر عليهم ، اللهم انّ مكانة اليوسفي في هذا الصراع كانت ثانوية ، وهو الذي تم الحكم عليه على اثر الانتفاضة المسلحة في 16 يوليوز 1963 بسنتين موقوفة التنفيذ ، ولم يسبق ابدا ان تم الحكم عليه بالإعدام كما كان يروج مُطبّلوه ، وكما حاول بطريق دنيء الترويج لنفسه في مقابلات تلفازية مختلفة .. فهو عندما نال سنتين سجنا موقوفة التنفيذ ، اختار المنفى الاختياري بفرنسا ، ولم يكن متابعا او مضطرا لذلك ، كما كان الامر مع المناضلين الذين نجحوا في الوصول الى فرنسا .. وسيظهر هذا جليا عندما كانت العلاقات بين اليوسفي وبين البصري مقطوعة ، بل كان يطبعها العداء الذي جعل رسالة اليوسفي تُقرأ في مؤتمر الارتداد في 11 يناير 1975 ، وتم رفض تلاوة رسالة الفقيه . وكانت نتائج ذاك المؤتمر الذي صفى الحسابات مع جناح الاختيار الثوري ، دافعا دفع الفقيه الى ادانة المؤتمر ، والاعلان عن تأسيس حركة تمت تسميتها بحركة " الاختيار الثوري " .. التي ستطرد بدورها الفقيه البصري من صفوفها في سنة 1982 ، لأنه استمر في ربط العلاقات مع الجيش ، وبالأخص مع الجنرال احمد الدليمي ، الذي كان وفيا لضباط 16 غشت 1972 .. فأنْ يحمل بيان تم توزيعه على الجيش في الصحراء باسم ضباط 16 غشت ، كان تضامنا ومباركة للجنرال محمد افقير الذي اشترك مع صقور الحسب البلانكيين في انقلاب 16 غشت 1972 .
لذا فان رد فعل القيادة الحكومية الاتحادية برئاسة عبدالرحمان اليوسفي ، يبقى موقفا متلكئا خجولا ، لا يرقى الى مستوى التضحيات التي قدمها العديد من المناضلين الذين حلموا بالثورة والجمهورية ، وان كانت مع الجيش عدو الديمقراطية .
المبحث الأول : مؤمرة 16 يوليوز 1963 .
قبل الإشارة الى هذه المؤامرة ضد الدولة المخزنية السلطانية ، التي كانت متأثرة بحرب العصابات التي قادتها منظمتين مسلحتين ، الأولى كانت تابعة للفقيه محمد البصري ، والثانية كانت تتبع المقاوم الجمهوري البلانكي احمد اگوليز المكنى بشيخ العرب ، ولمومن الديوري ، وكان المهدي بن بركة صلة الوصل والتنسيق بين المنظمتين ، ويوفر لهما التغطية السياسية والمادية .. لا بد من التذكير بان هذه السنة 1963 ، عرفت حربا بين النظام المخزني المغربي ، وبين جبهة التحرير الوطني الجزائرية ، التي كانت تسيطر على الحكم في الجزائر التي نالت استقلالها في سنة 1962 ، وهي الحرب التي عرفت بحرب الرمال . فبينما كانت المعارك على اشدها بين جيشي النظامين ، ستخرج قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، والمنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب التي كانت قيادتها اتحادية ، ببيان يدين الحرب ، ويتضامن مع الجزائر وقيادتها ، بدعوى ان الهجوم هو رجعي ، يستهدف الثورة الجزائرية ، والدولة الجزائرية التي استقلت سنة قبل الحرب .. وهذا يفسر في حينه ، بتأثر القيادة الاتحادية بنموذج الحكم الجديد في الجزائر ، وتأثرها بالأنظمة السياسية الشرق الأوسطية ، خاصة الناصرية ، والبعثية بقطريها السوري والعراقي .. كما يفسر بالميل السياسي للقيادة الاتحادية الى نماذج الجمهوريات العربية الدكتاتورية . ان السلاح الذي دخل الى المغرب قبل سنة 1963 ، كان من الجزائر ، والكوماندو الانقلابي الذي دخل في 3 مارس 1973 الى المغرب ، كان متمركزا في قواعد بالجزائر .. ونفس الشيء بالنسبة للإسلاميين الذين دخلوا الى المغرب في ثمانينات القرن الماضي ، جاؤوا من الجزائر ..
في أوائل سنة 1962 بلغ الى علم البوليس المخزني المغربي ، معلومات تفيد بوجود مؤامرة انقلابية على دولة السلطان ، وتستهدف حياة السلطان شخصيا . المؤامرة يقف وراءها قياديون من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، من خلال منظمتين منفصلتين ، واحدة تتبع المقاوم احمد اگوليز الملقب بشيخ العرب ، ومعه مومن الديوري صاحب كتاب A qui appartient le Maroc ؟ ، والمنظمة الثانية تراسها الفقيه محمد البصري ، والشخص الذي كان ينسق بينهما على مستوى القيادة ، هو دينامو الحزب المهدي بن بركة .
ستعرف سنة 1963 هجوما اتحاديا على القاعدة العسكرية الامريكية بالقنيطرة ، من اجل الحصول على الأسلحة . لكن الهجوم سيفشل بعد القاء القبض على مومن الديوري احد العناصر الرئيسية في منظمة شيخ العرب ، واعترافه بالمنسوب اليه من الأفعال ، التي كانت تستهدف حياة السلطان الحسن الثاني ، وتستهدف ضرب الامن والاستقرار بالسلطنة . لقد تبين من الوثائق المضبوطة ، ان الفقيه محمد البصري كان يخطط لدخول القصر وتصفية السلطان الحسن الثاني ، حتى يتأتى للمنظمة الثورية البلانكية الاستيلاء على الحكم . ولإنجاز المهمة بنجاح ، سيتصل الفقيه بالكمندار محمد المدبوح قائد الحرس السلطاني / الملكي ، بواسطة مصطفى العلوي مدير الشؤون السياسية . لكن هؤلاء لم يترددا في ابلاغ البوليس والقصر بما كان يخطط له البصري وجماعته ، فطلب منهم مسايرة البلانكيين في مخططهم .
الفقيه محمد البصري وسع علاقاته لكي تشمل ضباطا اخرين طلب منهم المساعدة بتوفير السلاح له .. لقد اتفق الفقيه محمد البصري مع المهدي بن بركة على انشاء عدة خلايا ثورية في اهم المدن المغربية تحضيرا للثورة المسلحة .
في هذا الاطار توجه الفقيه محمد البصري الى الجزائر للاتصال بالمعارضة المتركزة هناك ، وعلى رأسها المقاوم والمعارض عبد السلام الجبلي ، وعبد الفتاح سباطة ، ومحمد بن سعيد آيت إيدر ... الخ ، لجمع الأسلحة ونقلها بمساعدة الجزائريين الى داخل المغرب ..
بعد ذلك اتصل عبد الرحمان اليوسفي بأحد السوريين ويدعى قنوط ، ألمتخصص في حرب العصابات ، ليشرح له كيفية انجاز عملية الانقلاب . فحضر السوري المذكور الى المغرب بدعوى حضوره كضيف عن حزب البعث السوري المؤتمر الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنة 1962 ، وقد نجح بمساعدة الفقيه محمد البصري ، والمهدي بن بركة ، وعبد الرحمان اليوسفي من دخول القصر كزائر بالرباط وبطنجة ليبدي لهم رأيه في كيفية عملية الانقلاب .
ولمّا كانت الخطة المرسومة تتوقف على الحصول على الأسلحة الكافية ، اتصل الفقيه محمد البصري ببعض ضباط وبعض عناصر القوات المساعدة لإدخالهم الى منظمته ، وليطلعوه على أماكن مستودعات الأسلحة بالعديد من المناطق التي كانت تبدو لهم جاهزة للثورة المسلحة .
كما اتصل الفقيه محمد البصري بعمر بنجلون الذي كان موظفا كاطار بوزارة البريد ، ليعطيه تصميمات عن الشبكات التليفونية الخاصة بالقصر الملكي ، والقيادة العليا للجيش بالرباط ، وكذلك تمكينه من تصميمات الإذاعات في جميع انحاء المغرب ..
لقد نسقت مجموعة الفقيه محمد البصري ، مع منظمة شيخ العرب ، ومومن الديوري التي كانت تنشط بالدارالبيضاء ، وكان المهدي بن بركة هو مسؤول التنسيق والتواصل بين المنظمتين اللتين خضعتا لتدريب عسكري بالجزائر ، وبعدها سيخضع اللاحقون لدعاة العنف الثوري المسلح بقواعد عسكرية بسورية ، تحضيرا واستعدادا للثورة . مخيم الزبداني بسورية ( 3 مارس 1973 ) .
بعد ان القى البوليس السياسي ، والدرك والجيش القبض على المجموعتين ، وُجهت لهما تهم تتعلق بالاعتداء على حياة السلطان الحسن الثاني ، والمس بأمن الدولة الداخلي ، والشروع في القتل العمد ، مع التخطيط وسبق الإصرار ، وادانتهم المحكمة الجنائية طبقا للفصول 114 ، 163 ، 128 ، 129 ، 170 ، 175 ، 201 ، 203 ، 209 ، 392 ، 393 من القانون الجنائي .
اثناء هذه المحاكمة كان نصيب عبد الرحمان اليوسفي ، الحكم بالحبس سنتين موقوفتي التنفيذ .. اما مومن الديوري ، والفقيه محمد البصري ، وعبد السلام الجبلي ، وعبد الفتاح سباطة ، وشيخ العرب احمد اگوليز ، وسعيد بونعيلات ، وعبد الله بوزاليم واخرون ، فكان الإعدام ، ناهيك عن الأشخاص الذين كان نصيبهم المؤبد ..
وللحقيقة غير الحقيقة لرفع الالتباس وإزالة الضبابية والغموض ، فانه باستثناء هذا الحكم الذي صدر في حق اليوسفي سنتين حبسا موقوفة التنفيذ ، فان الرجل لم يسبق ان حكم عليه بالإعدام او المؤبد كما يردد البعض خطأ .
اما منفاه في فرنسا بمدينة Cane الفرنسية مسقط راس زوجته ، فكان منفى اختياريا رغب فيه الشخص بمحض ارادته ، ولمصالحه الشخصية ، فلم يكن بذلك منفاه اضطراريا ، وشتان بين المنفيين . فالمنفى الأول يعرف بمنفى الصالونات ، اما المنفى الثاني الذي عاناه العديد من المناضلين ، فكان منفى النضال والخنادق ، وبكل ما تحمله كلمة منفى من معنى .
وللإشارة فان عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يتواجد في جميع المحطات والاحداث ، كانت تخطئه آلة القمع . لكن بمجرد ما يفشل المخطط ويعتقل المناضلون الحقيقيون ، ويقدمون الى محاكم النظام المخزني ، حتى كان يظهر بوعبيد كمحام للدفاع عنهم ا، لى جانب محمد بوستة . وهنا نفهم لماذا قال في حقه السلطان الحسن الثاني وهو يقارنه بالمهدي بن بركة ، ان عبد الرحيم بوعبيد كان رجل دولة .. وقد سبق لأبراهام السرفاتي مؤسس فصيل من فصائل اليسار السبعيني ، انْ لاحظ انّ ماكينة القمع كانت تحصد المناضلين ، لكنها كانت تتجنب وتخطئ عبد الرحيم بوعبيد .
المبحث الثاني : مؤامرة 3 مارس 1973 .
عندما اندلعت احداث 3 مارس سنة 1973 ، كان حينها الفقيه محمد البصري لا يزال ينتسب الى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، ونفس الشيء عندما حصل انقلاب الطائرة في 16 غشت 1972 . ولم ينفصل عن الاتحاد تنظيميا الا بعد المؤتمر الاستثنائي للحزب في 11 يناير 1975 ، حيث سيتهم الفقيه قيادة الاتحاد بالانقلاب على خط الحزب ، وعلى ماضيه الراديكالي الذي كان يتلخص في الحكم وليس في الحكومة ، وسيؤسس في خارج المغرب بفرنسا حركة سياسية ثقافية اتخذت لها اسم " الاختيار الثوري " ، التي لم تتردد بدورها من اصدار بيان في سنة 1982 ، تقضي فيه بطرد الفقيه من صفوفها ، وتبرئتها من جميع الاعمال التي قد يقوم بها الفقيه مستقبلا . وطبعا فهم يقصدون استمرار الفقيه في نسج علاقات مع بعض ضباط الجيش كالجنرال احمد الدليمي الذي حاول قلب النظام في سنة 1983 ، اي ايمانه المطلق بانقلاب الجيش على السلطان ، وارتماءه من دون مقدمات في المشروع الايراني الشيعي المرفوض من قبل قيادة حركة الاختيار الثوري ، التي كانت تسترشد بالماركسية كمنهج وطريقة في التحليل .
لقد عرت حركة 3 مارس الجمهورية في حينها ، الوجه الحقيقي لدعاة المنهجية الديمقراطية ، الذين اختاروا الارتماء في حضن النظام المخزني عند عقدهم لمؤتمر الارتداد في 11 يناير 1975 ، دعاة الملكية السلطانية ذات الخصوصية المغربية ، التي ستصبح معها المنهجية الديمقراطية ، هي تمكين الحزب الذي سيفوز بالانتخابات بشرف تنزيل برنامج السلطان ، وليس برنامج الحزب الغير موجود أصلا . فعندما تتنافس القيادة الاتحادية على من يحظى بشرف خدمة السلطان ، كموظفين سامين ، وزراء كانوا او برلمانيين ، وترمي عرض الحائط بالبرنامج الحزبي الانتخابي الذي يكون الناخبون قد صوتوا له ، وتخون الأصوات التي صوتت لها ، هنا يمكن فهم الوضع المشفق عليه للحزب زمن ادريس لشكر ، كما يمكن فهم الوضع الأكثر من مشفق عليه بالنسبة لحزب التقدم والاشتراكية ، ويمكن فهم سبب وضعية الحزب الاشتراكي الموحد ، وحزبيْ الفدرالية ، وفهم سبب النتائج الانتخابية التي لم تسمح لهما بدخول برلمان السلطان .
وهذه الحقيقية من المنهجية الديمقراطية في فهم قادة الاتحاد ، وفهم القاعدة التي كانت تصفق لخطواتهم المتناقضة مع الممارسات الديمقراطية ، التي كان من المفروض ان تربط المنهجية الديمقراطية بالبرنامج الانتخابي الحزبي ، وليس ببرنامج السلطان الذي يسقط دائما من فوق من دون ان يشارك في الانتخابات ، ومن دون ان يصوت عليه احد . وكيف والانتخابات هي انتخابات السلطان ، والبرلمان برلمانه ، والحكومة حكومته . فكان عليه ان يستعيض عن المسرحية الملعبة ، ويتصرف كسلطان على رأس دولة سلطانية ، والباقي يدخل في املاكه ، واملاك السلطنة بموافقة ورضى الجميع .. ان هذه الحقيقة ستفند المزاعم التي كانت تعتبر القيادة اليمينية الاتحادية ، انها تقدم التغطية السياسية للجناح البلانكي المسلح ، وانها تشكل الجناح السياسي التقدمي لخط العنف ، وانها ضامنة بقاء واستمرار الحزب ، في حين انها كانت مخزنية وسلطانية ، اكثر من المخزن ومن السلطان نفسه .
لذا فحركة 3 مارس 1973 جاءت في مضمونها متجاوزة للمنهجية الديمقراطية، قبل ان يكتشفها المؤتمر الاستثنائي في 11 يناير 1975 ، وجاءت متجاوزة للسياسات الاستراتيجية ، والقناعات الاصلاحوية ، وحتى الأيديولوجية التي كانت تسود الفترة ، لذا جزء من الطبقة السياسية المغربية ، ونحددها كما يلي :
ا ) الخلاف هو حول مفهوم السلطنة / الملكية ، مستبدة طاغية ودكتاتورية ، ام ديمقراطية لا تختلف عن نظيراتها الاوربية . ويروا ان الحل هو في الملكية البرلمانية ذات الخصوصية المغربية التي يسود فيها " الملك ولا يحكم " مع العلم ان بمجرد القول بالسيادة يعني الحكم . وكانت هذه أطروحة الجناح السياسي الذي قاده في مراحل معينة عبد الرحيم بوعبيد ، رغم انه كان متجاوزا كشعار من طرف القواعد والتيارات التي ظلت مرتبطة بالمقاومة داخل الحزب ، وهذا سيسبب في بلورة قناعات سياسية جديدة ، أدت الى انسحابات وانشقاقات ، وحصول صراعات جانبية اضعفت الحزب ، وعطلته عن بلورة وتحقيق مشروعه التنظيمي والايديولوجي . والملاحظ ان ما كان يطلق عليه بالجناح السياسي التقدمي بدأ ينتعش منذ وفاة الحسن الثاني ، وبدأ يجهر بالإعلان عن أفكاره وبنوع من الخجل . أي الملكية البرلمانية ذات الخصوصية المغربية . وهذا النوع من الملكية الذي يربط الديمقراطية بالخصوصية ، هو تجسيد وتدعيم للملكية المطلقة في شكلها الطاغي المستبد ، لان الاعتراف بالسلطة الدينية للأمير السلطان الملك ، هو اعتراف بالدولة السلطانية ، واعتراف بالسلطان الذي يمثل وحده الدولة التي تتجسد فقط في شخصه .
ب ) العنف سيؤدي الى التدخل الأجنبي ، والحل هو المائدة المستديرة بين ( القوى التقدمية والوطنية ) . وكانت هذه أطروحة علي يعتة بسبب ضعف الحزب الذي يترأسه PPS ، ونظرا لان هذا الحزب كان مهمشا ومحاربا من قبل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، بسبب المنافسة في تمثيل ( الطبقة العاملة ) ، و( الطلاب ) ، و ( الفلاحين ) . لقد كانت المنظمة الطلابية " الاتحاد الوطني لطلبة المغرب UNEM " حلبة الصراعات بين حزبي التقدم والاشتراكية ، وبين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، قبل ان يظهر فصيل طلابي منافس غداة تنظيم المؤتمر الوطني الثالث عشر ، وسيطر هذا الفصيل على المنظمة الطلابية في المؤتمر الوطني الخامس عشر في غشت 1972 .. ووفاء لتاريخه ، فان حزب التقدم والاشتراكية لم يكن يطلب اقل مما يشغله اليوم في الساحة وفي الحكومة ، وهي المطالب التي ظل يدافع عنها علي يعتة حتى موته . أي الحكومة فقط الحكومة ..
ج ) ضرورة التعبئة الجماهيرية والتنظيم المحكم والخطة المرحلية . وكانت هذه أطروحة عبدالله إبراهيم ، وذلك ليلجم اندفاع بعض أعضاء الحزب الذين كانوا ينادون باستراتيجية حرق المراحل ، والانقلاب من فوق . ورغم الحسم مع اختيار الاتحاد الوطني فرع الدارالبيضاء ، فان الحزب ظل مرتبطا بالعمل النقابي داخل نقابة الاتحاد المغربي للشغل ، اكثر منه بالمجال السياسي الذي تقلص الى اقصى الحدود .
من خلال البحث في جدور حركة 3 مارس ، والخط العام الذي سارت عليه ، يتبين ان ظهور الحركة الاتحادية البلانكية ، لا يعتبر في حد ذاته قفزة نوعية في تطور الحركة الاتحادية . لكنه كان امتدادا لمؤامرة 16 يوليوز 1963 ، ضد الدولة المخزنية السلطانية ، وامتدادا لانقلاب الجنرال محمد افقير في 16 غشت 1972 الذي فضحت رسالة محمد البصري مشاركة حزب الاتحاد فيه .
لقد كانت بذلك انبثاقا لنفس الممارسات ، ونفس التناقضات التي عرفها الاتحاد منذ مؤامرة انشقاقه على حزب الاستقلال في 25 يناير 1959 ، ومن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية .
ان من اهم ملامح تلك التجربة ، سيادة المحاولات المتكررة التي كانت تستهدف الدولة المخزنية في العمق ، وتعويضها بنظام جمهوري دكتاتوري ، كدكتاتورية الدولة المخزنية السلطانية او اكثر . لقد أعلنت حركة 3 مارس عن نفسها كجبهة وطنية ، حين قدمت برنامجا ادنى يلبي بعض القضايا الاستراتيجية ، مثل اقامت جمهورية برلمانية انتخابية ، واعتمدت في ذلك على عفوية الكفاح المسلح الفوقي ( التخطيط والتآمر ) للسيطرة على الحكم وعلى الدولة ..
وللإشارة فان خطوط حركة 3 مارس من الناحية الأيديولوجية وليس التنظيمية ، استمرت داخل الاتحاد الاشتراكي بعد المؤتمر الوطني الثالث من خلال افرازات 8 مايو 1983 التي كان برنامجها متجاوبا مع برنامج الحركة ، لكنه من الناحية التنظيمية ، والفنية ، والتقنية ، لم تكن مجموعة " اللجنة الإدارية الوطنية – La CAN " مكيفة لتحمل أعباء هذا المشروع الضخم ، كما انها لم تستطيع الانتقال الى أساليب عمل هجومية وجماهيرية ، بسبب القمع الذي لحقها من طرف الجناح اليميني المخزني السلطاني ، الذي مثله المكتب السياسي لحزب الاتحاد الذي تحالف مع الدولة البوليسية في قمعها ، الذي افضى الى دخول مجموعة من أعضاء " اللجنة الإدارية الوطنية " الى السجن ، ودخول المكتب السياسي للحزب والاتباع الى البرلمان والحكومة .
يفسر اعتماد حركة 3 مارس على عفوية الكفاح المسلح ، ومشاركة قياديين منها ومن الاتحاد ، مع ضباط أمثال الجنرال محمد افقير ، رغبة الحركة وتعطشها للسلطة ، ولو بإراقة الدماء ، متأثرة في ذلك بالانقلابات العسكرية التي قادتها البرجوازية الصغيرة في الشرق الأوسط ( الناصرية – حزب البعث ) التي تسببت في هزيمة 6 يونيو ، 1967 التي اعتبرت في حينها هزيمة للطبقة السياسية التي قادت الحرب وخسرتها ، وهي نفس الأنظمة أوصلت المنطقة العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية الى الباب المسدود . فكان ياسرعرفات مرة يقبل يد وزيرة خارجية أمريكا " مادلين أولبرايت " Madeleine Albright " ، ومرة كان يقف كجندي امام Bill Clinton يؤدي التحية العسكرية ..
ان مضمون حركة 3 مارس السياسي التي قادتها عناصر أساسية في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، إضافة الى التآمر مع الجنرال محمد افقير ، لا يخرج عن تعطش القيادة للوصول الى الحكم بكل الوسائل ، وكيفما كان الثمن ، ولو بمباركة الانقلابات العسكرية ( انقلاب الصخيرات في يونيو 1971 الذي لم يستنكره الحزب ) ، او المشاركة فيها ك ( انقلاب الطائرة في 16 غشت 1972 ) . ولعل ما كان يذيعه " صوت التحرير " بليبيا غني عن كل بيان .
لقد قامت حركة 3 مارس بتقييم مغلوط للوضع السياسي المغربي ، فتوصلت الى ان الظرف السياسي قد اكتملت فيه اكبر شروط الازمة العامة لإعلان الثورة المسلحة . ومن اهم ما جاء في تقييم الحركة :
1 ) ان النظام السلطاني / الملكي اصبح عاجزا وغير قادر على الاستمرار بفعل التناقضات الداخلية والخارجية .
فداخليا نمت التناقضات التي توجت بانقلابين عسكريين شملا أشخاصا مقربين من القصر ، ومن داخل جهاز المخزن ، واشخاصا ينتمون الى المعارضة الذين كشفت عنهم رسالة عمر السغروشني / الفقيه البصري ، وانْ كان البوليس السياسي آنذاك قد توصل بوثائق اخرى تفيد ما يدل على الرغبة في قلب نظام الحكم .
اما اقتصاديا ، فالوضع الاقتصادي ينمو ويتجه نحو الازمة العامة ، حيث يزداد معه تعفن جهاز الدولة ، وتضارب المصالح بين الفئات المحيطة بالنظام المخزني ، وبالتالي سقوط هيبة الدولة المخزنية البوليسية في اعين الجماهير ، وتبلور ويقينية وعيها ، بسهولة اسقاط النظام وإقامة اخر محله .
ان التقييم السياسي المغلوط الذي خرج به منظرو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، وعلى راسهم قيادي حركة 3 مارس ، هو نفس التقييم الذي خرج به اليسار الجديد ، وهو ان الحكم في نظره ضعيف ، ومشدود بخيط عنكبوت ...
اما خارجيا فقد تنامت التناقضات بين حلفاء النظام ، فرنسا ، واسبانية ، والولايات المتحدة الامريكية ، وفقدان ثقة المستثمرين الأجانب ، وزيادة حجم الديون الخارجية ، إضافة الى الصورة السلبية التي كونها الراي العام الأوربي عن النظام المخزني والبوليسي .
2 ) تردد القيادات الإصلاحية التقليدية داخل أحزاب المعارضة السلطانية ، وتركيز نضالاتها على مطالب الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية ، التي كانت ترمي من جهة ، الى اقتسام السلطات مع السلطان ، ومن جهة التحالف معه في مواجهة الثورة الشعبية العارمة التي كانت تنتظر الانفجار ، وهو نفسه التحليل تبنته منظمة الى الامام عندما رفعت شعارها " لنبني الحزب تحت نيران العدو " .
ان هذا التقييم المغلوط للمسؤولين عن حركة 3 مارس للوضع السياسي ، والطريقة السطحية التي اتبعتها في تحليل الوضع ، هو الذي دفع بها الى اختيار بدائل الكفاح المسلح ، والبؤر الثورية كاستراتيجية في خط الحركة للوصول الى الجمهورية الانتخابية البرلمانية ، التي تسود فيها البرجوازية المتوسطة والصغيرة ، وتحتكر الحكم لصالحها ، ومن ثم تقمع باقي الطبقات والهيئات التي تكون الشعب المغربي ..
مرة ثانية نؤكد ان حركة 3 مارس هي انبثاق عن التناقضات الأساسية التي نخرت جسم الاتحاد الوطني / الاشتراكي ، في التوفيق بين خطين أساسيين ، السلطانيون المخزنيون دعاة السلطنة / الملكية الشّبهُ او الشِّبه ديمقراطية ، وخط الجناح البلانكي الذي كان يؤمن بالانقلاب من فوق .
ومن خلال تحليل طبيعة التناقضات الحاصلة بين الخطين ، نسجل انه لم يكن هناك اختلاف جذري بين المجموعتين ، ما دام ان نوع الديمقراطية التي ينشدانها لا علاقة لها بالديمقراطية اطلاقا .
لقد سبق للمهدي بن بركة ان قال " ان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، لم يشارك في الانتخابات بهدف تكريس مصداقيتها ، ولكن مشاركته كانت بهدف تعرية زيفها واقبارها في المهد .. " ثم قال " ان نوابنا لن يذهبوا لركوب السيارات الفخمة ، ولكن عملهم سينحصر في فضح الحكم المتعفن والمساهمة في القضاء عليه .. " ثم قال " ان اهم اهدافنا لن تتحقق عن طريق البرلمان انْ كان هناك برلمان ، بل سيتم بحول الله خارج البرلمان ، وبفعل العمل المنظم الذي تقوم به الطبقة الكادحة ، والفلاحون ، والشباب ، والمثقفون ... وبذلك اختارت منظمتنا ان تخوض معركة جديدة داخل صفوف القوات الرجعية نفسها . وانّ قرارنا هذا لا يمكنه ان يترك مجالا للشك ، ما دام الحزب هو المنظمة الثورية التي تواجه النظام الاقطاعي الفردي ، وما دام انّ احد اهدافنا هو محو الاقطاع لكي تخلفه مؤسسات شعبية " .
الفصل الثاني :
المؤامرة على الذات ، وعلى مناضلي الحزب ، وعلى التاريخ :


في الفصل الأول عرضنا تآمر قيادة الاتحاد على الدولة المخزنية ، البوليسية ، والسلطانية ، وكانت محاولات للاستيلاء على نظام الحكم ، ولو بمشاركة الجنرال محمد افقير انقلاب 16 غشت 1972 ، لإقامة نظام جمهوري يمزج بين دكتاتورية / جمهورية الجيش ، وبين دكتاتورية / الجمهورية المدنية الدكتاتورية . لكن انّ هذه المحاولات كلها فشلت ، لأنها لم تكن مبنية على دراسة عميقة للوضع ، ولا استعملت تحليلا علميا للمعطيات التي كانت متوفرة في الساحة .
الآن سننتقل في هذا الفصل الى معالجة بقية تآمر القيادة على الحزب ، وعلى مناضليه ، وعلى التاريخ الراديكالي الذي صفاه مؤتمر 11 يناير 1975 الاستثنائي .
المبحث الأول : مؤامرة 25 يناير 1959 على حزب الاستقلال .
بدأت هذه المؤامرة عندما شرع الجناح البرجوازي الصغير الذي كان تواقا الى مناصب عليا ، والذي مثله المهدي بن بركة ، عبد الرحمان اليوسفي ، عبد الرحيم بوعبيد ، محمد اليازغي ، المهدي العلوي ... الخ ، في استغلال قنوات الحزب الرسمية ، للترويج لفكرة كانت مدروسة تدعو الى عقد مؤتمر استثنائي للحزب ، كان يرمي الى ادانة القيادة المحافظة الميركانتيلية داخل الحزب ، لأنها أصبحت في نظرهم متأخرة تاريخيا ، ومتجاوزة ماديا بسبب تقدم حجم المهام النضالية التي وصلها الشعب في وعيه السياسي المتنامي ، وهو ما يعني في لغة الفترة والمرحلة السائدة آنذاك ، التحضير لانقلاب داخل الحزب ، وتحويله من حزب مؤيد للقصر ، الى أداة تناقض أساسية مع الدولة المخزنية البوليسية .
لقد اتهم الجناح الراديكالي في حزب الاستقلال القيادة التاريخية المحافظة ، بعجزها عن دفع الحزب الى تحقيق القفزة النوعية الضرورية ، التي تعني في فهم هذا الجناح ، تحضير الحزب لاستلام الدولة . كما اتهمها بالسير على نهج تحريف الحزب عن دوره ومساره التاريخيين ، ذاك الدور والمسار الذي ظهر في رغبة الجناح الراديكالي ، ليس فقط لبسط نفوده ووصايته على القصر وعلى السلطان ، ولكن كان يعمل من اجل قطع العلاقة بين القصر والسلطان ، وبين الجناح المركانتيلي المحافظ برئاسة علال الفاسي ، ومن ثم تحويل الحزب الى أداة للسيطرة على الدولة كما جرى في الجزائر عندما سيطرت على الدولة " جبهة التحرير الوطني – FLN " ..
لقد تبلورت تلك الاستراتيجية السياسية المكيافيلية للتيار البرجوازي الصغير داخل حزب الاستقلال ، في المحاولات البلانكية التي كانت تخطط للانقلاب من فوق ( مؤامرة 16 يوليوز 1963 ) ، وفي ( مؤامرة 3 مارس 1973 ) ، وفي الضلوع مع الجنرال محمد افقير في انقلاب الجيش في 16 غشت 1972 .. لقد أدى تآمر البرجوازية الصغيرة ضد القيادة المحافظة الميركانتلية داخل حزب الاستقلال ، الى تباعد وجهة النظر بين الجناحين المتصارعين داخل الحزب ، ووصل التباعد والاختلاف درجته القصوى ، عندما قام الجناح الأول الراديكالي بخلق إطارات مؤسساتية خارج الحزب ( انقلاب على الحزب ) ، تمثلت في الجامعات الاستقلالية المستقلة في 25 يناير 1959 ، وتحويلها في 6 شتنبر من العام نفسه ( 1959 ) الى حزب سياسي " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " ، الذي اتخذ في حينه مواقف عدائية ضد حزب الاستقلال ، وضد الحزب الشيوعي المغربي / حزب التحرر والاشتراكية ، واكمل عداءه هذا ضد اليسار السبعيني ، وضد مجموعة " اللجنة الإدارية الوطنية – La CAN " ..
ومن دون الإشارة الى تلك المقررات الجهوية الاستقلالية ، فإنها في مضمونها شكلت انقلابا جذريا قادته البرجوازية الصغيرة على الجناح المحافظ . وللحقيقة لم يكن الصراع داخل الحزب يستند على مرجعيات فلسفية وايديولوجية ، ولكن كان بسبب تورط اشخاص من خارج حزب الاستقلال ، لعبوا دور الموجه والمحرك في تفجير الحزب الذي كان يخيف القصر ، بسبب حجمه ، وبسبب عدد المنتمين اليه .
لقد كان يقف وراء تفجير حزب الاستقلال وتقسيمة ، وإخراج الحزب الجديد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، اشخاص لا علاقة عضوية تجمعهم به . وكان على رأسهم محمد افقير ، الكمندار محمد المدبوح ، احمد رضى اگديرة ، ادريس المحمدي ، مدير الشؤون السياسية مصطفى العلوي ، ادريس السلاوي .. وكان الجميع يتصرف تحت أوامر وتعليمات السلطان الحسن الثاني شخصيا ، التي ستصل علاقته مع المهدي بن بركة حد محاولة قتله بوادي الشرّاط ، وانتهاءً باختطافه من قلب العاصمة الفرنسية باريس ، بمشاركة البوليس الفرنسي ، وبمشاركة الموساد الصهيوني ..
فقبل الإعلان عن الانشقاق عن حزب الاستقلال ، وخروج الحزب الجديد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بيوم ، كان هناك اجتماع مطول في احد ليالي شتنبر 1959 ، قارب الصباح حضره الأشخاص أعلاه ، وكان الاجتماع بمنزل مولاي مصطفى العلوي الكائن قرب مقر وزارة الخارجية ، الذي كان يسمى ب Le quartier des riches ، فتقرر في ذاك الاجتماع تنظيم خطة الانقلاب ، وبمساهمة المهدي بن بركة شخصيا ، وليعلن في اليوم الموالي عن اعلان الجامعات الاستقلالية في 25 يناير 1959 ، وميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 6 شتنبر 1959 .. فكان هذا الميلاد قبل ان يبلغ التسعة اشهر ، بعد فشل المحاولة الانقلابية التي كان سيشهدها المؤتمر الاستثنائي للحزب ، لو تم عقد المؤتمر حسب الخطة التي رسمها المهدي بن بركة وعبد الرحمان اليوسفي ، وبتوجيه من الحسن الثاني واعوانه .
ان التنسيق بين بعض عناصر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، وبين المسؤولين في القصر والجيش ، لم يكن وليد 16 غشت 1972 ، بل كان قبل ذلك بكثير منذ اتفاقية Aix-les Bains التي حضرها القصر ، وزعماء كعبدالرحيم بوعبيد ، وخونة كانوا محسوبين على القصر اشتغلوا مع إدارة الاستعمار الفرنسي ..
المبحث الثاني : مؤامرة 11 يناير 1975 .
تعتبر هذه المؤامرة المحطة الأساسية التي غير وجه الحزب من حزب ثوري ينشد الحكم ، الى مجرد حزب مخزني سلطاني ، عندما قطع مع خط الحزب الراديكالي ، وعوضه بالمنهجية الديمقراطية التي جعلت الحزب يتنافس مع غيره من الأحزاب ، لتنزيل برنامج السلطان الذي نظم الانتخابات ، أي ان يتحول الحزب الى مجرد اطر للسلطان في البرلمان ، وفي الحكومة كموظفين سامين بإدارة السلطان ، كغيرهم من بقية الأحزاب الأخرى المنافسة ، ليحصل لهم شرف تنزيل برنامج لم يشارك في الانتخابات ، ولم يصوت عليه احد ، وينزل من فوق للتطبيق .. فما الفرق بين النظام المخزني السلطاني هنا ، وبين نظام الملالي الإيراني الذي ينزل من فوق على راس الدولة ، المرشد الذي لم يشارك في الانتخابات ، ويصبح هو الدولة والدولة هي المرشد ..
ان مؤامرة 11 يناير 1975 الارتدادية ، كانت سببا في القطيعة التنظيمية والأيديولوجية ، بين القيادة المتحولة ، وبين جناح الفقيه الذي أسس حركة ثقافية وسياسية عرفت باسم حركة الاختيار الثوري . وهنا لا يجب نسيان ما سبق لعبد الرحيم بوعبيد ولمحمد اليازغي ان ردداه في حق جناح البصري " ارض الله واسعة " ، وهي نفس العبارة المدانة رددها عبد الرحمان اليوسفي في حق البصري ورفاقه ، بعد نشر رسالة الفقيه في Le journal وفي Demain الموقوفتين بقرار ظالم لعبد الرحمان اليوسفي .
تعتبر مؤامرة 11 يناير 1975 ، انقلابا غادرا على خط النضال الاتحادي الثوري البلانكي ، الذي ميز مسيرة الحزب بعد مؤامرة 25 يناير 1959 ، على القيادة المحافظة المركنتيلية داخل حزب الاستقلال . فلأول مرة يعوض خيار الاتجاه البلانكي والانقلاب من فوق ، بخيار " النضال الديمقراطي " داخل مؤسسات المخزن لا خارجه ، وتَحوَّل " النضال الديمقراطي " الذي كان يعتقد بإمكانية اصلاح النظام من الداخل ، وفي رمشة عين ، الى" المنهجية الديمقراطية " التي تعني التسابق الحزبي لخدمة برنامج السلطان والدولة السلطانية المخزنية . أي ان الهدف من المنهجية الديمقراطية ليس تنزيل برنامج الحزب الذي دخل على أساسه انتخابات السلطان ، بل تنزيل برنامج السلطان الذي يعلو فوق برامج أحزاب السلطان . فالحزب تنازل حتى على مطلب اقتسام السلطة ، وليس فقط انه تنازل عن مطلب الحكم ، أي النظام الجمهوري .
لقد اعتبر العديد من المحللين السياسيين في ذاك الوقت ، ان القرارات التي خرج بها المؤتمر الاستثنائي في 11 يناير 1975 ، تمثل انقلابا تنظيميا وايديولوجيا مثل انقلاب 25 يناير 1959 على حزب الاستقلال ، عندما تم خلق الجامعات الاستقلالية بعد استحالة عقد المؤتمر الاستثنائي الذي دعا اليه الجناح البرجوازي الصغير ، والجناح البلانكي المتأثر بأنظمة برجوازية الدولة في الجزائر ، وبالشرق العربي ..
ان الانقلاب كان ضد ماضي الاتحاد الراديكالي ، الذي تجلى في تصريحات وخطابات قادة الحزب ، وعلى راسهم المهدي بن بركة والفقيه محمد البصري والعديد من القادة البارزين .. وضد القرارات التي خرج بها المؤتمر الوطني الثاني الذي انعقد في مايو 1962 بعد قرارات مؤتمر التأسيس .. وضد خط الكفاح المسلح الذي تمثل في الانتفاضة المسلحة في 16 يوليوز 1963 ، وفي الانتفاضة المسلحة في 3 مارس 1973 ، فطرحت " الخيار الديمقراطي " مع النظام المخزني كاستراتيجية ، ستنتهي وفي رمشة عين الى " المنهجية الديمقراطية " المفتري عليها ، والتي تعني الاستسلام التام للنظام المخزني البوليسي ..
لقد اقر مؤتمر الردة ، والتراجع ، والانبطاح للنظام ، معادلة ثلاثية تُكوّن نظرة شاملة ، تجعل من التحرير، والديمقراطية ، والبناء الاشتراكي ، وايّ اشتراكية في ظل دولة سلطانية مخزنية وبوليسية ، جوانب مرتبطة ومتداخلة بصفة سلمية وتدريجية ، واعتبر المؤتمر ان الديمقراطية ليست وسيلة فقط ، ولكنها غاية في حد ذاتها . أي انها تبقى الهدف الاسمى الذي ينشده الحزب ، وانّ النضال الديمقراطي البرلماني المخزني ، هو الحل الوحيد لتغيير النظام من الداخل ، لا تغييره من خارجه . وحيث يقول التقرير الأيديولوجي " .. ان الديمقراطية بالنسبة للاتحاد ليست وسيلة فحسب وانما غاية في اطار الاختيار الاشتراكي .... " ههه ..
ان محاولة البرجوازية الوسطى والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة ، القفز على الماضي واستعمال الخطاب التمويهي ، لا يمكن ان يغير جوهر وحقيقة الأشياء في شيء . فإذا كان الحزب قد قطع مع الاختيار الثوري الراديكالي ، وعوضه بالاختيار " الديمقراطي " الفضفاض ، وقطع مع الكفاح المسلح الذي آمن به الحزب والرعيل الثوري الاتحادي الحقيقي في مطلع الستينات ومطلع السبعينات ، وبما فيه مشاركة الجنرال محمد افقير في انقلاب 16 غشت 1972 ، واصبح الحزب يؤمن بالممارسة الديمقراطية " البناءة " ، ويؤمن بإمكانية التحول السلمي والمرور الى " الاشتراكية " ، اشتراكية السّيگارْ والشركات ، والحسابات البنكية المنفوخة ، وامتلاك الفيلات والضيعات الفلاحية الشاسعة .. عن طريق انتخابات السلطان التشريعية .. ، فان الاختيار الاشتراكي الذي جاء به التقرير الأيديولوجي ، يعتبر في حقيقة الامر تبريرا وفرض امر واقع ، يعكس اختيارات دكتاتورية البرجوازية المتوسطة ، والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة ، في فرض اختيارهم ، وتوجههم على كل الحزب من القمة الى القواعد ، ومنها على شعب الرعايا .
ان الصراع الذي تم حسمه في 30 يوليوز 1972 ، كان يصب في هذا الاتجاه الذي يفضي في المرحلة الأخيرة الى نمط دكتاتورية أنظمة برجوازية الدولة . اما التغيير في الأسلوب، فيكمن في التكتيك المعتمد لبلوغ الاستراتيجية – الهدف الاسمى للحزب ..
ان محاولة فرض الاختيار الإصلاحي بالقوة على القواعد ، كان من الناحية السيكولوجية ضربة تم توجيهها الى خط الاتحاد خلال الستينات ، وحتى مؤامرة 11 يناير 1975 . فهو كان انقلابا ومؤامرة حيكت خيوطها بإتقان مع السلطان الحسن الثاني ، الذي كان وراء تسمية الاتحاد ب " الاشتراكي " ، للقطع ولنسيان تجربة الاتحاد " الوطني " الثورية والمسلحة ، وللشروع في ادماج الحزب السلطاني الجديد " الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية " ، في ضرب اليسار الجديد ، وفي الانخراط في مشروع حرب الصحراء الذي كان على الأبواب .
ان الخصوصية الاشتراكية التي جاءت في التقرير الأيديولوجي ، تتلخص في الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ، والمبادلات الكبرى التي يجب ان تكون تحت مراقبة مباشرة من طرف المنتجين . والتقرير الأيديولوجي في تعامله الغامض مع الاشتراكية ، فانه استهدف تعويض التحول الاشتراكي الخصوصي ، عن مفهوم الثورة الديمقراطية الوطنية التي روج لها اليسار الجذري داخل الحزب ، واليسار الجديد في بداية السبعينات ( 30 غشت 1970 ، و 23 مارس 1970 ) .. وهذه بذاتها تشكل نقطة سلبية تعكس بشكل واضح ، انقلاب الحزب على تاريخه ، ومحيطه ، وشعاراته ..
والواقع ، انه اذا كان مؤتمر 11 يناير 1975 الارتدادي المخزني الرجعي ، الذي كان السلطان الحسن الثاني من وقف وراءه ، قد ارسى أرضية هشة ، وكانت مقصودة على مستوى تحديد المفاهيم الأيديولوجية ، فان الاختيار الاشتراكي للتقرير الأيديولوجي في جوهره ، كان تعبيرا دالا على مجمل طموحات البرجوازية المتوسطة ، والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة ، في إزاحة القيود والعراقيل المنتصبة في وجهها ، من طرف النظام المخزني البوليسي السلطاني ، والدولة البطريركية ، والكمبرادورية ، والرعوية ، والطقوسية .. والاقطاع بشتى انواعه ، خاصة الاجتماعي والفئوي ، ثم فتح الإنتاج والمبادلات الكبرى امامها .
ان هذا الاختيار الاشتراكي ، يهدف الى اطلاق يد البرجوازية المتوسطة في الريف ، لتحديد ملكية كبار الملاكين ، وتحرير البرجوازية المتوسطة الحضرية المدينية في التجارة والصناعة ، عن طريق الدعوة ومن داخل حكومة السلطان ، الى تأميم التجارة الخارجية التي يسيطر عليها السلطان ، ثم تأميم الابناك والشركات الكبرى التي تضيق الخناق على المشاريع المتوسطة ، وتقديم التشجيع والدعم اليها من طرف الدولة المخزنية . وهذا يعني السيطرة على المجتمع من خلال القطاع العام والقطاع الخاص ، وتحت الاشراف المباشر للكمبرادور .
ان هذه الدولة المفروض فيها ان تنجز هذا المشروع ، وتفتح الطريق لتطور رأسمالي محلي ، هي دولة البرجوازية المتوسط بالأساس ، والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة . أي دولة تمثل دكتاتورية طبقة برجوازية ، وتحت اشراف السلطان على المجتمع . فهل السلطان سيقبل بهذا الوضع الجديد في التقرير الأيديولوجي ، حتى يصبح هؤلاء يقتسمون معه خيرات المغرب التي يستفرد بها لوحده ؟
وفي نظرنا ان سيطرة البرجوازية المتوسطة على الدولة ، وفي اتجاه تحديد الاختيارات الطبقية التي حددها التقرير الأيديولوجي ، تبقى مجرد وهم راود أصحاب نظرية الحزب ، باسم الملكية البرلمانية .
ان الوصول الى نظام الحزب الوحيد وليس الى الملكية البرلمانية ، يكون اكثر سهولة اذا قاد عملية التغيير الجيش ، او الحزب الثوري كما كان سيحصل عندما شارك الحزب الجنرال محمد افقير ، انقلاب الجيش في 16 غشت 1972 ..
ان الذي سيتغير في مثل هذه الأنظمة الدكتاتورية ، هو ان ملكية وسائل الإنتاج الكبرى بدل ان تكون لأفراد ، تصبح جماعية لكل الطبقة المسيطرة على الحكم . اما العمال ، والفلاحين ، والشباب ، وباقي الفئات الاجتماعية الذي سيق الانقلاب باسمها ، ويدعي التقرير الأيديولوجي دفاعه عنها ، فان الواقع سيستمر بالنسبة لهم كما كان سابقا ، وربما سيزيد استفحالا وتدهورا ، لان العمال سيظلون كطبقة تبيع قوة عملها ومفصولة كليا عن وسائل عملها وعن وسائل الإنتاج ، وسيبقون كطبقة مسلوبة ومقموعة سياسيا ، وتنظيميا ، وايديولوجيا . اما الرعايا / الشعب ، فسيستمر كما كان عبداً في خدمة دولة البرجوازية المتوسطة ، والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة .. وهذا يتعارض مع التقرير الأيديولوجي الذي خرج به مؤتمر الردة في 11 يناير 1975 . ويشكل انقلابا على ماضي الاتحاد الراديكالي من الناحية التنظيمية ، كما من الناحية السياسية .
اما من الناحية العملية ، فان نفس الأهداف التي رمى لتحقيقها حزب الاتحاد ، منذ انقلابه في 25 يناير 1959 على القيادة المركنتيلية المحافظة في حزب الاستقلال ، هي نفس الأهداف عكسها مؤتمر الردة في 11 يناير 1975 ، لكن هذه المرة بأسلوب غاية في المكر والمكيافيلية .. ان التغيير المتحدث عنه لم يشمل سوى الوسائل للوصول الى الهدف .. ومن خلال المعايير المعتمدة في تحليل الأنظمة السياسية في البلاد المتقدمة ديمقراطيا ، ليس هناك اختلاف بين الجمهورية البرلمانية الانتخابية ، وبين الملكية البرلمانية الانتخابية . لكن في البلاد العربية الاختلاف والفرق شاسع ..
وحيث ان التقرير الإيديولوجي يميل الى الملكية البرلمانية من حيث الظاهر ، فان الدعوة للمنهجية الديمقراطية ضمن الدولة السلطانية ، هو تدعيم من الحزب للدولة السلطانية التي لا علاقة لها بالدولة الديمقراطية ملكية او جمهورية ..
-- اذا كان المؤتمر الاستثنائي قد شكل انقلابا وبتوجيه من السلطان الحسن الثاني ، على ماضي الاتحاد الراديكالي بشقيه السياسي التقدمي ، والبلانكي الثوري المسلح ..
-- واذا كان المؤتمر الوطني الثالث قد حاول القطع مع الضبابية التنظيمية التي ميزت مسيرة الحزب ، حيث كان كل شيء يخضع للازدواجية ..
فان المؤتمر الرابع شكل قطيعة نهائية مع جماعة " اللجنة الإدارية الوطنية – La CAN " .
اما المؤتمر الخامس ، فكان محط توافقات بين عبد الرحيم بوعبيد ، وبين وزارة الداخلية والقصر . فدخول فتح الله ولعلو ، وعبد الواحد الراضي الى المكتب السياسي للحزب ، كان بأمر شخصي من السلطان الحسن الثاني ، وتعيين العديد من كتاب الكتابات الإقليمية بالمدن الكبيرة ، كان وراءهم وزير الداخلية ادريس البصري .. وحتى يتم اسكات القواعد ، تم ادخال محمد نوبير الاموي الى المكتب السياسي ، الذي سينقلب على الجميع بعد انْ استقبله محمد السادس شخصيا بالقصر .. فصارت نقابة " ك د ش – La CDT " جزءا من الدولة ، تعرقل المطالب الاجتماعية باسم الحفاظ على السلم الاجتماعي الذي قرب من عمره الاربعين سنة ..
المبحث الثالث : مؤامرة 8 مايو 1983 .
اذا كان مؤتمر 11 يناير 1975 الارتدادي المخزني ، قد قطع مع ماضي الاتحاد الثوري والراديكالي من الناحية التنظيمية والإيديولوجية ، واستمرار ولو ظاهريا ، نفس الاختيارات التي آمن بها جزء من رعيل الحزب في 25 يناير 1959 " التحرير ، الديمقراطية ، الاشتراكية " ، " الديمقراطية بالنسبة للاتحاد ليست وسيلة فحسب ، وانما غاية في اطار الاختيار الاشتراكي " اشتراكية في ظل دولة سلطانية مخزنية وبوليسية .. التي تحولت في حينها وفي رمشة عين الى اشتراكية السيگار Le cigare ، والشركات ، والضيعات الفلاحية ، والفيلات ، والحسابات البنكية المنفوخة في المغرب وفي خارجه ..
فان ما جاء به المؤتمر الثالث المنعقد سنة 1978 ، كان واضحا في حديد مواقف الاتحاد بخصوص العديد من القضايا التي استرعت باهتمام قادة الحزب وقواعده الملجمة .
كما استرعت باهتمام الطبقة السياسية ، نتيجة للاستحقاقات السياسية التي كانت على الأبواب ، وبسبب نوع التحالفات السياسية المرتقبة التي كان يمهد لها ، ببعض الاتصالات التي كانت تجري في الكواليس . وهكذا فان الالتزام والتمسك ، او عدمهما بثوابت الحزب ، وبمبادئه ، واختياراته التي عكستها قرارات مؤتمراته ، وأدبياته السياسية التي تم الترويج لها بكثافة ... كان سببا في إعادة خلط الأوراق ، وإعادة تنظيم الصفوف والتكتلات داخل الحزب ، والتحرك حسب المصالح السياسية ، والفوائد المالية ، والامتيازات المختلفة التي كان يخطط لجنيها ، ويتفاوض عليها رموز الحزب ، وبتواطؤ مكشوف مع الدولة ، ممثلة في وزار الداخلية التي كانت التوجيهات تأتيها من القصر من مستشار السلطان احمد رضى اگديرة .. لذا فان هذا النفر من البشر السياسوي ، كان يعرف ان المرور الى الاختيارات التي كانت تصنع وتقرر في الدهاليز المظلمة ، خاصة بالكلومتر 5 بطريق زعير ، حيث كان يتردد ادريس لشكر ، بعد ان تم تعبيد الطريق عندما صوت ادريس البصري لا دريس لشكر ، في الانتخابات بمقاطعة السويسي ، ليس بالأمر السهل والهين ، لان هناك معارضين شرسين اشداء ، يرفضون الخروج عن التزامهم ، ومواقفهم التي تقيدوا بها من قرارات المؤتمرات ، ومن ادبيات الحزب التي تغنى بها منذ 6 شتنبر 1959 .. فكان لأصحاب النخاسة السياسية ان يفكروا في الامر جليا ، ويحسبون لكل خطوة الف حساب قبل القدوم عليها ، خاصة الخطوات الشاذة المرتمية في حضن القصر ووزارة الداخلية .. والسؤال . منذ متى كانت دعوة التمسك بالمشروعية ، اخلالا بالنظام لعام للحزب ، وتهديدا للنظام العام ، والاستقرار العام بالدولة ..
لقد حدد المؤتمر المؤتمر الثالث لحزب الاتحاد الاشتراكي ، مواقف الحزب من المجالس المنتخبة ، والمسلسل الانتخابي برمته . وتجلى ذلك على الخصوص في مقررات المؤتمر ، وفي قرار اللجنة المركزية في مايو 1979 ..
ان من اهم ما جاء في البيان السياسي العام : " .. يؤكد المؤتمر ان الاختيارات اللاّشعبية واللاّديمقراطية التي تمسك بها الحاكمون .. والتي طالما ندد بها حزبنا .. أصبحت الآن امام نفق مسدود ، وحكمت على نفسها بالفشل في كافة الميادين .. " " .. انعزال السلطة كليا عن الشعب وقواه الحية ، وسقوطها في يد الانتهازيين والسماسرة ، وكافة الساعين الى الاثراء ، وارضاء نزواتهم الشخصية بواسطة التملق والنفاق ، وهذا سمح مرة أخرى بفتح المجال لتسرب كثير من العناصر الانتهازية الى مراكز التوجيه ، والتقرير ، والتنفيذ ، مما أدى الى نشوء طبقة برجوازية طفيلية وبيروقراطية جديدة ، وضعت يدها على كافة المرافق الاقتصادية ، مستعملة سلطة الدولة لاستغلال الدولة والشعب في آن واحد .. " .
اما بالنسبة للتجربة الديمقراطية ، فقد وصفها المؤتمر بانها " .. الديمقراطية المزيفة في ابشع صورها ، واقبح مظاهرها .. " ، وطرح البديل المرحلي الذي على الحزب ان يناضل من اجله وهو " .. الديمقراطية التي تعني الغاء جميع أساليب المخزنة في دولتنا ، وتحويلها الى دولة وطنية ديمقراطية تعتبر الشعب مصدر جميع السلطات .. " ، وطرح المؤتمر برنامجا استعجاليا ومرحليا من اجل " .. مراجعة شاملة للدستور ، واجراء انتخابات حقيقية يضمن فيها التعبير الديمقراطي الحر لكافة المواطنين ، وضمان حياد الجهاز الإداري .. انتخابات حرة نزيهة تمكن البلاد من التوفر لأول مرة على مؤسسات حقيقية .. " .
إذن اصبح واضحا من هذا البيان السياسي ، ان الحزب بكل فئاته ، اصبح مرتبطا في توجهاته المستقبلية ، بالقرارات التي خرج بها مؤتمرا الحزب ، خاصة المؤتمر الثالث ، إضافة الى الاحتكام والرجوع الى ادبيات الحزب المختلفة ، التي ميزت مسيرته السياسية التي كانت تعرف مدا وجزرا ، حسب المحطات التي كان يتواجد فيها الحزب منذ انقلابه على القيادة المركنتيلية المحافظة في حزب الاستقلال في 25 يناير 1959 ، الى انقلاب 30 يوليوز 1972 على الجناح النقابي الذي مثله عبدالله إبراهيم ... الخ .
واذا كان مؤتمر 11 يناير 1975 قد وضع في اطار واحد ، معادلة واحدة تتكون من ثلاث عناصر " حرية ديمقراطية اشتراكية " ، في ظل الدولة الشَّبه ديمقراطية ، او الدولة الشِّبه ديمقراطية ..
واذا كنت محطة 11 يناير 1975 قد حددت الوضوح الأيديولوجي للحزب ، باعتماده الديمقراطية التي تحولت الى منهجية ديمقراطية ..
فان المؤتمر الثالث حدد بوضوح موقف الحزب من الانتخابات الانتخابوية ، و من البرلمانية ، والمسلسل الديمقراطي المغشوش برمته ، فحكم عليهم بالفشل ، واعتبر انهم يمثلون الديمقراطية في أبشع صورها .
لقد كان هذا يعني ضرورة الالتزام والتقيد بقرارات المؤتمر ، والعمل على تبني استراتيجية واضحة في العمل الحزبي لإعادة الثقة والروح اليه ، واعادته الى موقعه الصحيح ، الذي عكسته قرارات مؤتمراته ، وعكسته أدبياته السياسية المختلفة .. وكتتمة واستمرار لهذه القرارات ، وفي افق الالتزام والتحضير لتجسيد ما اقره المؤتمر الثالث ، عقدت اللجنة المركزية للحزب في 31 مايو 1979 ، اجتماعا قررت فيه الانسحاب من مجلس النواب ، وتركت للمكتب السياسي مسؤولية تنفيذ القرار المذكور.
هكذا بعد اخذ ورد ، قرر النواب الاتحاديون في 6 أكتوبر 1981 تقديم رسائل شخصية الى رئيس مجلس النواب ،يعتبرون فيها مدة انتخابهم كنواب قد انتهت مع نهاية السنة التشريعية في 8 أكتوبر 1981 ، وذلك استنادا الى الفصل 43 من الدستور .
بعد خطاب الحسن الثاني في 9 أكتوبر 1981 ، تلقى النواب الاتحاديون المستقيلون رسائل شخصية من رئيس مجلس النواب في 13 أكتوبر 1981 ، يخبرهم فيها بلا قانونية الانسحاب ، وبضرورة العودة الى البرلمان بمجرد توصلهم برسائل الرد فورا . وبالفعل عوض ان يتقيد ويلزم المكتب السياسي للحزب بقرارات الأجهزة الحزبية ، أذعن لطلب رئيس مجلس النواب ، ولرغبة البرلمانيين الذين كانوا يتصرفون كبرلمانيين لا علاقة لهم بالحزب . هكذا تم الرجوع رسميا الى البرلمان في 13 أكتوبر 1981 ، فحضروا الجلسة الاستثنائية التي عقدت مساء ذاك اليوم ، متضرعين بذرائع وتبريرات واهية لا أساس لها من الصحة ، كالتهديد الذي تتعرض قضية الصحراء ، او محاصرة البرلمانيين الاتحاديين بضغطين متوازيين قانوني وسياسي ، او ضرورة التواجد بالبرلمان ولو بنائب واحد وهكذا .. الخ .
فأمام هذا الخلل القانوني والسياسي الذي بدأ يطال مؤسسات الحزب ، وعلاقتها بقرارات المؤتمر الثالث الواضحة الشكل والمضمون ، احتدم الصراع مجددا وبكل قوة داخل الحزب ، بين الذين بدأوا يخططون للانقلاب على ما سبق ان التزموا به ، وبين الأطر التي كانت تدافع عن الثوابت المتفق عليها ، وتطالب بضرورة الرجوع الى المشروعية الحزبية ، والتشبث بقرارات مؤتمرات الحزب ، خاصة قرارات المؤتمر الثالث ، والانضباط لقرار اللجنة المركزية الواضح المعالم .
وقد شكلت عملية عودة النواب الى البرلمان ، القشرة التي قسمت ظهر البعير . هكذا بدأ الصراع يأخذ شكل البلاغات والبلاغات المضادة . وتطور الصراع نحو افق امامي حين شرع المكتب السياسي للحزب في تنفيذ مؤامرته السلطانية المخزنية البوليسية ، وذلك عندما اصدر قرارا جائرا يقضي بطرد مسؤولين محليين ووطنيين ، ثم تبع هذا الاجراء اجراء اخر مماثل قضى بطرد مناضلين مخلصين للحزب ولمبادئه في العديد من الأقاليم كمدينة بني ملال ، مدينة خريبگة ، الدارالبيضاء ، الرباط ، فاس ، أگادير ... الخ .
وامام هذا الانقلاب الذي تمت فيه مواجهة القواعد المرتبطة بالمشروعية .
وامام التفاف القواعد والاطر حول خط الحزب الصحيح ، والدفاع المستميت عن هوية الحزب " التحرير الديمقراطية الاشتراكية " .
وامام إصرار القواعد والاطر مطالبتهم القيادة المخزنية السلطوية الانقلابية ، الاحتكام الى الأجهزة المسؤولة ، والقنوات المشروعة ، والمطالبة بالتقيد بقرارات المؤتمر الثالث ، والقرار الذي اتخذته اللجنة المركزية .. الخ ، شرع انقلابيو المكتب السياسي بنهج أسلوب الوشاية بالقواعد والاطر ، وستبلغ المواجهة قمتها وشراستها ، حين استعان المكتب السياسي بوزير الداخلية ادريس البصري ، في مواجهة المقاومين لاختيارات الجناح الانقلابي .. فكانت النتيجة والحصيلة جد ثقيلة ، عرفت في حقل المعرفة السياسية المغربية بمؤامرة 8 مايو 1983 ، التي دخل فيها الشرعيون السجن ، ودخل الانقلابيون بزعامة عبد الرحيم بوعبيد جماعة المكتب السياسي ، الى حكومة السلطان ، وبرلمان السلطان ..
بعد تصفية المعارضة المشروعة ، سيخلو الجو لجماعة المكتب السياسي المخزنية الانقلابية ، فدخلوا مجال الكولسة ، واصبح الحزب عبارة عن حانوت ( دكان ) للبيع والشراء بين النخاس البائع والنخاس المشتري ، يستعمل ادواته في المساحيق لتبييض ديمقراطية النظام المخزنية البوليسية السلطانية والسلطوية .
لقد وصلت الوضعية التنظيمية داخل الحزب حد التأزم الحاد ، فتم لجم القواعد ، خاصة العناصر التي كانت تحاول جاهدة إعادة الاعتبار الى العمل الحزبي ، وربط الحزب بمحيطه ، والمجال الذي كان يتحرك داخله ، ويمده بالمناضلين .
هكذا سيعرف المؤتمر الخامس وبتعليمات من السلطان الحسن الثاني ، دخول كل من عبد الواحد الراضي وفتح الله ولعلو الى المكتب السياسي ، ومقابل اسكات القواعد تم ادخال محمد نوبير الاموي نفس المكتب . اما وزارة الداخلية فكان نصيبها تعيين العديد من كتاب الكتابات الإقليمية بالمدن الكبرى ، فاصبح الحزب السلطان يتوزعه القصر ، ووزارة الداخلية ، والواشون للبوليس السياسي DST ، والجهاز السلطوي القرسطوي من خلال مديرية الشؤون العامة ، ومن خلال هيئة العمال والولاة ..
اما المؤتمر السادس والسابع .. وخاصة المؤتمر التاسع .. فكانت فضيحة مجلجلة ، لان من اشرف على هذه المؤتمرات ، وزارة الداخلية ، وليس القصر الذي لم يعد يعطي للحزب أهمية ، لأنه افرغه من مضمونه .. وما تعرض له الاتحاد من الوطني الى الاتحاد الاشتراكي ، تعرض له حزب التقدم والاشتراكية المخزني ، وتعرضت له منظمة العمل الديمقراطي الشعبي OADP ( مؤامرة فندق حسان ) ..
القسم الثاني : الاطار الأيديولوجي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، والفكر السياسي للمهدي بن بركة .
الفصل الأول : الاطار الأيديولوجي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبة .
لا يمكن لأيّ بحث هادف ان يتناول جوانب حركة سياسية معينة ، اذا ركز فقط على الجانب السوسيو- تاريخي ، وتجاهل الجانب الأيديولوجي الذي يلعب دور العامل الأساسي في تحديد مسار جانب السوسيو- تاريخ ، لان جميع المحطات الأساسية التي يكون التنظيم قد قطعها ، تكون مطبوعة بعامل الأيديولوجية التي وحدها تمكن المحللين والدارسين للشأن الحزبي ، في تصنيف الخانة التي ينتمي اليها الحزب . لذا سنجد ان الأستاذ Maurice Duverger أستاذ علم السياسة ، والعلوم السياسية ، والأحزاب السياسية ، والقانون الدستوري ، يركز على عامل الأيديولوجية ، الى جانب عامل التنظيم ، وعامل الأعضاء ، في تعريف الأحزاب السياسية . لذا يظل العامل الأيديولوجي مهماً في التصنيف السياسي للتنظيمات والأحزاب السياسية . ومن هنا فحتى نفهم جيدا حزب الاتحاد الوطني / الاشتراكي للقوات الشعبية ، وتحديد الأهداف التي كان يخطط للوصول اليها ، يكفي ان نطرح سؤالا . هل كان للاتحاد إيديولوجية معينة وواضحة ، ام انه كان يسبح في بحر من النظريات ، دون امتلاكه أيديولوجية معينة . اي انه كان حزبا شعبويا انقلابيا ومغامرا ؟ او كان حزب رأي ومساومات ؟ .
قبل تحديد الجواب عمّا اذا كان للحزب أيديولوجية تميزه عن غيره من الأحزاب التي كانت فاعلة في الساحة ، ام انه كان فقط حزبا يستعمل رصيدا معرفيا متناقضا من الأفكار ، عند تحديد الموقف من إشكالية سياسية ، او من موقف سياسي متذبذب .. لابد من الإشارة الى ان حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كانت له تنظيرات ، لكن لم تكن له قط أيديولوجية . فالحزب كانت تخترقه مذاهب سياسية غير مضبوطة . فهو تارة يدعي التمسك بالعقيدة الإسلامية ، وتارة يدعي التمسك بالحضارة العربية وبالقومية العربية ( بعتية ناصرية ) ، وتارة يدعي الاقتداء بالثورة الفرنسية والمدارس الفكرية المختلفة المنبثة عنها ( العلمانية والعقلانية ) ، وتارة أخرى يدعي التمسك بالماركسية كمنهج وليس كعقيدة .. وهذا الوضع الشعبوي الذي ميز مسيرة الحزب ، جعل منه حزبا " لا نظرية نظريته ، والتجريبية ممارسته " .
ان هذا الوضع ليس له من تفسير ، غير ان أحزاب البرجوازية الصغيرة من خلال ادعاءاتها المزيفة ، توهم المحللين ، والملاحظين ، والمشتغلين بالشأن الحزبي ، انها تسلك طريقا مستقلا عن التيارين الاشتراكي والرأسمالي ، وهو ما اطلق عليه الرئيس الليبي المغتال ب " الطريق الثالث " في الثورة وفي العمل السياسي .
وفي نظرنا ، انه في غياب أيديولوجية معينة وواضحة ، تلجأ أحزاب البرجوازية الصغيرة دائما الى أسلوب الانتقائية ، والاستعانة بأطروحات متناقضة ومتضاربة ، ومشتقة من مدارس إيديولوجية مختلفة ومتعددة ، انطلاقا من التراث السلفي الرجعي ، الى الفلسفات العلمانية ، وحتى الملحدة الغربية ، الى المذاهب الاشتراكية المختلفة ، من اوربية ، وشرقية أ واسيوية ... لذا فاشتراكية حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لم تكن فلسفية ، بل كانت في حقيقتها تقنوية وفوقية ، وادى هذا البناء الفكري المائع ، والهيكل التنظيمي الرخوي والهش ، الى ان تكون اغلب الصراعات السياسية التي خاضها الحزب ، غير مؤطرة أيديولوجيا ، ولا حتى تنظيميا . لكنها كانت بسبب تدخل القصر الذي كان يوجه الحزب عن بُعْد . وهذا الوضع طبعا عجل بكثرة الانسحابات المنفوخ فيها من قبل السلطان الحسن الثاني ، وانضمام المنسحبين الى القصر .. واعتقد ان الكل يتذكر وزير الاعلام عبد القادر الصحراوي الذي اصبح سفيرا بلبنان ..
ان هذا الوضع الذي ميز مسيرة الحزب ،حيث الغياب الأيديولوجي ، وهشاشة التنظيم الذي كان مخترقا من قبل بوليس الدولة السلطانية ، والارتباك السياسي ، وطغيان الازدواجية في العمل السياسي ، والتناقض في المواقف ، وعدم الانسجام بين مكوناته النقابية ، والسياسية ، والبلانكية .. الخ ، خلق للحزب أزمات سياسية وتنظيمية ، كان ابرزها ظهور جناحين ، جناح الدارالبيضاء النقابي بزعامة عبدالله إبراهيم ، وجناح الرباط السياسي بزعامة عبد الرحيم بوعبيد ، والجناحين معا تبرئا من الجناح البلانكي في 3 مارس 1973 ، كما سبق وتبرئا من المجموعة البلانكية في 16 يوليوز 1963 ، ولزما الصمت في محاولة 16 غشت 1972 ، التي جاءت حركة 3 مارس 1973 كانتقام لها ، وانتقام عن اختطاف ضباط وضباط صف وجنود في سنة 1973 من السجن المركزي بالقنيطرة ، وترحيلهم بقيادة القبطان حميدو لعنيگري من الدرك ، الى السجن الرهيب تزمامارت ،. كان الكلونيل فضول من الدرك هو المكلف الوحيد بالمختطفين بسجن تزمامارت ..
لقد انتهى الصراع بين الجناحين في الحزب بعد 3 مارس 1973 ، الى الاعلان عن اكبر انشقاق عرفه الحزب ، مدفوعا من القصر في 30 يوليوز 1972 ، بعد انشقاق 25 يناير 1959 ، وظهور حزب جديد / قديم ، هو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي تفضل الحسن الثاني شخصيا بإطلاق التسمية الجديدة على الحزب ، من جهة ليمحو من الذاكرة كل شيء عن حزب الاتحاد الوطني خاصة الجانب الراديكالي من خلال خطابات الزعماء النارية ، ومن خلال قرارات مؤتمر التأسيس ، والمؤتمر الثاني ، والاحداث المسلحة في 16 يوليوز 1963 ، و احداث 3 مارس 1973 ، ومشاركة الجنرال محمد افقير انقلاب الطائرة في 16 غشت 1972 . ومن جهة لاستعمال الحزب في معركة الصحراء التي كانت على الأبواب ..


ان خروج 30 يوليوز 1972 ، كان اخطرا من خروج 25 يناير 1959 ، وخروج 11 يناير 1975 ، وخروج 8 مايو 1983 .. وذلك لعدة أسباب :
1 ) ان الظرف السياسي العام الذي حصل فيه الانشقاق ، كان من الضرورة بمكان ، فمن جهة عرف النظام السلطاني ، المخزني ، البوليسي محاولتين انقلابيتين فاشيتين ، فاشية العسكر وليس فاشية الاسلامويين ، ومن جهة أخرى وفي سياق محموم مع الوقت ، شرع البلانكيون وبمشاركة بعض السياسيين اليساريين ، في الاعداد والتحضير للمؤامرة المسلحة ضد الدولة المخزنية ، بدعم من الجزائر في 3 مارس 1973 ، ومن جهة ان الصراع بين الجناح اليساري السلطاني ، ودعاة الكفاح المسلح ، وبين الجناح النقابي من اجل السبق لاحتلال المواقع ، لا من اجل المصلحة العامة ، ومن ثم فان الصراع كان الهدف منه الحسم لاحد القطبين المتصارعين . وهذا ترجمته الاحداث السياسية اللاحقة التي عاشها المغرب ، حيث سجل انسحاب الجناح النقابي من الساحة السياسية ، خاصة عند تأسيس ك د ش CDT ، وتمت محاصرة الجناح الثوري الجمهوري الانقلابي البلانكي ، وفتح الباب واسعا للجناح السياسي التقدمي السلطاني بدعامة السلطان الحسن الثاني شخصيا ..
2 ) ان انشقاق 3 يوليوز 1972 ، جاء نتيجة ظرف عصيب كان يمر منه الحزب ، تمثل أساسا في تقليص نفوده ، وتقوقعه امام المد الكاسح لليسار الجديد الماركسي ممثلا في تنظيمات الحركة الماركسية اللينينية المغربية ، التي سيطرت بالكامل على المنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في المؤتمر الخامس عشر ، الذي انعقد في غشت 1972 بكلية العلوم بالرباط ..
فالحزب لم يعد وحده مسيطرا على الساحة الطلابية ، بل تم اقصاؤه من طرف اليسار الماركسي الذي اصبح يسيطر على هذه الساحة ، وهي السيطرة التي سيوضع عود في عجلتها ، عندما أصدرت وزارة الداخلية القرار الشهير القاضي بحضر ا و ط م UNEM في 24 يناير 1973 ..
ان السبب الرئيسي في المنحى الذي سار عليه الحزب إزاء الشعبوية ، يعود بالأساس الى عناصر القصر التي وقفت وراء انشقاق 25 يناير 1959 ، وتشجيعها على خلق حزب جديد هو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 6 شتنبر 1959 . والقصر نفسه كان وراء انشقاق 30 يوليوز 1972 . فالحسن الثاني من اعطى اسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، حتى يزيل كل آثار ورصيد الحزب الراديكالي من تصريحات زعماءه النارية ، الى الخطابات في البرلمان ، الى الانتفاضة المسلحة في 16 يوليوز 1963 ، الى الانتفاضة المسلحة في 3 مارس 1973 ، الى مشاركة الجنرال محمد افقير انقلاب الطائرة في 16 غشت 1972 .. فالدعم السياسي والمادي القوي الذي قدمه القصر لعقد مؤتمر 11 يناير 1975 الارتدادي ، لتصفية المرحلة التاريخية التي ميزت مواقف الحزب ضد الدولة السلطانية المخزنية ، ستُحوّل الحزب ليس الى النضال الديمقراطي لإصلاح النظام من الداخل ، بل حولته الى المنهجية الديمقراطية التي اصبح الحزب كغيره من الأحزاب ، يتنافس على تنزيل برنامج السلطان ، وليس برنامج الحزب الذي دخل على أساسه الى انتخابات السلطان ، فأصبحت العملية السياسية برمتها تنتهي بان يصبح الجميع ، مجرد موظفين سامين كبرلمانيين وكوزراء بإدارة السلطان . دون ان ننسى توظيف الحزب سياسيا في قضية الصحراء ..
الفصل الثاني : الفكر السياسي للمهدي بن بركة .
كما بينا سابقا ، فان مشكلة المهدي بركة ، ومنه مشكلة الحزب ، انّ المهدي كان متدبدب الأفكار ، وكان خليطا من النظريات التي جعلته تائها بين دروبها ، ودون ان يرتقي الى مصاف عليا في احداهن . فمشكلة المهدي هي أين ما بحثت عنه تجده ، وهذا معناه ان المهدي لم تكن له نظرية ثورية ، او سلفية ، او قومية ، او ليبرالية ... ، فكان شعبويا ، ولم تكن له أيديولوجية ، وهذا سهل تلاعب القصر به .
هكذا فحين كان دينامو حركة 25 يناير 1959 يستلهم النموذج الغربي في الديمقراطية ، فانه بذلك كان من انصار ودعاة الملكية البرلمانية ، وضد الملكية المطلقة التوتاليتارية ، فكان هنا يلتقي مع السياسيين الذين كانوا يسمون باليساريين التقدميين .
وحين كان المهدي يشيد بالقومية العربية من ناصرية وبعثية ، وتجربة جزائرية ناصرها في حرب الرمال في سنة 1963 ، فهو كان يؤمن بالانقلابات التي تؤدي الى الجمهوريات الدكتاتورية . فكان بذلك يلتقي مع الاتجاه البلانكي ، ومع خط الكفاح المسلح للسيطرة على الدولة . أي كان يؤمن كذلك بالانقلاب من فوق ، وهذا ما جعله همزة وصل على رأس تنظيمين بلانكيين واحد كان على راسه الثائر احمد اگوليز الملقب بشيخ العرب ، ومعه مومن الديوري ، والثاني كان على راسه الفقيه محمد البصري الذي كان النظام يسميه بابن آوى Le chacal . اما اتباعه فكان يسمون ب Les faucons du fquih ..
وعندما كان يشيد بتجارب الأنظمة الشيوعية خاصة الصين الماوية ، فانه كان من دعاة ومناصري الحزب الوحيد ، ومن دعاة ومناصري الثورات الشعبية . وهنا نسجل معارضته وقمعه للحزب الشيوعي المغربي في الحكومة التي كان على رأسها عبدالله إبراهيم ، كما يكون المهدي باختياره هذا ، قد سبق اطروحات اليسار السبعيني ، خاصة منظمة الى الامام ، ومنظمة 23 مارس .
وحين كان يلوح بالسلفية وبالإسلام ، فحتى لا يقطع مع ( مقومات واصول ) الشعب المغربي ، الذي كان يجتهد في توظيفه في المعركة الكبرى المنتظرة ... وهكذا دواليك ..
لذا فان أي بحث وتحليل عميقين لمعرفة الخط السياسي و( النظري ) ، وليس الأيديولوجي ، لان الحزب لم تكن له أيديولوجية على الاطلاق ، لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، لا يمكن ان يكون هادفا وثاقبا إذا لم يكن على ضوء دراسة الخطاب السياسي الذي كان يستعمله زعيم الحزب ، ومفكره المهدي بن بركة عند تقييمه او حكمه على اية ظاهرة سياسية تتراءى له ، وتأخذ من تفكيره ووقته الشيء الكثير .
فبرجوعنا لبحث وتحليل الفكر السياسي للمهدي بن بركة ، الدينامو الرئيسي في حركة 25 يناير 1959 ، وصاحب كراس " الاختيار الثوري " الذي ضمنه جميع أفكاره ، وتصوراته ، وفهمه للعمل الوطني والسياسي ، والذي كان وقته مزعجا للنظام المخزني .. ستتضح لنا ملاحظة سياسية هامة ، تتجلى في ان الارتباطات السياسية للمهدي بن بركة بالقضية الوطنية ، والمسالة المستقبلية ، كانت تنطلق من اعتبارات مجردة ، تهدف الى رد التخلف الذي يعاني منه المغرب ، الى سبب افتقاره الى سياسة التصنيع بمفهومها التقنوي ، وليس التقني ، وافتقاره الى التكنولوجية الصلبة الهادفة ، والى غياب القاعدة الاقتصادية التحتية والقوية .
لكن ان موقف المهدي بن بركة هذا ، جعله مجرد مناضل تقنوي ، يريد اختزال الاقتصاد الغربي في العمل والإصلاح . لكن ومن دون شعور ، يقوم بإفراغ هذا الاقتصاد من جميع عناصره ، وثقافته ، وايديولوجيته المؤسساتية ، والثقافية ، والحضارة الغربية . وهذا يعني ان المهدي بن بركة في اصله ، كان من دعاة تقديس التقنية الغربية . فكان بذلك يمتلك نظرة تقنوية اصلاحوية ضيقة ومجردة ، من كل الاعتبارات الفلسفية ، والإنسانية ، والحضارية ، والمدنية لدواليب الاقتصاد والسلطة السياسية . لكن مِنْ غير ان يشعر ، يفرغ هذا البناء من عقيدته الأيديولوجية التي هي ضرورية ، لمقودة هذا الإصلاح المرتبك في شتى المجالات ، في فكر المهدي المتخلف عن فهم أسباب التقدم الغربي المسيطر على العالم .
هكذا مثلا نجد انّ المهدي بن بركة تجرع في المجال الديمقراطي ، أساليب وممارسات القيادة المركانتيلية المحافظة داخل حزب الاستقلال ، في لجم الصراع الداخلي بوسائل إدارية ، وإجراءات تقنية ، أطاحت بالديمقراطية داخل الحزب ، وحرفت صراعه عن طبيعته وأهدافه الأساسية ، فجعلته يدور بين افراد يحتكمون الى الشرعية التاريخية المفتري عليها ، والاهداف السياسية المعلقة ، والمركز الاجتماعي الطبقي ، مع العلم ان المهدي بممارسته كان بعيدا عن الديمقراطية وقريبا من الدكتاتورية . وكان هذا السلوك والممارسة داخل الحزب ، من تدبير القيادة المحافظة المركانتيلية التي خرجت منهكة من مرحلة الكفاح الوطني ، الذي كان يعتمد الدعاية الإعلامية الموجهة الى أمريكا والى اوربة ، فحاولت توظيف استقلال Aix-les Bains لخدمة مصالحها ، ومصالح طبقتها على حساب مصالح المقاومة وجيش التحرير ، ومصالح الشعب . وقد استغل القصر هذه الثغرة التي نفخ فيها من روحه داخل حزب الاستقلال ، فدفع بالجناح البرجوازي الصغير الى اعلان اول تمرد وانشقاق عرفه تاريخ الأحزاب ، وادى الى بروز حزب جديد هو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية UNFP ، الذي تعرض بدوره الى عدة انشقاقات انبثقت عنها عديد من التنظيمات ، التي تعرضت بدورها الى انشقاقات وهكذا ... وهذا جعلنا بحق نعتبر ان تاريخ اليسار المغربي ، هو تاريخ انقسامات وانشقاقات متوالية ..
وفي مجال السلطة العامة ، ربط المهدي بن بركة بين ثلاث عناصر أساسية ، اعتبرها ضرورية ولازمة في اية عملية او مشروع نهضوي تقدمي ، للخروج من التخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعاني منه المغرب . كما اعتبر ان في عدم توافر هذه العناصر ، فان دار لقمان ستبقى على حالها ، وستزيد الازمة ، والتبعية ، والتخلف في خط امامي ، مما ينذر معه بوقوع كارثة ستضر المغرب في الصميم .
ان هذه الشروط الأساسية ، يحددها المهدي بن بركة في الحكومة القوية المنبثقة من البرلمان ، وفي الانتخابات الحرة والنزيهة ، وتقوية سلطات البرلمان مقابل اضعاف سلطة السلطان ، ثم وضع التصميمات الاقتصادية الخماسية ، والصناعة الثقيلة ، وتمكين الشعب من تسيير شؤونه العام بنفسه ...
الملاحظ ان هذه العناصر التي يُقيّم بها المهدي بن بركة الوضع العام السائد في المغرب ، ويعتبرها هي مفتاح الحل للازمة التي تنخر الدولة ، تجعل منه مثل سلامة موسى بالشرق العربي ، يعمل على اختزال البنيات الأساسية للغرب الرأسمالي ، في المجال الديمقراطي والسياسي والاقتصادي ، لكنه ومن دون شعور يسقط في الانتقائية والاسقاط ، لأنه ، أي المهدي بن بركة ، لم يأخذ بعين الاعتبار الاطار الأيديولوجي ، والحضاري ، والمدني لهذا الغرب الذي استعمرنا ، وأذلّنا ، ونهب خيراتنا ، والمسؤول عمّا نعيشه من ركود وتخلف .
لذا فان محاولة المهدي بن بركة الرامية الى اختزال الغرب الرأسمالي في مجرد تقنية مجردة ، وتفريغه من مضامينه الأيديولوجية والحضارية التي كانت وراء هذه النهضة التقنية ، تجد مثيلها الوصفي فيما عبر عنه الأستاذ عبد الله العروي " .. ان النزعة التقنوية تختزل كل شيء في مسألة التقنية .. " " .. ان برامج التأمين ، والإصلاح الزراعي ، والتصنيع هي مجرد وسائل تقنية خالية من المدلول الاجتماعي .. " . ولا غرابة ان يجتر عبد الرحمان اليوسفي المهووس بالنزعة التقنوية ، نفس المسار الذي يحصد منه غير الاصفار ، بسبب اهمال العامل الأيديولوجي ، والثقافي ، والحضاري ، والخصوصي المغربي .
ان شغف المهدي بن بركة بإفراغ جميع أفكاره في النزعة التقنوية الاصلاحوية ، تعني في الحقيقة ان هناك ازمة . وبمفهوم اشمل ، هناك تخلف واجترار بطيء نحو الغرب الذي أذلّنا وأهاننا ، ولا يزال يفعل وما بدل تبديلا . وهذا يعني في التحليل السياسي ، انّ المهدي بن بركة مثل سلامة موسى في الشرق العربي ، استعمل مقولة التأخر التاريخي الذي يعيشه المغرب مع سائر الدول العربية . لكن البديل الذي طرحه للخروج من هذا النفق المظلم الذي كبّل عجلتنا ، لا ينطلق أصلا من الموروث الأيديولوجي السلطاني المخزني ، الذي سبق للمهدي بن بركة نفسه ان اعتبره " ... ان الإسلام لا يعارض الاندفاع التقدمي الذي يراد بعثه في المجتمع .. " " .. ان الحركة الوطنية عملت على تطهير الإسلام من الاضرار التي لحقت به .. " . كما انه لم ينبع من الفكر الاشتراكي العلمي المحض . ولكنه انطلق من تصورات فكرية متناقضة ومتباينة فيما بينها ، حيث جعلت من افتقار المهدي لنظرية من النظريات السائدة آنذاك ، يسقط من حيث لا يشعر في النزعة التقنوية التي لا تنظر الى الغرب الرأسمالي ، سوى كآلات ، ومعدات ، وأدوات ، وسلع ، وقطع غيار .. وكما قال الأستاذ احمد زحلان " .. ان هذه النظرية تعتبر مجرد صفقة تجارية ، تهم سلعا رأسمالية معينة ومجسدة مستوردة من الغرب ، ودون ان تأخذ بعين الاعتبار المستلزمات المؤسسية الفنية ، والعلمية ، والقانونية لهذه السلع الرأسمالية . أي دون اعتبار للسياق الأيديولوجي لهذه القواعد المؤسساتية . فهي لذلك لا تتضمن أي تقدم تكنولوجي في البلاد العربية . انها سياسات تقنوية خالية من أي مدلول تكنولوجي .. " .
ومن وجهة نظرنا ، فان هذه السياسة تكرس نظام التكنوكلونيال ، بعد مرحلة النيوكلونيال ، فتخلق شروط تبعية ممنهجة ، عكستها المرحلة النيوكلونيالية التي مهدت بدورها الطريق بعض فشلها ، الى المرحلة التكنوكلونيالية . لكن امام زحف العولمة ، والانترنيت ، والكمبيوتر ، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ، فان واقع الحال المغربي ينبئ بمفارقات من نتائجها ، تعريض قاعدة المهمشين والمتضررين ، الذين قد يلجؤون الى الحجارة كما عبر عن ذلك الأستاذ المهدي المنجرة ، وهو ما يعني ترقب جميع الاحتمالات ، وتوقع جميع المفاجئات التي قد تغير مسار جميع الحسابات .
انه يمكن إقامة دولة على الكفر ، أي دولة كافرة ، لكن لا يمكن إقامة دولة على الظلم ، والهمجية ، وقانون الغاب . لان حتمية ومصير دولة الظلم ، الانهيار ، فالسقوط المدوي الذي لا يخبر بمجيئه احد ..
ان موقف المهدي بن بركة هذا جعله ينظر في الغرب مجرد تفوقه التكنولوجي ..
ان هذا الاسقاط والسقوط في النزعة التقنوية المجردة من مدلولها الحضاري ، والقيمي ، والايديولوجي ، هي التي دفعت بالمهدي الى معارضة النزعة المركنتيلية المحافظة داخل حزب الاستقلال ، وجعلته يصف الحزب الجديد الذي لعب القصر الحسن الثاني الدور في انشائه " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " " .. بانه الحزب الحامل للرسالة التي تناقلها الابطال الذي ضحوا طوال التاريخ في سبيل سعادة الشعب المغربي .. " .
ان السؤال الذي يجب طرحه في هذه النقطة هي ، اية رسالة هذه تحمّل " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " في سبيل تجسيد استمرارية التواصل ، والتخاطب مع الماضي الذي أعطاه وصف رسالة انتقلت من السلف " حزب الاستقلال " ، الى الخلف " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " ؟ .

ان الجواب جد بسيط ، ونصل له اذا علمنا مسبقا النسق الفكري ، الذي خيم على أحزاب الحركة الوطنية خلال الاربعينات من القرن الماضي .. ومن دون إطالة نجزم في تحليلنا ، انّ المهدي بن بركة وبطريقة مكيافيلية ، كان يرمز الى الأيديولوجية السلفية التي لوحت بها النخبة المثقفة المحافظة ، كمشروع نضالي ديني ثوري في مواجهة الكنيسة ، وفي مواجهة المشروع اللاّئيكي المدني الغربي ، ومشروع إعادة ترتيب التكوين الاثني ، والعرقي ، والقبائلي الحافر في بنية وجسم الامة المغربية تاريخيا ، وذلك من اجل الفصل بين عنصرين هامين واساسيين في هذا التكوين . العنصر البربري والعنصر العروبي ، ثم اصدار قوانين إدارية ، حقوقية ، عرفية ، دينية ، ولغوية ، وقضائية .. ترمي الى عزل السهول عن الجبال جغرافيا واداريا ، والبوادي عن المدن سياسيا وتجاريا وثقافيا ، وعزل القوة البرجوازية المدينية الناهضة ، عن الارستقراطية القبلية ، والاقطاع ، والفلاحين ..
لقد اعتبر المهدي بن بركة ان السلفية مهدية للعقول ، وانها اعادت الهمة والقيمة والشأن الى الدين ، وحافظت على طهارته من البدع ، والخرافات ، والاسرائيليات ، والشعوذة ، ومواجهة حركة التنصير التي لفها الظهير البربري .. وبما ان قيادة العمل السلفي في ذاك الوقت كانت تعبر عن طموح حركة اجتماعية معينة ، وطرحت على نفسها مهمات أساسية خلال حقبة زمنية كانت احلك في التاريخ السياسي المغربي ( الثلاثينات والاربعينات ) ، كمحاربة الطرقية ، والبدع ، والخرافات ، وقراءة الدين في منظوره التنويري الداعي الى التحريض والمجابهة مع العدو ( المسيحي اليهودي ) ، والدعوة الى إقامة الديمقراطية ، ومحاربة الاستعمار كظاهرة امبريالية ولدت الفقر والتخلف والامراض ، والدعوة الى الإصلاحات السياسية ، وتتويج هذا النضال بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944 ، وهي الوثيقة التي تم تحريرها بالقصر السلطاني ، وخرجت منه في سرية تامة ، ولتعود اليه محملة بتوقيعات لأشخاص وقعوها عن طريق الصدفة ، وراكموا بسببها ثروات طائلة بعد استقلال Aix-les Bains الخياني ..
كل هذا جعل المهدي بن بركة يرى في مشروعه السلفي ، وعلى طريقته الخاصة ، نوعا من التثوير العقلي والسيكولوجي الذي مكن الشباب من مواجهة الالحاد ، وفهم الإسلام الفهم الصحيح .. ان هذه الاطروحة التي هدف من وراءها المهدي بن بركة تسْييس السلفية ، وضرب احتكارها من طرف حزب الاستقلال الذي اعتبر ( الاستقلال ) استقلالا لطبقته المحافظة والمركنتيلية ، هو صراع أيديولوجي مشوه بين البادية ( المهدي بن بركة ) ، وآلْ الفاسي المركنتليّين .. وبطريقة ذكية ، وحتى يقطع المهدي مع الاتجاهات الأصولية ( الغزو الباكستاني / الخطيب ) والسلفيين الأصوليين في القرويين ، وفي ابن يوسف ، والمساجد ، اعتبر المهدي ان السلفية لم تكن حركة فكرية ثقافية معزولة عن مستوى تطور المجتمع المغربي وتطور تناقضاته . كما انها لم تكن تيارا اصوليا يهدف الى إقامة الحكومة الإسلامية او الحكم الإسلامي . ولكنه اعتبرها حركة اجتماعية سياسية وايديولوجية ، حاولت بما فيه الكفاية ان تمنطق الدين ، وتضفي عليه حلة بيضاء ، وتحدد مضمونه الصحيح ، بتنقيته من الشوائب ، وتمكينه من قيمته الحقيقية تمشيا مع التطورات الفكرية والفلسفية والحضارية ، وحتى السياسية التي ظهرت في أوائل القرن الماضي ، وتأزمت على اثر القطيعة السياسية بين نضال العلماء الذين اسقطوا السلطان عبد العزيز وعبد الحفيظ ، وما اعقب ذلك من اعمال سلبية كاتفاقية الخيانة / الحماية لسنة 1912 .. وهذا المعنى للسلفية عند المهدي بن بركة ، ليس له من تفسير سوى المتاجرة بالسلفية ، وإعطاء مضمون للدين كما يفهمه المهدي نفسه ، لا كما هو مسطر في النصوص . وهذا يعني ركوب جميع الموجات ، اذا كانت ستفي بغرض وبمفهوم المهدي بن بركة للعمل السياسي ..
لقد كانت قيادة العمل السلفي تهدف من خلال اسلوبها الثقافي السلمي والاصلاحي في النضال ، الى محاربة احتواء المشروع السياسي للحركة الوطنية ، التي تحمل تركة النضال السياسي السلمي بقيادة النخبة المثقفة ، خاصة الفاسية خريجة جامعة القرويين ، وبعد التآمر وغدر حركة المقاومة المسلحة الثورية التي قادتها القبائل البربرية والعروبية ( جيش التحرير ) في الشمال وفي الجنوب .
واذا كان عبد الكريم غلاب في كتابه " تاريخ الحركة الوطنية " قد اعتبر الفترة الممتدة من 1930 الى 1934 بانها " .. اهم مرحلة في تاريخ الحركة الوطنية .. " ، لأنها جاءت على انقاض القبائل المغربية وجيش التحرير ، واصبحت المطالب لا تتعدى المطالبة بتطبيق بنود اتفاقية الخيانة / الحماية ، لشعور البرجوازية الفاسية المركنتيلية المحافظة بالأضرار التي لحقت مصالحها من قبل الإدارة الكلونيالية .. ، فان علال الفاسي عبر بشكل واضح عن هذا الخط الذي انقلب على المقاومة وجيش التحرير ، وانتصر الى خط الدعاية البوليميكية الموجهة الى الولايات المتحدة الامريكية ، والى اوربة والشرق العربي ، إذ وصف المرحلة في كتابه " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي " " .. نشوء جيل جديد متشبع بروح المقاومة السلمية التي لا تعطي السلاح المقام الأول في كل معركة .. " وللتاريخ نسجل انه خلال مرحلة المواجهة مع الاستعمار الفرنسي ، وقع انفصام بين القيادات الانتهازية بزعامة آل الفاسي وعرابهم علال الفاسي ، الذين تبرأوا من جيش التحرير ، لانهم كطبقيين نفعيين كانوا يعتبرونه امتدادا لثورات القبائل البربرية ضد الدولة السلطانية المخزنية بفاس ، وحتى يرتبوا الوضع لصالحهم عند الحصول على الاستقلال ، تحالفوا مع فرنسا في مواجهة قبائل البربر المتناقضين طبقيا واثنيا مع آل الفاسي واتباعهم المصلحيين ، فكانت جل الانتفاضات الشعبية التي عرفتها بعض المدن المغربية كالدار البيضاء ، ومكناس ، ووادي زم .. الخ ، من صنع الأطر السياسية والنقابية المتمردة ، والنابعة من دور الصفيح و( القزدير ) ، والاحياء الشعبية ، والمتعلمين الذين كانوا نواة البرجوازية الصغيرة والمتوسطة التقليدية ، التي اخذت تنشط داخل أحزاب الحركة الوطنية ، متحملة جزءا من مسؤولية قيادة العمل الوطني ، وكانت في نفس الوقت تمارس نشاطا راديكاليا موازيا ، كمجموعة قيادية معارضة للاتجاهات المركنتيلية والمحافظة في حزب الاستقلال .
ان تشبث المهدي بن بركة بأطروحته الفكرية الضيقة من المشروع السلفي ، الذي لوحت به الجماعات السياسية المحافظة خريجي القرويين وابن يوسف ، ولوحت به شلة من أحزاب الحركة الوطنية كإيديولوجية عبرت عن خط النضال السلمي الإصلاحي ، وتبلورت في اطار صراعاته وتناقضاته ، وانطلقت في جانبها الرئيسي من توجهاتها في معارضة ، ومعاداة ، وتبخيس الخط الثوري المسلح للقبائل البربرية المنتفضة ضد الحكم السلطاني ، الذي فتح باب المغرب على مصراعيه للاحتلال الكلونيالي ، وتبخيس ومعارضة نضال الفلاحين في البادية المغربية ، وبلغ ذروته القصوى في ثورة الجمهورية الريفية ، وفي ثورة القائد الثائر الصحراوي احمد الهيبة ماء العينين الذي استولى على مراكش ، واعلنها عاصمة لمملكته .. والحكم على الخط تاريخيا بالفشل . أي نقد النضال المسلح الثوري للقبائل البربرية الثائرة ، بالنضال الإصلاحي المديني البرجوازي الفاسي ، ثم نقد الاختيارات البرجوازية الجديدة ، ونقد الاستعمار بالدين ... الخ ، كل هذا جعل من المهدي بن بركة مفكرا شعبويا ، وليس سلفيا ، او اشتراكيا خالصا . ان الشعبوية التي تعني الجمع بين هذا الخليط ، تجعل صاحبها تائها بين عدة نظريات ، وتُحوّله الى بضاعة سهلة الابتلاع ، من دون هضم كل ما يطرح عليه من اشكال النضال حتى في وجهه البلانكي .
لقد اخذ المهدي بن بركة من الماركسية منهجها التحليلي التحديثي ، وطريقتها التقنية في احداث التنمية ، لكنه في الجانب الأيديولوجي لم يكن ماركسيا نصيا ، ولا ماركسيا مجددا هذا من جهة . ومن جهة أخرى كما شرحنا أعلاه ، فانه وظف المشروع السلفي لمحاربة الاتجاه المحافظ التقليدي والطبقي ، الذي مثلته القيادة التقليدانية داخل احزب الاستقلال ، ومحاربة الاتجاهات الاسلاموية التي شرعت في غزو المغرب من باكستان ( أبو الأعلى المودودي - المودوديون ) الذي مثلهم عبد الكريم الخطيب ، وكلا المشروعين يعتبر متصادما مع المشروع التنويري التغريبي العلماني الذي كان المهدي يقدم نفسه كممثل له .
وحيث ان الرجل لم يكن في ايديولوجيته ماركسيا ، لا نصيا ، ولا متجددا ، فانه لم يكن كذلك في عقيدته سلفيا ، ولا اصوليا ( علال الفاسي وعبد الكريم الخطيب ) ..
وحيث انه كان مكيافيليا ويؤمن حتى بالبلانكية والانقلاب من فوق ، فان الاختيارات العربية في مشروعه السياسي لم تكن تخرج ظاهريا ، عن النماذج العربية من ناصرية وبعثية .. لكنه لم يقطع وفي تناقض صارخ ، مع مشروع الملكية البرلمانية ، حيث طرح المشتغلون والمهتمون بالشأن الحزبي سؤالا : هل المهدي بن بركة جمهوري ام ملكي .. الخ . لذا فمثل الماركسية ، والقومية ، والليبرالية ، فان سلفية المهدي بن بركة لم تكن تخرج عمّا يعمق الصراع مع الخصم كما مع العدو ، وحسم المعركة لصالح التحولات التي كانت تحصل هنا ، وهناك وفي مناطق متعددة من العالم .
ان المهدي بن بركة كان شعبويا ، فجاءت اختيارات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية شعبوية كذلك ، تطغى على ممارساتها التجريبية ، والعفوية ، وحتى الانقلابية الفوقية البلانكية ، او الانقلاب بالتحالف مع الجيش ( الجنرال محمد أفقير وانقلاب 16 غشت 1972 ) .
القسم الثالث : قضية المهدي بن بركة L’affaire Ben Barka .
ان مجرد القول بقضية بن بركة L’affaire Ben Barka ، حتى تتجه الأنظار الى السؤال الحرج : من اختطف ، ومن قتل المهدي بن بركة ؟
لا يمكن الوصول الى الجواب ، اذا نحن لم نُلمّ بطبيعة المشاريع الشعبية التي تشبع بها المهدي في مسيرته ، والتناقضات التي سقط فيها ، وكانت سببا في تدخل جهات مختلفة أجمعت على تصفيته ، وجهات أخرى كانت ترى في غيابه سهولة لتحقيق مآربها ومصالحها الضيقة ..
فالمهدي بن بركة كان ماركسيا ، وكان اشتراكيا ، وكان قوميا ،، وبلانكيا يؤمن بالانقلاب من فوق ، كما كان ليبراليا يؤمن بالديمقراطية البرلمانية .. لكنه في عمقه ومن خلال ممارساته ، فهو لم يكن لا ماركسيا نصيا ، ولا مجددا ، كما لم يكن سلفيا ، ولا كان قوميا ، ولا ليبراليا .. الخ . فهو كان يؤمن باي شيء قد يوصله الى الحكم ، ولو كان الطريق بلانكياً ..
وحتى نظهر التناقض العميق بين فكر وممارسات المهدي ، وبين النظام السلطاني المخزني العلوي ، والتي اججت الدولة ضد شخصه قبل مشروعه ، هو الرد الصريح للسلطان الحسن الثاني الرافض لمشاريع المهدي ، ولمشاريع غيره من السياسيين الذين يتقاسمون أطارحه ، ويؤيدون مشاريعه . لكن قبل ان تستعرض مواقف الرفض هذه ، لأنها كانت تستهدف اصل الدولة السلطانية المخزنية العلوية ، نتحجج بما أكده ، واكد عليه البعض مِنْ مَنْ شارك في العمليات البلانكية المسلحة للانقضاض على الحكم من فوق ، وبمعزل عن الجماهير وعن الشعب . وهنا نرجع الى ما سبق ان صرح به محمد بن سعيد آيت إيدر الذي أسس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي OADP ، وباعها في سرية للنظام من دون مزاد علني في جريدة " الصحيفة " العدد 20 . حيث قال " .. العنف لا يولد سوى العنف .. والمبادرات التي جربناها كانت وسيلة للوصول الى الحكم وتحرير المغرب في زمن هيمنت فيه افكار الناصرية والبعثية ، وباعتبار اننا كنا جزءا من حركة التحرير ، فقد جربنا هذه الوسائل ، لكن منذ 16 يوليوز 1963 ، لم اعد متفقا انا ومجموعة من الاخوة للاستمرار في هذا العمل السلبي / اي مؤامرة 16 يوليوز ضد الدولة السلطانية ، المخزنية ، البوليسية ، العلوية والتشديد من عندي / ، والعنيف ، وكان التوجه آنذاك مبنيا على تكوين أنوية ثورية داخل الحزب / اي ماركسية والتشديد من عندي / حتى اذا اقتنع المناضلون بالعنف ، فانه سيمارس حينذاك عبر حزب جماهيري .. " . اي منظمة 23 مارس الماركسية .
اما احد الأطر الانقلابية الفوقية الحزبية حميد برادة ، في المقابلة التي أجرتها معه فضائية الجزيرة حول قضية المهدي بن بركة فقال " ان شخصية المهدي بن بركة كانت تثير حفيظة حتى اقرب المقربين اليه مثل الفقيه محمد البصري وعبدالرحمان اليوسفي .. " وبخصوص البلانكية للانقضاض على الحكم من فوق " .. اكد حميد برادة على رغبة الاتحاد في قلب النظام وتصفية الملك الحسن الثاني .. " .
السلطان الحسن الثاني الذي ضاق ذرعا من ضغوط الاوربيين خاصة فرنسا ، بمطلب دمقرطة النظام السلطاني ، وتحويله الى نظام ملكية برلمانية ، وهو مشروع لم يقطع معه المهدي الجمهوري ، اغلق الباب على كل هذه الدعوات الغربية التي ترفعها جزءا من المعارضة المغربية ، حين وجه خطابه للجميع ، لتبرير الحفاظ ، واستمرارية الملكية الدكتاتورية . أي التبرير والتحجج بالخصوصية ، والتقليدانية ، وبالأصول العلوية السلطانية الطقوسية فقال " .. حقيقة ان لنا نهجنا الخاص ، ولنا قيمنا الخاصة .. لا ينبغي ان تطبق علينا نفس المعايير ، لأننا ننتمي لحضارة أخرى ، فأنتم تنتمون للحضارات الرومانية ، والجرمانية ، والفرنسية ، ولحضارة بلاد الغال . اما نحن فعرب وبرابرة امتزجنا مع القادمين من اليمن ( السوسيون ) او تشاد ( گناوة البشرة السوداء الرعايا ) ، فينبغي قبول الاختلاف بيننا .. لذلك لا تطلبوا منا ان نفقد هويتنا ، ونتخلى عن مقومات شخصيتنا إرضاء لذوقكم .. " وزاد قائلا " .. وهذا ما حذا بي لان أكون متشبثا بموقفي ، وابدو متماديا في عنادي . فالأجنبي يريد ان يعلمني كيف أعيش ، ويرسخ في ذهني تقاليد أخرى ، ويريد ان يجردني من عقليتي العربية والمغربية والعلوية / لم يقل البربرية / .. وباختصار يريد تجريدي من كل ما هو اصيل . كما يتمنى هذا الأجنبي اعطائي دروسا في نمط حياتي السياسية ، وهو شيء ارفضه كل الرفض لأنني عنيد جدا . نعم سأظل متفتحا لكوني احبذ الطرق البيداغوجية ، لكن لا اقبل ان تفرض عليّ دروس الاستاذية .. " .
اذن واضح الآن الفرق والتعارض الشاسع بين أطروحة النظام السلطاني المخزني التي لن يكون غير الملكية المطلقة الدكتاتورية ، وبين المشاريع النقيض الجاهزة التي تشتغل على الجمهورية الأكثر دكتاتورية .. وهذا يطرح السؤال : من اختطف واغتال المهدي بن بركة ؟
-- هل الحسن الثاني ؟
-- هل أعوان الحسن الثاني الكوماندو الذي تراسه الجنرال محمد افقير والجنرال احمد الدليمي ؟ وهل كان لهذا الكوماندو ان يتصرف دون أوامر وتعليمات الحسن الثاني ؟
-- هل الموساد الإسرائيلي ؟
-- هل الامبريالية العالمية ؟
-- هل البوليس الفرنسي ؟
قبل معالجة التساؤلات ، نشير الى ان منذ 29 أكتوبر 1959 تاريخ اختطاف المهدي بن بركة من العاصمة الفرنسية باريس ، تشكلت عدة لجان دولية ووطنية ، بغرض الكشف عن اختطاف المهدي ، والمصير الذي آل اليه . لكن للأسف ، فان تلك اللجن كانت تموت منذ لحظة انشاءها ، ولا لجنة واحدة نجحت في تحديد المسؤول عن عملية الاختطاف ، الامر الذي حول عملية الاختطاف الى لغز ظل يؤنب ( ضمير ) الفاعلين ، واكد عجز المنتظم الدولي في الكشف عن اسرار اكبر الجرائم الإنسانية في التاريخ . فهل الدولة الفرنسية التي جرت الجريمة فوق ترابها لا تتوفر على المستندات المرتبطة بالجريمة .. وهنا وعند معرفة الدور الفرنسي لبعض الجهات الفرنسية في الجريمة . الا يعتبر الموقف الفرنسي السلبي للدولة الفرنسية التي ترفض كشف المستندات المرتبطة بالجريمة ، بمثابة استمرار الدولة الفرنسية في التستر على الجريمة ، واستمرارها في التواطؤ للتهرب من العدالة . وهنا كيف كان موقف القضاء الفرنسي عندما رفض وزير العدل الاتحادي المغربي محمد بوزوبع ، الجواب على استدعاء القاضي الفرنسي المختص بالإرهاب ، الموجهة الى الجنرال حسني بنسليمان بدعوى ان عنوانه غير معروف ..؟
الفصل الأول : لجان البحث للكشف عن مصير المهدي بن بركة .
المبحث الأول : لجنة البحث من اجل الحقيقة والانصاف .
ان هذه اللجنة كانت تُعرف من قبل باسم " لجنة فرنسا المغرب " . كونتها عدة شخصيات فرنسية وازنة . انتقل أعضاءها الى دار البقاء ، دون الوصول الى نتيجة كاشفة عن مصير المهدي ، وتحديد الجهة المسؤولة جنائيا عن ارتكاب الجريمة . نذكر من بين أعضاء هذه اللجنة :
François Mouriac ، Robert Bara ، Claude Bourdet ، Alain Safary ، Jaques Berque ، Vincent Moutiel ، Laurant Schwardz ، Henryane de Chanomly ، Charles André Julien ، Robert Verdier ... الخ .
تأسست هذه اللجنة 15 دجنبر 1965 .
المبحث الثاني : لجنة المهدي بن بركة الذاكرة الحية " .
بعد اللجنة السابقة وفشلها في الوصول الى تعرية لغز اختطاف المهدي ، بتأطير من البوليس الفرنسي ، ستتشكل لجنة ثانية اطلق عليها اسم " لجنة بن بركة الذاكرة الحية " .
تتكون هذه اللجنة من اشخاص مغاربة من بينهم ، البشير بن بركة ، سعد بن بركة ، إيدر أرسلا ، مبارك بودرقة عباس وهذا تنكر للماضي ، واصبح يخدم النظام المخزني بتعبير القبطان المرزوقي احد الناجين من سجن تزمامارت الرهيب ، المرحوم عبد الغني بوستة السرايري ، رشيد المانوزي ، محمد المباركي ، سعيد فوزي ، حسن الحاج ناصر ، وحمد المحجوبي ، كريم المسعودي ، إبراهيم أوشلح ، إبراهيم سايس ، ابراهام السرفاتي ، عمر السغروشني ، أحمد الطالبي .... الخ .
تأسست هذه اللجنة في باريس بتاريخ 13 فبراير 1995 .
المبحث الثالث : اللجنة الدولية لرعاية احياء الذكرى .
ان من اهم الشخصيات التي كونت هذه اللجنة وغادرت العالم الى دار البقاء نذكر ، احمد بن بلة ، محمد حسنين هيكل ، محمد حربي ، نلسون مانديلا ، خالد محيي الدين ، ابنة الجنرال دوگول Le général De gaule ، Robert Verdier ،Le général Jiap الفيتنامي قاهر الامبريالية ، عائلة Tché Qui Vara ... واخرون ..
وفي نفس الاتجاه حصلت محاولات أخرى هدفها البحث عن المختطفين ، ومجهولي المصير ، والمغيبين ، وعلى راسهم المهدي بن بركة .
ان من اهم هذه المحاولات التي لم تعطي نتيجة :
ا – هناك ما يعرف بملتقى Amiens بفرنسا ، وهو عبارة عن ملتقى " الهجرة المغربية بأوربة من اجل استئصال ظاهرة الاختطاف " .
انعقد هذا الملتقى يومي 19 و 30 يناير 1994 ، بدعوة من لجان التضامن مع المعتقلين السياسيين ، والمختطفين ، والمغيبين ، والمنفيين . وكان هدف اللقاء استجابة لنداء دجنبر 1993 لعائلات المختطفين والمغيبين ومجهولي المصير . حضر هذا اللقاء / الاجتماع هيئات الهجرة المغربية ، والجمعيات ، والتنظيمات السياسية ، والنقابية ، والحقوقية بفرنسا .
ب – هناك كذلك " المجتمع المغربي للتضامن " ، ويضم مختلف الهيئات السياسية والمنظمات المغربية الموجودة بفرنسا وهي : جمعية المغاربة بفرنسا . جمعية العمال المغاربة بفرنسا . جمعية الدفاع عن حقوق الانسان في المغرب . جمعية أصدقاء واقارب مجهولي المصير . الجمعية الثقافية من اجل الصداقة بين الشعوب . منظمة العمل الديمقراطي الشعبي OADP ، حركة الاختيار الثوري L’Option révolutionnaire ، منظمة الى الامام ، الحركة من اجل الديمقراطية ... الخ .
ان الملاحظة الأساسية في تكوين هذه اللجان ، هي ان تأثيرها لم يكن يتعدى اليوم الذي تكونت فيه ، ليخبو نشاطها وتدخل عالم النسيان ، بسبب المنافسة في تسييس مادة حقوق الانسان ، وهذا ما كان يتسبب في النفور منها ، واقتصار الاجتماعات الصغيرة فقط على الأشخاص المرتبطين بها ، والذين ينتمون الى الاتجاهات السياسية التي تكونها ، فتعمل من ثم على تسييس مادة حقوق الانسان ، مما يتعارض كليا مع الأهداف الحقيقية التي تدعي هذه المنظمات الدفاع عنها ، زيادة على استعمال الانتقائية في التعامل مع ملفات حقوق الانسان المطروحة ..
ورغم جميع المجهودات التي بدلت للكشف عن مصير المهدي بن بركة ، فان الحقيقة لم تتضح بسبب غموض الدولة الفرنسية ، التي تتستر على الجريمة ، وبسبب تواطؤ الدولة الفرنسية مع النظام المخزني السلطاني العلوي . لكن يبقى السؤال : هل ستغير فرنسا موقفها ، وتملك الشجاعة لفضح المستور الذي اشترك فيه فرنسيون عملاء بالأجهزة السياسية البوليسية ، خاصة وان العلاقات بين الدولة السلطانية ، وبين الدولة الفرنسية ، وبين السلطان محمد السادس شخصيا ، وبين الرئيس الفرنسي Emanuel Macron مقطوعة . فهل ستُدين فرنسا نفسها من خلال عملاء فرنسيين ، ينتمون الى البوليس الفرنسي ، وتم اغتيالهم من قبل الجنرال احمد الدليمي بعد فشل انقلاب 16 غشت 1972 بالمخفر السري " النقطة الثابتة 3 Le point fixe " ؟ .
إذن من خطف وقتل المهدي بن بركة ؟
1 ) هل الحسن الثاني ؟ . رغم تعدد جهات في عملية الاختطاف والقتل كالموساد الصهيوني ، فان الاتهامات توجه بدرجة أولى الى الراحل الحسن الثاني ، لان المهدي بن بركة من خلال قفزه على عدة مشروعات ، كانت كلها تنتهي بمحاولة السيطرة على الدولة ، فهو كان يشكل خطرا عليه ، وهنا لا ننسى محاولة النظام المخزني باغتيال المهدي في حادثة السير المصطنعة بوادي الشراط الذي سقط فيه إبراهيم الزايدي ، وفيه تم رمي جثة عبدالله بها امام سكة القطار في شتاء قارص على السابعة مساء ، في حين ان الليل يسدي ظلمته الحالكة على الساعة الخامسة ونصف ، والحكم عليه في الانتفاضة المسلحة في 16 يوليوز 1963 بالإعدام .
وقبل ان نعالج الموضوع ، سنذكر بإجابات الراحل الحسن الثاني عن أسئلة صحافيين بخصوص علاقته بقضية المهدي بن بركة . فمن خلال الإجابات ، فالسلطان كان يحاول تبرئة نفسه من دم المهدي الذي اصبح يحرجه في المحافل الدولية . فهل إجابات السلطان الذي اعدم وبدم بارد اتباعا للمهدي بن بركة في عيد الأضحى ( مجموعة عمر دهكون ) ، وقتل بوليسه بالتعذيب في مخافر الاحتجاز ، مناضلين تابعين للاختيار الثوري بعد حركة 3 مارس 1973 ، وسقط في نفس المخافر مناضلون محسوبون على الحركة الاتحادية ( محمد كرينة ) ، وسقط مناضلون تابعون لليسار الماركسي ، وبنى سجن تزمامارت الرهيب الذي حشر فيه ضباطا ، وضباط صف ، وجنود ، وحتى مدنيين لما يزيد عن ثمانية عشر 18 سنة في ظروف يعجز اللسان عن وصفها ، بريء حقا من دم المهدي بن بركة ؟
ومما قاله الحسن الثاني حتى يبرء نفسه من الجريمة :
" ... ان الاغتيال السياسي لم يكن ابدا ولن يكون ابدا من سلوك الملكية المغربية ، ولتطمئن ، فقد كنت اول من غضب وثار حينما تلقيت نبأ فقدان المهدي ، ذلك لأنه كيفما كانت نقط الخلاف بيننا ، فان ذكريات العلاقة بين الأستاذ والطالب التي وحدتنا خلال مدة طويلة لا يمكن ان تنمحي .. وان ما اصبح يؤجج هذه القضية ، هو انه كان من المنطقي بالنسبة اليه ( أي الجنرال محمد افقير ) ان يقيم اتصالات مع دوائر سياسية أخرى ، قد نقول عنها انها اقل تطرفا ، لذلك فماذا جرى ؟ ان افقير ذهب ليبحث عن اتصالات ليقيم تحالفاته مع هؤلاء انفسهم الذين ضرب صفوفهم وحطم راسهم واعضاءهم ( هنا الراحل الحسن الثاني يتهم الحزب بمشاركة افقير انقلاب 16 غشت ) . فهل هذا يعني من طرفه نوعا من التكفير عما اقترفه من اساءات بالنسبة لهم ؟ . وهل كان يكسب جواز المرور اليهم .. " " .. أؤكد انه لم يكن لي مع المهدي أي خلاف .. " " .. اريد ان تعلم شيئا هو اني مسلم مؤمن متمسك بأداء واجباتي الدينية ، وهذا شيء يعرفه الجميع ، وان ما حباني الله به سبحانه وتعالى من نعم ، يجعلني اكثر ايمانا ، واكثر أداء لواجباتي الدينية . وعلى كل فاني مستعد في كل وقت لأقسم بالله ، اني وضعت امام الامر الواقع في حادث موت المهدي بن بركة ، ولم تكن لي يد فيه سواء بإصدار الأوامر لتنفيذها او غض النظر عنها . اني أؤكد لكم مرة أخرى انه قد تم وضعي امام الامر الواقع ، اني بريء تماما من اختفاء المهدي .. ان المهدي كان من اولئك الذين بإمكانهم ان يطلبوا مقابلتي في أي وقت وحين ، ولم يكن في حاجة الى اتباع البروتوكول للحصول على موعده . لقد كنت استقبله في اسرع وقت ممكن .. " " .. ان الفضل في اذكاء شعلة الحماس الوطني في نفسي من اجل الكفاح الوطني ، يعود الى بن بركة وعلال الفاسي .. " " .. وكان على علم ( أي بن بركة ) بان المغرب فسيفسائي التركيب ، ليس فقط على الصعيد الجغرافي ، وانما أيضا على الصعيد البشري ، وهو ما يجعله يدرك تمام الادراك انه لن يكون بمقدور أي حزب سياسي ، واي شخص مهما كان توجهه ، ان ينفرد بالحفاظ على تماسك الامة ووحدتها .. " " .. لقد اوفدت له ابن عمي مولاي علي الذي كان أيضا صهري ، وكان سفيرا ، وقد التقى به سرا في بون Bonne بألمانيا ، وقال له عد الى بلدك فانه يشهد مرحلة جديدة ، وان صاحب الجلالة يريد ان تكون معنا ، فهو في انتظارك .. وكان سيعود الى المغرب .. "
" فقد كان على علم بالعلاقة الحميمية التي كانت تربطني بمولاي علي ، وبعد ان استجاب اليه اجابه طيب ، ما دمتم انتم الذين جئتم اليّ ، وما دام صاحب الجلالة هو الذي طلب مني العودة ، فاخبروه اني سأعود الى المغرب للقائه خلال الخمسة عشر يوما المقبلة .. " " .. ولهذا السبب ( يقول الحسن الثاني ) فان اعلان نبأ اختطافه ورد عليّ كالصاعقة .. " .
وحول شكوك الراحل الحسن الثاني في ضلوع الجنرال محمد افقير في قضية المهدي بن بركة . قال : " .. لقد كان ذلك عندما توجه عميد الشرطة الغالي الماحي الى فرنسا حاملا حقيبة ، والقت عليه الشرطة الفرنسية القبض وقدمته للمحاكمة . آنذاك بدأت اشعر بان شيئا ما يحيط بهذه القضية ، الاّ اني لم اكن ادري ما هو .. " " .. لم اكن ادرك ذلك الاّ فيما بعد . ففي فترة مايو – يونيو 1972 .. وخلال اختطاف المهدي بن بركة في 29 أكتوبر 1965 ، ومن خلال محاولة اسقاط الطائرة في 16 غشت 1972 .. " .
وعن سؤال . هل تعتقدون ان افقير كان في كل مرة متورطا في المؤامرة ؟ . كان جواب الحسن الثاني " أجل " . وقد ختم بقوله " .. لقد كنت أقول دائما ان مؤامرة الصمت هي أسوء المؤامرات . فبعد الاحداث المأساوية لسنتي 1971 و 1972 اسر لي البعض بانهم استشعروا لذا افقير والمذبوح مؤشرات على تدبيرهما لشيء ما ... " " .. صارحوني دائما بما يخطر ببالكم واتركوا لي معالجة الأمور بعد ذلك .. " .... الخ .
2 ) هل البلانكيون الجمهوريون المتحالفون مع العسكر الجمهوريين ؟ .
ان مشاركة الجناح البلانكي الثوري في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الجنرال محمد افقير في انقلاب الجيش في 16 غشت 1972 ، لم يأت صدفة ، بل كان مخططا له ، وبحسابات ضيقة ومتناقضة ، بسبب وجود اختلافات في المنبع ، وفي الأصل بين الضباط الانقلابيين الجمهوريين ، وبين البلانكيين الثوريين الجمهوريين .
فالصراع على الحكم وليس على الحكومة كان على اشده ، ووصل اقصى درجاته بالتحالف بين الجانبين لإسقاط الدولة السلطانية المخزنية العلوية ، وانشاء محلها الجمهورية التي ستكون اكثر دكتاتورية وبشاعة من الدكتاتورية العلوية .
في هذا الصدد فان الانتفاضة المسلحة للبلانكيين في 16 يوليوز 1963 ، كانت تستهدف حياة السلطان ، وتستهدف الدولة وليس فقط النظام . والسؤال . هل كانت تلك الانتفاضة معزولة عن اصل الصراع السياسي الدائر في المجتمع ، خاصة وان الجيش طرف فيه .. هنا سنطرح السؤال . بعد محاكمة الانتفاضة المسلحة ل 16 يوليوز 1963 ، سيتم الحكم على صقور الانتفاضة بالإعدام ، وعلى رأسهم المهدي بن بركة الذي كان متواجدا خارج المغرب ، والفقيه محمد البصري واخرون . لكن بالصدفة سيصدر عفو شامل ، وسيسمح بعده لعبد الرحمان اليوسفي الذي كان نصيبه من الحكم سنتين موقوفة التنفيذ بمغادرة المغرب ، ليختار اللجوء الاختياري بمحض إرادته ، كما سيمكن افقير الفقيه محمد البصري من جواز السفر ، وليسمح له بالسفر الى فرنسا في يناير 1964 ، ماراً ومن دون مشاكل امام اعين بوليس افقير التي كانت تراقبه بالمطار ، وليقصد مطار Orly الذي كان ينتظره فيه المجرم قاتل المهدي Antoine Lopez ضابط امن المطار ، وليمكنه من شقة فاخرة ب Les Champs Élysée ، وبعدها بفارق اقل من سنة ، يتم الإعلان عن اختطاف المهدي بن بركة من قبل فريق بولسي فرنسي ، يقوده الضابط Antoine Lopez .
فما العلاقة بين الجنرال محمد افقير ، والجنرال احمد الدليمي ، وبين الفقيه محمد البصري ، وAntoine Lopez الذي قاد كوماندو الاختطاف .. وما هو موضوع النقاش الذي كان يجمع بين الكلونيل محمد أمقران احد ضباط انقلاب 16 غشت 1972 ، والفقيه محمد البصري الذي كان يزوره بالمستشفى ، وما علاقة كل هؤلاء بالانقلاب العسكري ل 16 غشت ، وما العلاقة بين افقير ، والدليمي ، والفقيه محمد البصري وJo Boucheseiche ، و Julien le Ny ، و Pierre Dubail ، و Jean Palisse الذين قتلهم الجنرال احمد الدليمي بالمعتقل السري " النقطة الثابتة رقم 3 Le point fixe numéro " ، و Georges Figon ، و Antoine Lopez ، بقضية اختطاف المهدي بن بركة في 29 أكتوبر 1965 ....
ومن خلال الرجوع لما صرح به حميد برادة احد القادة البارزين في حزب القوات الشعبية ، حول شخص المهدي بن بركة ، والمشاركة في عملية قلب النظام ، والتلميح لتورط الفقيه محمد البصري الى جانب افقير في عملية اختطاف المهدي ، الى فضائية الجزيرة القطرية " ان شخصية المهدي كانت تثير حفيظة حتى اقرب المقربين اليه مثل الفقيه محمد البصري وعبدالرحمان اليوسفي .. " ، هو دليل اعتراف بالتقاء مصلحة ضباط الجيش الجمهوريين ، مع الانقلابين الجمهوريين البلانكيين ، للتعجيل بتحييد المنافسين على الحكم ، وكان ابرزهم القيادي المهدي بن بركة .. وهو نفس الاعتقاد قال به رئيس " لجنة العمل لإطلاق سراح معتقلي الراي بالمغرب CALPOM " ، عندما اكد اتهام Gilles Perault صاحب الكتاب المعجزة " Notre ami le roi " ، الذي كان سببا في تعرية سجن Tazmamarte الرهيب ، وكان سببا في اطلاق سراح مختطفيه بعد ثمانية عشر سنة من الاختطاف العشوائي ، واطلاق سراح معتقلي المعتقلات السرية ، واطلاق سراح المعتقلين السياسيين .. للفقيه محمد البصري بالمشاركة في عملية اختطاف المهدي وفي مشاركة الجميع في انقلاب 16 غشت 1972 .
3 ) الموساد الإسرائيلي . ان مشاركة الموساد الإسرائيلي في عملية اختطاف وتصفية المهدي بن بركة ، لا تحتاج الى جهد في الاثبات ، لان المسؤولين الإسرائيليين عنها ، اعترفوا بذلك مؤخرا في القنوات والفضائيات الإسرائيلية .
هناك عاملان يقفان وراء مشاركة الموساد في عملية اختطاف المهدي بن بركة .
-- العامل الأول ، ان إسرائيل شريك حليف للنظام السلطاني المغربي ، وهنا لا ننسى دور النظام المغربي في مؤتمر القمة العربية الذي انعقد بالدارالبيضاء سنة 1965 ، كيف مكن الموساد من تتبع اشغال المؤتمر من اوله الى آخره ، وكيف كان تمكين الصهاينة من كل اشغال المؤتمر ، عاملا مباشرا في الهزيمة العربية في 6 يونيو 1967 ، المعروفة بالنكسة .
-- العامل الثاني ، هو ان الموساد كان يرى في تحركات المهدي بن بركة في المحافل الدولية ، المنددة على طريقة أحزاب الناصرية ، والبعثية ، والقومية بالغزو والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ، وبوجود إسرائيل كأداة في يد الامبريالية للسيطرة على الثروات العربية ، وقهر شعوبها ، والدفاع عن القضية الفلسطينية ـ والحق التاريخي العربي .. تهديدا لمصالح إسرائيل ولأمنها القومي .
من 30 مارس الى 16 ابريل 1965 ، شارك المهدي بن بركة في المؤتمر الدولي المنعقد بالقاهرة بشأن القضية الفلسطينية . وفي هذا المؤتمر أدان المهدي بن بركة دور إسرائيل في الشرق الأوسط ، وشمال افريقيا ، وبالقارة الافريقية ، امام حشد من الطلاب العرب بالحي الجامعي بالقاهرة . لقد القى خطابا عنيفا تناقلته وكالات الانباء العالمية وأجهزة المخابرات الأجنبية ، ادان فيه دور إسرائيل الخطير في القارة الافريقية ، واعتبره مكملا للآلة الامبريالية ضد الثورة العربية . ومما قاله في هذا الشأن قولته الشهيرة : " حينما تفشل وتتراجع الامبريالية ، تعوضها إسرائيل كمكمل استراتيجي " .
كان المهدي بن بركة يعتبر النضال ضد إسرائيل ، جزء من النضال العالمي من اجل الحرية والتقدم الإنساني والاشتراكية . اما النضال الفلسطيني ، فكان في نظره جزءا من النضال العالمي ضد الصهيونية والامبريالية ، في افريقيا ، وآسيا أ وامريكا اللاتينية والجنوبية ، واعتبر كذلك ان المشكل ليس بين العرب واليهود ، او بين الإسلام واليهودية ، لكنه صراع بين الصهيونية العنصرية والامبريالية ، وبين الثورة العربية ، وبدون أي شوفينية ضيقة .
لذا فالموساد الذي كان ينتشر كالفقاقيع في المغرب ببطائق أمريكية ، والمانية ، وفرنسية ، وسويسرية ... ، كان مثل وكالة المخابرات الامريكية يرى في عودة المهدي بن بركة الى المغرب ، مساسا بمصالح إسرائيل الاستراتيجية . فالعوامل وأسباب مشاركة الموساد في عملية الاختطاف واضحة ، وقد اعترف بها مسؤولون إسرائيليون على مستوى رفيع ممّن عاصروا تلك الاحداث .
4 ) الامبريالية العالمية . نقصد بالإمبريالية العالمية الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا بالأساس ، ضمن مجموعة الدول الغربية .
فبالنسبة للولايات المتحدة الامريكية التي كانت في صراع من المنظومة الشرقية برئاسة الاتحاد السوفياتي والصين ، فهي كانت تتضايق كثيرا من أنشطة المهدي المناصرة للمعسكر الاشتراكي الشيوعي ، وللقومية العربية . لقد كان المهدي بن بركة في اللقاءات الدولية ، وفي اللقاءات الشعبية والجماهيرية دائم التنديد ، والانتقاد ، والادانة للدور الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الامريكية في العالم الثالث ، فكان يشجب ويندد بتدخلها لصالح الأنظمة الرجعية والدكتاتورية ، وكان يناصر حركات التحرر الوطني ، والعالمي في القارات الخمس .
ففي غشت 1965 ، أي شهرين قبل اختطافه ، القى خطابا عنيفا هاجم فيه الامبريالية الامريكية في اللقاء الدولي الذي عرفته مدينة Nagasaki اليابانية ، ترحما على ضحايا القنبلة النووية الامريكية ، واستغل اللقاء ليوجه ادانة صارخة الى الدور المباشر للإمبريالية الامريكية في حرب الفيتنام والكمبودج العدوانية .
وفي يوليوز 1965 ، توجه الى العاصمة الصينية Pékin لإقناع قادتها الذين كانوا على خلاف أيديولوجي مع قادة Le Kremlin ، بحضور مؤتمر القارات الثلاث ب La Havane بكوبا . ان هذا التحرك كانت تنظر فيه الولايات المتحدة الامريكية ضدها ، فكان يزعج كثيرا البيت الأبيض وLe pentagone ، ووكالة المخابرات الامريكية التي كانت تراهن على تعميق الشرخ والاختلافات بين Moscou ، و Pékin ، لإضعاف المعسكر الاشتراكي قدر الإمكان .
في اول شتنبر 1965 توجه الى القاهرة من اجل التحضير لنفس المؤتمر . وفي آخر شهر شتنبر ، سيلتقي احد الدّ أعداء واشنطن ، الزعيم الكوبي Fidel Castro من اجل التداول في نفس الموضوع .... كل هذا وغيره كثير ازعج الإدارة الامريكية التي بدأت تشعر بان عودة المهدي للمغرب سيشكل خطرا محدقا بالمصالح الامريكية ، ومصالح حلفاءها ، خاصة وان بالمغرب قواعد عسكرية أمريكية بالقنيطرة وسيدي سليمان ، التي بهما خبراء ومستشارون عسكريون ومخابراتيون امريكيون .. فعودة المهدي تنبئ بوجود خطر ، ان يتحول المغرب الى قاعدة لوجستيكية خلفية للاتحاد السوفياتي .. لذا فالمخابرات الامريكية كانت تنظر في تحرك ونشاطات المهدي بن بركة ، تهديدا لها بالمغرب حيث القواعد العسكرية الامريكية ، وبالقارة الافريقية ، وبالعالم العربي ، وبشمال افريقيا ..
--- اذن من اختطف وقتل المهدي بن بركة ؟ .
5 ) مسؤولية السلطان الحسن الثاني .
" ولست أخاف العواقب فيما اقول ، فإن الشهادة من أجل قول جريء ومعتقد ، قبة وضريح . إذا كان البعض يفكر في النيل منّي فهذا أنا . لست املك إلاّ القميص الذي فوق جلدي ، وقلبي وراء القميص يلوح عاش الوطن " مظفر النواب .
تعرض المهدي بن بركة لاغتيالين . اغتيال روحي يقف وراءه من خانه في الحزب ، وقد استفضنا في ذلك كثيرا ، واغتيال جسدي ، بعد ان كنا نلمح للمسؤول عن ذلك ، نُعنْون هذا المبحث بهذا العنوان :
الاغتيال الجسدي للمهدي بن بركة : من المسؤول ؟
ان المسئول الرئيسي عن اصدار الامر باختطاف واغتيال الشهيد بن بركة . وان المسئول الرئيسي الذي اصدر الامر الى الجنرال احمد الدليمي بتصفية المجرمين الفرنسيين . وان الذي اصدر الامر بتصفية الجنود ، وضباط الصف ، والضباط بعد عملية الفرار الفاشلة من المعتقل السري النقطة الثابتة رقم 3 . وان الذي اعطى الامر بنقل الاخوان بوريكات من نفس المعتقل الى تزمامارت السجن الرهيب . وان الذي اصدر الامر بتصفية حسين المانوزي بعد عملية الفرار الفاشلة كذلك من نفس المعتقل . وان الذي اصدر الامر باختطاف الجنود ، وضباط الصف ، وضباط الانقلاب العسكري 1971 و 1972 من السجن المركزي بالقنيطرة ، ونقلهم الى تزمامارت ، ليمكثوا هناك 18 سنة في وضع لم يسبق لأحد في العالم ان عايشه . وان الذي اصدر الامر بإعدام الضباط الوطنيين الاحرار عن انقلاب الصخيرات في سنة 1971 . وان الذي كان يشرف شخصيا ويعطي الامر بإطلاق النار على المتظاهرين العزل في 23 مارس 1965 بالدارالبيضاء ، وفي يونيو 1981 بالدارالبيضاء كذلك ، وانتفاضة الشمال ومراكش في يناير 1984 ، حيث كان خط تلفونيا بين الحسن الثاني وبين احد المجرمين يدعى عبدالسلام الزيادي الذي كان رئيس كتابته المدعو الشرقي ضريس . وان الذي كان يتولى شخصيا وعبر خط هاتفي كل اطوار المحاكمات السياسية التي عرفها المغرب ( محاكمة مراكش 1971 ، محاكمة البيضاء 1973 ومحاكمة البيضاء 1977 ، ومحاكمة القنيطرة ، ومحاكمة عبدالرحيم بوعبيد ، ومحاكمة نوبير الاموي .. ) . وان الذي اصدر الامر بإعدام ثوار 3 مارس 1973 ويوم عيد الاضحى . وان الذي اشرف مباشرة واصدر الامر بإطلاق النار على انتفاضة الريف في 1958 . وان الذي اصدر الامر بتسفير ونفي ابراهام السرفاتي الى فرنسا بحجة ان جنسيته برازيلية . وان الذي اصدر الامر بإيداع الشيخ عبدالسلام ياسين مستشفى الامراض العقلية ووضعه تحت الحراسة الاجبارية .. لخ .
ان الشخص المسئول عن كل هذه الجرائم هو الحسن الثاني شخصيا . ومن قال بخلاف ذلك ، كأن يحمل مسؤولية ما حصل بشخص ادريس البصري ، او افقير ، او العشعاشي ، او صاكا ، ميلود التونزي اواو، هو منافق وجبان .
والسؤال : هل كان للجنرال مولاهم حفيظ العلوي ، ومدير الامن الوطني احمد الدليمي ، والجنرال محمد افقير ، والقبطان عبدالحق القادري الذي كان يتواجد بالسفارة بباريس ، ومكن المجرمين من سيارة المصلحة ( عبد الحق القادري اصبح جنرالا مديرا للإدارة العامة للدراسات والمستندات ) ، والكوماندو الفرنسي ، ان يجرؤوا على اغتيال شخص من وزن المهدي بن بركة ، لو لم تكن الاوامر صادرة عن الحسن الثاني .
هل كان افقير ، والدليمي ، وادريس البصري ، والعشعاشي ووو .. ، يشتغلون في فراغ ، ام كان لهم رئيس يأتمرون بأوامره وينفذون بالحرف تعليماته ؟
ان هذه هي الحقيقة التي يجب ان يعرفها الشعب المغربي . والقول بخلاف ذلك جبن وخوف ونفاق .
سأحكي شيئا على مسؤوليتي : لما كان المهدي بن بركة رئيسا للمجلس الاستشاري ( البرلمان ) ، كان يعمل بمنزله الكائن بديور الجامع بالرباط احد الاشخاص المنتمين الى اسرة المقاومة . ان هذا الشخص كانت له علاقة متينة مع احد ضباط جيش التحرير يسمى الكلونيل عبدالعزيز ، كان يشتغل بدار البارود بمدينة فاس . في احد الليالي جاء الكلونيل عبدالعزيز عند ذاك الشخص وقال له بالحرف : ان الملك يدعوك للإجهاز على المهدي بن بركة ، وسيعطيك مليونين من الفرنكات . وطالب منه ان يقدم جوابا في ظرف 24 ساعة . بعد انقضاء هذه المهلة رجع الكلونيل عبدالعزيز عند ذاك الشخص لمعرفة الجواب الذي كان طبعا الرفض . قبل ان يمر اسبوع عن الرد تم تنقيل ذاك الشخص الى منزل الجنرال محمد افقير ، حيث واصل نفس العمل الذي كان يقوم به بمنزل المهدي بن بركة ( مكلف بشؤون المنزل ) . لقد سئل الشخص عن عدم قبوله اقتراح الكلونيل عبد العزيز ، فرد قائلا : لا اقتل ولن اقتل ، لان الله يرفض قتل النفس بدون وجه حق . ورغم اغراء المليونين من الفرنكات قال رحمه الله : من يدري إنْ انا قتلته سيقتلونني وراءه ، واترك ابنائي يتامى .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ( معارضة ) الخارج . ( معارضة ) الداخل
- الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني يستقبل موفداً لرئيس الجم ...
- الحسن الثالث . عودة قوية وميمونة للأميرة سلمى بناني .
- هل انقلب رئيس الحكومة الاسبانية السيد بيدرو سانشيز على حل ال ...
- رسالة الرئيس الروسي فلادمير بوتين من تعبئة ثلاثمائة الف جندي ...
- الصراع داخل القصر السلطاني
- ممنوع الاستفتاء وتقرير المصير في إقليم - دونباس / لوغانسك / ...
- الملكية البرلمانية في المغرب
- - الفاسبوك - سيغلق حسابي يوم الاربعاء 28 من الشهر الجاري
- دورة منتظرة لمجلس الامن حول نزاع الصحراء الغربية في شهر اكتو ...
- هل سيحضر السلطان محمد السادس مؤتمر القمة العربي المقبل في ال ...
- الإستفتاء وتقرير المصير في الصحراء الغربية .
- الطبقات الاجتماعية في المغرب .
- هل مِن مخطط يحبك غربيا وجغرافيا لإسقاط شخص محمد السادس ونظام ...
- ردّان سلبيان على خطاب السلطان محمد السادس .
- هل هناك بوادر اندلاع ثورة في المغرب ؟
- خطاب السلطان محمد السادس بمناسبة مرور تسعة وستين سنة عن ثورة ...
- فرق بين الاعتراف الصريح ، والاكتفاء بسحب الاعتراف دون اعتراف ...
- هل ستنجح حركة - صحراويون من أجل السلام - في سحب بساط تمثيلية ...
- أحمد الريسوني رئيس ( الاتحاد العالمي ( لعلماء ) المسلمين ) ي ...


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - - الاتحاد الوطني للقوات الشعبية - - المهدي بن بركة - - 29 اكتوبر 1965 / 28 اكتوبر 2022 ، مرت سبعة وخمسون سنة عن اختطافه . من اختطفه ؟