أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فاروق عباس - التفسير الطبقى للغناء















المزيد.....

التفسير الطبقى للغناء


أحمد فاروق عباس

الحوار المتمدن-العدد: 7397 - 2022 / 10 / 10 - 19:09
المحور: الادب والفن
    


يمكن القول بصفة عامة أن الطبقة التى تسود الحياة العامة هى من تفرض ذوقها في الفن وفى غيره من مجالات الحياة ، مثل الأخلاق ومعايير السلوك ..

والملاحظ أن الآخرين يقلدون الطبقة القائدة للمجتمع مهما كان من سلوكها أو طباعها أو ذوقها من غرابة وشذوذ ، فهى فى النهاية التى تملك المال والثراء ، وهى التى تنفق على ما يلبى ذوقها وما يفرض نمط سلوكها ..

وفى بداية القرن العشرين ، ومع نشأة الغناء المصرى المستقل عن الألوان العثمانية ، كان المجتمع المصرى مكوناً من طبقة كبار ملاك الأراضى الزراعية كطبقة قائدة للمجتمع ، ومعها كبار موظفى جهاز الدولة ، وبعض فئات الرأسمالية البازغة على استحياء ..

كانت هذه الطبقة قد حازت ثرواتها مع منتصف القرن ١٩ وما بعده ، وذلك مع توزيع محمد على وأبناءه من بعده أراضى زراعية واسعة وأبعديات كبيرة على رجالهم المقربين فى الإدارة والجيش ، وزادت الثروات فيما بعد بيع أراضى الدومين واراضى الدائرة السنية سدادا لديون الخديوى إسماعيل ..

المهم أن طبقة ثرية تكونت في مصر ، ومع مرور الوقت ونشوء تقاليد لهذه الطبقة أصبح لها ذوق ونمط حياة مختلف عن غيرها ..

ومن هنا نفهم لماذا غنى عبد الوهاب مثلا عام ١٩٢٧ - أى من مائة عام تقريبا - أغانى وقصائد مثل يا جارة الوادى ، مخاطبا مدينة زحلة اللبنانية الجميلة وهى مصيف الطبقة المصرية الراقية وقتها ، وفيها يقول :

يا جارة الوادي طربت ُوعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك ِ
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى
والذكريات صدى السنين الحاكى

ويقول فى آخرها ..

وتعطلت، لغةُ الكلام وخاطبت
عينيِّ في لغة الهوى عيناك ِ
لا أمس من عمر الزمان ولا غد ٌ
جمعُ الزمان فكان يوم رضاك ِ

وكلمات ومعاني الأغنية أعلى من المستوى العام للشعب وقتها ، إن نسبة الأمية في مصر يومها كانت تفوق ٩٥% من مجموع الشعب ، أى أن ٥% فقط من الممكن أن تفهم وتتذوق هذا الغناء ، وإذا استبعدنا منهم أصحاب الذوق الغربى في الموسيقى والغناء ، أو من لا يتذوقون الفنون أصلا لوجدنا أن الأغنية - والاغانى المناظرة لها فى تلك السنين - كانت تتوجه إلى ٢% أو ٣% فقط من مجموع الشعب !!

ومثل الأغنية السابقة اغنيات مثل رُدت الروح على المضنى معك ، وأنا انطونيو ، يا حبيبى كحل السهد عيونى ، يا ناعماً رقدت جفونه لمحمد عبد الوهاب ، واغنيات مثل أراك عصى الدمع ، ومالى فتنت بلحظك الفتاك ، سكت والدمع أتكلم ، وكم بعثنا مع النسيم سلاما لأم كلثوم ..

وبعد عشرين سنة ، أى فى الأربعينات ، وعلى الرغم من متغيرات كثيرة ألمت بالمجتمع المصرى ، إلا أن التكوين الطبقى كان على حاله ، وغنى عبد الوهاب فى تلك السنين أغنيات مثل الجندول ( وهو نوع من القوارب الصغيرة فى مدينة فينيسيا الإيطالية ) وهى أيضا أحد مصايف الطبقة العليا المصرية وقتها ، والكرنك ، الحبيب المجهول ، كليوباترا ، عاشق الروح ، همسة حائرة .. إلى آخره .

وغنت ام كلثوم أغنيات مثل رق الحبيب ، سلوا قلبى ، غلبت أصالح في روحى ، هلت ليالى القمر ، ياللى كان يشجيك أنينى ، ورباعيات الخيام ، ونهج البردة .. وعشرات غيرها من نفس النوع .

واخترت ام كلثوم وعبد الوهاب لأنهما أكبر وأهم مطربى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين ، وما قدماه من فن يمثل معيار لذوق وطلب من ينفق من أجل تقديم هذا الفن ، فأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب واى فنان فى النهاية يبحثون - بجانب الفن - عن الربح ، ويقدم الفنان فنه لمن يطلبه وقادر على الإنفاق عليه ، وهو ما يسمى فى الاقتصاد بالطلب الفعال ..

كيف يمكن أن تتوجه هذه الأغانى والقصائد رفيعة المستوى جدا لشعب تصل نسبة الأمية الأبجدية - وليست الأمية الثقافية - فيه إلى ما فوق ٩٠% ؟!!

الحاصل أن هذه الأغانى كانت تتوجه أولا إلى طبقة معينة ضئيلة العدد ، ولكن لديها الثروة والنفوذ لكى يقدم لها - على صغر عددها - ما تهواه ..

والدليل على ذلك أن هذا النوع من الغناء والقصائد لم يعد يقدم الآن ، على الرغم من إنتشار التعليم بكثافة فى كل مدن مصر وقراها ، ووجود عشرات الجامعات والجامعيين ..

ولكن الطبقة التى تسود الآن - بمعنى أن لديها الجزء الأكبر من الدخل القومي - لا تحبذ هذا النوع من الغناء ..

مع مجئ ثورة يوليو ١٩٥٢ ، ومع إنهيار الطبقة القديمة وتصفية نفوذها بتوزيع أراضيها على فلاحى مصر المعدمين عام ١٩٥٢ ، ثم ضرب جناحها التجارى والصناعى بالتأميمات الكبرى عام ١٩٦١ ثم ١٩٦٣ صعدت إلى سطح الحياة العامة فى مصر طبقة جديدة ، استدعتها عمليات البناء الكبرى في تلك الحقبة مثل بناء السد العالي والمصانع والصناعات الثقيلة ..
كان قوامها المهندسون والأطباء ورجال القوات المسلحة وأساتذة الجامعات وكبار موظفى جهاز الدولة الإدارى ..

بقى الغناء المصرى فى تلك الحقبة محافظا على طابعه العام مع مسحة أكثر شعبية ، باعتبار أن الطبقة الجديدة صعدت من قلب البيئة المصرية الشعبية ، سواء في الريف أو فى حارات المدن ..

لذا لم يعد عبد الوهاب يغنى لكليوباترا أو لزحلة اللبنانية أو لمدينة لفينيسيا الإيطالية وفتنة نساءها ، بل غنى - مع المتغيرات الجديدة - أغنيات مثل : لأ مش أنا إللى أبكى ، بافكر في إللى ناسينى ، خى ، أنا والعذاب وهواك ... إلى آخره .
ومع تقدم عبد الوهاب فى السن أخذ مكانه كمطرب مصر الأول عبد الحليم حافظ ، وقدم للطبقة الجديدة الصاعدة لون الغناء الذى تفضله ..

ولم تعد ام كلثوم تغنى أذكريني كلما الليل بدا ، وكيف مرت على هواك القلوب ، بل أصبحت تغنى أغانى أقرب إلى روح الشعب وطبقاته الصاعدة مثل : أروح لمين ، حب إيه إللى انت جاى تقول عليه ، حاسيبك للزمن ، أنت عمرى ، فات الميعاد ... إلخ .

وحتى عندما غنى عبد الوهاب فى الخمسينات أغنيات مثل دعاء الشرق أو قصيدة القيثارة ، وغنت ام كلثوم في الستينات أغانى مثل الاطلال أو هذه ليلتي ، وحديث الروح كان ذلك أشبه بالجزر المنعزلة وسط محيط مترامى الأطراف ..

كان ذوق الطبقة القائدة للمجتمع هو ما يفرض نوع ما يقدم من فن ، على الرغم من بقاء نفس المطربين ..

.. ثم جاءت السبعينات .

وانقلب الهرم الإجتماعى فى مصر رأسا على عقب ، وانهارت الطبقة القديمة القائدة ( المهندسين والعسكريين والأطباء وأساتذة الجامعات وكبار موظفى جهاز الدولة الإدارى ) ..

ومع الانفتاح الاقتصادي عام ١٩٧٤ صعد على سطح الحياة العامة فى مصر طبقة جديدة .. أصحاب التوكيلات لمنتجات أجنبية ، رجال الاستيراد والتصدير ، رجال التهريب ، رجال المقاولات وبناء العمارات المخالف منها - وهو الغالبية - أو الموافق للاشتراطات ... إلخ .

وهى مهن لا تحتاج إلى أصول إجتماعية عريقة ، كما كانت الطبقة القائدة قبل ١٩٥٢ ، ولا تحتاج إلى تعليم راقى ومستوى اجتماعى متميز ، مثلما كان حال الطبقة القائدة فى الخمسينات والستينات ..

بل هى مهن ينتمى الجزء الأكبر منها إلى الاقتصاد غير الرسمى ، وكثير منها يتم فى الخفاء بعيدا عن العيون ، وينتمى الجزء الأكبر من الوافدين الجدد إلى قاع المجتمع ، بالمعنى الاقتصادى والمعنى الأخلاقى ..

وفوراً ظهر الفن المرتبط بهذه الفئات الجديدة ، التى كونت طبقة تملك فى يديها المال ، وتريد ما يعبر عن اذواقها وأسلوبها في الحياة ..
وكانت هذه الفترة التى سمع فيها المصريون أغنيات جديدة على غير ما اعتادته الأذن المصرية ، وظهر المطرب الأول لهذه الفترة وهو أحمد عدوية ، واغنيات مثل : سلامتها أم حسن ، ما بلاش اللون ده معانا .. إلخ .

ومع تقدم جحافل هذه الطبقة فى الثمانينات ظهرت طائفة كاملة من المطربين تلبى أذواقها مثل حسن الاسمر وحمدى باتشان وعلى حميدة .. وغيرهم كثيرين .

وكان الجزء الأرقى من هذه الطبقة ، مع مرور أكثر من عقد على ثراءه ، بالإضافة إلى بقايا الفئات القديمة قد التفتت في الثمانينات إلى نغمة أكثر رقياً نسبياً من السائد ، تمثلها أصوات مثل هانى شاكر وميادة الحناوى وعزيزة جلال وسميرة سعيد ومحمد منير وعمرو دياب وأنغام ..

ومع السيولة الشديدة في الخريطة الاجتماعية المصرية ، وصعود طبقات وهبوط أخرى ، والسرعة الشديدة لمعدلات الحراك الإجتماعى فى مصر ، ظهرت فئات جديدة فى العقدين الأخيرين - من عام ٢٠٠٠ إلى الآن - من أبرز ها تجار شراء وتسقيع الأراضى ، ومكاتب السمسرة العقارية مع نشأة عشرات المدن الجديدة والتوسع الشديد فى المدن القديمة ، وأنشطة المضاربة على العملة ، وأنشطة الإقتصاد الأسود مثل تجارة المخدرات بأنواعها القديمة مثل مخدر الحشيش أو البانجو أو الحديثة مثل الاستروكس والشابو ، وهى أنشطة توسعت بشدة فى مصر فى العقدين الأخيرين ..

وكانت موجة الغناء التى لبت طلب هذه الفئات هى أغانى المهرجانات ، بدقات طبولها البدائية ، وكلامها غير المفهوم أحيانا ، ومعانيها الغريبة فى كل الاحيان ..

.. وحتى يستقر البناء الاجتماعى في مصر ، وتخف حدة الحراك الإجتماعى صعوداً وهبوطاً فإن الفنون المصرية كلها وليس فقط فن الغناء والموسيقى مقبل على تقلبات حادة ، مع صعود وهبوط من يمتلكون فرض اذواقهم على المجتمع بحكم ثراءهم ..

وسرعة الحراك الإجتماعى فى مصر لا تسمح ببقاء الطبقات على سطح ومقدمة الحياة العامة فترات طويلة تسمح ببناء تقاليد أكثر رقيا للثروة وطرق انفاقها ، وفرض أنماط أكثر رقيا من الفنون أو من السلوك ، وهو ما يتأتى مع الجيل الثانى أو الثالث بعد الجيل الأول أو جيل الآباء المؤسسين ، الذى كان أكثر انشغالا بجمع الثروة وتراكمها ..

وبالتالى يبدو أن مصر تحتاج إلى عقود أخرى تستقر فيها خريطتها الاجتماعية حتى تستمع إلى فن له قيمة ..



#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المستقبل لمن ؟
- عندما يصبح الجميع ملائكة إلا مصر !!
- 6 أكتوبر 1973
- المعارضة أم التأييد .. أيهما أكثر إفادة ؟!
- إغلاق إذاعة لندن .. وذكريات لا تنسى .
- الحرب بين العصور
- متى يتعلم المعارضون المعارضة ؟!
- هجوم الخريف المعتاد .. لماذا نسى هذا العام ؟!
- وفاة القرضاوى
- الغزو الوهابى لمصر .. أم الغزو الإخوانى للسعودية ؟!
- رجل من الماضى
- فى ذكرى وفاته .. هل كان مجئ عبد الناصر ضرورياً ؟
- هل هو حقا يمين متطرف ؟!
- النقاب
- جوانب سياسية فى قضايا دينية ( تعديل لبعض أخطاء المقال )
- جوانب سياسية فى قضايا دينية
- لماذا يختلف دور الجيوش فى الشرق عن الغرب ؟
- أين يوجد موقف الدولة الصحيح من الدين ؟
- الأحزاب الشيوعية ..
- الهوية الوطنية .. ماذا بقى منها ؟


المزيد.....




- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فاروق عباس - التفسير الطبقى للغناء