أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - ثلاثية الألوان: كريستوف كيشلوفسكي















المزيد.....


ثلاثية الألوان: كريستوف كيشلوفسكي


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 7394 - 2022 / 10 / 7 - 23:49
المحور: الادب والفن
    


ثلاثية سينمائية للمخرج البولوني كريستوف كيشلوفسكي(1941-1996)، ولعلها من أهم أعماله. أعطى كيشلوفسكي لأفلامه ثلاثة عناوين هي ألوان العلم الفرنسي على الترتيب: أزرق، أبيض، أحمر. كما هو أيضا شعار الثورة الفرنسية : حرية، مساواة، إخاء. ما يربط الأفلام الثلاثة هو التأويل الدرامي للسردية البصرية التي تحاكي رمزية ودلالات هذه الألوان كما يجسدها أبطال الأفلام وارتباط هذه الدلالات وتأويلاتها بماضي الشخصيات وتطورها.
I
أزرق (1993)
كتب سورين كيركيغارد ذات دهشة: "كلما تحسست الوجود، لم أجد شيئاً. ما هذا الشيء المسمى بالكون؟ من الذي أوجدني في هذا العالم، والآن يتركني وحيداً؟ من أنا؟ كيف أتيت إلى هنا؟ ولماذا لم يسألني أحد؟"...
تقول الحكاية أن "جولي" فقدت زوجها وابنتها في حادث سيارة، وهي لا تعلم إن كان هذا من حسن حظها أم لا، أي أن تكون هي الوحيدة الناجية. كان زوجها موسيقياً لامعاً وكان على وشك وضع معزوفة خاصة للاتحاد الأوروبي. حاولت جولي، بعد الحادثة، أن تنتحر ( تتكرس المأساة أكثر عند جولي عندما تصاب والدتها بمرض ألزهايمر وتفقد القدرة على التعرف عليها)؛ لكنها فشلت، فعزمت على نسيان حياتها السابقة بكل ما فيها من ذكريات، لذلك فكّرت جديّاً في بيع منزلها مع ما يحتويه من أثاث وعفش باستثناء ثريّا زرقاء. وبعد أن فعلت ذلك، انعزلت عمّا حولها وقطعت صلاتها بكل معارفها السابقين. مارست الجنس، ذات مرة، مع أحد مساعدي زوجها، لعلمها أنه يكنّ لها مشاعر ما قد تكون حب. لكنها سرعان ما هجرته هو الآخر واختفت.
ولكن هل يتركها الماضي؟.. ماضيها؟.
نظراً لأن الفيلم على جولي، كان لابد على مستوى اللقطة السينمائية التخلص من محيط جولي، وقد تم ذلك من خلال الحادث، منذ بداية الفيلم، دون مقدمات، وهذا سوف يعطي مساحة درامية أكبر لجولي على مدار زمن الفيلم، ومن المنطقي أن يؤثر فينا مشهد الحادث وموت الزوج والابنة، لكن هذا التأثير لم يستغرق وقتاً طويلاً إذ سوف ننجذب نحو جولي وسوف نعبر عن تعاطفنا وتضمننا معها في جميع الحلات والمواقف، على الرغم من أننا، عبر التواصل اللامرئي معها، لم تسطيع أن نبني معها علاقة واقعية على نحو ما، بل تبقى العلاقة دون عمق، نظراً لأن جولي لا تفصح عن مشاعرها مباشرةـ بل عبر حالات انفعالية "سلبية؟" وجدانية غير ثابتة.
ينتقل الفيلم إلى مستوى جديدي حين يعثر على جولي مساعد زوجها الذي يعمل على استكمال مشروع زوجها، وتكتشف جولي، في سياق ذلك، خيانة زوجها لها مع امرأة أخرى، حملت منه بعد وفاته. كان لهذا الأمر وقع الصدمة على جولي؛ لكنه منحها الحرية، فبدأت ببناء حياتها من جديد وخاضت علاقة جدية أكثر مع مساعد زوجها وساعدته في تحقيق إنجاز موسيقي جديد. ربما لم ولن تشعر بالسعادة كسابق عهدها، ولكنها أصبحت أقوى وأكثر فهماً للحياة، وأكثر تسامحاً أيضًا، فمنحت بيتها السابق للمرأة الأخرى التي أحبها زوجها. واستكملت موسيقى الحفل مع شريكها الجديد.
في لقاء مع جولييت بينوش تحدثت فيه عن الظاهرة البولندية في عالم السينما الكاتب والمخرج كريستوف كيشلوفسكي (1941-1996): " طلب مني ( كيشلوفسكي) عدم البكاء، أثناء تصوير مشاهد الفيلم أزرق )، عند سماع خبر وفاة زوجها وطفلتها، فـأجبته "كيف يمكن هذا أن يحدث؟ إذ يتوجب علي: كزوجة وأم مفجوعة، أن اصرخ وأبكي بشدة، بل بأقصى ما استطيع" فنظر نحوي وقال بهدوء لافت، لكنه احترافي، ألا تعلمين، أو لم يخبرك أحد من قبل، أن الإنسان "الطبيعي" حينما تواجهه فاجعة شخصية عظيمة سوف لن يقدر عل البكاء من شدة الألم/ الآلام" وتتابع بينوشيه لتقول أن كلام كيشلوفسكي ما انفك يدق في رأسها لسنوات كثيرة لاحقة، لا سيما حين كانت تمر لفترة عصيبة مليئة بآلام عظيمة وتجارب فظيعة، فكانت تشعر أن بكائها سوغ يحررها من حزنها ويخفف من وجعها ومن وقع الصدمة عليها، وتردف القول" لا أعلم كيف استطاع كيشلوفسكي اختبار الشعور الحقيقي لمعنى الألم ومعنى القيود والجدران التي يجد الأفراد أنفسهم محبوسين ضمنها، ثم كيف سوف تكون الدموع، في النهاية، تخمل معنى الحرية والتخلص من الألم". وهكذا يقدم لنا الفيلم سردية بصرية فذة عن معنى "الفقد" وما يسببه من آلام، والفقد يتماهى مع الخذلان حين تحاول "جولي" الهروب من ألم فقدانها لعائلتها.
لعل هذا يفسر أسلوب كيشلوفسكي في الغوص في التفاصيل التي لا ينتبه لها معظمنا، وكان الحامل لهذه التفاصيل العابرة هو اللون الأزرق ودلالاته (لون الزجاج والقمامة والملف الورقي ..)، فالمعنى العام المألوف لدينا عن الأزرق أنه لون الحياة والإقبال عليها، ولون الحب وكذلك السعادة والصفاء، لا يحمل الأزرق، أي اللون، أي صفة سلبية ولا يحمل له البشر ضغينة من نوع ما، وحتى في الحالات التي تكون "الكآبة" أو "الحزن" أحد معانيه، فلا يقصد به الحزن حد الفجيعة، إنما حزن لطيف ( أحد أفلام وودي آلن "2013" كانت تحمل عنوان "ياسمين الحزينة Blue Jasmine"، دون الخوض هنا بالمفاهيم المؤطرة للأنساق الخاصة بالثقافة العربية عن معنى الأزرق بصفة عامة، فارتباط الأزرق بالسماء لايعني أن السماء تحمل على الدوام معانٍ جميلة أو ودودة.. إلخ). ولكن كيف كانت تفاصيل الأزرق في الفيلم؟ من الممكن القول أن الأزرق يمثل معادلاً موضوعياً للحياة بجميع مظاهرها ( على الأقل بالنسبة لجولي ونظرتها الخاصة للحياة)، لقد ماتت الفتاة "آنا" عندما وقعت منها "القطعة البلاستيكية الزرقاء" التي كانت تلعب بها داخل السيارة. ويظهر الأزرق في لقطات المونولوج الداخلي لجولي وهي تعبر عن أفكارها وهلوساتها ، لقد كان المعادل الدرامي لمقاومة جولي للحياة (ومن الماضي بلا شك) هو التخلص من كل ما هو أزرق، لاسيما حين ترى شيئاً من أغراض "آنا" ابنتها.
وبالعودة إلى سؤال كيركيغارد.. أحقاً لم يجد شيئاً؟ أهو يخدعنا؟ يضللنا؟ ألم يقرأ ما قاله ديوجين المحشور في برميل "تعض الكلاب أعدائها، أما أنا فأعض أصدقائي كي أساعدهم على النجاة "
II
أبيض (1994)
كان " كارول" البولندي المقيم في فرنسا على وشك أن يحوّل الحلم إلى واقع، حين اصطدم بطلب زوجته "دومينيك" الطلاق ( تقول دومينيك أن السبب في طلبها يعود لضعف زوجها الجنسي). يحاول كارول الدفاع عن نفسه، غير أن القاضي يرفض الاستماع إليه، بزعم أنه لا يجيد الحديث باللغة البولونية. في الواقع ليس لدى كارول تفسيراً منطقياً لما يجري، ويظهر كأنه لا يتمتع بحد أدنى من وعي و"قدرة" على ربط الأمور ببعضها البعض، إذ لا يبدو له أن ثمة أهمية أو فائدة في أن يكون هناك تناقض ما بين تلك الأشياء المترابطة، فهو لا يرى وجود تناقض في الحياة، أو الحقائق. فالولادة و الحرب والبحر والمطر وتعاقب الفصول والخوف والموت والخيانة و الإبداع... إلخ، جميعها حقائق، لكنها، من وجهة نظره، حقائق مسطحة غير ذات عمق، بل و "عارية ". وسوف تكون مخرجات مأزق كارول من خلال تواطئ نفسي لإقامة نوع من التوازن الداخلي والانسجام مع الذات، فضلاً عن توازن خارجي مع البيئة المحيطة -والقصد هنا دومينيك بلا ريب- . للأسف سوف يفشل كارول هنا أيضاً، بالأحرى، لم يوفق في تعيين دومينك على أنها " آخر "، فيتساءل- شاكياً للقاضي- "أين العدل في هذا؟ أين المساواة؟" [ و المساواة ، ركن من ثالوث الثورة الفرنسية ].
تتابع الحكاية فتقول أن دومينيك تحب زوجها، وهي لا تنكر ولا تخفي هذا، ولكن كل ما في الأمر أنها ترغب أكثر بـ "قوته/ فحولته" و تعلن عن رغبتها هذه دون تحفظ أو اعتدال أو حتى خجل، لذا تنظر له بنوع من التبجح بالذات، كونها فرنسية، و بنوع من الاستعلاء (وهذا لا يمنع أنها تحبه، مثلما عبّر جورج بوش الابن وتوني بلير عن حبهما للشعب العراقي وجو بايدن فلاديمير بوتين عن حبهما للشعب الأوكراني). وتعالي دومينيك عنا هو شرط أساسي (موضوعي؟) لشعور كارول بعدم العدل والمساواة بينهما، ولعل هذا أحد أسباب عدم قدرته على التواصل الجنسي معها، طالما ينتابه شعور عدم المساواة ( استطاع الطيب صالح، بذكاء، تجاوز هذه الثيمة في موسم الهجرة إلى الشمال). اللافت في الأمر أنه بعد حكم الطلاق "يتسلل" كارول إلى سرير دومنيك ويحاول معها فتستجيب له، لكنه -للأسف- يفشل هذه المرة أيضاً، فتقوم دومينيك بحرق المنزل وتتهمه بالحادث، قام صفن كارول.. صفن شي سيعة، ولم يجد أمامه مفر سوى الهرب و العودة إلى بلده بولندة (عند لحظة الهروب هذه يختفي اللون الأبيض من المشهد). يهرب كارول لعدم قدرته على الوقوف والصمود والمحاولة والمواجهة و التقدم.. لعله ليس ثورياً إلى تلك الدرجة التي تسمح له بـ"مضغ" معنى التضحية، أو ربما ليس ثورياً بما يكفي ليعي معنى لمقولة لينين "خطوة للأمام، خطوتان للوراء"، فالمنطق البراغماتي يقول أن ليس هناك من يضمن أن تتبع، بالضرورة، أي "خطوتان للوراء" خطوة للأمام، بل ربما تتبعها خطوات أكثر وأكثر للوراء.، ثم حتى لو كان افتراض لينين صحيحاً -وهو بالمناسبة كذلك في المحصلة النهائية-، فمن يضمن أن الحل سيكون في تلك الخطوة التي "للأمام" هذه بعد خطوتان الوراء؟.. ها ؟ من يضمن؟.. هل باستطاعة أولئك الذين يرون التاريخ يسير دائماً للأمام أن يضمنوا لكارول عودة دومينيك له لو تقدم خطوة للأمام من مكانه؟
تتوالى، بعد ذلك، سلسلة من الصدف و الاحتمالات الغريبة، أثناء وجود كارول في بولندة (هنا يبدأ اللون الأبيض بالعودة تدريجياً للمشهد، ضعيفا في البداية) فيصبح صاحب ثروة عظيمة ويتحول إلى رجل أعمال ثري، عندها يشعر بـ "قدرته/فحولته" وتساويه مع دومينيك ( كما وصل بطل الطيب صالح لذات النتيجة)، وضمن هذا السياق النفسي والمادي يعود إلى فرنسا، ويحاول أن يستدرج دومينيك إليه، الأمر الذي ينجح فيه، فيعرض عليها أن يمارسا الجنس، فترجب بالفكرة... ويا للهول، ينجح الأمر معهما هذه المرة، و يظهر لها "قدرته/ فحولته"، ومضاهاته (هنا يشع المشهد باللون الأبيض الباهت، وكلما صرخت دومينيك من شدة الإثارة يزداد لمعان وإشعاع الأبيض، إلى أن يصبح مثل لون البرق مع صرختها الأخيرة من فرط اللذة ). عندها.. عندها فقط، يشعر كارول بالمساواة الكاملة معها، فرتابة عُريْ دومينيك تفتح أمامه بوابة الواقع البارد على مصراعيها في دعوته للمساوة.
كارول الذي لم يذق اللذة من قبل مع دومينيك، و الذي لم يعرف كيف يمكن له أن يكون "صديقاً لامرأة " (كما يزعم هنري ميللر) ، يزداد ضغط اللحظة عليه فيبدو أنانياً وذكورياً حين تنفتح مشهدية الجسد الأنثوي المتهالك أمام عينيه من شدة اللذة على فسحة تحرس ذكوريته و"انتمائه المكاني"، ولكن يبقى الزمن غير واضح تماماً، فالزفاف في بداية المشهد لا يقدم أي معلومة أو إيحاء يتيح لنا الجزم هل حصل ذلك قبل لقاءهما من جديد أم بعده. عموماً لم ينجح كارول في ذلك إلا بعد شعوره بالمساوة مع دومينيك. و من المنطقي القول أن المساواة -حتى كعلاقة رياضية مجردة- لا يمكن أن تكون بين قيميتين غير متكافئتين، بمعنى لا يمكن أن تكون بين قوي و ضعيف، وحين يشعر أحد طرفي المساواة بتساويه مع الطرف الآخر، فإن هذا لا يتحقق إلا بامتلاكه للعناصر الأولية اللازمة لتحقيق علاقة المساوة تلك، وهذا لا ينطبق على العلاقات الرياضية فحسب، بل نراه مبثوثاُ في مجمل العلاقات الإنسانية المجتمعية التي جوهرها الحرية الفردية المهددة من أنانيتنا الجمعية، ومن سطوة " الدولة" كمؤسسة نتجت لضرورات التعايش الإنساني، فإذا كان شرط هذا المعيش يرتكز على اتفاق بين الأفراد بصيغة "عقد اجتماعي" يقوم، كما يرى جان جاك روسو، على شكل محدد يصون الفرد من المشترك الجمعي و يحمي فرديته و يحافظ على حريته، فمن الأجدى لهذا الفردـ، إذن، عدم الانصياع بالمطلق لقوانين الجماعة. وهذا ربما ما قصده بيير جوزيف برودون حين كتب إلى كارل ماركس: "فلنتجنّب أن نكون زعماء دين جديد؛ حتى ولو كان هذا الدين دين المنطق، دين العقل"
III
أحمر (1994)
يلوح في الأفق، منظر لامرأة عجوز تسير، منحنية الظهر، تحاول بجهد وبمشقة وضع زجاجة في المكان المخصص لها، تقترب منها فالنتين، الشابة الجميلة، وتتوقف لمساعدتها. فالنتين هذه طالبة سويسرية تعيش في جنيف، تعمل عارضة أزياء لتعيل نفسها وأسرتها، وتعيش علاقة حب مع رجل، هو خطيبها بذات الوقت، ويقيم خارج البلاد، في لندن. تبدو فالنتين قلقة بسبب علاقتها المتوترة مع خطيبها، الذي يتعامل معها بفظاظة، لفالنتين أخ يتعاطى المخدرات، وأم عجوز وحيدة.
ذات ليلة، وبينما كانت تقود سيارتها، على مهل، تصدم كلبة تصادف أن تكون حامل، فتقوم فالنتين بمعالجتها، ثم تصل إلى مكان صاحبها ، وهو قاضٍ متقاعد، يعيش وحيداً منطوياً على ذاته وذكرياته. يرفض القاضي استعادة الكلبة، أصلاً هو كان يرغب في التخلص منها، ويجيب على أسئلتها بعدائية واضحة ولا مبالاة (يسألها دون مواربة أن توضح السبب في مساعدتها للكلب: هل الهدف الشعور براحة الضمير، أو كنوع من استعراض الحنان للغريب؟)، لا تشعر فالنتين بالارتياح لشخص القاضي، وتستغرب من معاملته القاسية للكلب، فلا تجد بداً من أخذها معها، لكن هذه الأخيرة تهرب من بين ذراعيها وتعود ثانيةً إلى القاضي الذي يمضي وقته في مراقبة جيرانه والتجسس على مكالماتهم الهاتفية (وهذا ما يثير اشمئزازها منه ومن وجهة نظره النمطية عن جيرانه، لكنه يبرر ذلك بأنه يحاول أن يفهم الآخرين لعله يصل إلى الحقيقة، كما أنه يحاول الإيقاع بتاجر هيروين)، تصاب فالنتين بالدهشة من سلوك القاضي وترفضه، بالأحرى، تستهجنه، ومع ذلك تشعر بانجذاب خاص نحو هذا الشخص غريب الأطوار . في الحقيقة لا تختلف فالنتين عن القاضي المتقاعد كثيراً، فهي تراقب جيرانها أيضاً ، بطريقة غير مشروعة، مثل القاضي تماماً، كما أنها اسمح لنفسها أن تطلق أحكاماً عليهم دون حتى أن تسمع وجهة نظرهم.. ولكن مهلاً .. من منا لا يفعل، أو فعل، ذلك يوما ما وبطريقة ما وعلى نحو ما؟
وليس بعيداً عن فالنتين، ثمة شخص يدعى أوغست، يسكن في شقة مقابل شقة فالنتين رغم أنها لم تقابله قط، (لكنها ستراه لاحقاً في السفينة المتجهة إلى لندن حين تقرر فالنتين السفر إل هناك لملاقاة حبيبها). أوغست طالب يدرس القانون وعلى وشك التخرج، يبدو أنه مغرم أيضاً بفتاة تدعى كارين التي تعمل مذيعة للنشرة الجوية عبر الهاتف. يعيش أوغست أزمة عاطفية حادة بعد أن اكتشف خيانة كارين له مع شخص آخر. (ثمة صدفة في حياة أوغست تجعله ينجح في الامتحان ويصبح قاضياً، لكن حبيبته تهجره ليكتشف، بالصدفة أيضاً أنها تخونه).
مع الوقت تتمكن فالنتين من فك عزلة القاضي بفضل طاقتها الإيجابية الهائلة وانفتاحها على الحياة، فتجعل القاضي يهتم بها ويتفاعل معها، وتتعمق العلاقة بينهما، إلى الحد الذي يجعلها، ذات يوم، تسأله عن ماضيه، فيروي لها حكايته عن حبه المفقود، تستمتع فالنتين للقاضي بشغف و انتباه، وينتابها إحساس أن ما يسرده القاضي يشبه حكايتها مع حبيبها الغائب وحكاية أوغست أيضاً بطريقة ما.
تسافر فالنتين إلى لندن على متن سفينة بهدف لقاء حبيبها، لكن سوء الأحوال الجوية يجعل السفينة تغرق ولا ينجوـ للصدفة، منها سوى بضعة ركاب (بطلي فيلم أبيض وبطلي فيلم أزرق) وفالنتين وجارها أوغست. وإذن، تخلق الصدفة وإحالاتها، باعتبارها قانون له حيز هام في حياتنا، تصعيداً درامياً في أذهاننا عدد لا ينتهي من الأسئلة معظمها يبدأ بـ لو، أو ماذا لو، وغيرها من المفاتيح الاستفهامية للصدفة عندما تتحول العلاقة إلى مشرحة اجتماعية لتفكيك العلاقات التي بنيت عن طريق الصدفة، فيمكن أن نقرأ-بالصدفة- اكتشاف أحدهم أنه لو مات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في نفس سن فوكو لما عرفت البشرية كتابه الشهير "نقد العقل الخاص"، ولما كان له أي اثر في تاريخ الفلسفة. أو أن معظمنا لم ينتبه إلى أن رولان بارت مات بعد أن صدمته سيارة إثر خروجه من حفل غداء جمعه بكل من جاك بيرك و "الرفيق" فرانسوا ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي آنذاك (ويا للمصادفة ,قبيل أن يصبح رئيساً بأشهر قليلة ). وبعد بضعة أشهر وقبيل أن يفقد جاك لاكان القدرة على الكلام -يا للمصادفة أيضاً -فقط من موت بارت يقوم شيخ الماركسيين البنيويين لويس ألتوسير بانعطافة ما بعد حداثية مذهلة حين يخنق -في لحظة جنون- زوجته. وبالعودة إلى فالتنين وأوغست، فهما جاران يسكنان في نفس العمارة ويسكنان في شقتين متقابلتين ويحاذي كل منهما الآخر أو يتقاطع معه، إلا أنهما متباعدان عاطفياً ولا يلتقيان ولا يلفت أحدهما نظر الآخر.. حتى عندما نجدهما في النهاية في الباخرة نفسها المتوجهة الى لندن.
سوف يكون لعنوان الفيلم دور هام للدخول إلى عالم كيشلوفسكي، فإذا كان الجزء الأول من الثلاثية يحمل عنوان "أزرق" والجزء الثاني "أبيض"، فليس صعباً أن تفهم لماذا ينبغي للجزء الثالث أن يكون "أحمر". فهذه الألوان تشكل في مجموعها شعار الثورة الفرنسية القائمة على "الحرية" و "المساواة" و "الإخاء" على الترتيب، أي أن الأحمر هنا يرمز إلى معنى "الإخاء" والتضامن وهذا ما تجسده فالنتين، حين تقوم بمساعدة العجوز أمام سلة المهملات وما سوف نلاحظه كلما تحرك الفيلم نحو النهاية حين تسعى للتخلص من الآلام بمشاركته مع الآخر ، مثلما هو حكايتها مع القاضي، فانفتاحها على القاضي وتعمق علاقتهما جعلهما يتشاركان التخلص من آلامهما ولعل هذا ما دفعه لأن يقول لها بأنها كانت له بمنزلة " المرأة التي لم يقابلها في شبابه". وهكذا يقوم الأحمر مقام التضامن الإنساني مختلطاً بأوهام العبث والقدر المتناقضان، فينقاد الفيلم إلى العمق العاطفي لأبطاله، أكثر من النظر في عالم الأفكار الذي يعيشه كل واحد منهم، وهذا ما يجعله أقرب إلى الدراما الواقعية، حيث وجد الإنسان -في الغرب- نفسه وحيداً في هذه العالم المعقد، معزولاً بدون منظومة عقلانية قابلة للتعيين تقوده.
هذه هي خلاصة كيشلوفسكي عن السينما: أن تطرح الأسئلة دون أن تجيب عليها، فهو غير مهتم بشرح الأسباب والتفاصيل، بل يدع المتلقي يغوص مع الفيلم في رحلة متفردة وكأنها تجربة شخصية، إذ ليس بالضرورة أن تفهم، بل يكفي أن تشعر. إن صنع فيلم عن أمور لا يمكن تسميتها، أمر محفوف بمخاطر كبيرة، إذ قد تتحول هذه الأمور إلى أشياء تافهة وغبية فيما لو تعرفت عليها.
يجمع النقاد على أن ثلاثية الألوان Three Colors أعظم أعمال المخرج البولوني كريستوف كيشلوفسكي، ويعلل البعض هذا بما أعلنه كيشلوفسكي نفسه حين عرض الجزء الثالث "أحمر" عن نيته الاعتزال، وبالفعل لم يقم كيشلوفسكي باي عمل بعد " أحمر" وتوفي بعد ذلك بعامين



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيوغرافيا قاتل: أنا لوي ألتوسير، قتلت زوجتي التي أحب
- الصراع في وعلى القدس: صراع مساحات أم اعتراف بالآخر؟
- ملاحظات نقدية حول -الدراسات العربية الإسلامية- في البرتغال
- الاتجاهات الجديدة في الدراسات النقدية لتسمية الأماكن
- الحروب الأهلية -الجديدة- و-القديمة-
- سلمان رشدي وحروب الثقافة النيوليبرالية
- خيبة أمل أوروبا ما بعد الحقبة السوفييتية: قراءة في كتاب جون ...
- حرب أوكرانيا وانعكاساتها على التوتر العسكري الأمريكي الصيني
- (دفاعاً عن التجربة السوفييتية).السوفييت والشعوب: الاتحاد الس ...
- بوب ديلان في السويد: بين -صابرا- كيبوتس عين دور و أروقة أكاد ...
- تاريخ جديد ، أفكار قديمة
- حواري مصر: أدلة بيئية جديدة على بناء أهرامات الجيزة
- قوارب الفلاسفة : 100 عام على طرد المثقفين الروس
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات
- المؤتمر الإسلامي في القدس 1931
- الاختلال في التوازن العالمي كما يراه كيسنجر
- اختراع الأرض المقدسة: الحج البروتستانتي الأمريكي إلى فلسطين ...
- مرثية إلى شيرين أبو عاقله
- استراتيجية الصهيونية المسيحية الداعمة لإسرائيل (7)
- استراتيجية عمل الصهيونية المسيحية الداعمة لإسرائيل (6)


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - ثلاثية الألوان: كريستوف كيشلوفسكي