أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شريف حتاتة - - ماكياج -















المزيد.....

- ماكياج -


شريف حتاتة

الحوار المتمدن-العدد: 7361 - 2022 / 9 / 4 - 02:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" مـكـيـاج "
-------------------------------
أجلس في صالة بيتي تغيرت ملامحها بعد أن نقلنا المكتب و"الكنبة"، والمنضدة المغطاة بلوحة من الرخام الأسود الجميل إلى المطبخ، فأصبحت شبه خالية، بعـد أن أسدلنا ستارة زرقاء كثيفة على نافذة الشرفة، وبعد أن تبدلت الأماكن التي كانت توضع فيها صور الأسرة على رفوف المكتبة الكبيـرة الداكنـة ذات الحشـوات العربية، فأصبحت صورة والدتي تنتصب إلـى جـوار صورة "نوال" بينما كانت في السابق معلقة على الجدار فوق سريري، وبعد أن رفعت الكليمات الحمراء التـي ابتعناها أثناء رحلة إلى "العريش"، فصار البلاط الأبيض عاريا يلمع في ضوء الكشافات، وامتدت فوقه الأسلاك والكابلات الكهربائية تشبه الثعابين لتغـذي أجهـزة تسجيل الصوت و"المونيتور"، وكاميرات "الـديجيتال" الحديثة.
أجلس على أحد المقعدين المتبقيين في الصـالة، أمـامـي على المقعد الثاني يجلس المذيع طويل القامة، أنيق، تطل عيناه السوداوان الهادئتين من وجهه الأبيض الخالي من التجاعيد ، فأشعر أنه جاء من عالم غير العالم الذي أنا فيه. لكنىي حتـى أتسلل إلى عالمه تركت نفسي لأصابع "الماكيير" الشاب، ذي الشعر الطويل، والصوت الأنثوي قليلا. تركتها تمر على وجهي كالفراشات أكاد لا أحس بها، تقص شعرة هنا وشعرة هنـاك وتلمس جبهتي بفرشاة عليها "الكومباكت" الأرجواني اللـون. خضعت له بعد أن وعدني بألا يخفي التجاعيد، ألا يغير ملامحي حتى أصبح شاباً، وأبدو وسيما، رغم أنه في لحظة كـان فـي داخلي صوت همس إليّ "وما الضرر في أن تبدو وسيما؟"، قبل أن يهمس في اللحظة التي تليها : "أتريد أن تخفي مرور السنين " ؟.
حتى أتسلل إلى عالم صـديقي المذيع ، ارتـديت قميصاً قرمزي اللون، وبنطالا أسودا أنيقا نادرا ما أرتديه. حرصت أن يكون ما تبقى من شعري ممشطا بعناية، وأن يكون ذقني ناعماً لا تظهر فيه الشعيرات الشائبة القصيرة، ثم تركته يصفني أثناء الحوار الذي دار بيننا بالكاتب الروائي الذي لم ينل ما يستحقه من تقدير، أن يسألني عن أبي، وأمي، و"نوال"، وعن زوجتـي السابقة، وعلاقاتي بهم، عن تجارب عشـتـها فـي السـجن، والأحاسيس التي مررت بها وأنا فيه، وهـل ينتـابنـي شـعور بالندم بعد الطريق الذي سلكته في حياتي وجعلني أخسر الكثير مما يسعى إليه الآخرون. تركته يقول أننـي منـاضـل خضـت المعارك وواجهت التحديات التي يخشى أن يواجههـا أنـاس كثيرون .
جلست أمامه مستغرقا فى الحوار ، راضيا بالدور الذى أقوم به ، وعن الكاميرا
المسلطة على لحظات النجومية والشهرة والتقدير لم أتعود على الحصول عليه . وتساءلت إن كنت فعلاً الشخص الذي يتحدث عنه، والشخصية التي ستظهر بعد أيـام أو أسابيع على الشاشة التليفزيونية لتتسلل إلـى المقـاهي والبيوت، إلى الجالسين أمامها يتفرجون عليّ في أماكن كثيرة. أم أنني في هذه اللحظات أتقمص دورا تعلمت أن أتقن تمثيله ؟؟.
قبل اليوم المحدد للتسجيل اقترح معد البرنامج أن نقضـي بعض الوقت في بلدتي ليقوم بتصويري فيها. لم أكن سـافرت إليها منذ شهور فوافقت. هكذا في ذلك الصباح وجدت نفسـي هابطا على المدك الترابي الذي يقود بين الحقول إلـى عزبـة "الكوادي". عند شجرة للجميز يعود عمرها إلى أكثر من قرن ، كان ينتظرنا عدد من الفلاحين تعرفت عليهم منذ سنين، منذ أن كانوا أطفالا يجمعون القطن من الحقول في موسـم الصـيف، وأصبحوا الآن في العقد السادس أو السابع من العمر.
بعد تبادل التحيات توجهنا معهم إلى غيط أكبـرهم سـناً، فلاح يدعى "سويكر أبو جبل". جلسنا على أجولة من الخـيش خلف "عريشة" وقفت تحتها جاموستان تمضغان في كوم مـن البرسيم. كان الجو صافيا بعد يومين سقط فيهما المطر ، فلمعت حقول البرسيم والقمح والفول في أشـعات الشمس الذهبيـة الدافئة. جلست مقرفصا على الأرض تاركا الهواء النقي يمـلاً رئتي، شاعرا بالسكينة تتسلل إليّ، بينما انشغل معد البرنامج بتسجيل بعض اللقطات، وقام فلاح يدعى "شعبان" ليشـعل "راكية" نار وضع عليها برادا من الصاج للشاى . صب لنا الأكواب ، تصاعد منها رائحةالحطب المحروق لتعيدنى الى ايام بعيدة قضيتها فى الغيط . دار الحـديث حول الموضوعات الأثيرة لديهم .. " أرض الطمي ، تلوث المحاصيل بالمياه ، البطاطس المضروبة ، محافظ الجيزة بيحتكر الحجن بتاعة أنفلونزا الطيور.. الإيجار وصـل أربعـتـة لاف ومتـين جنيه".. أسعار الطحاوي، والكيماوي، والمجاومـة بتزيد .. الرز مجابش غير ثلاثة طن بدل أربعة ونص ".
أجلس بينهم وأستمع إليهم، إلى تعليقات حـول ظـروفهم فيها سخرية، إلى ضحكات تنطلق بسهولة تلقائيـة. أتأمـل الوجوه الخشنة المعروقة حفرت فيهـا حـيـاة قضـوها، كمـا يقولون، في "الشقا " . سألت واحدا منهم عـن سـنـه ، وبعـد أن أجابوني قلت لهم : " ذا أنتم كلكم شباب بالنسبة ليّ". فضـحكوا سرورا، وقال "محمود النفياوي" : "يا دكطور العمر بيد الله، وربنا يديك الصحة." فسألته: " يعني ما نقدرش نطـول فى العمر؟". فقالوا في صوت واحد : " لا ده مكتوب من جبل الواحـد مـا يتولد"، وأضاف "محمود" " فيه حاجتين مكتوبين ما يتغيروش العمر، والرزج." قلت:" يبقى فاضل إيه بقى ، مفيهومش إستئناف ولا نقض " . فعلت الضحكات. قـال "عبـد الـجـواد": " هيبجي فيه استئناف ولا نجد إزاي إذا كان مكتوب؟". قلـت "إفرضوا إن الواحد منا كان كويس، ما بيظلمش حد، ولا بيعمل حاجة وحشة، ربنا ما يأجلش موته شوية ؟". ترددت الضحكات في صخب ، وبعد أن هدأت علق "الصاوي بدر" قائلا ": " ربنا يعوضه بجا في الجنة." قلت : " لا ياجماعة، كل حاجة ممكـن تتغير، وربنا جايز يغير النصيب. مش بتقولوا لما الحال يبقـى وحش ربنا يعدلها " . فسرحت العيون وبدا عليهم التفكير.
انتهت الجلسة وسرنا حتى المكان الذي أوقف فيه السائق " حسين" السيارة. بعد أن ودعناهم قاد السيارة فـوق الكيلـو مترات الأربع التي تفصـل بلـدتي " القضـابة" عـن عزبة "الكوادي"، وهناك خطر في بالي أن نزور "الجبانة " حتى أرى ما وصلت إليه، فسرنا على الأقدام حتى الحارة التـي توجـد فيها. نادينا على الفلاح الذي يحتفظ بمفتاحها الصديء الكبير. فتحنا البوابة ودخلنا إلى "الجبانة" ، نما فيها بوص كثير من نشع المياه الجوفية في أرضها. خضنا فيه إلى ركنها البعيد ، حيـث كانت تعلو المقبرة الخاصة بي والمبنية بالطوب الأحمر الذي لم پتم طلاؤه بعد. وقفت أمامها. خطر في بالي أنها قبيحة، أنهـا توحي بعهود الإقطاع القديمة، وأنني لا أريد أن أدفن فيها، أنها تحدثني عن الموت الذي ينتظرني فشعرت بعبث الحياة، وتفاهة أشياء كثيرة كنت أفكر فيها وأسعى إليها.
من كتاب : " من يوميات روائى رحّال " 2008
-----------------------------------------------------



#شريف_حتاتة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لن نفترق
- عالم بلا جدران
- تأملات غير قانونية فى القانون
- رحلة فى قلب القارة السوداء
- الطيور الملونة وهرم خوفو
- عن الطفولة الموؤدة فينا
- عن الثقافة ومؤتمر المثقفين فى مصر
- بائعة مناديل الورق
- نوال السعداوى وفتح الأبواب المغلقة
- فى القطار الى المنيا
- يا سعادة المندوب السامى !
- مدينة روائى رحّال
- يجب أن تكون أحلامنا كبيرة
- تأملات مسافر
- كنا أربعة فى قارب
- - نون - و - مُنى - بنت الطبيعة والرومانسية الساذجة
- القاتل .. مارلبورو
- فلسفة المِشرط
- المعذبون فى - مارينا - ضجيج الارهاب وضجيج - الجت سكى -
- قلبى ينبض مع أبعد نجمة فى السماء


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شريف حتاتة - - ماكياج -